نوافذ: فلسطين.. وصوت فيروز
تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT
في رواية العراقي علي شاكر «كافيه فيروز» -وهي رواية تحضر فيها المطربة اللبنانية الكبيرة كما لم تحضر في أي عمل أدبي من قبل- تسأل «ديبرا» حبيبها عازف البيانو الفلسطيني وليد: هل تذكر الأغنية التي كنتَ تعزفها ليلة لقائنا الأولى؟ فيجيب: «نعم. بالتأكيد. كيف يمكن أن أنسى؟ أغنية فيروز عن الفتية الذين ماتوا في فلسطين، أولئك الذين ينعتهم الغرب بالإرهاب في الوقت الذي يعامل فيه قتلة الأطفال كأرييل شارون ونتنياهو معاملة الأبطال».
اخترت هذا المقطع من الرواية الصادرة قبل ثماني سنوات وأنا أحتفي في هذا المقال بعيد ميلاد فيروز التاسع والثمانين الذي حل قبل عدة أيام (وُلِدتْ في 21 نوفمبر 1934م)، ليس فقط لأنه مقطع معبّر عن أحداث هذه الأيام التي يسطّر فيها أهلنا في غزة أجمل حكايات البطولة والصمود، ولا لأقول إن فيروز الحاضرة دومًا في وجدان الشعب العربي، هي حاضرة أيضًا في ثقافة العرب وأدبهم؛ روايةً وشِعرًا، ومسرحًا، وإشادات من كبار الشعراء والأدباء الذين خصهم بعضها بمقالات إعجاب لا تُنسى (محمود درويش وأنسي الحاج مثالًا لا حصرا)، فهذا معروف للقاصي والداني، ولكن لأنطلق من هذا المقطع كذلك إلى القول إنه على كثرة المطربين العرب الذين غنّوا لفلسطين من المحيط إلى الخليج، تبقى «جارة القمر» متربعة وحدها في زاوية لا يصل إليها أحد.
منذ أغنية فيروز «راجعون» عام 1955م التي صارت بعد ذلك نشيد إذاعة فلسطين عند افتتاحها في القاهرة عام 1960، وحتى ترنيمتها «إلى متى يا رب» التي نشرتها ابنتها ريما رحباني على قناتها في يوتيوب عام 2018، عمرٌ من الغناء الصادح لفلسطين ومدنها وشعبها، وزيتونها، وبيارات برتقالها، وكل تفاصيلها الصغيرة. وهو الغناء الذي بات يتردد في كل نضال فلسطيني، ويستعاد عند كل اعتداء إسرائيلي جديد، يُلهِب حماسة المقاوِمين، ويخفف من آلام المكلومين.
ليس من المبالغة القول إن فلسطين، مثلما كانت -ولا تزال- بحاجة ماسة إلى مقاتلين بالسلاح يذبون عن حياضها، ويدافعون عن مقدساتها، وهذا ما نشاهده بفخر هذه الأيام، كانت -على الضفة الأخرى- بحاجة أيضًا إلى صوت ساحر كصوت فيروز، وموسيقى فاتنة كموسيقى الرحابنة، ليُخلَّد هذا النضال بالفن، ويبقى للأجيال القادمة. «خذوني إلى بيسان»، «جسر العودة»، «القدس العتيقة»، «زهرة المدائن»، «سيفٌ فليشهر»، «سنرجع يا يافا»، «غاب نهار آخر»، «يا ربوع بلادي»، «داري التي أغفت على ربوة»، وغيرها من الأغاني التي حملت قضية فلسطين على كاهلها من جيل إلى آخر، وأبقتها إلى اليوم على كل لسان.
ولعل أهم ما يميّز أغاني فيروز عن فلسطين بساطة الكلمات المعفَّرة بتراب الأرض وهموم الناس: «مريت بالشوارع؛ شوارع القدس العتيقة، قدام الدكاكين الـ.. بقيتْ من فلسطين، حكينا سوى الخبرية.. وعطيوني مزهرية.. قالولي هيدي هدية.. م الناس الناطرين»، وحمولتها التفاؤلية التي تجعلها حتى وهي تعبّر عن مأساة أرض محتلة وشعبٍ منتهَك الحقوق، أغنياتِ أمل وتحدٍّ وصمود: «لن يُقفل بابُ مدينتنا، فأنا ذاهبة لأصلّي، سأدق على الأبواب، وسأفتحها الأبواب». وهذا المقطع بالذات استحضره كثيرون ممن تابعوا في صيف عام 2017 النضال الشجاع للمَقْدسيين في رفض البوابات الإلكترونية التي حاول الاحتلال فرضها لدخول المسجد الأقصى، وإرغامهم المحتل على العدول عن قراره المستبد.
ولا أظن فلسطينيًّا واحدًا في الشتات لم يحلم مع فيروز: «سنرجع يومًا إلى حيّنا.. ونغرق في دافئات المنى.. سنرجع مهما يمرّ الزمان.. وتنأى المسافات ما بيننا». من هؤلاء الناقد الفلسطيني فيصل درّاج الذي يقول في نصّ جميل له عنها في الكتاب الجماعي «وطن اسمه فيروز»: «شعرتُ، ولا أزال، بأن أغنية فيروز موجهة لي، أنطقتني بما لا أستطيع التعبير عنه. فهي عن اللاجئين وإلى اللاجئين، وتمحو ذل اللجوء بتفاؤل طليق، وتحتضن اللاجئ في كل مكان. أغنية عن الغرباء، وإلى الغرباء، وعن هؤلاء الذين يواسي الغناء غربتهم».
لم تحتج أغنية «سنرجع يوما» لتدخل قلب ووجدان الفلسطيني اللاجئ أو المتغرب عن وطنه إلى ذكر فلسطين ولو لمرة واحدة، وهذه ميزة أخرى لأغنية فيروز عن فلسطين. إذْ إنها أغنية كونية بامتياز، فعندما تقول في أغنية «جسر العودة»: «يدخل آلاف الأطفال.. من كبروا الليلة في الخارج.. عادوا كالبحر من الخارج.. أرجع في العتمة معهم.. نصمد ونقاتل لا نرحل.. ونقيم كشجر لا يرحل» فإنها تعبّر عن كل الشعوب المحتلة والمهجّرة من أوطانها والحالمة بالعودة، والصامدة في وجه المحتل، وليس فقط الشعب الفلسطيني، الذي لم يكن بحاجة إلى ذكر «ساحات فلسطين» في نهاية الأغنية ليشعر أنها تعبّر عنه. وكما «سنرجع يومًا» فإن أغنية «وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان» -التي كان يقصدها عازف البيانو وليد في مستهل هذا المقال- تندرج في أغاني فيروز عن فلسطين رغم أنها لا تذكر فلسطين ولا الفلسطينيين، ولهذا فإن وليد وصف هذه الأغنية لـ«ديبرا» بأنها «تُشبه لوحة تجريدية كلٌّ يستطيع قراءتها بطريقته الخاصة». إن هؤلاء الذين تخاطبهم الأغنية: «يا رايحين وثلج ما عاد بدكن ترجعوا» يمكن أن يكونوا أي شبّان من أي جنسية في العالم. لكننا نعرف فقط أنهم فلسطينيون من الحكاية الأقرب إلى أسطورة التي تُنسَب إلى مؤلف الأغنية الشاعر طلال حيدر، والتي أعاد وليد سردها على حبيبته، وتتلخص في أن «حيدر نظم قصيدته في الأصل عن فتية كان يراقبهم من على شرفة منزله كل صباح وهم يتوغلون في الغابة المجاورة ثم يعودون في المساء، حتى فوجئ بصورهم منشورة في الجريدة ذات يوم وقرأ أنهم قد استشهدوا في عملية فدائية قاموا بها في فلسطين».
إن صحّت هذه الحكاية فإن سبب بقاء ذكر هؤلاء الشهداء إلى اليوم هو صوت فيروز الساحر؛ هذا الصوت الملائكي الذي اتحد على حبّه والإعجاب به عربٌ لا يتحدون.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الإمارات تنشر صور الجناة الذين اختطفوا وقتلوا الحاخام اليهودي وتكشف عن جنسياتهم
الحاخام الإسرائيلي تسفي كوجان (منصات تواصل)
أفصحت وزارة الداخلية الإماراتية، اليوم الإثنين، 25 تشرين الثاني، 2024، عن جنسية الجناة الثلاثة الذين خطفوا وقتلوا الحاخام اليهودي "زفي كوغان" في مدينة العين.
وفي التفاصيل، قالت السلطات الأمنية المختصة في الإمارات، أن الجناة الثلاثة يحملون الجنسية الأزوبكية.
اقرأ أيضاً أمريكا تدخل على الخط لإفشال اتفاق سلام وشيك بين السعودية وصنعاء.. تفاصيل 24 نوفمبر، 2024 اتفاق سلام وشيك.. صنعاء تكشف تفاصيل مهمة عن مستجدات المفاوضات مع السعودية 24 نوفمبر، 2024وأضافت وزارة الداخلية ـن الجناة هم أولمبي توهيروفيتش (28) عاما، ومحمود جون عبد الرحيم (28) عاما، وعزيزتي كاملوفيتش (33) عاما. وفقا لما نقلته وكالة الأنباء الإماراتية "وام".
كما أشارت الوزارة إلى أنه جاري إحالتهم إلى النيابة العامة لاستكمال التحقيقات.