سلط المعهد الإيطالي لدراسات السياسية الدولية (ISPI) الضوء على تهديدات الملاحة الدولية في البحر الأحمر، (غرب اليمن)، وعسكرة الجزر اليمنية فيه، بظل بقاء الجرز اليمنية تحت سيطرة المليشيات (جماعة الحوثي، ومليشيا الإمارات)، بالتزامن مع الحرب التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.

 

وقال المعهد في تقرير له ترجمه للعربية "الموقع بوست" إن قضية الأمن البحري وانعدام الأمن في البحر الأحمر ومنطقة باب المندب في المقام الأول ترتبط بالجزر اليمنية العسكرية، مشيرة إلى أن هجمات القرصنة الحوثية الأخيرة تزيد من المخاوف الأمنية البحرية العالمية في البحر الأحمر، على الرغم من جهود الردع الدولية.

 

وأضاف "منذ عام 2015، تخضع معظم الجزر اليمنية لسيطرة الجماعات المسلحة، كما هو الحال بالنسبة لساحلها: الحوثيون اليمنيون المدعومين من إيران ومجموعة متنوعة من القوات المدعومة من الإمارات العربية المتحدة".

 

وتابع "في سياق حرب اليمن، هاجم الحوثيون بشكل متكرر أهدافًا سعودية وإماراتية باستخدام تكتيكات الحرب البحرية المختلفة. في الآونة الأخيرة، وفي خضم الحرب بين حماس وإسرائيل، يلجأ الحوثيون إلى القرصنة – إلى جانب الهجمات الجوية – ضد أهداف إسرائيلية في البحر الأحمر.

 

وأردف المعهد "في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، سلط اختطاف الحوثيين لسفينة الشحن ذات الصلة بإسرائيل، "جالاكسي ليدر"، الضوء على المخاطر التي تهدد حرية الملاحة في البحر الأحمر. وتم الاستيلاء على السفينة قبالة الساحل الغربي اليمني وتحويلها إلى مدينة الحديدة الساحلية القريبة التي يسيطر عليها الحوثيون. لكن هذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها الحوثيون بهجوم قرصنة في هذه المياه. بين يناير/كانون الثاني وأبريل/نيسان 2022، استولت الجماعة المسلحة المدعومة من إيران، والتي تسيطر على جزء كبير من شمال غرب اليمن، على سفينة شحن إماراتية، "روابي"، بينما كانت تبحر قبالة ساحل الحديدة. وتم إطلاق سراح الطاقم المكون من 11 فرداً بعد أربعة أشهر فقط، بسبب الهدنة الوطنية التي تم التوصل إليها في اليمن.

 

هجمات الحوثيين البحرية منذ عام 2015

 

يقول المعهد الإيطالي "في السنوات الأخيرة، تأثر الأمن البحري في البحر الأحمر ومنطقة باب المندب سلباً بسبب حرب اليمن. منذ عام 2015، هاجم الحوثيون عدة مرات أهدافًا عسكرية وتجارية في البحر الأحمر وباب المندب: السفن الحربية السعودية، والبحرية الأمريكية، وناقلات النفط السعودية والبنى التحتية الساحلية، والسفن المدنية الإماراتية".

 

وأشار إلى أن تنفيذ الهجمات البحرية من اليمن تم بطائرات بدون طيار وصواريخ وقذائف صاروخية وقوارب يتم التحكم فيها عن بعد. كما تم زرع ألغام بحرية عائمة لتعطيل الملاحة. بين عامي 2015 و2017، كان مضيق باب المندب مركزًا لهجمات الحوثيين.

 

وأردف "منذ عام 2017، سيطرت الجماعات المسلحة اليمنية المدعومة من الإمارات على منطقة باب المندب، مما دفع الحوثيين إلى الانسحاب، وبالتالي تأمين منطقة نقطة الاختناق. ولذلك، انتقلت منطقة التوتر إلى جنوب البحر الأحمر، حيث لا يزال الحوثيون يسيطرون على الحديدة، الميناء الرئيسي للساحل الغربي اليمني".

 

عسكرة الجزر اليمنية

 

يقول المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI) إن الجزر اليمنية منذ عام 2015 شهدت عملية عسكرة تدريجية، متابعا "أولاً، وسع الحوثيون سيطرتهم على سلسلة من جزر البحر الأحمر قبالة ساحل الحديدة: وقد أصبحت هذه الجزر بمثابة نقاط محورية للهجمات البحرية". ووفقا لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية المستقل، منذ أوائل عام 2023، كثف الحوثيون وجودهم العسكري قبالة ساحل الحديدة، وقاموا أيضًا بدوريات بحرية.

 

واستدرك "علاوة على ذلك، اشتبكت القوات البحرية التابعة للحوثيين بشكل غير مسبوق (في يونيو 2023) مع قوات المقاومة الوطنية (تحالف الساحل الغربي بقيادة طارق صالح) المتمركزة في زقر. في أواخر عام 2015، استعاد التحالف الذي تقوده السعودية زقر، وهي جزيرة في أرخبيل حنيش (بين اليمن وإريتريا)، كانت قد استولى عليها المتمردون سابقًا، وأنشأ موقعًا عسكريًا للتحالف".

 

وفيما يتعلق بالجماعات المدعومة من الإمارات، يضيف المعهد الإيطالي "تتمركز قوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح، وهي تحالف يعارض الحوثيين رغم أنها ليست جزءًا رسميًا من قطاع الأمن النظامي، في زقر (جنوب البحر الأحمر) وبريم/ميون (باب المندب). وفي عام 2021، ذكر طارق صالح خلال مقابلة أن بعض وحدات قوات المقاومة الوطنية منتشرة في بريم، حيث تتبع أيضًا خفر السواحل اليمني. وتستضيف جزيرة بريم الصغيرة قاعدة جوية يقال إن الإمارات بنتها في عام 2021".

 

وطبقا للتقرير "في بحر العرب، يعد أرخبيل سقطرى اليمني حارسًا طبيعيًا لباب المندب، نظرًا لموقعه الجغرافي. منذ عام 2018 فصاعدًا، شهدت سقطرى وجزيرة أخرى من الأرخبيل، عبد الكوري، تواجدًا عسكريًا متزايدًا، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الإمارات العربية المتحدة".

 

واستطرد "عندما سيطر المجلس الانتقالي الجنوبي المؤيد للانفصال والمدعوم من الإمارات على الجزيرة في عام 2020، اضطر خفر السواحل المحلي (الذي لا يزال مواليا للحكومة المعترف بها دوليا) إلى الانسحاب من مواقعه، في حين أن أحد قواته انضمت الكتائب إلى المجلس الانتقالي الجنوبي. وستستضيف سقطرى بعض المنشآت العسكرية التي بنتها الإماراتيين والتي تضم قاعدة استخباراتية إماراتية بالتعاون مع إسرائيل، والتي يمكن أن تنشر أجهزة استشعار إسرائيلية الصنع لمواجهة الصواريخ والطائرات بدون طيار الإيرانية الصنع). ومؤخراً، تم أيضاً بناء مطار عسكري في عبد الكوري".

 

أي نوع من الردع لقضية عالمية؟

 

ويرى المعهد أن الأمن البحري في البحر الأحمر يعد قضية ذات اهتمام عالمي، ولأسباب تتعلق بالتجارة والطاقة، فإن القوى الأوروبية والأميركية والعربية والآسيوية مهتمة جميعاً بحماية حرية الملاحة على طول الممر المائي الذي يربط قناة السويس بالمحيط الهندي.

 

وتطرق إلى أنه في السنوات الأخيرة، تم اتخاذ العديد من المبادرات لتعزيز أمن البحر الأحمر، على المستوى المتعدد الأطراف أيضًا. على سبيل المثال، تم إطلاق فرقة عمل بقيادة الولايات المتحدة، CTF-153، في عام 2022 لتحسين الأمن البحري في المنطقة ومكافحة تهريب الأسلحة (التي يعتبر الحوثيون المستفيدين الرئيسيين منها).

 

وذكر أنه قبل وبعد بداية الحرب بين حماس وإسرائيل، نشرت الولايات المتحدة سفنا حربية ومشاة البحرية في البحر الأحمر. علاوة على ذلك، منذ أواخر أكتوبر/تشرين الأول، عززت إسرائيل موقفها الدفاعي لردع هجمات الحوثيين.

 

وأكد أن الردع لم يكن فعالا، وبدلاً من ذلك، يبدو أن الحوثيين قد اكتسبوا المزيد من الجرأة بسبب "المرحلة" التي قدمتها لهم الحرب بين إسرائيل وحماس بشكل غير مباشر، فضلاً عن إمكانية التعامل مع البحرية الأمريكية.

 

ولفت إلى أن المحادثات المباشرة بين السعودية والحوثيين التي تهدف إلى التوصل إلى وقف ثنائي لإطلاق النار في اليمن لا تمنع الجماعة المسلحة من تنفيذ هجمات متعددة الأبعاد (جوية وبحرية) في البحر الأحمر وعبره، مع آفاق غير مؤكدة أيضًا للأمن القومي السعودي.

 

وخلص المعهد الإيطالي في تقريره إلى أنه بينما تبدو منطقة باب المندب أكثر أمانًا الآن، بسبب انتشار القوات المدعومة من الإمارات، فإن جنوب البحر الأحمر يمثل تهديدًا أمنيًا عالميًا متزايدًا.

 

وختم التقرير بالقول "طالما أن الحوثيين سيحتفظون بالمناطق الساحلية، فإن الجزر الغربية لليمن ستظل بمثابة نقاط توقف لا يمكن التنبؤ بها في البحر الأحمر".

 

*يمكن الرجوع للمادة الأصل: هنــــا

 

*ترجمة خاصة بالموقع بوست

 


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: اليمن البحر الأحمر الحوثي اسرائيل الملاحة الدولية المدعومة من الإمارات منطقة باب المندب المعهد الإیطالی فی البحر الأحمر الجزر الیمنیة الأمن البحری منذ عام 2015 فی عام إلى أن

إقرأ أيضاً:

كيف يحرّك الذهب آلة الحرب في الكونغو؟

ما زلت أذكر عندما كنت أقف على ضفاف نهر أوبانغي، ذلك الشريان المائي الذي يفصل جمهورية أفريقيا الوسطى عن الكونغو الديمقراطية، ممتدًا عبر العاصمة بانغي. كان الوقت عصرًا، قُبيل غروب الشمس، حين تأخذ السماء لونها الذهبي، وينعكس وهَجُها على سطح الماء الهادئ.

وعلى الجانب الآخر من النهر، كنتُ أنظر بفضولٍ إلى زونغو، المدينة الحدودية الكونغولية، بمنازلها المتواضعة وأكواخها المتناثرة، وكأنها تقف على تخومِ عالمين، يربط بينهما النهر، ويفصل بينهما المصير. كنت أراقب عشرات الكونغوليين وهم يعبرون النهر طلبًا للعمل أو التجارة، ويتنقلون بين ضفتي النهر، حاملين بضائعهم على قوارب خشبية، وأحلامهم بين جنباتهم.

وقتها، كنّا نسمع دائمًا عن الثروات الهائلة التي تكتنزها الأرض هناك، عن الذهب الذي يلمع في مجاري الأنهار، والكولتان الذي أصبح يُغذي التكنولوجيا الحديثة. ومع ذلك، كانت المفارقة صادمة؛ كيف يمكن لدولةٍ بهذا الغِنى أنْ تبقى عالقةً في دائرة الفقر والصراع؟ كيف تتحول الموارد التي يُفْتَرضُ أنْ تكون نعمةً إلى لعنةٍ تَلْتَهِم حاضر البلاد ومستقبلها؟

اليوم، وبعد مُضيّ عقدين من الزمن، لم يَعُدْ هذا السؤال مجرد تأمُّلاتٍ عابرةٍ من ضفة النهر؛ بل أصبح قضيةً جوهريةً لفهم أحد أعقد النزاعات في القارة. إنّ شرق الكونغو الديمقراطية ليس موطنًا لمناجم الذهب والكولتان فحسب؛ بل بات ساحة حروبٍ معقدة ومتعددة الأطراف، تتغذى على هذه الثروات.

إعلان

في هذه المنطقة، لا تعني المعادن الثمينة التنمية؛ بل تعني تمويل المليشيات، وتهريب الثروات، وإدامة العنف الذي لا ينتهي. وبينما يتسابق العالم على هذه الموارد، تبقى المجتمعات المحلية في دائرة البؤس، تدفع الثمن الأكبر في معركةٍ لا ناقةَ لها فيها ولا جَمَلَ.

ولفهم هذا المشهد المعقد، يهدف هذا المقال إلى معرفة كيف تحولت ثروات الكونغو الديمقراطية إلى وقود للصراع، موضحًا دور تجارة الذهب والكولتان في تمويل الجماعات المسلحة، واستغلال الشركات العالمية والدول الإقليمية لهذا الواقع، مع تقديم توصيات مختصرة.

الذهب والكولتان.. شريان الحياة للمليشيات المسلحة

في العصر الحديث، أصبحت الموارد الطبيعية، وخاصة الذهب والكولتان، تلعب دورًا بارزًا في تغذية النزاع المسلح في شرق الكونغو الديمقراطية؛ حيث أصبحت هذه المعادن مصدرًا رئيسًا لتمويل الجماعات المسلحة. ففي ظل غياب سيطرة حكومية فعلية، تستغل هذه الجماعات المناجم غير الرسمية، وتفرض ضرائب غير قانونية على العمال، وتستخدم الأرباح لشراء الأسلحة، وتوسيع نفوذها.

ووفقًا لتقارير خدمة معلومات السلام الدولي (IPIS) لعام 2016، فإنّ حوالي 21% من المناجم في شرق الكونغو كانت تحت سيطرة الجماعات المسلحة في ذلك الوقت، وتُشير دراسات أحدث إلى أنّ الوضع قد تغير بمرور الوقت؛ حيث أظهرت بيانات عام 2022 أنّ 27% من عمال المناجم يعملون في مواقع تخضع لسيطرة غير قانونية من قبل الجيش الكونغولي (FARDC)، أو جهات أخرى. وهذا يعكس الديناميكيات المتغيرة للصراع؛ حيث لا تزال تجارة المعادن غير المشروعة تشكل عاملًا رئيسًا في استدامة النزاع في المنطقة.

ومن أبرز الجماعات المسلحة التي تستفيد من تجارة المعادن غير المشروعة في شرق الكونغو، القوات الديمقراطية المتحالفة (Allied Democratic Forces – ADF)، وهي جماعة متمردة تأسست في أوغندا خلال أوائل التسعينيات بهدف الإطاحة بالحكومة الأوغندية.

إعلان

ومع تصاعد الضغوط العسكرية عليها، نقلت الجماعة عملياتها إلى شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، فانخرطت في أنشطة مسلحة واسعة النطاق. وتُتَّهَم الجماعة بارتكاب مجازر ضد المدنيين، وتنفيذ هجمات إرهابية، والتورط في عمليات التهريب، بما في ذلك تجارة الذهب والمعادن، لتمويل أنشطتها. كما أعلنت الجماعة ولاءها لتنظيم الدولة منذ عام 2019، وأصبحت تُعرف باسم ولاية وسط أفريقيا (ISCAP)، مما عزز من خطورتها على الأمن الإقليمي.

في المقابل، تُعَدُّ حركة 23 مارس جماعة متمردة تأسست عام 2012، في شرق الكونغو الديمقراطية. وتتألف الحركة بشكل أساسي من التوتسي الكونغوليين، وتدّعِي الدفاع عن حقوقهم ضد التمييز العرقي.

وتُتهم "M23" بالسيطرة على طرق تهريب المعادن بين الكونغو ورواندا، ويُشتبه في تلقيها دعمًا عسكريًّا من رواندا، وهو ما تنفيه كيغالي. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يدعم متمردو الحركة نحو 4 آلاف جندي من رواندا المجاورة، وهذا أكثر بكثير من عام 2012 عندما استولوا لفترة وجيزة على غوما.

أمّا القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، فهي مليشيا مسلحة تأسست عام 2000، وتضُمّ فلول مليشيات الهوتو المتورطة في الإبادة الجماعية عام 1994. وتنشط الحركة في شرق الكونغو الديمقراطية، وتُتهم بارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي، بما في ذلك استهداف النساء والأطفال في النزاعات المسلحة. وتستفيد الجماعة من نهب الموارد المعدنية في المنطقة؛ لتمويل عملياتها العسكرية.

وفضلًا عن الجماعات المسلحة ذات الطابع السياسي، تستغل مليشيات محلية مثل مايْ مايْ الموارد الطبيعية في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. وتدّعي هذه المليشيات الدفاع عن المجتمعات المحلية؛ لكنها انحرفت نحو الجريمة المنظمة؛ حيث تنخرط في تهريب الذهب، وابتزاز الشركات العاملة في القطاع. ووفقًا لتقرير مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تسيطر جماعات ماي ماي على مناطق إستراتيجية غنية بالموارد، مما يتيح لها استغلال هذه الموارد لتمويل أنشطتها.

إعلان

وبالمثل، تعتمد حركة انْدوما للدفاع عن الكونغو على عمليات نهب المناجم لتمويل أنشطتها العسكرية، مما يفاقم من عدم الاستقرار في المنطقة. وتتألف هذه الجماعة من مقاتلين من خلفيات عرقية متنوعة، وتتنافس باستمرار على النفوذ، مما يجعل النزاع حول المناجم أكثر تعقيدًا. وتنشط هذه الحركة في مناطق غنية بالمعادن، وتستفيد من عائدات التعدين غير القانوني لدعم عملياتها.

في المجمل، سيؤدي هذا المشهد إلى تأثيرات خطيرة على السكان المحليين؛ حيث يرتبط التعدين غير القانوني بانتشار التجنيد القسري، والعنف الجنسي، والعمالة القسرية. وذلك بإجبار السكان المحليين على العمل في المناجم تحت تهديد السلاح، بينما تَستخدم المليشيات المسلحة الأرباح في تمويل مزيد من هجماتها المسلحة، ما يُبقي دورة العنف مشتعلة.

وفي ظلّ هذه الفوضى كلها، يتضح أنّ الجماعات المسلحة ليست الوحيدة المستفيدة من تجارة المعادن، حيث تلعب أطراف دولية وإقليمية دورًا كبيرًا في استدامة هذه الأزمة.

هل أسهمت السياسات الغربية في تأجيج الصراع؟

في عام 2010، أقرّ الكونغرس الأميركي قانون دود- فرانك لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك، وهو تشريع يهدف إلى زيادة الرقابة على المؤسسات المالية بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.

ومن بين بنود هذا القانون، تُعتبر المادة 1502 واحدة من أكثر المواد إثارةً للجدل؛ حيث ألزمت الشركات الأميركية بالكشف عن استخدام "معادن النزاع" مثل القصدير، التنتالوم، التنجستن، والذهب، والتأكد من عدم الحصول عليها من مناطق تشهد نزاعات مسلحة، مثل شرق الكونغو الديمقراطية.

وكان الهدف الأساسي لهذه المادة هو قطع التمويل عن الجماعات المسلحة، من خلال إجبار الشركات على توفير سلاسل توريد شفافة. ومع ذلك، فإنّ تطبيق القانون أدى إلى نتائج غير متوقعة؛ حيث فضّلت العديد من الشركات الغربية وقف شراء المعادن من الكونغو بالكامل بدلًا من تحمل عبء الامتثال للمتطلبات التنظيمية.

إعلان

لقد أدّى هذا الانسحاب المفاجئ إلى انهيار اقتصادي في المجتمعات المحلية التي تعتمد على التعدين كمصدر رئيس للرزق، مما دفع العديد من العمال إلى اللجوء إلى المناجم التي تديرها الجماعات المسلحة، والتي أصبحت المشغل الوحيد المتاح للعديد من السكان المحليين.

ومن جانب آخر، لم يفلح القانون في وقف تهريب المعادن؛ حيث لجأت الجماعات المسلحة إلى طرق جديدة لغسل المعادن عبر رواندا وأوغندا، مما جعل التهريب أكثر تعقيدًا وأقلّ شفافية.

وعلى الرغم من جهود الشفافية التي بُذِلتْ، فإنّ الشركات متعددة الجنسيات ظلت تجد ثغراتٍ قانونيةٍ لتجنب الامتثال الصارم، ما أدى إلى استمرار الأزمة. وفي هذا السياق، لم يكن دود-فرانك سوى مثال على كيفية فشل السياسات الدولية في معالجة جذور المشكلة؛ بل وزيادة تعقيدها.

هذه الإخفاقات السياسية تسلط الضوء على الدور الذي تلعبه الدول الغربية في تسهيل تهريب المعادن، سواء من خلال القنوات الرسمية أو عبر شبكات غير قانونية. كما تثير تساؤلاتٍ جوهرية حول ما إذا كانت هذه السياسات تُصاغ بناءً على اعتباراتٍ جيوسياسية تهدف إلى تأمين المصالح الاقتصادية والإستراتيجية، أم إنها بالفعل تستند إلى مبادئ أخلاقية تدعو إلى الشفافية والمسؤولية.

الدول الغربية وشبكات التهريب.. أدوارٌ تحت الظلّ

تُتهم بعض الدول الغربية، ولا سيما فرنسا، بريطانيا، وبلجيكا، بالتورط في دعم شبكات تهريب الذهب والكولتان من مناطق النزاع في أفريقيا، خاصة في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

وفي هذا السياق، تواجه فرنسا اتهاماتٍ صريحةً بالتغاضي عن الأنشطة غير القانونية المتعلقة بتهريب المعادن الثمينة من أفريقيا؛ حيث تشير التقارير إلى أنّ بعض الشركات الفرنسية العاملة في المنطقة قد تكون متورطة في شراء هذه المعادن من مصادر غير شرعية.

وعلى الرغم من غياب الأدلة القاطعة على تورط الحكومة الفرنسية بشكل مباشر، إلا أنّ وجود شركات فرنسية ضمن سلاسل التوريد العالمية التي تستفيد من هذه المعادن يُثير تساؤلات حول مدى التزام فرنسا بمكافحة هذه الظاهرة.

إعلان

أما بريطانيا، فتُتهم أيضًا بدعم شبكات تهريب الذهب والكولتان من خلال شركاتها العاملة في مجال التعدين والتجارة الدولية. وتشير التقارير إلى أنّ بعض الشركات البريطانية تستفيد من تجارة هذه المعادن سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عبر سلاسل توريد تمتد من الكونغو إلى الأسواق العالمية.

وعلى الرغم من إعلان بريطانيا عن سياسات لمحاربة تهريب المعادن من مناطق النزاع، فإنّ العديد من المنظمات الحقوقية تُؤكد على أنّ الممارسات الفعلية للشركات البريطانية تعكس واقعًا مختلفًا؛ حيث تستمر المعادن المهربة في التدفق عبر شبكات دولية يصعب تتبعها.

أما بلجيكا، فهي الأخرى تواجه اتهامات أكثر حدةً نظرًا لتاريخها الاستعماري في الكونغو وعلاقتها المستمرة بالموارد الطبيعية في المنطقة. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، لا تزال بعض الشركات البلجيكية تلعب دورًا في شراء المعادن من مصادر غير شرعية، مما يسهم في تمويل الجماعات المسلحة واستمرار النزاعات في المنطقة.

وتُشير الاحتجاجات الأخيرة في كينشاسا ضد السفارات الغربية، ومن بينها السفارة البلجيكية، إلى تصاعد الغضب الشعبي تجاه ما يُنظر إليه على أنه تواطؤ بلجيكي في استغلال موارد الكونغو لصالح الشركات الأوروبية.

وفي عام 2011، أصدرت مجموعة الخبراء التابعة للأمم المتحدة تقريرًا يُشير إلى تورط شركات في دول مجاورة للكونغو في تهريب المعادن الثمينة، مع احتمال تورط شركات غربية في سلاسل التوريد.

وأوضح التقرير أنّ تهريب الذهب والكولتان يُستخدم لتمويل الجماعات المسلحة في شرق الكونغو، مما يؤدي إلى استمرار العنف وانتهاكات حقوق الإنسان. هذا التقرير يعزز المزاعم حول الدور الغربي في تأجيج النزاعات من خلال غض الطرف عن تدفقات المعادن غير المشروعة إلى الأسواق الأوروبية والأميركية.

وبينما تتجه الحكومات الغربية نحو تعزيز الرقابة على تجارة المعادن القادمة من مناطق النزاع، لا تزال هناك تحديات كبيرة أمام إنهاء هذه الممارسات بالكامل. فاستمرار عمليات التهريب يُشير إلى وجود مصالح متشابكة بين الشركات الغربية، والحكومات، وشبكات التهريب المحلية، مما يجعل من الصعب إيجاد حل سريع لهذه الأزمة.

إعلان

ويُسلط هذا الوضع الضوءَ على الحاجة إلى تعاون دولي أكثر فاعلية لضمان أن الثروات المعدنية للكونغو تُستخدم لصالح التنمية، وليس لإطالة أمد النزاعات.

الخلاصة

في خضم هذا المشهد المعقد، تبقى الحقيقة الثابتة أنّ ثروات الكونغو لم تكن يومًا مجرد معادن تُستخرج من باطن الأرض؛ بل تحولت إلى خيوط متشابكة من المصالح والصراعات؛ حيث تُرسَم خرائط النفوذ بحدّ السلاح، وتُحدد مصائر الشعوب وفقًا لمعادلات السوق. وبينما تستمر التجارة غير المشروعة في تمويل آلة الحرب، يبقى السؤال الأهم عالقًا: متى تتحول هذه الموارد إلى ركيزة للاستقرار، بدلًا من كونها وقودًا للنزاع؟

ولتحقيق ذلك، لا بُدّ من كسر الحلقة التي تربط الثروات بالعنف عبر فرض رقابةٍ صارمة على سلاسل التوريد، وإلزام الشركات العالمية بمسؤولياتها الأخلاقية من خلال آليات تحقق شفافة تمنع تسلل المعادن المهربة إلى الأسواق.

كما يتطلب الحل دعمًا دوليًّا جادًّا لحوكمة الموارد، كيْ يضمن أنْ تعود عائداتها إلى التنمية، لا إلى تمويل النزاعات. وبالتوازي، ينبغي تمكين المجتمعات المحلية من بدائل اقتصادية مستدامة، تقلل اعتمادها على التعدين غير القانوني، وتمنحها فرصة للخروج من دوامة الفقر والاستغلال.

ولكن هذه الحلول ستظل مجرد نظرياتٍ إن لم تُتَرْجَم إلى واقعٍ ملموس. فعند ضفاف الأنهار؛ حيث تتلاشى الحدود بين الحلم والواقع، كانت الثروات تُحكى لنا كقصص عن الثراء الكامن تحت التراب. واليوم، لم تَعُد تلك الحكايات مجرد ذكريات طفولةٍ عابرةٍ؛ بل أصبحت اختبارًا حقيقيًّا لإرادة العالم في تحويل هذه الموارد من لعنة تغذي الصراع إلى فرصةٍ تعيد الأمل إلى أهلها قبل أنْ تُدفَن آمالٌ أخرى تحت ثِقل الذهب والكولتان.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • “11 فبراير” يعود بحصيلة تاريخية لـ 12 شهرًا.. اليمن يضاعف “الخروج الأمريكي المذل”
  • كيف يحرّك الذهب آلة الحرب في الكونغو؟
  • "تقرير أمريكي" يتوقع عودة الحرب في اليمن وسيطرة الحوثيين على عدن ومأرب (ترجمة خاصة)
  • مباحثات يمنية هولندية بشأن تهديدات الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر
  • هذا ما حدث لحاملة الطائرات الامريكية ترومان خلال رحلة الهروب من البحر الأحمر
  • الحوثيون يسخرون من حادثة اصطدام حاملة الطائرات الأمريكية ترومان بالبحر المتوسط ...
  • الحوثيون يعلقون رسميا على حادثة اصطدام حاملة الطائرات الأمريكية "ترومان" بالبحر المتوسط
  • اليمن يبحث مع البحرين التطورات الإقليمية وتهديدات الحوثيين في البحر الأحمر
  • تقرير: الحوثيون في اليمن يخرجون من حرب غزة أكثر جرأة.. من الصعب هزيمتهم (ترجمة خاصة)
  • انطلاق بطولة البحر الأحمر الدولية لصيد الأسماك بمشاركة 9 دول