سرداب.. وديوانية الفقر!
تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT
يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"نجلس معًا ونتباوس معًا ونتباحث معًا، وتدور علينا أكواب الشاي وأقداح القهوة، نقسم بالله أن نأخذ غزة ونخجل من كرم اليهود ونعطيهم أريحا" محمود السعدني.
*********
في بداية الصباح الباكر، وكان يوم عطلة وأحببتُ التغيير في المزاج العام لشكل اليوم الجديد، فقررت الذهاب للعاصمة الأنيقة، التي منذ أسابيع لم تطأها القدم، وذهبت لأحد الأسواق التراثية هناك في العاصمة الكويت، كان في خاطري شراء حاجيات من ذات السوق، ولما أنتهيت من شراء ما أريد وجدت مقهى شعبيًا على إحدى ناصيات السوق فقررت تناول القهوة فيه، وأثناء الجلوس في المقهى العتيق وكنت لوحدي تذكرت حديث للكاتب الساخر المصري محمود السعدني "الولد الشقي"؛ إذ يقول بما معناه: إنك في القاهرة صعب أن تكون لوحدك، ليس مهما أن يكون لديك صديق تتحدث معه، يكفي جلوسك على رصيف قهوة وبمرور أي شخص بجانب القهوة سيسلم عليك وهو مار في نفس الوقت، وبعد السلام قد يحدثك سريعًا عن حلاوة الجو اليوم، وما تلبث إلّا وأنت معه على طاولة واحدة بعدما عزمته على كوب شاي، وتتحدثون في كل شيء وأي شيء، وقد تكون في حيثيات حواركما إبداء الرأي حول بنود أحكام محكمة العدل الدولية في لاهاي، وبنهاية الحديث قد تتبادلان مشاعر الأسى بسبب ارتفاع سعر بيع السجائر في مصر هذه الأيام!
كان المقهى الذي وجدته يطل على باب سرداب يبدو أنه يؤدي إلى مواقف السيارات، أثناء جلوسي وتفكري بأحاديث الولد الشقي، كان يجلس بمسافة قصيرة (على بعد طاولتين!) شخص يدخن سيجارته، واضح إنه كحالتي لوحده، فأحببت بدء الحديث معه، إذ لم ترُق لي الجلسة الوحدانية وإن كنت وسط مقهى، واحترت بكيفية بداية الحوار، فكان أن ناديت النادل وسألته عن حساب الأخ الذي يبعد طاولتين، فأكد أنه لم يدفع حسابه حتى الآن، فطلبت من النادل بهدوء أن ادفع الحساب بشرط ألا يبلغه إلا عند سؤاله عند الدفع، فكانت ورقة الخمسة الدنانير الثمينة التي وكأنها فاتورة الحوار مع الذي كان على بعد طاولتين، وعلى ذكر الخمسة دنانير فإن قيمتها الشرائية معقولة نوعا ما، بإمكانك بخمسة دنانير تصليح دعامية سيارة صديق في صناعية الفحيحيل وبعدها حتى أهل الجهراء يتحدثون عن هذه الخمسة الثمينة.
جلست مع الأخ الذي كان على بعد طاولتين وأصبح بقدرة الله ثم الخمسة دنانير يقاسمني نفس الطاولة، وبعد السلام والتشكر على دفع الحساب، بدأت عادات العرب في المقاهي تظهر، بدأ الحوار عن أحوال الجو كالعادة في مثل هذه الحوارات، ثم بدأ يحدثني عن آخر التحليلات السياسية التي كان هو ذاته نجمها في جلسة الأمس بديوانية الفقر (كما اسماها هو!) وبالطبع هو يقصد التحليلات عن أحداث غزة، حماها الله وحفظ أهلنا فيها، فكان يتحدث عن مآلات الظروف السياسية و إعجابه في أبو عبيدة، و إعجابه بالمقاومة، لكنه توقف وكأنه يؤكد لي أنه انتبه جيدًا لكلمة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وتأكيد شيخ بلاد العم سام على أن الحرب أساسًا كانت بسبب بداية خطوات التطبيع السعودي مع إسرائيل، هنا اتوقف عن الأخ وعن حوارات ديوانية الفقر، وتذكرت تحليل سابق قبل بداية ضربات حماس في السابع من أكتوبر؛ حيث كان الحديث يدور حول التطبيع السعودي مع إسرائيل، وهل سيتم تشغيل قطار التطبيع ومن ثم سيكون على السكة، أم سبتم تعطيله؟
التطبيع السعودي الأسرائيلي له معنى عميق وهو أن راية المفاوضات العربية الإسرائيلية ستنتقل إلى الرياض، والأخذ والرد سيكون وجهًا لوجه وعلنًا، وستكون الصفقات السياسية غالبًا ممهورة بتوقيع سعودي، نظرًا للإمكانيات الضخمة للشقيقة الكبرى وثقلها الإسلامي والعربي، بنفس الوقت سيكون وجود طرف إقليمي آخر ليلعب بأوراقه غير ذات أهمية، وعلى قاعدة إن حضر الماء بطل التيمم.
كان الصديق المجاور بالطاولة يتحدث وعينه على باب سرداب المواقف، وسألته ما رأيك بخطوات التطبيع السعودي الإسرائيليي، ابتسم وقال: سرداب!
قلت ماذا تقصد؟ أسألك سؤال سياسي وترد سرداب! أشر على باب السرداب، وقال عندما تقف السعودية لتقود المفاوضات علنًا سبكون البقية ممن يلعب ويقتات على القضية في سرداب المواقف مركونًا حتى يتم إدراكه أو حتى لفظه من القضية ورميه نهائيًا عن ساحتها.
القضية الفلسطينية من أعدل القضايا، لكنها تحتاج قيادات تقود لا تُقاد، تفيد لا تستفيد شخصيًا وماليًا على حسابها، بدخول السعودية وقبلها الإمارات ولاحقًا بقية دول مجلس التعاون (كما هو متوقع) سينتقل الأمر إلى محادثات حقيقية واضحة الجوانب، لا يحتاج بها الوضع لحروب بالوكالة، ويكون الأمر بيد دولة عاقلة تعرف ما تريد وكيف وأين ومتى تكون الاتفاقات، وأن حروب الوكالة واستغلالها كأوراق ضغط وتحقيق مكاسب منها ستكون جزءًا من التاريخ بعد هذه الاتفاقات.
طلبت من الاخ المجاور الذي كان على بعد طاولتين أن ينقل هذا الرأي لديوانية الفقر، فقال مبتسمًا لا لن يقتنعوا برأيك فأنت بوادٍ، واحاديثهم ونحليلاتهم في وادٍ مختلف !
قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: 11).
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: الفقر والجهل والمرض ثلاثية خطيرة تُغذي الفكر المتطرف
ألقى الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، محاضرة بعنوان "التطرف وأثره على المجتمع"، بجامعة عين شمس، ضمن ندوة تثقيفية أقامتها الجامعة بحضور نخبة من القيادات الأكاديمية والطلابية.
وقد استقبل الدكتور محمد ضياء زين العابدين، رئيس جامعة عين شمس، فضيلة المفتي بكل حفاوة وتقدير، مشيرًا إلى دَور دار الإفتاء المصرية في تعزيز القيم الإنسانية ونشر الوعي الديني الوسطي. وأكد رئيس الجامعة أن الحوار هو السبيل الأمثل للقضاء على التطرف، وأن التعاون بين المؤسسات الدينية والأكاديمية ضروري لفهم هذه الظاهرة والتصدي لها.
صرَّح الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، بأن الحديث عن التطرف ليس من باب الرفاهية، بل هو من الأمور التي ينبغي أن تسير عليها المؤسسات، خاصة في ظل مواجهة المؤسسات الدينية باتهامات باطلة تربطها بالإرهاب.
وأضاف أن التطرف ليس مقتصرًا على الدين فقط، بل هو مجاوزة الحد في الفكر، سواء كان ذلك بالتشدد أو بالتحرر المبالغ فيه، حيث يدعو البعض إلى تمييع الدين واجتزاء النصوص، موضحا أن الغلو في التمسك بأمور خارجة عن المألوف يُعَدُّ من أشكال التطرف التي يجب التحذير منها.
وأضاف المفتي أنه عندما نتحدَّث عن التطرف يجب التفرقة بين الدين نفسه وبين أتباعه، فالحكم على الدين من خلال تصرفات المنتسبين إليه ظلم بيِّن، موضحا أن الدين جاء لتحقيق مجموعة من المقاصد، وإذا تمَّ الاعتداء على هذه المقاصد يكون ذلك تطرفًا فكريًّا واضحًا. فالمقاصد الكلية للدين إذا غابت، أدى ذلك إلى فساد الدنيا والدين معًا.
وأشار المفتي إلى أن هناك بعضَ أصحاب الأجندات المختلفة الذين يسعون إلى تشويه صورة الدين وتقليل قيمة العقل والاستهانة بالدماء، مؤكدًا أنَّ الدين في جوهره رسالة إصلاحية تحقِّق الصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وتضع إطارًا للعلاقة بين الإنسان وربه، وأضاف أن هذا الدين العظيم لم يترك حتى العلاقات الإنسانية دون ضوابط دقيقة تنظِّمه، بل وضع أطرًا للتعامل مع الجميع.
وأكَّد المفتي أنه من الخطأ الكبير إلصاق التشدد بالدين، موضحًا أن أسباب التطرف بعيدة كل البُعد عن جوهر الدين. وأوضح أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بُعث بالحنيفية السَّمحة التي تراعي حقوق الله والكون والبلاد والعباد دون إفراط أو تفريط، معربا عن شُكره للمؤسسات التربوية والجامعات التي تهتمُّ بمثل هذه القضايا المهمة، لأن هذه المؤسسات تعدُّ من أهم الأماكن التي ينبغي أن تُعنى بتشكيل وعي الأجيال لمواجهة التطرف.
وأردف المفتي أن التطرف ليس ظاهرة حديثة، بل هو نتاج تراكمات اجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية واقتصادية. قد تكون هناك أسباب دينية، لكنها ليست الأكثر تأثيرًا في نشأة التطرف وانتشاره. لذا، فإن مواجهة هذه الظاهرة تتطلَّب تكاتف جميع المؤسسات للعمل وَفْقَ رؤية واضحة وشاملة، وأكَّد أن الدين هو طوق النجاة للأمم، حيث نجد أنَّ الحضارات التي ازدهرت ماديًّا شهدت في الوقت نفسه انحدارًا أخلاقيًّا وسلوكيًّا، وهو ما يعكس أهمية الحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية.
كما أشار المفتي إلى أن الله أيَّد الخلق بوحيين: الوحي المنظور وهو العالم الخارجي الذي نراه ونتأمله، والوحي المسطور وهو الكتاب السماوي. وبيَّن فضيلته أن هناك جوانب يتشابك فيها العلم مع الدين وجوانب أخرى تستقل كل منهما عن الآخر، وهذا يعكس التكامل بينهما لا التعارض.
وأكَّد أن الإنسان يجب أن يُترك للبحث دون قيود، ولكن في إطار أخلاقيات البحث العلمي حتى لا نصل إلى مرحلة "نشتري الموت بأيدينا".
وشدَّد المفتي على أن الإنسان قد غزا الفضاء، واستولى على البر والبحر، وحقَّق إنجازاتٍ عظيمةً ورفاهية غير مسبوقة، لكنه يبقى عاجزًا أمام سرِّ وجوده في الحياة الدنيا. وأشار إلى أنَّ العلم رغم تقدماته لا يمكنه تفسير كل شيء، وأن هذا يؤكد محدودية العلم، مضيفا أن {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] هي حقيقة علمية تؤكِّد أن الإنسان لا يستطيع إدراك كل ما يتعلق بالوجود.
وتابع قائلًا: إنه عندما يُقحم العقل في أمور ليست من مجاله، فإن ذلك يؤدِّي إلى الغلوِّ والتطرُّف. لذلك، يجب أن تسلط المناهج التربوية الضوءَ على محاسن الدين، الذي بدأ مع خلق الإنسان تحت شرائع مختلفة تدعو للتعايش والتسامح والتراحم. وأوضح أن الرسالات السماوية جاءت بالوصايا العشر التي يجب أن تكون جزءًا أصيلًا في المناهج التعليمية.
وأضاف فضيلةُ المفتي أنه على الرغم من وصولنا إلى القرن الواحد والعشرين، ما زلنا نواجه مشكلة الثأر، رغم أن أطراف النزاع قد يكونون من ذوي العلم والوجاهة. وقال إن العقلية التي تقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ما زالت سائدة في بعض البيئات التي تُحكم بالعادات أو الفهم الخاطئ لثقافة معينة، مما قد يُنتج تطرفًا فكريًّا.
مما يؤكد على دَور المورثات الخاطئة أيضًا في تفشي ظواهر التطرف لدى المجتمع.
كما أشار إلى أنَّ الصحبة لها تأثير كبير في تكوين الفكر، حيث إنَّ الكثير من العائدين من الجماعات الإرهابية أشاروا إلى أن الصاحب والصديق كانا البوابة الأولى للتطرف. لذلك، شدد المفتي على ضرورة تحري الصاحب الصالح الذي يأخذ بيد صاحبه إلى الحق والثبات عليه.
وفي حديثه عن العوامل التي تؤدي إلى التطرف، ذكر المفتي أن الفقر والجهل والمرض هي ثلاثة أضلاع خطيرة تهدد المجتمع، حيث إن الكثير ممن انضموا إلى الجماعات المتطرفة كانوا ضحية للفقر المدقع والجهل.
وأضاف أن الإعلام قد يكون أداة بناء أو هدم، حيث يمكن أن يُسهم في نشر القيم السلبية من خلال الترويج لمسلسلات وأفلام تدعو للمثلية والانحلال الأخلاقي.
كما أكد على ضرورة مواجهة الفكر بالفكر والآلة بالآلة، واستخدام المحتوى الإعلامي والتربوي لنشر القيم الصحيحة.
وأضاف أنَّ المؤسسات التعليمية والإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي يجب أن تتكاتف للتصدي للألعاب الإلكترونية التي تدعو للعنف والقتل وللحدِّ من تصدير الفكر المتطرف. وأشار إلى أن بعض القضايا قد تكون بسيطة، لكن بعض وسائل الإعلام قد تعمَّد إلى تضخيمها لتحقيق "الترند"، دون مراعاة للمآلات والآثار والنتائج؛ مما يستوجب من الإعلاميين تحرِّي المسؤولية في نشر الأخبار.
وتوجَّه المفتي للإعلاميين قائلًا: أنتم على ثغر خطير من ثغور الدين والوطن، فاتقوا الله فيما وضعكم فيه.
وفي ختام كلمته، أشار المفتي إلى أن الغلو والتشدد يؤديان إلى تضييق الحياة على الناس من خلال التكفير والتفسيق، مما يعطي مبررًا للتخريب بدلًا من الإعمار. وأكد أن العلم مفتاح التطور، ويجب الانفتاح على مختلف مجالاته، بما فيها علم الفلك، للاستفادة من أدواته لتحقيق التقدم والرقي.
وفي ختام الندوة تقدَّم رئيس الجامعة بالشكر له مهديًا إليه درع الجامعة في لفتة تقدير وامتنان لما يبذله فضيلة المفتي من جهود لنشر الوعي والفكر الوسطي.