السعودية والإمارات وأزمة السودان.. ورقة بحثية لمركز “دام” ترصد وتقيم المواقف الخليجية
تاريخ النشر: 25th, November 2023 GMT
نقلا عن مصر 360
تستعرض الورقة علاقة الدولتين بالسودان في مراحل تاريخية ممتدة وحتى اندلاع الصراع المسلح بين قوات الدعم السريع والجيش في 15 إبريل/ نيسان الماضي
تستعرض الورقة علاقة الدولتين بالسودان في مراحل تاريخية ممتدة وحتى اندلاع الصراع المسلح بين قوات الدعم السريع والجيش في 15 إبريل/ نيسان الماضي
كشفت الأزمة الراهنة في السودان، بما فيها الصراع بين قوات الدعم السريع والجيش، عن عمق التأثيرات الإقليمية والدولية في تلك الدولة التي واجهت أزمات سياسية متكررة.
يتناول الباحث محمد عبد الكريم، هذه التأثيرات عبر ورقة سياسات جديدة أصدرها مركز دام، وتركز على موقفي السعودية والإمارات من الأزمة.
كما تستعرض الورقة علاقة الدولتين بالسودان في مراحل تاريخية ممتدة، وحتى اندلاع الصراع المسلح بين قوات الدعم السريع والجيش في 15 إبريل/ نيسان الماضي.
كما يناقش عبد الكريم، علاقة الدولتين بالصراع بين قوات الدعم السريع والجيش. وتشير ورقته إلى الدور السعودي الذي تصاعد تدريجيا في السودان، مقابل تآكلًا حادًا في نظيره الإماراتي، رغم جهود تسويق هذا الدور دعائيًا عبر إشراك الإمارات -شكليًا- في وساطات السعودية والولايات المتحدة خلال الأزمة الأخيرة.
لقراءة الورقة كاملة اضغط هنا
يقول الباحث محمد عبد الكريم، إن السياسات السعودية الإماراتية استفادت من ثورة ديسمبر/ كانون الأول، وتداعياتها 2018-2019، في إخضاع السودان لنفوذهما عبر دعم قادة الجيش، والقوات شبه العسكرية بحجة “الاستقرار”. وكذلك محاولات استمالة الدولتين إلى عناصر الائتلاف الثوري، والدعم الإماراتي لمشروع نقل السلطة للمكون المدني.
وتعتبر السودان مجال للنفوذ وظهير استراتيجي لكل من السعودية والإمارات، كذلك مصدرا للموارد الطبيعية والجيواستراتيجية وواسطة إلى نفوذهما -بشكل متباين بطبيعة الحال- في القرن الإفريقي الكبير وإقليم الساحل.
حسب الورقة، تكشف ارتباطات الرياض وأبو ظبي بالأزمة السودانية ارتباك واضح في مجمل المشهد، سيستمر حتمًا في المرحلة المقبلة وسيعزز -خاصة في حالة أبو ظبي- مقاربة عدائية لفرض تسويات سياسية مبتسرة على الشعب السوداني.
علاقات الدولتين بالسودان
تطرح الورقة الموقف السعودي- الإماراتي، من خلال تتبع خلفيات النفوذ الإماراتي والسعودي في السودان. حيث ترى أن العلاقات كانت محدودة في أغلب فترة حكم عمر البشير؛ بسبب خلفيته الإسلامية وصلاته الوطيدة بإيران، لكن ذلك شهد عدة تغيرات.
المساعدات الاقتصادية
رفعت الرياض وأبو ظبي مساعداتهما للسودان وقدمتا 1.5 بليون دولار، و1.6 بليون دولار على الترتيب، في شكل مساعدات تنموية في الفترة 2015-سبتمبر/ أيلول 2020.
ورغم تدفق هذه المعونات الخليجية، ظل البشير شريكًا إشكاليًا للسعوديين والإماراتيين. وبدأ البشير في العام 2018، سعيًا لخفض اعتماد السودان على الدعم المالي من السعودية والإمارات، في مد صلاته مع قطر وتركيا.
وكانت مناورات البشير السياسية تلك -في ذروة الانقسام الخليجي- قد زادت من عدم ثقة السعوديين والإماراتيين في قيادته ونواياه مما دفعهما إلى سحب الدعم المالي الذي كان يعول عليه السودان بشكل كبير.
بعد الثورة
واجه البشير انتفاضات شعبية حاشدة، انتهت بعزل الجيش له في إبريل/ نيسان 2019، وبدعم واضح من السعودية والإمارات ومصر؛ وسرعان أن أعلنت الرياض وأبو ظبي حزمة معونات عاجلة للسودان بقيمة 3 بليون دولار، مما عمق دعمهما “للنظام الجديد بقيادة عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو.
ظهر عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي حينذاك، باعتباره الرجل العسكري القوي الجديد في السودان، اعتمادًا على خلفيات قيامه بتنسيق نشر القوات السودانية في اليمن، وعمله إلى جانب المسئولين الخليجيين مما عزز مكانته كشخص موثوق فيه.
كان ملفتًا، أن التنسيق السعودي الإماراتي في “إدارة” المرحلة الانتقالية في السودان قد وصل إلى نقطة فاصلة في نهاية العام 2019، مع تراجع الرياض خطوات للوراء ومنح أبو ظبي زمام المبادرة.
ورغم أن سياسة الإمارات الرسمية كانت دعم “الانتقال الديمقراطي”، فإنها ناورت لتحجيم الجناح المدني في الحكومة عبر دعم قدرات العسكريين، ورعت “عملية سلام” أتت بهم في قيادة المرحلة لا سيما أن الإعلان الدستوري لم يوضح من سيتولى قيادة المفاوضات مع المجموعات المسلحة في دارفور، وجنوب كردفان والنيل الأبيض.
تقدم حميدتي وشمس الدين الكباشي الصفوف الحكومية في العملية السياسية في جوبا، التي مولتها ماليًا الإمارات، حيث استخدمت نفوذها مع الجماعات المسلحة للتوصل لاتفاق يضع هؤلاء العسكريين في مواقع صناع القرار
المواقف السعودية والإماراتية من أزمة السودان بعد 15 إبريل/ نيسان
حسب الورقة، استجابت الرياض وأبو ظبي بحذر بالغ للمواجهة بين جيش السودان وقوات الدعم السريع، وأكدتا في بيانات متعاقبة على الحاجة للحوار.
ظهر أن السعودية تخشى من تمدد الصراع، واحتمالات انهيار الدولة السودانية على نحو سوف يهدد الأمن الإقليمي، الذي تضطلع فيه الرياض بدور متنام، ويحجم من رؤيتها لتطوير سواحل البحر الأحمر (رؤية السعودية 2030).
ذلك في مقابل موقف الإمارات، والتي فضلت تحقيق حميدتي نصرًا سريعًا على البرهان (عوضًا عن تقارير دعم الإمارات استخباراتية ولوجيستيًا لحميدتي في تحركاته السابقة على 15 إبريل/ نيسان مباشرة.
ملفات التأثير السعودي والإماراتي في الأزمة.
يتجاوز الاهتمام السعودي والإماراتي بالمسألة السودانية الأوضاع في ذلك البلد، الذي يعاني مرحلة انتقالية مضطربة منذ أكثر من أربعة أعوام دون وجود أفق واضح للتسوية، أو لحلول شاملة غير إقصائية، إلى ملفات بالغة التشابك والتناقض
أمن البحر الأحمر والارتباط بالسياسات الأمريكية.
ارتبطت المقاربة السعودية بالأساس بمسألة دعم النفوذ الأمريكي في السودان ودول جواره، ضمن جهد سعودي ملموس للبروز كقوة إقليمية، ودولية هامة قادرة على موازنة ارتباطاتها الخارجية بقدر من “الاستقلالية” والحسم.
ودل على ذلك إبداء حرص الرياض على التنسيق العميق مع واشنطن في الأزمة الراهنة، وإبداء قدر أكبر من التفهم لمخاوف واشنطن العميقة إزاء “أنشطة مرتزقة مجموعة فاجنر الروسية في السودان”.
وبدت واشنطن تمامًا مثل السعودية، قلقة من الآثار طويلة الأجل للصراع في السودان على الأمن في إقليم البحر الأحمر. وقالت مديرة الاستخبارات الأمريكية، أن القتال في السودان يرجح أن يكون ممتدًا، وعبرت عن مخاوفها من انتشار العنف عبر الحدود السودانية
جهود التهدئة
وقاد ذلك السعودية والولايات المتحدة إلى اقتراح مبادرة مشتركة؛ لتهدئة الوضع وترتيب حوار بين الجانبين. ومن هنا يبدو أن السعودية ستكون الحليف السياسي الأبرز للولايات المتحدة في ملف السودان.
وهكذا، فقد أظهر الصراع على السلطة واستمرار الأزمة الإنسانية في السودان، عمق الارتباط الجغرافي بين السعودية والسودان، والإسهام المميز للأصول البحرية والعسكرية السعودية في عمليات الإجلاء.
عزز ذلك صورة السعودية كقوة إقليمية لا يمكن الاستغناء عنها في البحر الأحمر، كما بدت السعودية القوة الإقليمية الوحيدة التي تمتلك اتصالات وثيقة مع أطراف الصراع في السودان.
علاوة على ذلك، فبسبب مكانتها الفريدة كزعيمة للعالم الإسلامي أمكن النظر للسعودية من قبل أطراف الأزمة كمكان مقبول لعقد المفاوضات
توظيف مجموعة فاجنر
ارتبطت سياسات الإمارات في السودان، بتوظيف أدوار فاعلين من دون الدول، بينما تفادت الرياض أي انخراط مباشر في صلات من هذا القبيل ظاهريًا على الأقل.
وقد حضرت مجموعة فاجنر الشهيرة في السودان منذ العام 2017، ووفق اتفاق موقع بين الحكومة السودانية وشركة M Investment المملوكة ليفجيني بريجوزين مؤسسة مجموعة فاجنر، وقدر وقتها أن الأخيرة تغذي هذا الصراع “وتعمل لصالح الكرملين”. وتشير الورقة إلى أدوار فاجنر في الصراع الحالي.
لقراءة الورقة كاملة اضغط هنا
تقييم سياسات الخليج
ثمة ملاحظة مبدئية عن تحليل سياسات الخليج في السودان، وأثرها على المصالح المصرية، وهي أن هذه السياسات قائمة بالأساس على حجم المصالح الجيواستراتيجية والاقتصادية والأمنية التي يوفرها السودان لديها.
يمثل السودان شاغلًا رئيسًا لأبي ظبي في سبيل تمتين علاقاتها مع إسرائيل (التي تطل بميناء وحيد على سواحل البحر الأحمر) وتعزيز أواصر العلاقات التي يشببها كثيرون بعلاقات إسرائيل ببريطانيا في الخمسينيات، ثم علاقاتها بألمانيا الاتحادية في الدائرة الإفريقية (التغلغل الإسرائيلي عبر رافعة قوة دولية مقبولة وقادرة على تمويل الأنشطة الإسرائيلية).
أما الرياض، فإنه تنظر حصرًا للسودان على أنه مجال نفوذ سياسي واقتصادي، وجزء لا يتجزأ من خططها الاقتصادية والسياسية من جهة توفيره مقدرات طبيعية، وزراعية هائلة يمكنها تقوية آلة الاقتصاد السعودي على المدى البعيد.
وفي مقابل هذه الارتباطات النفعية، تأتي تصورات مصر للسودان في سياق متناقض تمامًا؛ فالسودان عمق استراتيجي هام لمصر، ويأتي رسميًا في الدائرة الأولى من اهتمامات سياسات.
وتتجاوز صلات مصر بالسودان حدود المنافع (وهي قائمة بالفعل)، إلى اعتبارات التهديدات والفرص المشتركة بين البلدين في مواجهة أوضاع إقليمية ودولية معقدة.
وباتت عصية على الاستقرار، وعمق من هذه التناقضات سياسات الخليج السودانية التي بلورت بشكل أكبر حماية، وتنسيق مع مصالح أطراف دولية كبرى، وعدد من الدول الإقليمية غير العربية في مقدمتها إسرائيل.
استنتاجات
تستنتج الورقة، أن الخليج يمارس أكبر قدر ممكن من الضغط على السودان؛ لاستمرار لعبه دور المخزون الاستراتيجي لهذه الدول اقتصاديًا وأمنيًا على الأقل.
كما أنه لا يمانع في خدمة المصالح الإسرائيلية والأمريكية في السودان، ورغم تبني السعودية سياسات “تصالحية” في السودان عبر ما عرفت بمحادثات جدة، واستمرار دعم الإمارات لقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، فإنه لا يمكن وضع تمييز واضح بين سياسات السعودية والإمارات في السودان، باعتبار أنهما شريكتان أصيلتان في تصاعد الأزمة الحالية.
تشير الورقة، إلى تأثيرات ذلك المواقف على المصالح المصرية، والتي تتمثل في تهميش متصاعد لدور مصر في السودان كقوة رئيسة، عوضًا عن كونها صاحبة مصلحة في استقرار السودان وتسوية مشكلاته، وتعزيز قدراته على مواجهة الأخطار الوجودية، إضافة إلى تحجيم وساطات مصر في الملف السوداني، وتعزيز مكانة الرياض كقوة رئيسة في الإقليم.
https://masr360.net/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b9%d9%88%d8%af%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%85%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d9%88%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d9%86-%d9%88%d8%b1%d9%82/
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السعودیة والإمارات مجموعة فاجنر البحر الأحمر فی السودان
إقرأ أيضاً:
إعادة إنتاج الانحدار: ما بين خطاب شوقي بدري والوليد مادبو
عندما تصل النخبة إلى مرحلة لا تجد فيها غير التهجم والسخرية المتبادلة وسيلةً للتعبير، فذلك مؤشر واضح على المأزق الذي وصلت إليه.
المقال الأخير للأستاذ شوقي بدري، والرد الذي قدمه الدكتور الوليد مادبو، ليسا سوى فصل جديد من فصول الانحدار في الخطاب العام، حيث لم يعد النقاش يدور حول الأفكار، بل تحول إلى تصفية حسابات شخصية، تفتقر إلى العمق النقدي، وتحول القضايا الكبرى إلى مجرد ساحة تراشق لفظي. في وقتٍ يُفترض أن يكون التركيز فيه على تفكيك النظام الذي صنع هذه الأزمة وأوصل السودان إلى حافة الهاوية، ينشغل بعض من يفترض أنهم نخبة بجدل عقيم يكشف عُريهم الفكري وهشاشتهم أمام الواقع.
إن ما نراه هنا ليس فقط سقوطًا في لغة الاستعلاء الشخصي، بل هو تعبيرٌ صارخ عن غياب المسؤولية وعدم الاكتراث بالمخاطر الحقيقية التي تهدد السودان.
يحمل مقال الأستاذ شوقي بدري غضبًا مشروعًا تجاه الأوضاع الراهنة، لكنه يسقط في فخ السردية الاختزالية التي تجعل الأزمة الحالية مجرد غزو بدوي للعاصمة، دون مساءلة البنية التي أنتجت هذا العنف. يبدو وكأن السودان، في تصوره، كان مجتمعًا متجانسًا ومستقرًا حتى جاءت قوى الهامش لتطيح به، وهو تبسيط يعيد إنتاج نفس الخطاب النخبوي الذي لطالما تجاهل جذور الأزمة.
اللغة التي يستخدمها بدري ليست فقط انفعالية، بل تكرس نمطًا من التفكير يعفي النخب الحاكمة من مسؤوليتها التاريخية، ويجعل كل كارثة جديدة مجرد نتيجة لقوى دخيلة لا تنتمي إلى “السودان الحقيقي”. هذه المقاربة ليست جديدة، لكنها تتكرر كلما تعرضت المركزية السياسية والاجتماعية في السودان لهزة، وكأن التاريخ يعيد نفسه بذات التبريرات، دون مساءلة حقيقية للمنظومة التي جعلت الخرطوم نفسها مدينة مغلقة على امتيازات طبقية وإثنية معينة، حتى انفجر الهامش في وجهها.
بدلاً من تفكيك المنظومة التي أفرزت هذا الواقع، يستسهل بدري إلقاء اللوم على طرف واحد، متجاهلاً أن العنف الحالي ليس مجرد نتاج لحظة انفلات، بل نتيجة تراكمات طويلة من سياسات الإقصاء والتهميش، وهو ما لا يمكن فهمه خارج سياق سيطرة الجبهة الإسلامية وأدواتها التي هيمنت على السودان لعقود.
أما رد الدكتور الوليد مادبو، فرغم محاولته تقديم طرح نقدي مضاد، إلا أنه لم يخرج عن ذات الحلقة المفرغة التي وقع فيها شوقي بدري. فبدلاً من تقديم تفكيك حقيقي للمنظومة التي أنتجت الصراع، ينزلق إلى خطاب شخصي، مليء بالتلميحات والاستعراضات اللغوية التي لا تفعل سوى إعادة إنتاج الاصطفافات التقليدية.
في حين أن مادبو يطرح نفسه كناقد للمركزية السودانية، إلا أن خطابه لا يتجاوز نقد الأفراد إلى مساءلة البنية. لا يكفي القول بأن السودان محكوم بمنطق إقصائي ما لم يتم تفكيك آليات هذا الإقصاء، ومعالجته خارج ثنائية “المركز والهامش” التي أصبحت، في كثير من الأحيان، أداة للتموضع السياسي أكثر من كونها إطارًا تحليليًا حقيقيًا.
إن الانشغال بالرد على شوقي بدري بهذه الطريقة لا يختلف كثيرًا عن فخ التبسيط الذي وقع فيه بدري نفسه.
المفارقة أن كلاً من بدري ومادبو، رغم اختلاف مواقعهما، استخدما لغة لا تعكس سوى حجم الأزمة الفكرية التي تعاني منها النخبة السودانية. التهكم والسخرية والاستعلاء الضمني لم تكن مجرد أدوات في النقاش، بل أصبحت جوهر الخطاب نفسه، ما يحول النقاش من كونه محاولة لفهم الواقع إلى مجرد استعراض لفظي، يعيد إنتاج ذات النزعات الإقصائية التي يدّعي الطرفان رفضها.
إن اللغة ليست مجرد وسيلة تعبير، بل هي انعكاس لطريقة التفكير. وعندما تتحول لغة النخبة إلى مجرد تراشق، فذلك يعني أن الأزمة لم تعد فقط أزمة سياسية أو اجتماعية، بل أزمة فكرية عميقة، تجعل من المستحيل إنتاج أي مشروع حقيقي للتغيير.
ربما نحتاج هنا لاستعادة مقولة أنطونيو غرامشي حين تحدث عن “الأزمة التي تحدث عندما يعجز القديم عن أن يموت، ويعجز الجديد عن أن يولد”، وهي حالة تنطبق تمامًا على السودان اليوم؛ حيث تعيش النخبة حالة إنكار لواقع جديد لا تستطيع استيعابه، لكنها في الوقت ذاته عاجزة عن تقديم بديل حقيقي له.
ما حدث بين بدري ومادبو ليس مجرد خلاف بين شخصين، بل هو نموذج لصراع النخب الذي يكرر نفسه منذ عقود. كل تيار يرى في الآخر سبب الانهيار، بينما يغفل أن الأزمة ليست في الأشخاص، بل في البنية الفكرية التي تجعل من الصراع الشخصي بديلاً للنقاش الحقيقي حول جذور المأساة.
في نهاية الأمر، سيظل السودان غارقًا في الفوضى إذا لم يتم توجيه النقد إلى حيث يجب أن يكون، أي إلى النظام الذي هندس هذا الواقع، وليس إلى أشخاص يبحثون عن انتصارات وهمية في معارك جانبية لا تسمن ولا تغني من جوع.
إن “العدو الحقيقي” هنا ليس هذا الطرف أو ذاك في سجالات النخبة، بل هو منظومة القهر والاستبداد التي ترسخت على مدى عقود، وما لم يُفهم ذلك، سيظل كل جدل جديد مجرد إعادة إنتاج للانحدار نفسه، وإن تغيرت الأسماء والأساليب.
zoolsaay@yahoo.com