اعترف أنني تأخرت في قراءة هذه الرواية عند صدورها، والسبب أنه لم يتم قرصنتها إلكترونيا بعد، ولحرصي على أن اقرأها ورقيا بدافع شغفي لذلك، ولهذا أنا اليوم أكتب بعد أن حصلت على ما أريد، وبعد أن شدتني تفاصيل العمل برمته، فقد لامس الروائي والصحفي يعرب عيسى المحرمات الثلاث في روايته الأولى «المئذنة البيضاء» بكل ما يملك صحفي استقصائي من جرأة في الاقتراب من هذه الثوابت التي تقتضي العناية التامة بالنفس للسير في دروبها الشائكة، فاقترب من الدين والسياسة والجنس معاً دون إسراف أو غواية مبالغ بها، ولم تكن وسيلة لجذب القارئ بل تعامل معها كواقع موجود عرف كيف يتنقل بينها مستفيدا مما بحوزته من أرقام ووقائع موجودة على أرض الواقع، وبنى من خلالها الرواية الشائقة التي كان بطلها مايك الشرقي الذي خرج من بين حطام الواقع الذي عاشه في إحدى مناطق دمشق الفقيرة ليقرر أن يرتحل منها عبر الباب الشرقي وسط المدينة الذي يمثل معلما أثريا وموقعا جغرافيا مهما بمئذنته التاريخية التي لا تزال موجودة، مؤمنا بمقولة «إذا ما بعت روحك للشيطان فأحسن استثمار الثمن، لربما احتجت أن تشتريها ثانيةً ذات يوم».

منها شد الرحال حيث بيروت ليكون بعد فترة قصيرة بين يدي الشيخ القسام الذي يملك المال ويعمل بكل الموبقات، وبعد أن توطدت علاقة مايك بالقسام لقى الأخير حتفه وهو يمارس الجنس في معقله مع إحدى الفتيات التي قدمها له مايك من باب العرفان بالجميل وليس بقصد إيذائه، ومن هنا تبدأ حكاية مايك الذي أجاد نسج حياته ليبدأ بناء مملكته وفق أحلامه، وهو الذي عرف كل تفاصيل القسام وثروته التي آلت إليه شبه كاملة واستفاد منها بطريقته الخاصة أيضا.

لن أتعرض لكل تفاصيل الرواية التي جاءت في 422 صفحة من القطع المتوسط وصدرت عن منشورات المتوسط قبل عامين تقريباً، بل سأتوقف عند الكثير مما تضمنته حيث أجاد المؤلف في توظيف الأحداث ببراعة وتقانة وسلاسة وغالبها لايزال قريبا في الذاكرة مثل الحرب الأهلية في لبنان وحروب العراق وغزو الكويت وصولا إلى الحرب التي دارت رحاها في سوريا التي عاد مايك من خلالها إلى دمشق ليوسع استثماراته التي ملأت كل مكان وبكل أنواع المحرمات، بعد أن نال جنسيات دول عديدة وباع فيها واشترى وأصبح ملاحقا قضائيا، ولكن بفضل شبكته الكبيرة عرف كيف ينسل من جميعها بمهارة ليصل إلى مبتغاه.

مزج الخيال بالواقع

لم تكن كل تفاصيل الرواية محض خيال، وقد بنى الكاتب كثيرا من سرديتها على شخصية مايك الذي يوجد مثله الكثير، وهي نتاج واقع بائس تخلص من كل مفاهيم الخير والصلاح في داخله ليرسم مستقبله عبر جمع المال واستغلال كل ما يمكن أن يأتي في طريقه. بسهولة يستطيع القارئ أن يتلمس الواقع من خلال ما تم إيراده من وقائع وأحداث وظفها بشكلها الصحيح، لم يطمس الكاتب أسماء الشخصيات الكثيرة التي كان لها وزنها السياسي والعسكري والاجتماعي وأشار لها ولدورها علانية وبعضها أوردها تلميحا أو وصفا تعبيرياً.

تواجد الخيال عبر الوصف الكثير والمعبر عن ما مر به بطل الرواية ومن معه وفي أماكن متفرقة من العالم، وعبر إطلاق العنان للتعبير عن حالات السهر واللهو والسفر وبناء البواخر الخيالية وشراء الفنادق والجزر وغيرها من الليالي الحمراء، وربما لم يكن خيالاً محض، فهناك في الواقع مثله الكثير، فكان المزيج معبرًا، وقد توجب أن يكون مايك رجلا متخيلًا تم البناء على شخصيته، ليتم الإسقاط عليها في بنية السرد، وحتى ممن كانوا في شبكته التي أجاد صنعها من كفاءات بشرية كثيرة استطاع أن يجذبها إلى جانبه موجودة في الواقع وترك للقارئ فرصة التصور والإسقاط على من يريد.

يقول الكاتب يعرب عيسى عن روايته «تبدو الرواية شديدة الواقعية ومزدحمة بالأحداث، وفيها الكثير من الوقائع المجهولة والمشغولة بنَفس الصحافة الاستقصائية، مركّبة على إسقاطات أسطورية عميقة ومتجذّرة في وجدان هذه البقعة من العالم، دون أن تذهب باتجاه الغرائبية، وتحافظ على موقع الأحداث في الحياة الواقعية وبزمنها الواقعي، وتجلب الأسطورة إلى الواقع وليس العكس. أي أنها تفعل تماماً عكس ما فعلته الواقعية السحرية

تتداخل مصائر شخصيات الرواية مع الأحداث الكبرى التي جرت في المنطقة مثل الحرب الأهلية اللبنانية والحرب السورية، وحروب صدام العبثية، انزواء الكويت، نهضة دبي، محاولة قبرص للعب دور المرصد الشرقي، وكثير غيرها من الأحداث، وتأثير كل ذلك على منظومة الفساد الكبير في المنطقة».

المحرمات الثلاث

كثير من فصول الرواية فيها ما يمكن أن يفزز الحواس ويثير الدهشة ويدفع القارئ للبحث في محركات الشبكة العنكبوتية عن كثير من التفاصيل، تفاصيل فيها من الفحش ما يكفي لفضح ماهو مخفي وراء الغرف المغلقة، وما يحمله كثير من طبقات المجتمع التي تفرزها الأزمات والحروب من دناءة ووساخة، ووردت عبر التفاصيل الجنسية التي وصفها في مواقع كثيرة من خلال شخصية الرئيسية «القسام» و«ومايك الشرقي» قد أسسا كل إمبراطورية الفساد من خلال شبكات الدعارة والمخدرات التي كانت واجهة لبقية الصفقات والفساد، لذلك لم تكن تفاصيل الجنس فيها من باب غواية القارئ وجذبه حتى النهاية، بل كانت لهتك سر تلك الشخصيات التي تعتقد أنها تحمل الخير ولكنها في الواقع بداخلها نوازع الشر والطمع، وممن يجيدون استغلال الحرب والفقر والحاجة، وفضح قسوة الواقع الذي يخيم بظلاله على الناس كل حسب طموحه.

ولامس الكاتب أيضا الواقع السياسي الذي استغله مايك كما أسلفت وكل مامر بالمنطقة ومناطق أخرى من العالم من أحداث، منذ مطلع الثمانينيات وحتى عام صدور الرواية، ولم يتورع عن ذكر بعض الأسماء والإشارة لتلك الأحداث سواء في العراق أو الكويت أو لبنان أو سوريا والإمارات وروسيا وقبرص واليونان وحتى الصين، وكيف عقد الصفقات المشبوهة مع رجالات تلك الفترة لتمرير مشاريعه.

كما عمد الكاتب إلى مقاربات كثيرة في موضوع الدين وكيف تحول القواد قسام إلى الشيخ قسام، وما فعله مايك من جذب لرجال الدين لكي يمرروا له مشاريعه حول المئذنة البيضاء ونزول المسيح عليها، وقبلها علاقته بالراهبة عايدة، وحوارات كثيرة لامست العلاقة مع الله، والانقسام الطائفي والمذهبي سواء في سوريا أو لبنان، وصولا إلى أن محاولة تنفيذ حلمه ليكون هو ذاته المعجزة التي ينتظرها العالم لينقذه من الظلم والفقر والحروب بما يملك من مال وشبكات ورجال، حتى أنه كشف كيف استطاع بماله من أن يدير النزاع لمصلحته في أطراف دمشق مع الأطراف المتحاربة من أجل تحقيق مصالحه وأحلامه.

«هذا كوكب قبيح، يمكن فيه لقدم شاركتك السير حافية من مهبط حدد في المسكية إلى مهبط المسيح في الباب الشرقي أن ترفسك» ص 235، من هنا يدأ الدجال عمله مع بداية النزاع السوري لتتوالى فصول الرواية.

الأماكن ثيمة بارزة

استوقفني يعرب عيسى في أماكن كثيرة من الرواية، أعدت قراءة بعض المقاطع مرات ومرات، وطرحت على نفسي سؤالاً فضفاضا، كيف لهذا الرجل أن يصف كل تلك الأماكن بهذه الدقة وكأني به قد زارها وهو يحمل كاميرا فيديو ليصور أدق التفاصيل فيها.

لو أنه تحدث عن دمشق وحواريها وأماكنها فقط لسلمت بذلك، فهو وإن كان ابن مدينة حماة فنحن مثله عشنا في دمشق وتغلغلنا في تفاصيلها، ولكن أن يكتب بدقة عن أماكن لا أعتقد أنه زارها جميعها، ومع ذلك أجاد وصفها بعين ثاقبة، وهذا يدلل على دقته في معرفة الأماكن وعنايته بتوصيف المكان ليخدم الرواية وتكون ثيمة بارزة يستند عليها في حكاياته، ومؤثرة أيضًا حيث بقي المكان الأول الذي خرج منه والمكان الذي حلم أن يتملكه سبباً لعودته إلى نقطة البداية، ولعبت الأمكنة دورا هاما في كل تفاصيل الرواية.

توظيف البشر

«المعارك اليومية الصغيرة صار لها إطفائيون متفرغون يملكون المهارات والصلاحيات لتهديد هذا وشراء ذاك»ص 170، حشد مايك الكثير من البشر في شركاته المتشعبة في كل أنحاء العالم، وظف معه كل من يمكن أن يخدم مصالحه من عرب وأجانب، لم يكن يصعب عليه شيء ما، ضباط ورجال حكومات وسياسيين وإعلاميين وفنانين وكوادر بشرية من مختلف المهن، وشيوخ الدين كل هؤلاء تديرهم شبكة من رجاله ونسائه المتدربين بعناية شديدة لكي يواصل عمله الذي اتسع كثيرا وتفتحت عليه أعين بعض الدول التي بدأت ملاحقته وتملص منها بطريقته الذكية.

ولم يكن «محضر اجتماع شبه تنفيذي» مجرد حوار عابر ضم فعاليات متنوعة ورجالا لهم قدرهم وقيمتهم بل كان امتدادا لحوارات كثيرة توزعت في أروقة الرواية شهدت على حضور شخصيات فاعلة في الزمان والمكان، وتم توظيف الحوارات بما يخدم الرواية وفي اللحظة المناسبة ودون أن يشتت انتباه القارئ، بل كان له دلالات واضحة جعل القارئ يتشارك فيها لكي يستخلص النتيجة التي يمكن يؤولها بنفسه ويصيغ بها روايته التي يريدها، وهذه النقطة بالذات كانت ذكية جدا من كاتب روائي استعمل الحدث والمعلومة والرقم والزمان والمكان وكثير من التفاصيل ليضعها على طاولة واحدة مع القارئ ليدلي كل بدلوه بالنتيجة التي يحصل عليها من الزاوية التي يكون فيها.

وبالعودة لبعض تفاصيل الرواية فقد كادت «رفقة» الطفلة التي تبناها لتغير مسار حياته مع عايدة نحو مسار الخير لولا نوازع الشر التي انغمست فيه، ولكن حتى الصدمة التي أحدثتها رفقة له عندما فاتحته بحقيقته «ص229-230» لم تغير في حياته شيئا عندما انفجر في رأسه بركان الأسئلة التي تحفر في ثنايا الحقيقة التي حاول المراوغة فيها فصرخت فيه «عليك أن تعرف أنني أكرهك، إنني استحم ست مرات في اليوم لأتخلص من رائحتك. أنت سيئ».

حملت الرواية كثيرا من الإسقاطات السهلة التي يستطيع القارئ أن يمسك بها، ولكن سلاسة السرد بجمل متقنة الحياكة حالت دون أي تجعل أحد يمسك الراوي متلبسا بالانتماء لأي منها، وهذا ما يتمتع به الصحفي الحاذق المتمرس الذي يعرف كيف يستخدم ما بين يديه من وقائه ليصوغ منها التحقيق الذي يريد.

العلامات والجمل والكلمات الاستفهامية، كانت حاضرة في غالبية الرواية «متى وكيف ولماذا ومن» رواية مملوءة بمئات الأسئلة الواضح منها والمخفي بسياقات الجمل وانزياحات المعاني تجبرك على أن تقف أمامها باحثا عن الوجع الذي ينتاب المدن ويوجع ساكنيها.

كل الأسئلة كانت كافية لجذب القارئ حيث يريد الراوي ويشركه في فتح ملفات الماضي وينبش فيها، ويحرك جمر الحاضر التي يكاد يحترق فيها، ويحاول أن يستشف المستقبل عبر المزيد من الأسئلة التي تغلي في الرأس، لتجعلك تشد أعصابك أكثر وأكثر وتقف على قارعة السؤال وتطلق صيحتك من أعماقك «أين نحن من كل هذا العهر؟» وأنت الذي تعرف كل الأماكن واستمعت لكل تفاصيل القهر ونشرات الأخبار.

المشهد الذي ضمته الصفحة 257 يعتبر واحد من المشاهد التعبيرية التي تشي بالحقيقة إلى جانب مشاهد كثيرة جسدتها الرواية ضمن سياق الأحداث يحكي قصة الخراب الذي يلف العالم، والفصل الأخير بعنوان «الملحمة الكبرى» يلخص الكثير.

ربما تكون رواية المئذنة البيضاء واحدة من أهم الروايات التي صدرت في زمن المحنة السورية فهي تتحدث بفصولها الأخيرة عن البركان السوري الذي أنفجر ولاتزال ارتداداته موجودة ويغلي تحت رماد الوجع، نظرا لأهمية الموقع وما تشكله من اهتمام ومحاولة صياغة الشرق الجديد من خلاله كما ختم مايك الشرقي تعريفه بنفسه «وعز الشرق أوله دمشق أو كما أجاب حضوره».

يمكن أن تنتمي الرواية إلى تصنيفات كثيرة من السرد الروائي بما يحمل من مسارات، ففيها من التاريخي الكثير ومن الاجتماعي والواقعي ما يدهشك، ومن السياسي ما يشدك، ومن الفلسفة والتدين الكثير، ولم تخل من الحدس الاستقصائي، أو كما قال الناشر على غلافها الأخير «ليست المئذنة البيضاء حكاية وحسب» وكل تلك المسميات لن تغير من جودة الرواية حتى بتغيير الأسماء واحترام خصوصية الغير كما يقتضي العرف المهني في الصحافة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تفاصیل الروایة کل تفاصیل یمکن أن بعد أن

إقرأ أيضاً:

صراع الأفكار

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

لنشأة أفكارنا مُسبباتٍ كثيرة وهي مآل ما تكتسبه حواسنا التي تؤدي إلى استثارة محفزات ذهنية تفاعلية، ثم تحولها إلى الإدراك التخيلي الذي يستنكر بعضها فيطردها مراغمًا لاعتباراتٍ عقائدية ولياقات أخلاقية وعُرفية أو يُؤجلها بتبريراتٍ ظرفية وقتية وربما مادية، ويَستحسِن بعضها فيتبناها لإنتاج النواة الأولى للفكرة التي تولد في سجن العقل وترسل نداءات طلب حريتها بوتيرةٍ مُستمرة، وستخفت تدريجيًا مع مرور الوقت وستذوي مع تقادمها إن لم تجد تجاوبًا عند سجَّانها ولكنها لا تموت، بل سوف تنتقل ببطءٍ شديد إلى ملف الأحلام لتنضَّم إلى ركام الأفكار السابقة، فتلمع إحداها بين الحين والآخر مؤكدةً وجودها ومستجديةٍ إطلاقها.

ولكلٍ منَّا فكرةٌ خلاقة؛ بل أفكار رائعة وحبيسة، نحن من صنعها في عالمٍ غير مُدرك، ولا تنشأ أفكارنا إلّا في قيعان ذلك العالم الخصب والذي لا يتوقف عن تخليقها تباعًا دون توقف، بيد أنَّ القليل جدًا منها ما يجد طريقه إلى الواقع بحسب قوة الدوافع وضرورتها وبحسب الأدوات المتاحة لتحقيقها، ولعل المُمكنات المادية في العالم الملموس كالجهد والوقت والمال هي العوامل الرئيسة التي تأخذ بيد الفكرة إلى النور فيجد التفكير طريقه إلى منفذ التعبير، ومع أن إمكانية تحقيق الفكرة في غياب أحد العوامل الثلاثة ممكنًا إلا أنها ستخرج هزيلة أو ضعيفة وقد لا ترقى إلى مستوى الطموح المنشود.

لا ريب أن مُعظمنا قد أنجز شيئًا من أفكاره بعد أن بدأت بشرارة عصبية صغيرة جدًا في وعينا ثم تبنتها عقولنا لتجتبيها في سبيل تذليل المعوقات وتخطي العقبات وتجاوز الصعوبات، وهذا هو الغراس الطبيعي السليم في تحدي الإنسان لنفسه والتكيف مع ظروفه لتحقيق طموحه وأحلامه وبلوغ غاياته وآماله وجني ثمار جهده وتعبه، ولولا الصراع الناشئ بينه وبين أفكاره ما اضطلع بما هو عليه اليوم من تقدم وتطور، وقد فصَّلتُ في هذه المقدمة على النحو السالف حتى اصطنع مفهومًا حسيًا واضحًا لما يتولد من التفكير مرورًا بالشحن المعنوي ووصولًا إلى التجسيد الواقعي.

ربما يكون ما تقدم معلومًا لدى الجميع بشكل أو آخر ولكن ما قد لا يعلمه الكثير او يجهل تفسيره هو بقاء فكرةٍ تحررت في شكل عمل غير مكتمل أو غير ناجح مسيطرةً على دماغ الإنسان وعدم قدرته على نسيانها أو التخلص منها، علمًا بأنَّ الكثير من المهام قبلها وبعدها كانت ناجحة وبعضها كان متقدمًا وبارزًا في فعاليته، لكنها تُهمَّش بمرور الوقت لقدرة الدماغ على نسيان الأحداث المكتملة، ثم تتحول الفكرة غير مكتملةِ النتيجة إلى مصدر قلق وإزعاج مستمر وهو ما يُعرَف بـ"تأثير زيجارنيك" نسبةً إلى عالِمة النفس السوفيتية بالوما زيكارنيكوف.

وتتكون حالة من المُغالبة بين الإنسان وذاته إزاء فكرةٍ قديمةٍ انتهت بنتيجةٍ فاشلة أو غير مكتملة، وتتحول إلى عائق يصعب تجاوزه وقد يفضي إلى الحد من انسيابية الأفكار الإيجابية المحتجَزة وراءه حتى إذا وصل مرحلةٍ لا تخلو من المخاطرة المُستهينةِ بالنتائج المُحتملة اقتحم العقبة الكؤود التي تؤرقه في محاولة جديدة مع اعتبار عدم أهمية تنفيذها الآن وكان من الأحوط هجرها هجرًا جميلاً، وعليه فإن تأثير الفكرة أحيانًا يكون سلبيًا إذا ما أصر صاحبها على تنفيذها مع علمه بالأخطار التي تصاحبها والنتائج الضارة المترتبة على تصعيدها إلى النطاق العملي، وهي مرحلة لا تخلو من معاندة النفس والتعنُّت المدعوم بنزعة التحدي، خصوصًا إذا كان جموح الفكرة لا يخدم أحدًا ولا يعود بمنفعة على المجتمع بقدر ما يعود بالضرر على صاحبه في المقام الأول وكان من الأجدر تركها تركًا جميلًا.

قد تُساور أحدهم فكرة شديدة الإقناع بمخالفة أمرٍ، ربما يتفق عليه كل المجتمع أو مُعظمه، وليس بقصد المخالفة وإنما بسبب سيطرة تلك الفكرة على ذهنهِ واستماتتها في الإلحاح والدفع به لتنفيذها حتى تتحرر من قيودها وتنال حريتها مع خروجها إلى الواقع ولكنها تعود على صاحبها وبالًا فيغدو أسير الألم حبيس النَّدم، فليس كل ما يفكر به المرء قابل أو واجب التنفيذ إذ إن ضرر بعض ما نفكر به ينضوي تحت المخاطر العالية ويندرج ضمن موجبات الوقاية والحماية، كما قد تختلط الأفكار دون ترتيب لدى معظم الناس وأنا منهم والقليل مَن يمكنه تخطيطها إلى أهدافٍ قابلة للتنفيذ على رأس القائمة، تليها أهداف ممكنة التنفيذ يومًا ما لعدم توفر ممكناتها في الوقت الراهن، وأخيرًا أهداف غير قالبة للتنفيذ لظروفٍ ماديةٍ أو اجتماعية أو غيرها، ولكنها ليست مستحيلة فتصبح الأولوية لأحسنها عند انتفاء الأسباب والأخطار واضمحلال الموانع والأضرار.

لولا كثرة الحديث عن محاسن السكوت لما علمنا فضائله ولولا الأفعال الخبيثة ما استطعنا تقييم الأفعال الحميدة، ولولا اشتجار فكرة هذا المقال مع ذهني لما رأى النور، وإن كُل ما لم نجعل له قالبًا في صيغة قول أو فعل فهو غير موجود في الواقع وإن كان موجودًا في الذهن، ومع أن كيفية نشأة الفكرة لاتزال غير مفهومة علميًا، إلّا أننا لا ننكر تكونها جراء ما نراه ونسمعه ونستشعره ونستذكره وما تحدث به النفس من خير وتُوَسوِس به من شر.

قال سُقراط: "أفكارك هي التي تجعل حياتك وردًا، أو تجعل حياتك شوكًا"

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • حول الرواية التاريخيّة.. محاولة في الفهم والتحليل
  • "انظروا إلينا نرقص".. رواية لـ"هشام النجار" في مواجهة التطرف والإرهاب
  • رئيس الجمهورية عن تصريحات مايك والتز: تكرارها يؤثر على علاقة العراق بالولايات المتحدة
  • أكاديمي إسرائيلي يستعرض تاريخ الصراع مع حماس.. لن ترفع الراية البيضاء
  • عادل عسوم: إلى الذين أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
  • في مثل هذا اليوم.. وفاة فارس الرواية الرومانسية محمد عبد الحليم عبد الله
  • صراع الأفكار
  • في الليلة الثانية لميدفست في وجه بحري.. ميرفت أبو عوف: مناقشة المواضيع وتغيير الواقع يكون أسهل من خلال الأفلام
  • الرئاسة الفلسطينية: (شرعنة) البؤر الاستيطانية تأتي في إطار حرب الإبادة الشاملة التي يشنها الاحتلال ضد الفلسطينيين
  • «الرواية والتاريخ والمجتمع».. مرة أخرى!