خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي
تاريخ النشر: 24th, November 2023 GMT
المناطق_مكة
أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور ماهر بن حمد المعيقلي، المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: إن الحكمة سمة من سمات الأنبياء والصّالحين، والعلماء العاملين، بعث الله بها رسله، وأقام عليها كونه وشرعه، وهي نعمة عظيمة، ذكَّر الله بها عباده، ألا وهي الحكمة، قال عز وجلَّ: ((وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ))، مشيراً إلى أن الحكمة هي وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها، وتكون بالعلم النافع والعمل الصالح، ومعرفة مقاصد الشرائع، وهي تسود بصاحبها، وتكسوه ثوب الوقار، وتحفظه عن ما يورث الخزي والعار، وأعظم الناس حكمة، الأنبياء والرسل، لما اختصهم الله به من الفضل، في حمل الرسالة، وإبلاغ الدعوة، قال سبحانه عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ((وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا))، فكان صلى الله عليه وسلم أعلم الناس، وأنفع الناس، وأحكم الناس، فسيرته العطرة، كلها عين الحكمة، في أقواله وأفعاله، وسمته ودله، ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ))، فأسعَدُ الناس بالحكمة، من تعرف على سيرة سيد الأنبياء، وتأسى بهديه، واتبع سنته، فكم في سيرته صلى الله عليه وسلم من مواقف وأحداث، تجلّت فيها حكمته، وسداد رأيه، وحسن مشورته، فتجلت حكمته، سواء مع من استجاب لدعوته، أو مع من خالفه ولم يؤمن به، وهكذا تكون الحكمة، سبباً بعد الله في درء الفتنة، وحفظ الأمن واجتماع الكلمة، وقيام مصالح الناس الدنيوية والأخروية، وكم كان لغيابها، واتباع أدعياء الهوى، من مفاسد وأضرار متعدية.
وأشار فضيلته إلى أن من نماذج حكمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حديث أَنَس بن مالك رضي الله عنه حيث قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، وفي رواية: فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ – بالضرب ونحوه- ، فلما رأى ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ))، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: ((إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ))، ولقد كان هذا الخلق النبيل من النبي صلى الله عليه وسلم، جانباً من جوانب حكمته، ورفقه ورحمته، التي أسر بها قلوب من حوله، على اختلاف طبائعهم، وتنوّع مشاربهم، فالرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وإن الله تعالى يُعطي على الرفق، ما لا يُعطي على العنف.
وأكد فضيلته أن الحاجة تزداد إلى الحكمة، في تعاملاتنا اليومية، وخاصة بين الزوجين، لاستمرار المودة والرحمة، وفي تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، وصبره وحلمه، وتغاضيه وحسن تصرفه، ما هو حريّ بالمؤمن أن يتأمله، والمشورة من الحكمة، لما فيها من التماس الرأي السديد، والعمل الرشيد، وقد أمر الله تعالى بها نبيه، فكان صلى الله عليه وسلم، كثير المشورة لمن حوله، وهو نبي الله ورسوله، أوفر الناس عقلا، وأسدهم رأيا، ففي صلح الحديبية، غضب الصحابة رضي الله عنهم، ظناً منهم أنهم بخسوا حقهم، حتى جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: ((يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا))، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: ((قُومُوا، فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا))، قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَامَ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ، فَيَحْلِقَكَ. فَقَامَ، فَخَرَجَ، فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ هَدْيَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا”، رواه الإمام أحمد في مسنده، فكان رأي أم سلمة رضي الله عنها، رأياً موفقاً ومشورة مباركة.
وأضاف الدكتور المعيقلي أن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها، وإن من علاماتها، أن يبتغي المرء الرشد في تصرفاته، ويبدأ بالأهم فالأهم، ويأخذ بالأولى فالأولى، فإذا تعارضت مصلحتان، عامة وخاصة، قدم العامة على الخاصة، وإذا ترتب على تصرفه مصلحة ومفسدة، قدم ما فيه درء المفسدة على جلب المصلحة، والحكيم لا يدخل في أمر حتى ينظر في عواقبه، ومن الحكمة: أن يصمت المرء حين يكون الصمت أفضل، ويتكلم حين يكون الكلام أفضل، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت، ألا فليتق الله من يبثون أسباب النزاع والفرقة، في الشبكات الاجتماعية، خلف أسماء وهمية، فالله مطلع عليهم، عالمُ بما كتبت أيديهم، وبما تخفي صدورهم. ومن الحكمة مخاطبة الناس بما تحتمل عقولهم ومداركهم، ومراعاة تنوع ثقافتهم، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: “ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة”، فاتقوا الله عباد الله، وتحلوا بالحكمة في سائر الأحوال، فإنها من أعظم النوال، واطلبوها من مظانها، واسألوا الله المزيد منها.
وأفاد إمام وخطيب المسجد الحرام أن من الحكمة ما هو محض هبة من الله تعالى، يؤتيها من يشاء من عباده، ومنها ما هو مكتسب، فإنما العلم بالتعلّم، والحلم بالتحلّم، والصبر بالتصبّر، فيرزقها الله تعالى، لمن بذل أسباب تحصيلها، وتوفرت فيه أركانها، ولا يكون ذلك إلا بسؤالها من مالكها، سبحانه جل شأنه، وتقدست أسماؤه، ومن أسباب كسب الحكمة، الإخلاص والتقوى، ومخافة الله جلَّ وعلا، فمن خاف الله، انتظمت حياته، وصلحت سريرته وعلانيته، وأهل البدع والأهواء، محرومون من الحكمة، لأن الهوى يعمي ويصم، ومنزلة الحلم والأناة من الحكمة، كمنزلة الرأس من الجسد. وإن من الحكمة، التغافل عن أخطاء الناس وزلاتهم، وذكر محاسنهم ومواطن الخير فيهم، والتجارب تنمي المواهب، وتجعل العاقل حكيما، وتزيد الحليم حلماً.
وفي المدنية المنورة أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي المسلمين بتقوى الله تعالى بأداء حقوقه بالقيام بحقوق خلقه فالفوز لمن اتقى، قال جل من قائل (( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ?. وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )).
وقال فضيلته: إن سعادة الإنسان وحياته بالقيام بحقوق الله جل وعلا وبالقيام بحقوق الخلق، وأن شقاوة الإنسان هي بتضييع حقوق الله وحقوق الخلق وظلمهم قال تعالى ((وَتِلْكَ الْقُرَى? أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا )).
وأوضح فضيلته أن صلاح العالم يعود إلى الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح والعدل، مشيراً إلى أن الله شرع الشرائع وأحل الحلال وحرم الحرام وفصل الواجبات وبين الحقوق وألزم بها من أجل حماية الإنسان إصلاح الإنسان وحمايته من الظلم الذي يدمر الحياة ويسعد في حياته وبعد مماته.
وتابع إمام وخطيب المسجد النبوي الله تعالى، أوجب التعاون على الخير والتراحم والتعاطف ونصرة المظلوم وبذل الخير وكف الشر والأذى ففي الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله ? ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».
وحث فضيلته على نصرة المستضعفين في غزة من الأطفال والنساء والشيوخ بالدعاء والغذاء والدواء وبالمال والكساء وسد حاجتهم وتنفيس ما بهم من كرب ومواساتهم.
وأضاف إمام وخطيب المسجد النبوي أن التاريخ سيذكر لقيادة المملكة عقد قمة عربية إسلامية لبحث أوضاع غزة اتخذت فيها قرارات تدين العدوان على العزل من أهل غزة ووجوب إيقاف هذه الحرب الظالمة على غزة، مذكراً أن المملكة فتحت باب المساعدات والتبرعات نصرةً للقضية الفلسطينية، ووقوفاً مع المظلومين.
وبين أن أهل فلسطين ليس لهم إلا الله وأمة الإسلام، مشيراً حقوق المسلمين لا يحفظها إلا تقوى الله والإيمان به قال تعالى ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ))، فمن كان الله معه لا يخاف عليه، ولا يحفظ من شرور الأعداء إلا الصبر وتقوى الله تعالى.
وفي الخطبة الثانية أكد إمام وخطيب المسجد النبوي أن الاختلاف والتفرق ضرر وضعف على الدين والأوطان، فبالاجتماع قوة وعزة.
واختتم الشيخ الحذيفي الخطبة بالتذكير على أن سنة الله في الخلق، أن الله ينصر الحق من الظالمين.
المصدر: صحيفة المناطق السعودية
كلمات دلالية: الجمعة المسجد الحرام المسجد النبوي خطبتا الجمعة إمام وخطیب المسجد النبوی صلى الله علیه وسلم المسجد الحرام الله تعالى من الحکمة رضی الله ى الله ع ی الله الله ب
إقرأ أيضاً:
في عالم مصطخب بالمشكلات.. خطيب المسجد الحرام: الإسلام أرسى قواعد الأخوة والمحبة
قال الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس؛ إمام وخطيب المسجد الحرام، إن الإسلام أرسى أسس وقواعد الأخوة والمحبة، والتواصل والمودة، في غِمار الحياة ونوائبها، ومَشاقّ الدُّنيا ومَبَاهِضها، وفي عالم مُصْطَخبٍ بالمشكلات والخُصُومات، والمُتَغيرات والنزاعات.
قواعد الأخوة والمحبةوأضاف “ السديس ” خلال خطبة الجمعة الثالثة من جمادي الأولى من المسجد الحرام بمكة المكرمة: وفي عصر غلبت فيه الماديات وفَشَت فيه المصالح والأنانيات، حيثُ إن الإنسان مَدَنِيٌّ بِطَبْعِه، واجتماعِيٌ بفطرته، تَبْرُزُ قَضِيَّةٌ سَنِيَّةٌ، مِنْ لوازم وضرُورَاتِ الحياة الإنسانية.
وأوضح أن تلكم العلاقات الاجتماعية ومَا تقتضِيه مِن الركائز والروابط البشرية، والتفاعل البنَّاء لِتَرْقِية الخُلُق والسلوك، وتزكية النفس والروح؛ كي تسْمو بها إلى لُبَاب المشاعر الرَّقيقة، وصفوة التفاهم الهَتَّان.
وتابع: وقُنَّة الاحترام الفَيْنان، الذي يُحَقِّقُ أسمى معاني العلاقات الإيجابية، المُتكافلة المتراحِمة، وأنبل وشائجها المُتعَاطِفة المُتَلاحِمة، التي تَتَرَاءى في الكُرَب بِلَحْظ الفؤاد، وتَتَنَاجَى في النُّوَبِ بِلَفْظِ السُلُوِّ والوِدَاد".
لا تزال تتقلب ببني الإنسانوأشار إلى أن الأيام لا تزال تتقلب ببني الإنسان حتى ساقته إلى عَصْرٍ سَحقته المَادّة، وأفنته الكَزَازة الهَادَّة. ونَدر في العالم التراحم والإشفاق، والتَّبَارُرَ والإرفاق، وفَقَدَ تَبَعًا لِذَلك أَمْنَه واسْتِقْرَاره، ومَعْنَى الحياة فيه، وفَحْوى الإحسان الذي يُنْجِيه.
ونوه بأنه ولا يخفى على شريف علمكم أَنَّ مُخالَطة النَّاس تُعَرِّض المَرْء لا مَحَالة لخطأ سَوْرَتِهم، وخَطل جهالتهم، لذا كان ولا بد من وقفة جادَّة ؛ لتَعْزيز الروابط الاجتماعية، فالشعارات البرَّاقة، لا تكشف كُرَبًا، ولا تبدِّدُ صَعْبًا.
وواصل: ولا تُغيثُ أمَّة مَرْزُوءة ولا شعْبًا، ما لم تُتَوَّج بالمواقف والأفعال، يَتَسَنَّمُ ذِرْوَةَ سَنَام ذلك: الاحترام المتبادل؛ فهو أساس العلاقات الاجتماعية الناجحة، ويشمل ذلك؛ التقدير الشخصي، وتقدير واحترام المشاعر والآراء، والتفهم لمواقف الآخرين، فإن ذلك يؤصّل ويُسهم في تقوية الروابط، وتعزيز الأواصر.
ونبه إلى أنه إذا ساغ عقلاً قبول القناعات، واستمراء الآراء والحريات، فغير سائغٍ على الإطلاق أن تتحول القناعات إلى صراعات، والحريات إلى فتنٍ وأزمات، ولاسيما أن الأمة تعيش منعطفًا تاريخيًا خطيرًا، ومرحلة حرجة من أشد مراحل تاريخها.
أهم موجبات الوحدةوأفاد بأن من أهم موجبات الوحدة، ومقتضيات التضامن والاعتصام، التغاضي والتغافل، والصبر والتسامح، وحُسْنُ الظن والتماس الأعذار، قال تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
واستشهد بما قال سبحانه: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، ويتبع ذلك من جميل الوُدِّ والتعامل الحسن عدم الإكثار من اللَّوْمِ والعِتَاب، والتَّشَكِّي في الحديثِ والخِطَاب، فإنها تَقْطَع الأواصر بغير حِجَاب.
وبين أنه ليست تدوم مودة وعتاب، فقلوب أهل الإيمان دمَّاحة، ونفوسهم لِلْوُدِّ لَمَّاحة، فالنّسيج الاجتماعي المُتراص الفريد يحتاج إلى صَقْل العلاقات الاجتماعية، والتحلي بمحاسن الآداب المرعية، ومعالي القيم الخُلقية، والمُدارة الإنسانية، وجبر الخواطر، ومراعاة المشاعر.
واستطرد: وعِفَّة اللسان، وسلامة الصدور، ولقد تميّز الإسلام بنظـامٍ اجتماعي وإنساني فريد، وسبـق بذلك نُظُم البَشَر كلها؛ ذلك لأن العلاقات الاجتماعية في هذا الدين، مُنبثقـة من جوهر العقيدة الصافية.
تتميّز به المجتمعات المسلمةوبين أن مما تتميّز به المجتمعات المسلمة أن للدين أهميةً مركزيةً في توجيه السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية، وهو مصدر قِيَمِهَا الإنسانية والاجتماعية ومقياس مُثلها العُليا. والإسلام ليس قاصراً على الشؤون الاعتقادية والتعبُّدية، بل هو نظامٌ شاملٌ للحياة، يمدّها بمبادئه وأصوله التشريعية في مختلف المجالات.
ولفت إلى أن ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي العجب العُجَاب، مِمَّا يُفسد العلاقات، ويقطع حِبَال الوُدّ في المجتمعات، من الطَّعْنِ في دين الناس وأعراضهم وعقولهم وأموالهم، فيتلقفها الدَّهْمَاءُ، وتَلُوكُهَا الرُّوَيْبِضَةُ، في نَشْرٍ للشائعات وترويجٍ للأراجيف والافتراءات، مما يجب معه الحذر في التعامل مع هذه المنصات المنتحلة، والمواقع المزيّفة، التي تكثر فيها الغثائية، ومحتوى الغوغائية.
وأكد أن الإسلام جاء رائدًا للتَّراحم والتعاطف بل هو الذي أنْمى ذيَّاك الخُلُق في الخافِقَين وأصَّله، وحضّ عليه وفَصَّلَه، قال تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وتلكم الخلال الرَّحيمة، والشِّيَم النبيلة الكريمة، التي عَنَّت العالم إدْراكَها، لَهِيَ الأمل الذي تَرْمُقه الأمم الجهيدة والشُّعوب، وتَهْفُوا لها أبَرُّ القلوب.
وشدد على أنه لذا يجب تَعْزيز قِيَمنَا الرَّبانية الومَّاضة؛ كالرحمة والعَدْل والصِّدق والوفاء، والبِر والرِّفق والصَّفاء، والأمَانة والإحسان والإخاء، وسِوَاها مِن كرائم الشِّيم الغرَّاء والشمائل الفيحاء، التي تُعد مصابيح للإنسان تضيء دربه، وهي صِمَام أمن وأمان لصاحبها من الانحلال الأخلاقي.
وأردف: وحياة الفوضى والعبث والسقوط في مهاوي الضلال وجلب التعاسة والشقاء لنفسه وأهله، خاصة بين الرُّعاة والرعية، والعلماء والعامة، وفي حلائب العلم وساحات المعرفة في مراعاة لأدبِ الخِلافِ والبُّعد عن التراشق بالكلمات والتلاسن بالعبارات، وتضخيم الهِنَات، فضلاً عن اتهام النِّيَّات وكَيْلِ الاتهامات، والتصنيفات.
وأكمل : ومع الوالدين والأقارب والجيران، وكذا الزملاء في بيئة العمل، وفي مجال العلاقات الزوجية، أعلى الإسلام قيم الاحترام والاهتمام، ومتى علم الزوجان الحقوق والواجبات زانت العلاقات، ونعما سوياً بالسعادة الزوجية، والهناءة القلبية، لذا أوصى الله -جلَّ وعلا- الأزواج بقوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، حيث أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- الزوجات بقوله: "فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ".
وتعجب: فكيف تُقَام حياة أو يؤسَّس بيت وسط الخلافات الحادة، والمناقشات والمُحَادَّة؟ وأنَّى يهنأ أبناء الأسرة بالمحبة وينعمون بالوُدِّ في جوٍ يغلب عليه التنازع والشِّقَاق والتناحر وعدم الوِفَاق. وهل تستقيم حياة بغير المَوَدَّة والرَّحمة؟ وكلها معارك الخاسر فيها الإنسان، والرابح فيها الشيطان، ألا ما أحوج الأمة الإسلامية إلى تفعيل فن التعاملات الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية، ليتحقق لها الخير في الدنيا والآخرة.
ودلل بما ورد أن الله -عزّ وجلّ- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، منوهًا بأن وقوع الاختلاف بين الناس أمرٌ لا بد منه؛ لتفاوت إراداتهم وأفهامهم، وقُوى إدراكهم. لكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعضٍ، فالاختلاف أمرٌ فطري، أما الخِلاف والشِّقاق، والتخاصم والفِراق، فهو المنهي عنه بنصوص الشريعة الغرَّاء. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.