الأرجنتين.. إفلاس الديمقراطية فكرة ونموذجا
تاريخ النشر: 24th, November 2023 GMT
بعد وصول ترامب إلى السلطة في أمريكا، وانتخاب المهرج زيلينسكي رئيسا لأوكرانيا، وأخيرا انتخاب مهرج آخر، خافيير مايلي، رئيسا للأرجنتين، آن الأوان لتلخيص المعلومات واستخلاص النتائج.
إن كل هذه الحالات تثبت انتصار الشعبوي الذي يعد بحلول سهلة إلا أنها مستحيلة، وخلاص سهل من مشكلة معقدة في سياق أزمة اقتصادية عميقة ومستويات معيشة متدنية.
سؤال: هل معظم الناس بهذا القدر من الغباء والسذاجة الطفولية لدرجة أنهم يؤمنون بالمعجزات؟ أجب بنفسك عن هذا السؤال عزيزي القارئ.
إقرأ المزيد هل تصبح الهند قوة عظمى؟وفقا لدراسة أجرتها "مؤسسة الرأي العام" الروسية، فإن 43.8% فقط من الروس يظهرون نماذج إيجابية للسلوك المالي، فيما يظهر 56.2% نماذج سلبية (المغامرة والسذاجة المفرطة والمقامرة والاندفاع والمبالغة في تقدير معرفتهم والتردد في تحمل المسؤولية). وفي قرون سابقة، أدت الأنماط التي تندرج ضمن النموذج السلبي للسلوك المالي إلى استعباد هؤلاء الناس بالديون. وأعتقد أن الناس في جميع البلدان متماثلون في هذا الجانب، وبشكل عام، فإن غالبية البشرية غير قادرة على الاعتناء بنفسها.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يرتبط حق التصويت في روما القديمة وكذلك في الولايات المتحدة في المراحل الأولى من وجود الجمهورية بمؤهل الملكية، أي أنه يمنح فقط للأشخاص الحائزين لأملاك، وبالتالي أثبتوا إيجابية نموذجهم المالي، ومسؤولية سلوكهم. أي أن النموذج الجمهوري المبكر كان أقل ديمقراطية، لكنه كان أكثر استقرارا.
فالديمقراطية، أي إعطاء كل الناس حق التصويت، تؤدي بطبيعة الحال وحتما إلى وصول الشعبويين إلى السلطة. وأثناء الأزمة، كلما استفحلت مشكلات المجتمع وأصبحت أكثر تعقيدا، كلما زاد الإيمان بالمعجزات بين السكان، وكلما كان السياسي الأقل مسؤولية والأكثر انعداما للضمير أقرب للفوز بالانتخابات. وهذا يعني أن يلتسين وترامب وزيلينسكي ومايلي ليسوا الاستثناء، بل القاعدة. ثم يلي ذلك الانهيار، لكن الناس يختارون مرارا وتكرارا الشخص الذي يعد بمزيد من المعجزات، وليس المزيد من العمل مقابل أموال أقل، على الرغم من أنه السبيل الوحيد للخروج من الأزمة.
ولحسن الحظ، يتمتع السياسيون بالقدرة على خداع الناخبين وعدم الوفاء بمعظم وعودهم، ولكن مع مرور الوقت، تؤدي القرارات الشعبوية إلى زيادة الإنفاق الاجتماعي الحكومي بمعدلات أسرع من نمو إنتاجية العمل والإنتاج. ونتيجة لذلك، لا توجد بلدان في العالم خالية من الديون، حيث تعاني خمس من كل ست دول في العالم الآن من عجز في الميزانية، أي أنها تنفق أكثر مما تكسب. وربما تكون النسبة أسوأ من ذلك، ولكن هناك دول غنية صغيرة في العالم مثل ممالك الخليج، حيث يتجاوز الدخل من الموارد الطبيعية التكاليف الاجتماعية، حتى لو لم تتسم السياسات المالية بكثير من الحكمة.
إن الديمقراطية هي النموذج الأقل قابلية للحياة في المجتمع، ولا يمكن تحقيقها إلا بعد أن تطور الدكتاتورية الاقتصاد، وتحل جميع المشكلات، وتزيل جميع التهديدات، بعدها يمكن للمجتمع أن يسترخي ويبدأ في الاستمتاع دون التعرض لخطر الموت الفوري، بما في ذلك من خلال أساليب تشكل خطورة على الحياة، من خلال الانحطاط والتحلل. وبطبيعة الحال، فإن الفكرة التي تروج لها الدعاية الغربية بأن الديمقراطية تولد الرخاء هي محض كذب، فكل شيء هو عكس ذلك تماما، أي أن الرخاء هو ما يولد الديمقراطية وما عدا ذلك مستحيل.
إقرأ المزيد شي جين بينغ في ديار بايدن.. من يدفع الفاتورة؟وإذا أمكن تلخيص المقال في جملة واحدة، بإمكاننا تذكر المثل القائل أن "الأوقات العصيبة تخلق أشخاصا أقوياء، والأشخاص الأقوياء يخلقون أزمنة الرخاء، وأزمنة الرخاء تخلق أشخاصا ضعفاء، والأشخاص الضعفاء يخلقون أوقاتا عصيبة". دائرة مفرغة.
إلا أن ما قيل لا يعني على الإطلاق أنني أفضل الدكتاتورية على الديمقراطية، وأؤيد حرمان غالبية الناس من حق التصويت، كما لا أقول إن الدكتاتورية أكثر فعالية من الديمقراطية. ومن غير الصحيح مقارنة الدكتاتورية بالديمقراطية من حيث أيهما أفضل أو أسوأ. كلاهما مرحلتان طبيعيتان في تطور المجتمعات، وكل منهما يتوافق مع المرحلة الخاصة به من تطور المجتمع، ويكون أكثر فعالية في ظروف معينة. وتطور الكائنات الحية (بما في ذلك المجتمعات) هو تطور فطري يصفه المخطط التالي: الولادة-التوسع-تعقيد النظام-تراكم الأخطاء-الموت.
شخصيا، كنت أفضل أن أعيش لحظة منح حق التصويت للجميع، فهذه قمة رفاهية وحيوية المجتمع، ولكننا جميعا نعيش في نهاية مرحلة تراكم الأخطاء.
ولك أن تخمن عزيزي القارئ شكل المجتمع الذي سيتعين على البشرية من خلاله الخروج من هذه الأزمة؟
ختاما، دعونا ننظر إلى الدول العربية. وبطبيعة الحال، فإن النضال من أجل حقوق الفرد هو أمر جيد وصحيح، ولكن يجب على المرء أن يفهم أن الديمقراطية في المجتمعات الفقيرة مستحيلة بحكم التعريف، لأن مطالب السكان تتجاوز في كثير من الأحيان قدرة هذه المجتمعات/الاقتصادات على ضمان تلبية هذه المطالب. والإطاحة بالحكومات الاستبدادية في المجتمعات الفقيرة لن تؤدي، تحت أي ظرف من الظروف، إلى إقامة ديمقراطيات. وإذا مضينا في طريق الثورات، فإن ذلك سيؤدي، في أحسن الأحوال، إلى انتخاب مهرجين غير أكفاء مرارا وتكرارا.
إذا كنت تريد الديمقراطية، فاعمل على تطوير اقتصاد بلدك، وناضل من أجل مكانة رفيعة لاقتصادك في سلسلة القيمة العالمية، وهذا الأخير يعني نظاما عالميا جديدا أكثر عدالة. بعد ذلك، من خلال التطور الطويل داخل البلاد والحروب خارج البلاد، بعد جيل او جيلين أو ثلاثة، وربما أكثر، قد يتطور في بلدك لبعض الوقت ما يمكن تسميته بالديمقراطية.
وأكرر، على سبيل الاحتياط، أنا لا أقوم بحملة للدعاية من أجل الدكتاتورية، كل ما هنالك أنني أقدم روايتي في تفسير ما يحدث.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة "تليغرام" الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب
المصدر: RT Arabic
كلمات دلالية: ألكسندر نازاروف ألكسندر نازاروف الثورات العربية انتخابات خافيير ميلي دونالد ترامب حق التصویت
إقرأ أيضاً:
ظاهرة إفلاس الشركات وتعثر المشاريع
د. محمد بن عوض المشيخي **
تُعد المؤسسات والشركات الوطنية العمود الفقري للاقتصاد في أي بلد في العالم لكونها تتولى تنفيذ المشاريع التنموية كبناء شبكات الطرق في مختلف المناطق، وكذلك تشييد الجامعات والمدارس والمستشفيات والمدن الجديدة، وغيرها من المباني والبنى الأساسية التي يحتاجها أي مُجتمع مُعاصر.
وعند انطلاق النهضة العُمانية في بداية السبعين في القرن الماضي، لم تكن هناك شركات عُمانية في مجال المقاولات وتشييد الطرق لكي تساهم في التنمية العمرانية التي شهدتها السلطنة خلال العقود الماضية، بل كانت الحكومة تستعين بشركات أجنبية وأوروبية، فضلاً عن شركات مصرية وهندية وتركية وكورية، وإن كانت تأخذ المشاريع من الباطن (أي من خلال مقاول رئيسي).
ومع مرور الأيام ظهر العديد من الشركات الوطنية الرائدة في مجالي مقاولات البناء وإنشاء الطرق الأسفلتية الحديثة، وعلى الرغم من كثرة المشاريع الحكومية في مختلف قطاعات الإنشاءات والطرق والمقاولات وتشييد المدن الجديدة، كما يُعرف محليًا بالمساكن الاجتماعية التي تُبنى للمواطنين من أصحاب الدخل المحدود، وكذلك في المناطق النائية في البلاد، إلا أن تعثر هذه الشركات المحلية وإفلاس بعضها؛ قد تحول إلى ظاهرة خطيرة ترتب عليها خسائر وظائف ورؤوس أموال وطنية للعوائل التي تملك تلك الشركات. ومن خلال متابعتي الشخصية واستطلاع آراء بعض أصحاب هذه الشركات الغارقة في الديون، نجد مجموعة من الأسباب والتحديات التي تواجه صمودها واستمراريتها مما تسبب في خروجها من السوق. ولعل أبرز تلك التحديات، استحواذها وفوزها بالمناقصات الحكومية بدون دراسة حقيقية لتكاليف تلك المشاريع العملاقة التي يصل بعضها إلى مئات الملايين من الريالات العُمانية، وتكون النتيجة هنا إخفاق الشركة في تكملة المشروع، مما يترتب على ذلك تأخير التسليم وعدم الاستفادة المجتمعية من المنجز الذي كان ينتظره الناس بفارغ الصبر.
والمشكلة هنا في اعتقادي ترجع لمجلس المناقصات الذي يُسند على هذه الشركات مشاريع جديدة على الرغم من تعثرها في مرات سابقة. والسؤال المطروح هنا: لماذا نسمح بإسناد المشاريع بدون دراسة حقيقية لتكلفة المشروع المعروض للمناقصة على سبيل المثال، فإذا تقدمت شركة من الشركات بعرض يترتب عليه خسارة مالية كبيرة، فيجب على جهات الاختصاص مساعدتها لتغطية الخسائر الحقيقية للعمل المُنفَّذ لكي لا تخرج من السوق، أو البحث عن شركة أخرى تملك إمكانيات مالية ومعدات وإدارة ناجحة على أن تمنح تلك الشركة سعر التكلفة على الأقل. الملاحظ أن تلك الشركات الحالية خاصة في مجال الطرق تنتقل من مشروع خاسر إلى آخر على أمل الاستمرارية في النشاط التجاري على الرغم من الخسائر المتراكمة التي ستكون نهايتها الإفلاس لا محالة.
يبدو لي بأنَّ نظام المناقصات المتبع في الوقت الحالي يحتاج إلى إعادة النظر والخضوع لدراسات هندسية وبيئية، والأهم من ذلك كله وجود دراسات استشارية والاستعانة بخبراء في علم الكميات وإدارة التكاليف لأي مشروع جديد قبل تقديمه للمنافسة أمام الشركات المسجلة في مجلس المناقصات؛ وذلك لمعرفة التكاليف الحقيقية للمشروع المطروح للشركات ثم إسناد أي مشروع بسعر التكلفة وليس أقل من ذلك، لكي نُحافظ على تلك المؤسسات الوطنية.
إنَّ استمرارية العمل بهذه الطريقة المتبعة حالياً تلحق الضرر بالمجتمع العُماني وكذلك بالشركات الخاسرة التي لا تُكمل العديد من المشاريع الحيوية. ولعلنا جميعاً نتذكر مشروع طريق الباطنة الساحلي المُتعثِّر؛ حيث كثرت الأقاويل عنه وعلى لسان بعض العالمين ببواطن الأمور، والذين اشتروا أراضٍ في مسار الطريق بهدف الحصول على تعويضات من الحكومة مُقابل تلك المساحات التي تم شراؤها والتي استحوذوا عليها، لكونهم على إطلاع بخطط الحكومة مسبقًا. كما نجد العديد من المباني الحكومية والبيوت السكنية التي تعهدت الحكومة بتشييدها للمواطنين معطلة ومتوقفة منذ سنوات طويلة (مثل بعض المشاريع في محافظة ظفار) بدون رقيب أو محاسبة من الجهات الرقابية، والسبب المُعلن هو هروب الشركات المنفذة بسبب الخسائر المالية الباهظة!
لقد أكد لي العديد من أصحاب الشركات وجود بعض المشكلات والعوائق التي تمنع تنفيذ المشاريع المتعلقة بالطرق والجسور حسب الاتفاق المُعلن، خاصة تأخر التعويضات المرتبطة بنزع الملكية، وكذلك عدم وجود ما يعرف بالخطة الرئيسة (Master Plan) لمعظم المدن العُمانية، بحيث يواجه المقاول مشكلة وجود أنابيب للمياه والصرف الصحي، وكذلك خطوط الهاتف والإنترنت في أماكن تنفيذ تلك المشاريع. علاوة على أن هناك تأخرًا في سداد الدفعات المالية المُستحقة للمقاولين بسبب الخلافات بين الأطراف حول ما تم إنجازه ومدى استحقاق المقاول الفلاني لتلك الدفعات.
ومن المفارقات العجيبة أن تعلن 6 شركات محلية في قطاع الطاقة إفلاسها العام الماضي (2023)، بينما تعلن الشركة السابعة التصفية في نفس هذا المجال الواعد. واتضح لنا جليًا بأن الشركات العائلية في السلطنة تتعرض لبعض المشاكل الأسرية، على وجه الخصوص عند غياب المؤسس للشركة وتولِّي الأبناء والأحفاد الإدارة؛ إذ تظهر الخلافات التي في كثير من الأحيان تعصف بمستقبل الشركة وتنتهي بالافلاس، والأهم من ذلك كله استخدام الأموال أو الدفعات التي تحصل عليها تلك الشركات لأهداف أخرى شخصية، بعيدًا عن دفع رواتب العمال أو شراء المعدات الأساسية لإنجاز العمل.
وفي الختام، لقد سبق أن ناقشت محنة شركات المقاولات وتشييد الطرق في البلاد مع العديد من صناع القرار في السلطنة، وكانت الخلاصة التي عبر عنها هؤلاء المسؤولين، أن إفلاس هذا النوع من الشركات أمر طبيعي وموجود على مستوى معظم دول العالم، بل هناك من يعتبرها بأنها ظاهرة عالمية، وذلك من منطلق دخول شركات جديدة لسوق العمل؛ تكون أفضل حالًا من الشركات القديمة التي لا تعتمد على الدراسات الاستقرائية لمجالات العمل والاستفادة من تجارب الآخرين الذين واجهتهم تحديات أدت إلى الإفلاس.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصر