كشفت دراسة لمركز فاروس للدراسات الاستراتيجية والمتخصص في الشئون الإفريقية أن التغيرات المناخية تعد أحد أهم الموضوعات التي يهتم به الخبراء وصانعو السياسات في مصر والعالم؛ إذ تشكل تحديًا كبيرًا أمام البشرية، لما لها من آثار على التربة والمياه وصحة الإنسان واستقراره.

 

وتُعد التغيرات المناخية من أبرز التحديات التي تهدد مستقبل التنمية المستدامة، خاصة مع احتمال تزايد آثارها السلبية على النشاط الاقتصادي والموارد.

وقالت الدراسة أن دول العالم تبذل العديد من الجهود في ذلك ومنها  على سبيل المثال مؤتمر المناخ، ويأتي مؤتمر المناخ  COP28 بدولة الإمارات العربية في ظل  ظروف وتحديات  يواجها العالم ومنطقه الشرق الاوسط في ظل الحرب الإسرائيلية وهو ما يزيد من الاعباء لتحقيق أهداف المؤتمر.

 

 كما واجهت العديد من المؤتمرات السابقة  العديد من التحديات والعقبات، فمؤتمر المناخ  COP27 بمدينة شرم الشيخ عام 2022جاء في ظل تحديات كبيرة صحية واقتصادية واجتماعية شهدها العالم جراء جائحة  كوفيد١٩.

وأوضحت أن ما يشهده العالم من تغيرات مناخية هو أحد أهم القضايا المؤثرة على الإنسان من كافة الجوانب، على سبيل المثال لا الحصر، تؤثر في صحته وإنتاجه وغذائه وأمنه، كما أنها تؤثر سلبًا في العدالة المناخية، وبمفهوم أوسع تُعد من مهددات الأمن القومي للدول، ومن ثم فهي إحدى القضايا الملحة على المجتمع الدولي.

ولفتت الدراسة الى أن أبرز مظاهر التغيرات المناخية: ارتفاع درجات الحرارة، الطقس المتطرف، ارتفاع مستوى سطح البحار، انحسار الأنهار، انكماش مساحة الغطاء الجليدي، زيادة الذوبان في معظم الأراضي دائمة ومد، تغير أنماط سقوط الأمطار، وزيادة الكوارث ذات الصلة بالمناخ كالزلازل والبراكين والأعاصير والحرائق، وهو ما يؤثر سلبًا في صحة الإنسان، وقطاع الزراعة، والصناعة، والتجارة، والأمن الغذائي، وتتأثر إمدادات المياه سلبًا فتزداد ندرة المياه وموجات الجفاف، كما يحدث خلل بالخريطة السياحية بالإضافة لتفاقم مشكلات وخسائر في سلاسل الإمداد العالمية، وارتفاع أسعار الغذاء.


يأتي الارتباط الوثيق بين التغيرات المناخية وعملية التنمية المستدامة (تهدف إلى تحسـن جـودة الحيـاة في الوقـت الحـاضر بما يخـل بحقـوق الأجيال القادمـة في حيـاة أفضـل) من خلال الهدف السابع من أهداف التنمية المستدامة (طاقة نظيفة بأسعار معقولة) وهو هدف هام جدًا؛ حيث أثبتت الدراسات أن قطاع الطاقة من أكبر القطاعات الملوثة للبيئة بسبب الوقود الأحفوري، والهدف الثالث عشر (العمل المناخي).

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: أزمة تغير المناخ التغیرات المناخیة

إقرأ أيضاً:

(الجزء الإلهي من الدماغ) لماثيو ألبر: عرض ونقد

عرض

يعالج الكتاب مشكلة وجود الإله كما تبدّت للكاتب أثناء بحثه عن معنى العالم وهدف وجود الإنسان فيه. لذلك، فالكتاب -رغم اتكائه على العلم- يمكن أخذه على أنه سيرة ذاتية تتتبع تطور رأي الكاتب حول هذه المشكلة. يتخذ الكاتب من إصابته بالاكتئاب نقطة انطلاقة لبحثه عن الإله؛ أصابه الاكتئاب بسبب تعاطي مواد مخدرة فتغيرت نفسه، ثم أعطي أدوية مضادة للاكتئاب فتحسنت نفسه. لكن النفس في السياق العام ليست من العالم المادي، بل من عالم الروح. فإن كانت من عالم الروح، فكيف حدث أن تأثرت بمواد مخدرة وعقاقير طبية؟ هنا يتبنى الكاتب اتجاها أحاديا للعالم: لا يوجد عالمان، مادي وروحي، بل هو عالم مادي بحت. وليس ثمة نفس، بل هي عمل من أعمال الدماغ الذي يمكن اختزاله إلى خلايا عصبية وتشابكات ودوائر كهربائية. أمَا وإن العالم مادي ويمكن دراسة المادي بالعلم، أما وإن «اكتئابي» عولج بما أنتجه العلم، فقد يمنحنا العلم الحل لمعرفة العالم ككل، ومعرفة وجود الإله من عدمه على وجه خاص.

هكذا يمضي الكاتب في تصفح العلوم علما بعد آخر، فيما أسماه «بحثا ممنهجا». ونراه يعرّفنا في بداية بحثه بالمنهج العلمي الذي ينبني عليه العلم، ويعترف بأن العلم قائم -رغم كل شيء- على الاحتمالات، وليست نتائجه حاسمة وغير قابلة للشك. ومع هذا، علينا أن نثق في العلم كونه الأداة الوحيدة المتاحة التي يمكن أن تساعدنا. يوصله بحثه في العلم إلى أنه يمكن تفسير الكون ونشأته بلا حاجة إلى كيانات روحية، وكذلك يمكن تفسير الحياة ونشأتها وتطورها بلا حاجة إلى كيانات روحية، بلا حاجة إلى إله. مع هذا تظل مشكلة الهدف من وجود الإنسان معضلة، ومن خلفها تقبع مشكلة وجود الإله. فلا يبدو أن العلم يقدم تفسيرا لهذا، فإما أن يكون العلم قادرا على الوصول إلى تفسير لكنه لم يصل بعدُ، أو أنه غير قادر أصلا، أو ربما لا تقبع المشكلة في المجال الذي يشتغل عليه العلم.

هنا يتجه الكاتب، بإيعاز من كانط ومساندة من بياجيه، إلى الداخل الإنساني بدلا من النظر في طبيعة الأشياء الخارجية. لا يمكننا، حسب كانط، معرفة الأشياء كما هي «في ذاتها»، بل «كما ندركها». وثمة «أوضاع إدراك» مدمَجة في العقل البشري تقوم بمعالجة المعلومات الخارجية، ندرك الواقع بها ونفسره، كما هي قدرتنا على إدراك الزمان والمكان فطريا. أيكون الإله هو أيضا «وضعية إدراك»، أمرا مدمَجا فينا، في أدمغتنا نفسر به العالم والأشياء؟ أيكمن حل مشكلة الإله إذًا، وما يتبعها من مشكلة وجود الإنسان وهدف هذا الوجود، هناك في الداخل، في العمليات العقلية؟

يجد الكاتب تشابها بين اللغة والعالم الروحي، بما يحتويه من الإله والدين والغيب والروح والنفس. فكما أن التكلم بلغة سلوكٌ شائع في الثقافات البشرية جميعها، ولها مواقع تشريحية فسيولوجية معروفة في الدماغ، وتنشأ هذه المواقع من جينات مورَّثة، فإن التدين، بما هو سلوكٌ شائع آخر في الثقافات البشرية جميعها، لا بد أن تكون له هو الآخر مواقع في الدماغ، ولا بد أن يكون هو الآخر سمة مورثة جينيًّا. يتقدم الكاتب فيدرس السلوكات الشائعة العابرة للثقافات ويوازيها بالسلوكات الفطرية لدى الحيوانات والحشرات. ويُدخِل في هذه السلوكات الطرز البَدئية التي تكلم عنها يونغ وقال إنها كامنة في اللاوعي الجمعي، ويُدخِل كذلك المعتقدات والممارسات الروحية المشتركة لدى البشر. ويخلص إلى أن في وجودها دليلا على وجود مواقع تشريحية فسيولوجية لها في الدماغ، وأنها بالضرورة لا بد أن تكون سمة مورثة جينيًّا، وأنها لا بد أن تقوم بوظيفة للكائن البشري.

هكذا تنتظم فكرة الكاتب: لأن النزعة الروحية موجودة لدى البشر جميعهم، فهي فطرية مبرمَجة داخل الدماغ، ولها مواقع تشريحية فسيولوجية محددة، وهي كذلك مورَّثة جينيا. بهذه الفكرة –إن صحّت- يمكن أن نحل لغز انتشار النزعة الروحية الذي يتبدى في الإيمان والأديان والمعتقدات. تشكل النزعة الروحية إذًا جزءا من الدماغ. يمكن القول بكلمة أخرى، إن الإله يشكل جزءا من الدماغ. يقول الكاتب إنه إن كان هذا صحيحا، وكان النوع البشري مبرمَجا للاعتقاد بعالم روحي، فربما يشير هذا إلى أن الإله لا يوجد ككيان خارجي مستقل عنا، ولن يكون إلا تكيفا تطوريا يوجد حصرا في الدماغ. وعلى هذا لن يكون هناك عالم روحي حقيقي وإنما هو نتاج الطريقة المحددة التي بُرمِج بها نوعنا لإدراك الواقع.

لكن ما وظيفة النزعة الروحية، أو الاعتقاد بعالم روحي في الإنسان؟ لماذا نشأت فينا؟ ما الضغط التطوري الذي حصل وأنْ مارسته الطبيعة على النوع البشري حتى تتطور هذه النزعة. يرى الكاتب أن الإنسان بسبب تطور ذكائه، أو دماغه، أصبح مدرِكا لوجوده، وهذا بدوره أدى إلى أن يكون مدرِكا لعدمه؛ فالموجود يموت، وينعدم.

وهذا أدى إلى تفاقم الألم النفسي الذي هو القلق من الموت والعدم. إن قوى التطور تعمل حين يتألم النوع البشري، حتى يمكن أن تُحلَّ المشكلة بطريقة أو أخرى. فحين عانت الدببة في الموائل القطبية من ألم البرد، طوَّرت فراء سميكا وآليات أخرى مكنتها من العيش في بيئتها. وإذًا كيف تخلص الكائن البشري من قلق الموت، موته وموت أحبابه؟ لماذا واصل الإنسان العيش إذا كان مهددا بالعدم؟ ما جدوى الحياة في مثل تلك الظروف من اليأس وفقدان الأمل؟

يرى الكاتب أنه لحل هذه المشكلة، وهذا الضغط التطوري، كان على الإنسان أن يتخلى عن وعيه بالموت، بأن يتخلى عن تطور وعيه، عن ذكائه؛ لأنه هو السبب في ظهور القلق من الموت والعدم في الأصل. لكن هذا الحل كان سيُرجِع البشر للخلف بعد أن حازوا، أو حاز بعضهم على الأقل، وعيا مكّنهم من الإمساك بزمام الأمور في بيئاتهم. بدلا من ذلك ظهرت بنية روحية في الدماغ، أو ذكاء روحي، مكّن البعض من مواصلة العيش، وتطور هذا الذكاء مع مرور السنين ليشكل النزعة الروحية كما نعرفها اليوم بكل تداعياتها. مكّنت النزعة الروحية البشر من افتراض عالم آخر، عالم ممتد مكانيا وزمانيا، فيه يخلد الإنسان ويستمر بعد موته في العالم المادي الواقعي. هكذا أُنقِذت البشرية بأن أصبح هناك عالَم متجاوِز لواقعها المادي المباشر الذي يدركه البشر بحواسهم. ولأن البنية الدماغية للعالم الروحي مدمجة داخل الدماغ وتتولد في الأجيال المتعاقبة، فلا بد لها من جينات تورِّثها. هناك إذن مقابل الجزء الروحي من الدماغ جينٌ روحي أيضا، جين يعمل على إنشاء النزعة الروحية.

ثم يدلل الكاتب على الجين الروحي بدراسات على التوائم تثبت أن للجينات دورا في التدين لدى الأفراد، وليس الأمر راجعا كله للثقافة. أما الجزء الإلهي من الدماغ، فهو المسؤول عن الجانب الروحي، وهو كذلك المسؤول عن التغيرات التي تحدث في كهرباء الدماغ أثناء الصلاة والتأمل. وهو المسؤول كذلك عن إمكانية استحضار العوالم الروحية باستعمال بعض المخدرات. لكن بما أن هناك جزءا إلهيا من الدماغ، فلماذا يوجد ملحدون، أو ماديون، لا يؤمنون بعوالم روحية أصلا؟ ذلك لأن الذكاء الروحي مثله مثل الذكاء الرياضي والموسيقي يكون متطورا جدا في بعض البشر، ويكون غير متطور في آخرين. والملحد بالتالي هو من يكون بلا ذكاء روحي، أو بذكاء روحي متدنٍ.

يصل الكاتب إلى اقتراح نموذج روحي جديد. في هذا النموذج يعرِفُ الإنسان أن وجود العالم الروحي ما هو إلا طريقة تطورية مكّنت الإنسان من التخلص من القلق الناتج من وعيه بالموت والعدم. يزعم الكاتب هنا أنه بهذا سيتمكن الإنسان من رؤية الواقع الحقيقي بدون شوائب العالم الروحي، سيُنحِّي جانبا الكذبة البيضاء التي نسجتها لنا الطبيعة حتى تبعدنا عن قلق الموت. هذه الرؤية الواقعية، لأنها رؤية أصدق، يمكنها أن تعيد تحديد مصير الإنسان، وتمكنه من ثمَّ من استكشاف إمكانات جديدة تتواءم مواءمة فضلى مع العالم الحقيقي الواقعي.

ويختتم الكاتب بالسؤال ماذا نكسب من تبني تفسير علمي للنزعة الروحية والإله. وجوابه: نفصل الآثار المفيدة من هذه النزعة عن الآثار المضرة، ونتجاوز ما هو سيء فيها بالنظر لها على أنها حققت فائدتها أثناء التطور. والآثار السيئة التي يعنيها الكاتب هنا هي، في أغلبها، الحروب والصراعات الدينية الناشئة من التعصب الديني. يمكننا أيضا أن نركز فيما يمكن عمله في هذه الحياة من تقليل الألم وتعظيم السعادة، ويمكننا فعل ذلك بزيادة معرفتنا بعالمنا وبأنفسنا.

نقد

إن تأثير العقاقير المخدرة والأدوية النفسية على عالمنا الداخلي إنما يبرز اتجاها واحدا فقط من عملية التأثير والتأثر؛ فالعالم الداخلي فينا يؤثر هو الآخر على عالم المادة الواقعي. فحين نتحرك مثلا جراء رغبة داخلية فينا، فإنما نقوم بتغيير ما هو مادي في العالم الواقعي عبر أفكار نابعة من عقولنا. أي أن العالم الداخلي يؤثر كذلك على العالم الخارجي.

لذا فالقول إن تأثير المادي على اللامادي إنما هو دليل بيّن على أن اللامادي هذا ليس إلا جزءا من المادي، هذا الدليل يمكن أن يُعكس في الاتجاه الآخر. فالعقل بتأثيره على المادة، يمكن أن يؤدي بنا إلى القول إنه لا مادة أصلا، بل كله عالم روحي فحسب، وهو ما تراه الفلسفات المثالية بدرجة أو أخرى. هذا بالطبع إن كنا لَنوافقَ على رأي الكاتب في أن التأثير والتأثر يدل على وجود المؤثِّر والمؤثَّر عليه في ذات العالم. يستدعي هذا تشابها في التأثير والتأثر الذي يمارسه الإنسان على جيناته. الجينات هي التي تؤثر فينا، هذا ما تعلمناه من درس الأحياء القديم. تنشأ أعضاؤنا وتصان وتجدد بناء على توجيه جيني، وهذا التوجيه لا يطال الجانب العضوي فينا فحسب، بل ويطال كذلك الجانب العقلي الإدراكي والجانب النفسي. أما الأحياء الجديدة فتدخل علم الجينات الفوقية (epigenetic) الذي يؤكد أن الجينات تتأثر هي ذاتها بالمحيط، ولا تتأثر بالمحيط المادي من أشعة ضارة أو عوز مادي معين فحسب، بل تتأثر كذلك بالجانب النفسي، أو بعالمنا الداخلي. لا يبدو العلم قادرا بعدُ على حل مشكلة ثنائية العالم التي نشعر بها شعورا حدسيا وبدهيا؛ فمداركنا التي تخبرنا بوجود عالم داخلي فينا، لا يمكننا بعدُ أن نعدَّها مجرد تمظهر داخلي لشبكة أعصابنا. فما لم نعرف كيفية الاتصال بين ما هو داخلي فينا وما هو خارجي، وما لم نعرف كنه هذا الداخلي (الوعي)، فلا يمكن حل مشكلة الثنائية في العالم. وعليه لا يمكن القطع بعدم وجود عالم غير واقعي وغير مادي. ومن اللافت هنا أنه حين نرى الذكاء الاصطناعي في صورته الحديثة جدا، نصاب بالدهشة من أن يكون هذا الذي يتواصل معنا مجرد آلة؛ فالآلة فيما يبدو تعقل. وحين تتمكن الآلة من فعل أمور أخرى أقرب للكائنات الحية، فربما حينها نميل إلى القول إن ما يعتمل داخلنا ليس إلا برمجيات (software) ودماغنا هو العتاد (hardware)، لكن هذا التشابه لا يُمكِّننا من فهم العالم الداخلي؛ ذلك لأن الآلة نرى سلوكها وحسب ولا نشعر بها من الداخل.

يعترف الكاتب أن العلم الطبيعي لا يساعدنا بعدُ على الوصول إلى العوالم الروحية، ولا يقدم لنا إجابات عن سبب وجودنا، ولا يحل مشكلة الإله الفلسفية. لا غرابة في هذا؛ فالعلم لا يمكّننا، على الأقل حتى الآن، من الوصول إلى وعينا، فما بالك بالوصول إلى معرفة الوعي الكلي الذي يشكّله الإله. مُجابَها بهذا العجز، نرى الكاتب يتوجه داخلا إلى إدراكنا، ويرى أن عقلنا أو إدراكنا يعمل بوضعيات إدراك، أي بمعطى قَبلْي إن صح التعبير. ولذا يسير الكاتب في اتجاه أن نزعتنا الروحية هي وضعية إدراك أخرى ندرك بها العالم وننظمه، مثلها مثل الزمان والمكان اللذين يمكّنانا من إدراك العالم مقسمًا ومنظما، زمانيا ومكانيا.

إن القول إن النزعة الروحية فينا هي نزعة بُرمِجت بها أدمغتنا، لا يعني إلا القول إنها فطرية. وهذه الفطرية بداية لا يمكن إثباتها بعدُ بعلوم الأعصاب؛ فلا موضع روحي محدد مكتشف حتى الآن مشابه لما نعنيه بقولنا بوجود منطقة لغوية مسؤولة عن فهم اللغة (منطقة فيرنيكه)، وأخرى مسؤولة عن التعبير عن اللغة (منطقة بروكا). ولكن ما يمكن قوله هنا أن هناك بعض الارتباط بين بعض مناطق الدماغ وأفكار وسلوكات متعلقة بالدين، مثل الفص الصدغي. لكن حتى لو كان هناك مركز روحي في أدمغتنا مسؤول عن تجاربنا الروحية ونزعتنا للإيمان والتدين، فلا يعني هذا إلا أننا مجبولون على الإيمان. وتلك نقطة قد لا تكون في صالح عدم وجود عالم روحي؛ فهذه النزعة بذاتها قد تؤخذ على أنها دليل على وجود العالم الروحي.

أما الشرح التطوري الذي أورده الكاتب لكي يبرر وجود مثل هذه المناطق في الدماغ، أو وجود النزعة الروحية، فهو شرح يمكن أن يطلق عليه بأنه شرح جذاب جدا لكنه مع هذا متخيل جدا. فبداية، لا يوجد دليل علمي عليه، أو لم يأتِ الكاتب بدليل علمي عليه. وثانيا، فحتى لو سلمنا أن الإنسان في فجر صحوه، وفجر انتقاله التطوري ليصبح إنسانا، عانى من القلق الذي أحدثه وعيه بموته، فإنه لا ضرورة تؤدي به إلى تطوير عالم روحي يخفف من قلقه هذا. فلماذا لم يتقبّل الموت أصلا على أنه مصيره ومصير كل شيء من حوله؟ لماذا أقلقه الموت؟ إن الحياة معاناة، وانطفاءها بالموت قد يجلب راحة له. كذلك فإن تطوير نزعة روحية أمر لا يشابه الضغط التطوري الذي قد يحدثه وجود الدب في بيئة قطبية من حيث توليده للفراء الذي يحميه؛ فالآلية التطورية المتولدة في الدب، والتي طورت الفراء، آلية مفهومة، فيما يبدو تطور النزعة الروحية لحل مشكلة القلق من الموت غير مفهومة. كذلك فإن الدراسات الجينية التي ذكرها المؤلف والتي قد تشير إلى وجود ارتباط بين النزعة الروحية والوراثة، هي الأخرى ليست دراسات قاطعة، على الأقل حاليا.

ولو سلّمنا أن قلق الموت والعدم، والخوف منهما، والجهل بمآل الإنسان بعد موته وفناء جسده، هو ما أنتج النزعة الروحية، فقد لا يكون الوقت مناسبا للتخلي عن هذه النزعة الروحية وتجاوزها، واعتبارها مُنتَجا تطوريا أدّى دوره في الإنسان الأول، واستنفد أغراضه؛ فلم يخرج الإنسان من الخوف والقلق على حياته، وليس بأدل على ذلك من أن فيروسا مثل الذي سبب مرض كوفيد 19، لا يُرى حتى، فتك بمجموعة منه وأصاب الجميع بالهلع. ولم يخرج كذلك من الجهل الذي يكتنف عالمه؛ فالعلم الذي يُفترَض به أن يوسّع معرفة الإنسان، نراه يوسع مدى جهله كذلك. لقد تغير فقط المخيف في عالم الإنسان، وتحول الجهل المستفحل السابق إلى جهل مستفحل لاحق.

إن الكاتب يعود في نهاية الكتاب ليقول إن النزعة الروحية والدين ككل، ووجود عالم روحي، وإله، ليس بالضرورة أمرا سيئا، إنما السيئ ما ينتجه التعصب الديني من حروب وصراعات، وهذا لا شك أمر سيء، لكن يمكن حله بطرق أخرى غير تجاوز النزعة الروحية في الإنسان. أي أن الجانب السيئ من النزعة الروحية لا يجب حله بمنع الالتفات إلى هذه النزعة التي يقترح الكتاب أنها جزء من الدماغ. أخيرا، لا شك أن الكتاب محاولة جادة لفهم انتشار الدين والنزعة الروحية لدى البشر تغري من يتفكر في الخلق ويبحث عما وراء العالم والحياة. ورغم استناد هذه المحاولة على أسس علمية وتطورية، فإنها لا تحقق مرادها، ربما لأن الأدلة العلمية ناقصة بعدُ، وربما لأن الشك يعتري القارئ في كل انعطافة من انعطافات الكتاب.

د.حسين العبري كاتب وطبيب نفسي

مقالات مشابهة

  • رغم المادة المسرطنة.. دراسة تكشف "مفاجأة" عن الأرز البني
  • يعزز ذكاء المراهقين.. دراسة ترصد تأثير النوم المبكر على تطور الدماغ
  • "دراسة المؤشرات الاقتصادية المؤثرة على الاستثمار الزراعي" ورشة عمل بمعهد بحوث الاقتصاد الزراعي
  • تغير المناخ يعصف بأولويات الأمن العالمي.. تحذيرات من تداعيات بيئية تهدد جاهزية الجيوش حول العالم.. وخبراء يدعون إلى استراتيجيات جديدة للتعامل مع تحديات البيئة
  • الأمم المتحدة: زعماء العالم يحشدون لعمل مناخي "بأقصى سرعة" قبل مؤتمر كوب 30 بالبرازيل
  • وزيرة التخطيط: مصر لديها علاقات قوية مع العديد من المؤسسات الثنائية ومتعددة الأطراف
  • أطول الأحكام بالسجن في العالم.. عقوبات تتجاوز عمر الإنسان
  • تزامناً مع عودة محطة نور 3 إلى الخدمة.. أخنوش يفتتح مؤتمر المناخ بورزازات وفرنسا ضيفة الشرف
  • (الجزء الإلهي من الدماغ) لماثيو ألبر: عرض ونقد
  • قوتنا كوكبنا.. احتفال عالمي بيوم الأرض ودعوة لتعزيز الطاقة المتجددة