تحدثت وسائل إعلام تركية، وعلى رأسها صحيفة "صباح" المقربة من الحكومة التركية، يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري عن دور جوهري لجهاز الاستخبارات التركية "إم آي تي" في إحباط محاولة الموساد الإسرائيلي اختطاف مهندس برمجيات فلسطيني مسؤول عن اختراق القبة الحديدية وتعطيلها، من العاصمة الماليزية كوالالمبور خلال العام الماضي 2022.

وكانت الحادثة قد خرجت إلى العلن في أكتوبر/تشرين الأول 2022، حينما اختطف عملاء للموساد الإسرائيلي مهندس البرمجيات الفلسطيني عمر البلبيسي في كوالالمبور بنية نقله إلى تل أبيب للتحقيق معه، في الوقت الذي أعلن فيه الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن امتلاك الحركة وحدة سايبر عملت في الخفاء ضد الاحتلال الإسرائيلي.

ووفقا لصحيفة "صباح"، نقلا عن مصادر استخباراتية، فإن البلبيسي كان قد نجح في اختراق نظام تشغيل القبة الحديدية الإسرائيلية في الفترة ما بين عامي 2015 و2016، وسمح لصواريخ المقاومة الفلسطينية بالوصول لأهدافها دون اعتراض يذكر.

تحفظت المصادر الاستخباراتية التركية على الاسم الكامل للمهندس الفلسطيني، واكتفت بذكر اسمه الأول "عمر"، لكن موقع "واي نت" الإسرائيلي كان قد كشف عن الاسم الكامل للمهندس عمر البلبيسي بعد أن نشرت صحيفة "نيو ستريت تايمز" الماليزية تفاصيل عملية الاختطاف في تقرير نشرته يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2022.

يأتي التقرير المستند إلى مصادر في الاستخبارات التركية ليكمل المشهد، ويشرح بداية قصة الموساد الإسرائيلي مع المهندس البلبيسي بعد أن اكتفت المصادر الماليزية بالإعلان عن تحرير المخطوف واعتقال العصابة آنذاك.

تخرّج عمر البلبيسي من قسم علوم الحاسوب في الجامعة الإسلامية بغزة، وعمل موظفا في قسم التكنولوجيا في وزارة الداخلية الفلسطينية في غزة، واستطاع تطوير برنامج خاص بالوزارة يساعد على اختراق أجهزة الأندرويد بسهولة في عمر 24 عاما. وتمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من كشف هوية البلبيسي، الذي كان وراء اختراق نظام القبة الحديدية وتعطيلها بعد 3 سنوات على الحادثة.

وبحسب المصادر التركية، تكررت محاولات جهاز الموساد لتجنيد البلبيسي، ففي عام 2019 تواصل شخص باسم "أنابل" مع البلبيسي مدعيا عمله مع شركة برمجة نرويجية، وطلب منه تصميم مشروع برمجي خاص بالشركة، وبعد فترة من الزمن تواصل معه شخصان يدعيان "جاوسر" و"جالِس" بحجة أنهما من الشركة النرويجية نفسها، مقدميْن له عرض عمل بشكل كلي في النرويج، وعندما طلب منهما التواصل عبر مكالمة الفيديو بـ"الواتساب" تهربا منه وأرسلا له فيزا "شنغن" كبرهانٍ على جديتهما، ولكن البلبيسي أجاب على عرضهما بالرفض.

عملاء الموساد: فؤاد أسامة حجازي (أعلى يمين) ورائد غزال (أسفل يمين) ويوسف دحمان (أعلى يسار) ونيكولا رادونيج (صحيفة صباح التركية) المراقبة واللقاء الأول

تذكر صحيفة "صباح" أن المهندس البلبيسي قرر الانتقال إلى إسطنبول في مارس/آذار 2020 بهدف العمل، هذا الأمر وجد فيه جهاز الموساد الإسرائيلي فرصة ذهبية للوصول إليه عن طريق تقديم عروض عمل مغرية بعوائد مادية عالية.

وكان الاحتكاك الأول بين البلبيسي والموساد بعد خروجه من غزة في أبريل/نيسان 2021 حين تواصل معه عميل الموساد المدعو رائد غزال عبر تطبيق الواتساب، وادّعى أنه مدير موارد شركة فرنسية اسمها "تنيك هاير" (Think Hire)، وقدّم له عرض عمل كذلك.

تمكّن غزال من لقاء عمر البلبيسي وجها لوجه في إسطنبول، وبالتحديد في منطقة بيليكدوزو وبيرام باشا والفاتح، في يونيو/حزيران وأغسطس/آب 2021، قبل أن يبدأ عميل الموساد الثاني المدعو عمر شلبي في فتح خط اتصال معه.

بدأ شلبي بالتقرب من البلبيسي، وعرض عليه مبلغ 10 آلاف دولار لإنشاء برنامج برمجة لشركة فرنسية أخرى، فسارع لبرمجته وتسليمه لصالح الشركة الفرنسية التي أرسلت بدورها الأموال على 3 دفعات عبر ضابط في الموساد استخدم اسما مزيفا هو جون فوستر، وهو ما أكده جهاز الاستخبارات التركية بعد فحص بيانات الحساب البنكي "كويت ترك" الخاص بالبلبيسي.

كان شلبي دائم السؤال عن وجود عائق أمام البلبيسي إذا رغب في السفر خارج تركيا، قبل أن ينسحب ويسلم المهمة لشخص يدعى نيكولا رادونيج (44 عاما) يحمل جواز سفر الجبل الأسود في يونيو/حزيران 2022.


عرض العمل وشكوك الاستخبارات

وبحسب الصحف التركية، استطاع رادونيج أن يلتقي بالمهندس البلبيسي في فندق كاراكوي الذي أقام فيه بالفترة ما بين 28 و31 أغسطس/آب 2022 بحجة عرض عمل جديد كان ملخصه أن الراتب الشهري سيكون 5200 دولار إذا عمل البلبيسي من تركيا، في حين أنه سيبلغ 20 ألف دولار إذا وافق على العمل من مقر الشركة في البرازيل.

وقال رادونيج للمهندس الفلسطيني إنهما سيعملان معا في المشروع عبر الإنترنت مع زملاء آخرين -تبيّن لاحقا أنهم ضباط بالموساد الإسرائيلي- وهم: عبد البر محمد كايا، وفؤاد أسامة حجازي، ويوسف دحمان، وطلب منه اختيار شخص منهم ليعمل معه بشكل متواصل.

أدركت الاستخبارات التركية احتمال اختطاف المهندس الفلسطيني، مما دفعها إلى منعه من السفر في المرة الأولى خوفا على حياته، لكن مع إصرار البلبيسي على السفر إلى ماليزيا -التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل- في عطلة لمدة 15 يوما، أبلغت الاستخبارات التركية إدارتها في إسطنبول عن الشكوك التي تراودها بشأن التهديدات التي تشكل خطرا على حياة البلبيسي.

أصدرت الاستخبارات التركية جميع التحذيرات اللازمة قبل مغادرة البلبيسي تركيا، وقامت بتثبيت تطبيق تعقّب على هاتفه كي تحصل بشكل مباشر على موقعه في ماليزيا حتى ولو كان هاتفه مغلقا، بحسب ما أفادت به الصحيفة.

ماليزيا اعتقلت عملاء جهاز الموساد المشاركين في اختطاف المهندس البلبيسي في كوالالمبور (الصحافة الماليزية) في أيدي الموساد

لدى وصول المهندس الفلسطيني إلى مطار العاصمة الماليزية كوالالمبور يوم 28 سبتمبر/أيلول 2022، تمكّن فريق للموساد كان بانتظاره من اختطافه واستجوابه في شاليه على بعد 50 كيلومترا من العاصمة، حيث تعرض للتعذيب بشدة والاستجواب لمدة 36 ساعة عبر الفيديو كونفرانس مع ضباط في تل أبيب.

تركزت أسئلة عملاء الموساد للبلبيسي حول كيفية اختراقه القبة الحديدية وحجب رؤيتها الصواريخ لمدة من الزمن، كما حاولوا معرفة طريقة إلغاء تفعيل الاختراقات التي نفذها المهندس الفلسطيني لهواتف جنود وضباط إسرائيليين في وقت سابق.

بالإضافة إلى ذلك، استفسر الموساد عن وجود مهندسي حاسوب ومهندسي برمجيات، ومبرمجين آخرين يشاركونه الحرب الإلكترونية من إسطنبول.

تقول صحيفة صباح إنه حالما تحققت الاستخبارات التركية من مكان وجود المهندس البلبيسي، أرسلت على الفور إحداثيات الموقع إلى السلطات الماليزية التي قامت بدورها بتنفيذ عملية بقوات خاصة واستطاعت تحرير البلبيسي سالما، وأمرت محكمة في العاصمة كوالالمبور باعتقال 11 شخصا من المختطِفين.

كما قامت الاستخبارات التركية في الأسابيع الأخيرة بإلقاء القبض على عميل الموساد أسامة حجازي، ونقلت المهندس الفلسطيني البلبيسي إلى تركيا، ووضعته تحت حماية أمنية تابعة لها، بحسب المصدر ذاته.

وتعتبر هذه العملية واحدة من العمليات الكبرى والأهم في تاريخ الاستخبارات التركية، بحسب مدير قسم الأخبار في صحيفة "صباح" التركية عبد الرحمن شيمشك.

كما تداولت وسائل الإعلام التركية الحادثة بشكل لافت، وبات اسم المهندس الفلسطيني عمر البلبيسي معروفا في الأوساط الإعلامية التركية بـ"الداهية الغزي".

وأشارت صحيفة "صباح" إلى أن هذه ليست أول محاولة للموساد في استهداف ناشطين وخبراء فلسطينيين في ماليزيا، وأنه في عام 2018 قُتل مهندس الكهرباء الفلسطيني فادي البطش على يد سائقيْ دراجات نارية يعملان لصالح الموساد.

في السياق نفسه، تواصلت الجزيرة نت مع قائد في حركة حماس في إسطنبول، رفض بدوره التعليق على الحادثة، مكتفيا بتوجيه الشكر للجهود التركية المستمرة في دعم القضية الفلسطينية والفلسطينيين الموجودين على الأراضي التركية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الاستخبارات الترکیة الموساد الإسرائیلی المهندس الفلسطینی القبة الحدیدیة

إقرأ أيضاً:

الأفضل أداء في أوروبا.. هل أنقذت الهجرة الاقتصاد الإسباني؟

ما نراه اليوم في إسبانيا، هو نمط النمو الأكثر توازنا في تاريخنا الحديث.

وزير الاقتصاد الإسباني كارلوس كويربو في حوار مع صحيفة بوليتيكو الأميركية نهاية عام 2024.

قبل عشرة أعوام كانت إسبانيا مضرب الأمثال في الفشل الاقتصادي بحسب وصف مجلة إيكونوميست الاقتصادية البريطانية المرموقة، إثر تداعيات الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي عصفت بها بين عامي 2008 و2014، والتي عُرفت بـ"الركود الإسباني العظيم". وقعت الأزمنة نتيجة الانفجار المفاجئ لفقاعة الإسكان التي دفعت النمو الإسباني خلال السنوات السابقة؛ مما أدى إلى انكماش اقتصادي انتهى إلى ركود طويل.

على إثر ذلك، انهار النظام المصرفي في البلاد، وارتفعت معدلات البطالة وتزايدت هجرة الشباب بسبب نقص الوظائف، وأكثر من ذلك صُنّفت إسبانيا في عام 2014 ثاني أكثر دولة أوروبية من حيث معاناة أطفالها من آثار الفقر بحسب مؤسسة "كاريتاس أوروبا" التنموية، بعدما أصبحت عشرات الآلاف من الأسر الإسبانية تكافح من أجل تأمين حاجات أطفالها اليومية، وقد ظلت عواقب تلك الأزمة المالية الكبيرة تلاحق الاقتصاد الإسباني لسنوات تاركة بصماتها الثقيلة عليه.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل معجزة إيطاليا الاقتصادية حقيقية أم أنها أرقام خادعة؟list 2 of 2من الفاشية إلى التحولات الجنسية.. البابا فرنسيس يقود الفاتيكان بين عهدينend of list

لكن بعد عشر سنوات على تلك الأزمة اختلف المشهد كليا، وأصبحت البلاد مضرب الأمثال مجددا ولكن على نحو مختلف تماما، ففي ديسمبر/كانون الأول 2024 اختارت إيكونوميست مدريد أفضل دولة من ناحية الأداء الاقتصادي ضمن قائمة مكونة من 37 دولة غنية، استنادا إلى خمس مؤشرات اقتصادية رئيسية هي الناتج المحلي الإجمالي وأداء سوق الأسهم والتضخم الأساسي والبطالة ومستويات العجز الحكومي. ووفق تعبير إيكونوميست، أصبحت مدريد "موضع حسد العالم الغني".

إعلان

لكن هذا التحول، العميق الدالّ بلا شك، لا يتعلق بإسبانيا وحدها، فاقتصادات جنوب أوروبا مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا التي كانت أسماؤها مرادفًا للفشل الاقتصادي في السنوات الأخيرة مقارنة ببقية الدول المتقدمة، أصبحت الآن تحقق تقدمًا ملحوظًا في وقت تعاني فيه الاقتصادات المتصدرة تقليديًّا مثل ألمانيا.

بل إن إسبانيا بأدائها الاستثنائي هذا العام قد دفعت بعض المحللين إلى القول بأنها تقدم درسًا ينبغي أن تتعلم منه باقي اقتصادات أوروبا التي تظن أن القارة العجوز أصبحت محكوما عليها بالركود في الفترة الحالية، وأن إسبانيا تمثل "محرك النمو في أوروبا" في حين تمثل ألمانيا "رجل القارة المريض".

 

رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز (يمين) ورئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فون دير لاين (رويترز) الطفرة الإسبانية

بحسب بيانات المديرية العامة للمفوضية الأوروبية بلوكسومبورج (يورو ستات) المسؤولة عن جمع وتحليل المعلومات الإحصائية على الصعيد الأوروبي، نما الاقتصاد الإسباني بنسبة 3.4% من يوليو/تموز حتى سبتمبر/أيلول 2024، في وقت بلغ فيه متوسط النمو في منطقة اليورو لنفس الفترة 0.9% فقط.

أما معدل النمو الإجمالي لإسبانيا خلال عام 2024 كله فيتوقع أن يبلغ 2.9% ارتفاعا من 2.5% في عام 2023. هذا المعدل يتجاوز أربعة أضعاف معدلات النمو في إسبانيا خلال أعوام التعافي الاقتصادي بعد "الركود العظيم" في الفترة من 2014 إلى 2019، المقدر بـ0.7% تقريبا، كما يتخطى معظم توقعات النمو الصادرة قبل بداية العام، ومنها توقعات شركة الخدمات المالية في إسبانيا "كايكسا بنك" التي توقعت معدلات نمو تتراوح حول 1.4% فقط.

وبحسب مجلة فورتشن الأميركية المتخصصة في المال والأعمال فإن الاقتصاد الإسباني يسير على الطريق الصحيح للنمو بمعدل ثلاثة أضعاف منطقة اليورو كلها، بل ويتجاوز معدلات النمو في الولايات المتحدة الأميركية نفسها.

إعلان

لكن مؤشرات التعافي الاقتصادي الإسباني لا تقتصر على النمو فقط، فعلى صعيد معدلات البطالة، التي تعد أحد المشكلات الشديدة الوطأة في إسبانيا، حققت مدريد تقدما نسبيا بخفض البطالة إلى 11% مقارنة بـ13.8% في عام 2019 قبل جائحة كورونا، الذي عُدّ آنذاك المعدل الأكبر بين دول منطقة اليورو، وضعف متوسط معدل البطالة في الاتحاد الأوروبي بحسب صحيفة تيليغراف البريطانية.

ولا تزال إسبانيا صاحبة أعلى معدلات للبطالة في منطقة اليورو، متقدمة على اليونان والسويد وفنلندا بزيادة بنسبة 77% على متوسطات البطالة بين دول اليورو، لكن الخبر الجيد أن المعدلات تتناقص باستمرار منذ عام 2020، وأن نسبة البطالة الحالية هي الأدنى في البلاد منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008.

ويعد نجاح مدريد على هذا الصعيد امتدادا للأداء الجيد لاقتصادات الدول المتوسطية في جنوب القارة، إذ شهدت المنطقة التي تعاني عادةً من ارتفاع مستويات البطالة تحسنًا وصفته ذا إيكونوميست بأنه ملحوظ في هذا الملف، بعدما انخفضت معدلات البطالة في اليونان وإيطاليا وإسبانيا إلى أدنى مستوياتها في السنوات العشر الأخيرة. وتبقى الصدارة في هذا المؤشر من نصيب إيطاليا التي انخفضت فيها نسبة البطالة بمعدل 1.4% في العام المنصرم لتصل إلى 5.7% فقط.

على جانب آخر، انخفضت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في إسبانيا من 120.3% عام 2020 إلى 107.7% بحلول 2024، وهو انخفاض أسرع بكثير من المتوسطات في الاقتصادات الأوروبية الكبرى، وأصبح العجز في إسبانيا في طريقه لكي يعادل نصف مستوى نظيره في فرنسا، ونتيجة لانخفاض الدين فقد انخفضت أسعار الفائدة على السندات الإسبانية (الفوائد التي تدفعها الحكومة للاقتراض من المستثمرين) لأدنى مستوى منذ ثلاث سنوات.

ساعدت الهجرة إسبانيا بشكل أساسي على سد النقص في العمالة في قطاعات مهمة مثل الزراعة والبناء (رويترز)

وصلت إسبانيا إلى تلك النقطة، التي لم تكن متوقعة قبل سنوات قليلة، بفضل تضافر عدة عوامل من أهمها الارتفاع المطّرد في عائدات السياحة التي تمثّل نحو ثمن الناتج المحلي في البلاد، وتشير بيانات الإنفاق الأجنبي ببطاقات الخصم والائتمان إلى أن استهلاك غير المقيمين داخل إسبانيا ارتفع بمعدل 12.7% على أساس سنوي خلال عام 2024.

إعلان

علمًا بأنه في الشهر الأكثر نشاطا للسياحة الصيفية في البلاد، وهو شهر أغسطس/آب، استقبلت إسبانيا عدد سياح أكبر بنسبة 7.3% في عام 2024 مقارنة بعام 2023، وفي سبتمبر/أيلول بلغت نسبة الزيادة 9.1% مقارنة بالعام الماضي، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء في مدريد.

وفي حين يخشى الجميع في العالم من تداعيات التغير المناخي على الكوكب، فإن إسبانيا قد استفادت منه؛ إذ أدت درجات الحرارة المرتفعة إلى تمديد موسم الصيف السياحي في البلاد، ففي شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024 ساهم أكثر من 8.9 ملايين سائح (بزيادة 9.5% مقارنة بأعداد العام الماضي) في ضخ قرابة 12 مليار يورو في الاقتصاد الإسباني (بزيادة 15.5% مقارنة بعائدات الشهر نفسه العام الماضي)، وهو ما يسلط الضوء على صناعة السياحة المنتعشة في إسبانيا وأثرها في تحفيز الاقتصاد.

العامل الآخر الشديد الأهمية كان المهاجرين. ففي الوقت الذي تنظر فيه العديد من الدول الأوروبية إلى المهاجرين باعتبارهم عبئًا، يعتقد العديد من المحللين الاقتصاديين أن المهاجرين في إسبانيا كانوا محفزا أساسيا للنمو، إذ نما عدد سكان البلاد بمقدار 1.1 مليون نسمة بين عامي 2022 و2024، مع توافد 700 ألف عامل مهاجر خلال السنوات الثلاث الماضية.

وبحسب رئيس قسم البحوث الأوروبية بـ"أكسفورد إيكونوميكس" أنغيل تالافيرا، فإن قدرة إسبانيا على جذب المهاجرين المهرة أكثر من إيطاليا ودمجهم في اقتصادها هو ما جعل مدريد تتفوق على روما في الصورة الكلية للنمو في عام 2024 بعدما استطاع المهاجرون المهرة في إسبانيا أن يندمجوا بشكل أفضل في الاقتصاد الرسمي، وذلك بعد سنوات كانت فيها إسبانيا دولة طاردة للمهاجرين، وعانت خلالها معدلات النمو بصورة ملحوظة.

وبحسب أدريان بريتجون، الخبير الاقتصادي في شركة كابيتال إيكونوميكس البريطانية المتخصصة في الأبحاث الاقتصادية، فإن ارتفاع معدلات الهجرة من المغرب وفنزويلا وكولومبيا كان السبب الأكبر وراء النمو الكبير في إسبانيا؛ إذ أدى ذلك إلى توسع قاعدة القوى العاملة؛ مما أدى بالضرورة إلى زيادة الاستهلاك ومن ثم نمو الاقتصاد وتعزيز الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن زيادة الحصيلة الضريبية للدولة.

إعلان

وقد ساعدت الهجرة إسبانيا بشكل أساسي على سد النقص في العمالة في قطاعات مهمة مثل الزراعة والبناء، فقد شغل المهاجرون 40 في المئة من الوظائف التي تم إيجادها مؤخرًا بحسب مؤسسة فونكاس للادخار. وعلى الرغم مما ذكرناه حول جودة نوعية العمال ومهاراتهم في إسبانيا مقارنة بإيطاليا فإن الكثير من العمال الوافدين سدوا ثغرة مهمة متعلقة بالوظائف التي يتردد المواطنون الإسبان عادةً في شغلها، ونعني هنا الوظائف الكثيفة العمالة ذات الإنتاجية المنخفضة.

وبحسب الخبير الاقتصادي أدريان بريتجون، فإن زيادة أعداد المهاجرين إلى إسبانيا قد حلت أزمة نقص العمالة ولم تجعلها قيدًا على الإنتاج كما حدث في أجزاء أخرى من الاتحاد الأوروبي، كما سمحت أعداد الوافدين من العمال المهاجرين للشركات بإدارة نمو الأجور على نحو فعال مع تحفيز الإنفاق الاستهلاكي في نفس الوقت.

الصورة الكبرى

لكن على المستوى الرسمي ترفض إسبانيا ربط نهضتها الاقتصادية بالسياحة والهجرة فقط، وهي تعتبر السياحة عنصرًا واحدًا من عناصر النهضة لا يمكن أن نحكي القصة كلها من خلاله، وبحسب كارلوس كويربو، وزير الاقتصاد الإسباني فإنه ينبغي النظر إلى الخدمات غير السياحية من أجل إدراك طبيعة قصة النمو الإسبانية، فصادرات الخدمات غير السياحية وفق ما أشار كارلوس مثل الاستشارات والتمويل وتكنولوجيا المعلومات ولّدت عائدات أكبر من السياحة، إذ حققت 100 مليار يورو، في حين حقق ما يسمى بالصادرات السياحية 90 مليار يورو فقط؛ مما يعني قصة نمو متوازنة في جميع أنحاء الاقتصاد.

في الواقع تعيش إسبانيا بالفعل مشهدًا مزدهرًا فيما يتعلق بالمجال التكنولوجي على الرغم من أن استثمار البلاد في البحث والتطوير أقل من متوسط الاتحاد الأوروبي، إذ تنفق إسبانيا 1.44% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير في حين أن المتوسط الأوروبي يبلغ 2.27%.

إعلان

لكن المواهب التكنولوجية تتوافد على إسبانيا من جميع أنحاء أوروبا على نحو غير مسبوق كما أصبحت الجامعات الإسبانية قبلة مشهودة في الأبحاث المتقدمة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والروبوتات والأمن السيبراني والطاقة المتجددة، وعلى وجه التحديد يحظى مركز برشلونة للحوسبة الفائقة في جامعة بوليتكنيك بإقليم كتالونيا يحظى بريادة وشهرة عالمية في مجال الحوسبة بحسب مجلة فورتشن الأميركية.

ووفقًا لأرقام الحكومة الكتالونية، يضم الإقليم في الوقت الحالي أكثر من 2000 شركة ناشئة، وقد احتفظت برشلونة بمكانتها للعام السادس على التوالي باعتبارها ثاني أكثر وجهة مفضلة في الاتحاد الأوروبي بالنسبة لمؤسسي الشركات الناشئة، ولا يتفوق عليها في ذلك إلا برلين، كما تقدمت المدينة في عام 2024 إلى المركز الخامس في مؤشر أفضل البيئات للشركات الناشئة على مستوى الاتحاد الأوروبي الذي تصدره "ستارت آب بلينك"، وهي شركة استشارات دولية رائدة في تحليل بيئة الشركات الناشئة.

والواقع أن برشلونة ليست صاحبة قصة النجاح الإسبانية الوحيدة في هذا الصدد، فمدن أخرى مثل مدريد وفالنسيا وبلباو وملقة وإشبيلية تشهد هي الأخرى تدفقا اقتصاديًّا كبيرًا وتتمتع بجاذبية متزايدة في مجالات متعددة، وهو ما يميز إسبانيا عن سائر الدول الأوروبية الأكثر مركزية التي يتركز فيها النشاط الاقتصادي في العاصمة وحدها، مع مدينة أو مدينتين أخريين بأقصى تقدير.

نتيجة لذلك، وبحسب مجلة فورتشن الأميركية، تجاوزت القيمة الإجمالية للشركات الناشئة بإسبانيا 100 مليار يورو عام 2023 بزيادة قدرها 14% على عام 2022.

في غضون ذلك، بدأ الكثير من المحللين الاقتصاديين يشيرون إلى إمكانية بناء شركات عالية النمو في إسبانيا في المستقبل القريب تمكنها المنافسة عالميًّا، إذ أصبحت شركات مثل "جوب آند تالينت" و"أيدياليستا" و"ترافيل بيرك" و"جلوفو" وغيرها نماذج يشار إليها بالبنان عند الحديث عن التطور والنجاحات الإسبانية.

ويؤكد هذا المشهد المكانة التي تكتسبها البلاد عامًا بعد عام فيما يتعلق بقوة جذب الابتكار التكنولوجي، وقد أدّى قانون الشركات الناشئة الذي أصدرته إسبانيا عام 2022 دورًا كبيرًا في هذه القوة الجاذبة، وأسس أطارًا قانونيًّا وماليًّا فعّالا لإنشاء وتوسيع الشركات الناشئة، وأوجد بيئة أسهل وأقل بيروقراطية لرجال الأعمال المحليين والمستثمرين الأجانب.

على جانب آخر، ساهمت تكاليف المعيشة المنخفضة في إسبانيا، التي تقدر بنصف تكلفة المعيشة في عواصم أوروبية أخرى مثل باريس ولندن، في جذب الطلاب الدوليين للجامعات الإسبانية، وهو أمر جلب انتعاشًا لجانب مهم من جوانب اقتصاد الخدمات، إذ ارتفع عدد الطلاب الدوليين في البلاد بنسبة 60% من عام 2015 إلى عام 2022.

إعلان الشيطان يكمن في التفاصيل

أثناء التحضير لهذه المادة تواصلنا مع بعض الشبّان الإسبان الذين لا يتابعون بدأب الأخبار السياسية أو الاقتصادية فكانت المفاجأة أنهم لا يشعرون بأن بلادهم تحقق هذا الوضع الاقتصادي المرموق بالفعل، ويتفق مقال منشور على موقع مدرسة إيساد للأعمال ببرشلونة مع هذه الملاحظة، ذاكرا أن الإسبان قد فوجِئوا بحديث العالم عن اقتصاد بلادهم، في وقت لا يشعرون هم فيه بأن مستوى معيشتهم يتلاءم مع تلك الطفرة التي يتحدث عنها العالم، وكأن هناك انفصالًا بين الظروف الاقتصادية التي يعيشها المواطن والمؤشرات والأرقام التي تعرضها نشرات الأخبار العالمية.

هذا أمر مفهوم بالطبع ليس في إسبانيا وحدها، بل على مستوى العالم؛ إذ يصعب على المواطن العادي أن يشعر بالتحسن الاقتصادي بسهولة، أولًا لأن هذا التحسن حين يترجم في واقع حياته يكون طفيفًا وغير واضح في كثير من الأحيان، وثانيًا لأنه حتى لو حدث التحسن لصعُب أن يربطه المواطن بتحسن الأداء الاقتصادي لبلاده، فالحصول على وظيفة براتب مجزٍ قد يفسره البعض بأنه نتيجة مباشرة طبيعية للجهد الفردي وأن حالة الاقتصاد المحسنة بشكل عام لم تؤدّ دورًا رئيسيًّا في ذلك.

لكن أيضًا هناك تفاصيل مهمة ينبغي ذكرها، فالسياحة التي أدّت دورًا رئيسيًّا في النمو الإسباني، تواجه سخطًا متزايدًا من المواطنين الإسبان ويخرجون في مظاهرات ضدها بسبب دور السياح في رفع أسعار الإيجارات والسلع والضغوط على الموارد المحلية والبنية التحتية، فضلا عن نوعية الوظائف غير المستدامة التي يوجِدها القطاع في كثير من الأحيان. وفيما يتعلق بالهجرة والدور الذي أدّته في النمو الإسباني، يرى البعض أن المهاجرين ساعدوا بالفعل في دفع النمو لكن الكثيرين منهم يعملون في وظائف منخفضة المهارة والأجر؛ مما يوحي بنموذج نمو غير مستدام.

الأهم من ذلك أنه في حين أن الناتج المحلي الإجمالي الإسباني نما في السنوات الأخيرة بنسبة 4.7% فإن عدد السكان ارتفع بنسبة تقارب 3%؛ مما يجعل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي هو 1.7% فقط.

إعلان

وبحسب مسح القوى العاملة فإن الناتج المحلي الإجمالي للموظف الإسباني لا يزال أقل بنسبة 1.2% من مستواه قبل جائحة كوفيد 19، وبعد خصم الزيادة في الأسعار فإنه يصبح أقل بنسبة 2.3% من مستواه قبل الجائحة بحسب مؤسسة "بي بي في إيه" للأبحاث الاقتصادية، والأهم أنه لا يزال دون المتوسط العام لدول الاتحاد الأوروبي، وهذا ما يجعل مجلة فورتشن الأميركية تقول إن دولة إسبانيا أصبحت أغنى، لكن مواطنيها أصبحوا أكثر فقرا.

هنا تكمن المفارقة، فبينما يتحمس العديد من الاقتصاديين للنموذج الإسباني يرى آخرون أن هذا النموذج قائم على النمو الكمي لا النوعي، وأنه فشل في وضع نجاحه في صورة ملموسة مثل زيادة دخل الفرد أو تقليل ساعات العمل.

وبينما يرى المتفائلون ومن ضمنهم العديد من الخبراء الاقتصاديين المخضرمين أن النمو الإسباني نموذج مستدام قائم على إصلاحات بنيوية ستؤثر في النهاية بشكل إيجابي في حياة المواطنين، يرى آخرون الكثير مما يدعو إلى القلق في نموذج نمو قائم على الإنفاق العام في بلد نسبة الديون إلى الناتج الإجمالي فيه مرتفعة للغاية، فضلا عن كونه لم يفد بشكل مباشر الأسر الإسبانية التي لا تزال في مواجهة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة.

مقالات مشابهة

  • الأفضل أداء في أوروبا.. هل أنقذت الهجرة الاقتصاد الإسباني؟
  • لماذا فشلت القبة الحديدية في التصدي لهجوم 7 أكتوبر؟ تحقيق إسرائيلي يكشف
  • ما الذي حدث لـ”القبة الحديدية في السابع من أكتوبر.. الإعلام العبري يجيب 
  • تحقيق صهيوني يكشف فشل “القبة الحديدية” خلال عملية طوفان الأقصى
  • تحقيق صهيوني يكشف فشل القبة الحديدية في عملية طوفان الأقصى
  • تحقيق لجيش الاحتلال يكشف سبب فشل القبة الحديدية صبيحة طوفان الأقصى
  • تحقيق إسرائيلي: فشل خطير لـ "القبة الحديدية" أثناء هجوم 7 أكتوبر
  • تحقيق عسكري: فشل خطير في منظومة القبة الحديدية خلال الساعات الأولى من هجوم السابع من أكتوبر
  • إعلام إسرائيلي: تحقيقات الجيش كشفت الفشل الذريع بمنظومة القبة الحديدية
  • إعلام إسرائيلي: منظومة القبة الحديدية لم تستطع اعتراض نصف الصواريخ بأحداث 7 أكتوبر