لن نخوض في جرائم الاحتلال ولا في تواطؤ المجتمع الدولي وتخاذل الأنظمة العربية فلا جديد في ذلك وهو أمر منتظر وطبيعي وفق طبيعة النظام الدولي والإقليمي اليوم. لكنّ أهم الأسئلة التي تطرح الآن في الشارع العربي صراحة أو تلميحا أو استبطانا إنما تتعلق بهذا الشعور الجمعي المريع بالعجز عن الحركة وردّ الفعل تجاه ما حدث ويحدث في غزة.
لعلها المرة الأولى في تاريخ الصراع مع المحتل التي تصل فيها أخبار المجازر والمذابح صوتا وصورة فور وقوعها. ولعلها المرة الأولى التي تتمايز فيها المواقف دون رتوش أو مساحيق في المشرق والمغرب ولعلها أيضا المرة الأولى التي تقف فيها الشعوب العربية واعية بعجزها جثة جامدة مخدّرة لا تقوى على الحركة.
أين ذهب ملايين العرب؟ وأين اختفى مليارا مسلم؟ ولماذا عجزت الشعوب عن الحراك والتظاهر والتضامن كما حدث من قبل؟ لماذا عجزنا عن إيقاف المذبحة الكبرى؟
عجزُ الشعوب وقودُ المحتلّ
من المحيط إلى الخليج دون استثناء يذكر وقفت الشعوب والحكومات والدول عاجزة عن إدخال قارورة ماء إلى القطاع المحاصر في الوقت الذي كانت فيه الطائرات الصهيونية والأمريكية والبريطانية تقصفه يوميا بأطنان القنابل والأسلحة المحرّمة. تحولت غزة إلى بركة من الدماء وساحة للجثث والأشلاء الممزقة فلا المدارس ولا المستشفيات ولا دور العبادة سلمت من القصف الهمجي.
لم تكن حرب الإبادة هذه ممكنة لولا يقين المحتل بأنْ لا أحد من دول الجوار سيتحرك للدفاع عن أهل غزة وإيقاف المذبحة. كان المحتل على يقين بأن الشعوب العربية تقع خارج معادلة الصراع بعد أن نجح النظام الدولي عبر وكلائه الإقليميين في تدجين الجماهير وإخضاعها بأدوات القوة الصلبة والناعمة.
لم نكن ننتظر جموعا زاحفة على القطاع لفك طوق الحرب عن الأطفال المحاصرين ولا كنا نحلم بالشعوب الغاضبة وهي تجبر حكوماتها على إدخال المساعدات إلى المحتاجين أو السماح بعبور الجرحى والمصابين بل كنا نأمل في حالة غضب شعبي قادرة على تهديد عواصم التطبيع والتنسيق الأمني.
نجحت أذرع النظام الإقليمي في تصفية الثورات وتحويل الوهج الثوري إلى حالة عميقة من اليأس والإحباط ولعبت جماعة العنف المسلح المرتبطة بأجهزة القمع دورا محوريا في هذه الجريمة.كُنا نأمل في وحدة الصف الشعبي أمام المجزرة وتهديد الحكومات والأنظمة المطبعة والصامتة بأنّ السكوت عن الجريمة قد يكلفها بقاءها في الحكم لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث. لقد اكتفينا جميعا ببعض الوقفات الخجولة هنا أو هناك أو حملات السخط والغضب على مواقع التواصل الاجتماعي لكن على أرض الواقع كانت طائرات العدو تبيد سكان غزة إبادة لا مثيل لها.
كل النخب العربية تقريبا والأحزاب والجمعيات والهيئات غير الحكومية والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني والأجسام الوظيفية من محامين وأطباء ومهندسين وجامعيين ورياضيين.. آثروا الصمت باستثناءات قليلة جدا. لم تحدث أية حركة جماعية معبّرة عن رفض المذبحة ولم تتشكل أية جبهة شعبية أو حزبية أو حقوقية أو برلمانية أو غيرها للضغط على الشارع والسلطة.
الطريق إلى العجز
كيف حدث كل هذا؟ وكيف وصلت أمة يفوق تعدادها نصف مليار من المحيط إلى الخليج إلى هذا المستوى من انعدام الحركة وردة الفعل؟
الداء قديم لكنه تضاعف في العقود الأخيرة بعد أن أحكمت أدوات النظام الرسمي العربي قبضتها على كل المفاصل المحركّة للوعي الشعبي. إن القمع الدموي الذي ووجهت به الثورات الأخيرة والتي لا تزال فصولها متعاقبة في سوريا يمثل واحدا من أنصع الأمثلة على حرب الإبادة التي تعرّض لها الوعي الجمعي المقاوم من قبل السلطة العربية وحلفائها في الإقليم.
كان الربيع العربي فرصة تاريخية للتحرر من النظام الإقليمي القمعي وتفكيك أدواته وتصفية أذرعه الباطشة في السياسة والثقافة والإعلام والاقتصاد والعقيدة لكنّ النخب العربية لم تكن على قدر المسؤولية والحزم والشجاعة. نجحت أذرع النظام الإقليمي في تصفية الثورات وتحويل الوهج الثوري إلى حالة عميقة من اليأس والإحباط ولعبت جماعة العنف المسلح المرتبطة بأجهزة القمع دورا محوريا في هذه الجريمة.
ترسخت ثقافة الهزيمة مرة أخرى بعد نشوة انتصار عابرة وعادت حالة القمع أشد من ذي قبل وخيمت على المنطقة حالة من الخوف والقبول بالأمر الواقع وسط أنهار من الدماء. على جبهة أخرى نجحت الأذرع الإعلامية والفكرية للاستبداد في إقناع الجماهير بأن التغيير والثورة وطلب الحرية ليست إلا مؤامرة صهيونية أطلسية هدفها تخريب الأوطان وتهديد الأمن والأمان وضرب الدولة الوطنية وتهديد مسيرة البناء والتشييد.
دروس العجز
لكنّ مذبحة غزة الأخيرة شكلت صفعة مريعة لشعارات الوطنية الكاذبة وعصفت في أيام معدودة بأسطورة التضامن العربي والتعاون الإسلامي ومحور المقاومة والممانعة. لقد أحييت غزة من حيث لا تدري ضمأ الشعوب الدفين إلى الانتصار والتحرر وتحقيق شروط الكرامة. أسقطت غزة عن النظام الإقليمي آخر مساحيقه بعد أن انكشف مجرّد حارس لحدود المحتل ووكيل إقليمي مكلّف بقمع كل حركة شعبية قد تفسد عليه أجواء الإبادة الكبرى.
أدركت الشعوب اليوم أكثر من أي وقت مضى أنها مكبّلة مستعبدة وأنها واقعة تحت واحد من أبشع أنواع الاحتلال الداخلي وأن الدور قادم عليها يوما ما. أيقنت الشعوب كذلك زيف شعارات دول "المقاومة والممانعة" التي لم تطلق رصاصة واحدة في اتجاه العدو بل ابدعت في مسرحيات الدقائق الأخيرة عبر الحدود أو في عرض البحر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لقد أحييت غزة من حيث لا تدري ضمأ الشعوب الدفين إلى الانتصار والتحرر وتحقيق شروط الكرامة. أسقطت غزة عن النظام الإقليمي آخر مساحيقه بعد أن انكشف مجرّد حارس لحدود المحتل ووكيل إقليمي مكلّف بقمع كل حركة شعبية قد تفسد عليه أجواء الإبادة الكبرى.إن أخطر ما يمكن حدوثة بعد المذبحة هو أن تعود الجماهير والنخب والمنظمات والأحزاب إلى الحالة التي كانت عليها قبلها دون أن تقوم بنقد ذاتي يهدف إلى منع تجدد حالات العجز والصمت القاتل.
إن الصراع مع أنظمة الاستبداد العربي لم يعد يمثل خيارا شعبيا أو نخبويا بل صار مسألة وجودية حاسمة لأن بقاء النظام الإقليمي قائما كما هو يعني ذهاب المنطقة وشعوبها إلى حالة التحلل والفناء لا سمح الله. إن تفكيك الاستبداد العربي يستوجب أولا تفكيك الحالة الثقافية والذهنية المرتبطة به والتي تعبّر عنها أذرعه الفكرية والسياسية والإعلامية والثقافية العقائدية. ولا يمكن تفكيك هذه الحالة دون الوعي الفاعل بأن الخوف الجماعي التي يسيطر على الجماهير وعلى الفواعل الاجتماعية إنما هو شكل مرضي قاتل ووهم فتاك يقود صاحبه إلى الانتحار البطيء.
إن أبرز دروس العجز إنما يتمثل في الوعي بزيف التعويل على الخارج الذي أبان عن عنصرية مقيتة وإجرام رسمي لا غبار عليه وهو ما يعيد الصراع إلى ساحته الحقيقية وهي ساحة الداخل القادر وحده على حسم معركة التحرر. لم تتحرر غزة ولم تصمد في وجه حرب صليبية متوحشة إلا يوم تخلصت من قيود الاستبداد العربي ممثلا في السلطة العميلة ويوم آمنت بأن طريق الحرية والنصر معبّدة بجثامين الشهداء مخضّبة بدماء الأحرار.
لم يتكالب الغرب ووكلاؤه العرب على غزة ولم يختبئ محور المقاومة والممانعة ولم تتوحش آلة القتل والإجرام الصهيونية إلا لأنهم أدركوا جميعا خطورة المنوال الفلسطيني المقاوِم على وعي الأمة الجمعي. إذا تحولت غزة إلى درس عربي إسلامي يحتذى طريقا وحيدا إلى الحرية والتحرر فإن ذلك يعني حتما نهاية الاحتلال وتفكك شروطه وأولها النظام الرسمي العربي نفسه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال غزة حرب دروس الفلسطيني احتلال فلسطين غزة حرب دروس مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النظام الإقلیمی بعد أن
إقرأ أيضاً:
سؤال عبثي: ربيع عربي أم مؤامرة كونية؟
بسقوط نظام الأسد في سوريا، طفا مجدّدا سجال النخب العربية، ومعها جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، حول حقيقة ما تشهده المنطقة منذ نهاية عام 2010، ولا تزال فئات واسعة تبذل جهدها في تثبيت سيناريو المؤامرة الكونية للإطاحة بأنظمة حكم وظيفية في عمومها، ظلّت طيلة عقود منذ سبعينيات القرن العشرين في خدمة المصالح الأجنبية.
يحاول عرّابو المؤامرة تناسي حجم المعاناة التي كابدها التونسيون والمصريون واليمنيون والليبيون والسوريون في ظل حكم بن علي ومبارك وصالح والقذافي وعائلة الأسد، لاستبعاد فرضيّة إرادة الشعوب المطحونة في الانعتاق من قبضة أنظمة حكم فاشية شمولية، كانت تنتمي إلى عصر بائد خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا.
ينبغي الاتفاق على أن الأمريكيين والأوروبيين لا يرغبون في صناعة تحوّل ديمقراطي حقيقي في الإقليم العربي، بل ما يهمّهم فقط هو ضمان حد أدنى من الاستقرار يضمن خدمة مصالحهم وعدم تشكيل أي تهديد فعلي على ربيبتهم الكيان الصهيوني، لذلك من غير المنطقي الادّعاء أنهم كانوا وراء انتفاضة شعوب المنطقة قبل 14 عاما للتخلّص من أنظمة بالية لم تكن في غالبها سوى حليف وظيفي مهم.
إن ما حصل في واقع الحال كان نتيجة طبيعية لعقود من التسلّط والاستبداد والفساد والفشل الذريع، ليس في تحقيق التنمية الاقتصادية ومستوى الرفاهية الاجتماعية المطلوبة، بل الإخفاق في مأسسة الدولة الوطنية وبنائها على أسس القانون والعدالة والمواطنة وتنظيم آليات التداول على السلطة بطرق سلمية حضارية تحتكم لإرادة الشعب السيدة.
عكس ذلك، فإنّ تلك الأنظمة الفاشلة لم تكتف بخيانة الأمانة الوطنية التي آلت إليها في ظروف تاريخية مختلفة، فتقاعست عن خدمة شعوبها وفق الإمكانات المتاحة وتطلّعات العصر، بل راحت تكرّس حكم الفساد والريع واحتكار السلطة والثروة بالتخطيط للتوريث الفردي والانتقال من نموذج حكم الأقلية التسلطية إلى حكم العائلة المستبدّة (بشار الأسد وجمال مبارك وسيف الإسلام القذافي وعلي عبد الله صالح..)، وهي قطرة السمّ التي أفاضت كأس الشعوب الممتلئ غضبا بشعور المهانة والتهميش، لتندلع شرارة الثورات من سيدي بوزيد في جنوب تونس في ديسمبر 2010 ولا تزال شظاياها ملتهبة إلى يوم الناس هذا.
تلك هي الحقيقة الأولى والمفتاحية في فهم ما جرى، أما ما وقع من تفاعلات في غضون الأحداث وبعدها، وما عاشته من تطوّرات غير مرغوب فيها، فلم تكن في الواقع سوى ممارسات ثورات مضادة أو انحرافات بفعل تطرّف أنظمة القمع أو ركوب موجات أو استغلال من أطراف خارجية وإقليميّة تشتغل ضد حرية الشعوب العربية وبحثا عن تأمين أجنداتها الخاصة.
المسؤولية التاريخية والأخلاقية ستبقى عبئا على كاهل أنظمة الفساد والاستبداد
هذا يعني أن المسؤولية التاريخية والأخلاقية ستبقى عبئا على كاهل أنظمة الفساد والاستبداد، لأنّها المتسبّب الرئيس في صناعة الأحداث ابتداء ثم تداعياتها لاحقا، بالفشل في تحقيق تطلُّعات الشعوب في الحرية والكرامة وعدم التناغم مع أشواق الأجيال الجديدة التي لم تعد تنطلي عليها شعارات كاذبة باسم الوطنية أو القومية ونصرة فلسطين.
لم يكن قدر الشعوب العربية في تلك البؤر الثورية العيش تحت ظلم أنظمة فاشية فاشلة مدى الحياة، مستسلمة أمام مصيرها المحتوم، أو الدخول في حرب أهلية تنسف كيان الدولة من البنيان والسقوط في مخططات الآخرين، بل كل ما تطلعت إليه هو صناعة التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي، لتعيش مثل كل الأمم المتمدّنة، واثقة من حاضرها وآملة في مستقبل أفضل، غير أن مكر أجهزة الدولة العميقة، بدعم من أنظمة إقليمية أخرى، لحسابات ضيقة، انقلب على رغبة الشعوب السلميّة وصادر حقها في الحرية الآمنة، قبل إدخالها في دوامة الفوضى الدستورية والأمنيّة.
هل يعفي كل ذلك الشعوب العربية المنتفضة منذ 2010 ونخبها الفاعلة من المسؤولية الوطنية؟ قطعا الجواب: لا، لكن محاولة تجريم ثورات الكرامة، بذريعة تحوّلها إلى العسكرة المشبوهة أو الاضطراريّة وتعرّضها للاختراق الخارجي، ليس سوى تبرير مكشوف، للدفاع عن استمرار أنظمة بائدة هي التي شكّلت أكبر خطر ضدّ الدولة والمجتمع، ولم ينفع تأخير سقوطها في حماية الوطن، بل زاد من تكلفة التغيير المشروع، بفعل تراكم الأخطاء وعامل الزمن.
عود على بدء، فإنّ تلك الأنظمة العربية لم يكن أمام شعوبها من خيار آخر سوى الإطاحة بها، بغضّ النظر عن الطريقة والتداعيات التي ورّطها فيها الآخرون أحيانا، ولاشكّ أن الشعوب الحرّة ستتعلم من تجاربها المريرة، إذ أن عمر الانتقال الحضاري في سيّاقات تاريخية معقدة لا يقاس بالسّنوات ولا حتى بالعقود، بل هو مسار متشابك من الوعي والتراكم النضالي سيفضي إلى إرساء الإصلاح على قاعدة صلبة ولو بعد حين من الدهر، عندما تتوفر كل شروط الاجتماع السياسي وسننه الكونيّة.
الشروق الجزائرية