عربي21:
2025-01-24@17:38:04 GMT

وعي الشعوب العاجزة

تاريخ النشر: 23rd, November 2023 GMT

لن نخوض في جرائم الاحتلال ولا في تواطؤ المجتمع الدولي وتخاذل الأنظمة العربية فلا جديد في ذلك وهو أمر منتظر وطبيعي وفق طبيعة النظام الدولي والإقليمي اليوم. لكنّ أهم الأسئلة التي تطرح الآن في الشارع العربي صراحة أو تلميحا أو استبطانا إنما تتعلق بهذا الشعور الجمعي المريع بالعجز عن الحركة وردّ الفعل تجاه ما حدث ويحدث في غزة.



لعلها المرة الأولى في تاريخ الصراع مع المحتل التي تصل فيها أخبار المجازر والمذابح صوتا وصورة فور وقوعها. ولعلها المرة الأولى التي تتمايز فيها المواقف دون رتوش أو مساحيق في المشرق والمغرب ولعلها أيضا المرة الأولى التي تقف فيها الشعوب العربية واعية بعجزها جثة جامدة مخدّرة لا تقوى على الحركة.

أين ذهب ملايين العرب؟ وأين اختفى مليارا مسلم؟ ولماذا عجزت الشعوب عن الحراك والتظاهر والتضامن كما حدث من قبل؟ لماذا عجزنا عن إيقاف المذبحة الكبرى؟

عجزُ الشعوب وقودُ المحتلّ

من المحيط إلى الخليج دون استثناء يذكر وقفت الشعوب والحكومات والدول عاجزة عن إدخال قارورة ماء إلى القطاع المحاصر في الوقت الذي كانت فيه الطائرات الصهيونية والأمريكية والبريطانية تقصفه يوميا بأطنان القنابل والأسلحة المحرّمة. تحولت غزة إلى بركة من الدماء وساحة للجثث والأشلاء الممزقة فلا المدارس ولا المستشفيات ولا دور العبادة سلمت من القصف الهمجي.

لم تكن حرب الإبادة هذه ممكنة لولا يقين المحتل بأنْ لا أحد من دول الجوار سيتحرك للدفاع عن أهل غزة وإيقاف المذبحة. كان المحتل على يقين بأن الشعوب العربية تقع خارج معادلة الصراع بعد أن نجح النظام الدولي عبر وكلائه الإقليميين في تدجين الجماهير وإخضاعها بأدوات القوة الصلبة والناعمة.

لم نكن ننتظر جموعا زاحفة على القطاع لفك طوق الحرب عن الأطفال المحاصرين ولا كنا نحلم بالشعوب الغاضبة وهي تجبر حكوماتها على إدخال المساعدات إلى المحتاجين أو السماح بعبور الجرحى والمصابين بل كنا نأمل في حالة غضب شعبي قادرة على تهديد عواصم التطبيع والتنسيق الأمني.

نجحت أذرع النظام الإقليمي في تصفية الثورات وتحويل الوهج الثوري إلى حالة عميقة من اليأس والإحباط ولعبت جماعة العنف المسلح المرتبطة بأجهزة القمع دورا محوريا في هذه الجريمة.كُنا نأمل في وحدة الصف الشعبي أمام المجزرة وتهديد الحكومات والأنظمة المطبعة والصامتة بأنّ السكوت عن الجريمة قد يكلفها بقاءها في الحكم لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث. لقد اكتفينا جميعا ببعض الوقفات الخجولة هنا أو هناك أو حملات السخط والغضب على مواقع التواصل الاجتماعي لكن على أرض الواقع كانت طائرات العدو تبيد سكان غزة إبادة لا مثيل لها.

كل النخب العربية تقريبا والأحزاب والجمعيات والهيئات غير الحكومية والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني والأجسام الوظيفية من محامين وأطباء ومهندسين وجامعيين ورياضيين.. آثروا الصمت باستثناءات قليلة جدا. لم تحدث أية حركة جماعية معبّرة عن رفض المذبحة ولم تتشكل أية جبهة شعبية أو حزبية أو حقوقية أو برلمانية أو غيرها للضغط على الشارع والسلطة.

الطريق إلى العجز

كيف حدث كل هذا؟ وكيف وصلت أمة يفوق تعدادها نصف مليار من المحيط إلى الخليج إلى هذا المستوى من انعدام الحركة وردة الفعل؟

الداء قديم لكنه تضاعف في العقود الأخيرة بعد أن أحكمت أدوات النظام الرسمي العربي قبضتها على كل المفاصل المحركّة للوعي الشعبي. إن القمع الدموي الذي ووجهت به الثورات الأخيرة والتي لا تزال فصولها متعاقبة في سوريا يمثل واحدا من أنصع الأمثلة على حرب الإبادة التي تعرّض لها الوعي الجمعي المقاوم من قبل السلطة العربية وحلفائها في الإقليم.

كان الربيع العربي فرصة تاريخية للتحرر من النظام الإقليمي القمعي وتفكيك أدواته وتصفية أذرعه الباطشة في السياسة والثقافة والإعلام والاقتصاد والعقيدة لكنّ النخب العربية لم تكن على قدر المسؤولية والحزم والشجاعة. نجحت أذرع النظام الإقليمي في تصفية الثورات وتحويل الوهج الثوري إلى حالة عميقة من اليأس والإحباط ولعبت جماعة العنف المسلح المرتبطة بأجهزة القمع دورا محوريا في هذه الجريمة.

ترسخت ثقافة الهزيمة مرة أخرى بعد نشوة انتصار عابرة وعادت حالة القمع أشد من ذي قبل وخيمت على المنطقة حالة من الخوف والقبول بالأمر الواقع وسط أنهار من الدماء. على جبهة أخرى نجحت الأذرع الإعلامية والفكرية للاستبداد في إقناع الجماهير بأن التغيير والثورة وطلب الحرية ليست إلا مؤامرة صهيونية أطلسية هدفها تخريب الأوطان وتهديد الأمن والأمان وضرب الدولة الوطنية وتهديد مسيرة البناء والتشييد.

دروس العجز

لكنّ مذبحة غزة الأخيرة شكلت صفعة مريعة لشعارات الوطنية الكاذبة وعصفت في أيام معدودة بأسطورة التضامن العربي والتعاون الإسلامي ومحور المقاومة والممانعة. لقد أحييت غزة من حيث لا تدري ضمأ الشعوب الدفين إلى الانتصار والتحرر وتحقيق شروط الكرامة. أسقطت غزة عن النظام الإقليمي آخر مساحيقه بعد أن انكشف مجرّد حارس لحدود المحتل ووكيل إقليمي مكلّف بقمع كل حركة شعبية قد تفسد عليه أجواء الإبادة الكبرى.

أدركت الشعوب اليوم أكثر من أي وقت مضى أنها مكبّلة مستعبدة وأنها واقعة تحت واحد من أبشع أنواع الاحتلال الداخلي وأن الدور قادم عليها يوما ما. أيقنت الشعوب كذلك زيف شعارات دول "المقاومة والممانعة" التي لم تطلق رصاصة واحدة في اتجاه العدو بل ابدعت في مسرحيات الدقائق الأخيرة عبر الحدود أو في عرض البحر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

لقد أحييت غزة من حيث لا تدري ضمأ الشعوب الدفين إلى الانتصار والتحرر وتحقيق شروط الكرامة. أسقطت غزة عن النظام الإقليمي آخر مساحيقه بعد أن انكشف مجرّد حارس لحدود المحتل ووكيل إقليمي مكلّف بقمع كل حركة شعبية قد تفسد عليه أجواء الإبادة الكبرى.إن أخطر ما يمكن حدوثة بعد المذبحة هو أن تعود الجماهير والنخب والمنظمات والأحزاب إلى الحالة التي كانت عليها قبلها دون أن تقوم بنقد ذاتي يهدف إلى منع تجدد حالات العجز والصمت القاتل.

إن الصراع مع أنظمة الاستبداد العربي لم يعد يمثل خيارا شعبيا أو نخبويا بل صار مسألة وجودية حاسمة لأن بقاء النظام الإقليمي قائما كما هو يعني ذهاب المنطقة وشعوبها إلى حالة التحلل والفناء لا سمح الله. إن تفكيك الاستبداد العربي يستوجب أولا تفكيك الحالة الثقافية والذهنية المرتبطة به والتي تعبّر عنها أذرعه الفكرية والسياسية والإعلامية والثقافية العقائدية. ولا يمكن تفكيك هذه الحالة دون الوعي الفاعل بأن الخوف الجماعي التي يسيطر على الجماهير وعلى الفواعل الاجتماعية إنما هو شكل مرضي قاتل ووهم فتاك يقود صاحبه إلى الانتحار البطيء.

إن أبرز دروس العجز إنما يتمثل في الوعي بزيف التعويل على الخارج الذي أبان عن عنصرية مقيتة وإجرام رسمي لا غبار عليه وهو ما يعيد الصراع إلى ساحته الحقيقية وهي ساحة الداخل القادر وحده على حسم معركة التحرر. لم تتحرر غزة ولم تصمد في وجه حرب صليبية متوحشة إلا يوم تخلصت من قيود الاستبداد العربي ممثلا في السلطة العميلة ويوم آمنت بأن طريق الحرية والنصر معبّدة بجثامين الشهداء مخضّبة بدماء الأحرار.

لم يتكالب الغرب ووكلاؤه العرب على غزة ولم يختبئ محور المقاومة والممانعة ولم تتوحش آلة القتل والإجرام الصهيونية إلا لأنهم أدركوا جميعا خطورة المنوال الفلسطيني المقاوِم على وعي الأمة الجمعي. إذا تحولت غزة إلى درس عربي إسلامي يحتذى طريقا وحيدا إلى الحرية والتحرر فإن ذلك يعني حتما نهاية الاحتلال وتفكك شروطه وأولها النظام الرسمي العربي نفسه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال غزة حرب دروس الفلسطيني احتلال فلسطين غزة حرب دروس مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النظام الإقلیمی بعد أن

إقرأ أيضاً:

محمد العزيزي:العرب فرحون أن اليهود يقتلونهم!

ظل العرب طوال سبعين عاما وهم ينسجون حكايات وبطولات نضالهم ومعارك حروبهم في الليل الحالك السواد وانتصارات لا وجود لها، حاولوا ويحاولون  استعادة الأرض المغتصبة من قبل الكيان الإسرائيلي في فلسطين وسوريا (الجولان)ولبنان (مزارع شبعا) في 1948 وما بعدها، كان العرب والعالم الإسلامي يضج ويتظاهر ويعقد المؤتمرات والندوات الإقليمية والدولية تنديدا بالاحتلال الغاصب الصهيوني لأراضي العرب في الستينيات و السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات ولكن كل تلك المحاولات الخجولة وعنفوان المظاهرات الشعبية، لم تعد لهم ما وقع تحت يد العدو الإسرائيلي، رغم المقاومة والانتفاضات الفلسطينية المدعومة عربيا بالخطابات منذ منتصف القرن العشرين الماضي وحتى نهايته والصراع العربي الإسرائيلي على أشده ولم ينته، تعالت الأصوات حينا والحمية عند الشعوب العربية حينا آخر ، دفاعا عن فلسطين والقدس.

منذ أن دنس الصهاينة الأرض العربية بدعم أوروبي وأمريكي والأنظمة والحكام العرب في مقامرة وتخاذل مستمر وكل يزايد على الآخر بالقضية الفلسطينية والذي وصل حد تقديم المبادرات والتنازلات للتخلص من قضية قضّت مضاجع الحكام العرب وسط حماسة الشارع العربي التواق للانتصار لمظلومية الشعب الفلسطيني  وتحرير الأراضي العربية المحتلة والمغتصبة من قبل الكيان المحتل.

طوال ثلاثة أرباع القرن الماضي والعرب شعوبا وحكاما لم يغيروا من الأمر شيئا رغم القرارات الدولية والأممية والمبادرات وهدير وهيجان الشعوب العربية، وبالمقابل زاد العداء والفرقة والخيانات بين العرب وصولا إلى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي والاعتراف بحق إسرائيل الوجودي والتعايش معه خوفا من تآمر “علي عربي من علي عربي” والمتاجرة والبيع والشراء للمواقف وخيانة القضية.

ذلك الوضع الذي ظهر عليه العرب والمسلمون مكن الاحتلال من تحقيق أطماعه التوسعية وفق طموحه بأن دولته من المحيط إلى الخليج في ظل حالة التخبط وضعف الموقف العربي، بدأ النزيف العربي للأرض والدم والمال والكرامة والشرف والمقدسات يزداد من مطلع القرن الحالي وحتى يومنا هذا، وتزداد معه توسع الفجوة والهوة والصراع البيني العربي وتراخي الحماسة عند المواطن العربي للدفاع عن الأرض والمقدسات والذي انزلق في أتون الصراع العربي العربي وارتفاع نسبة الكراهية والبغضاء بين المسلمين وفرقهم المذهبية التي زرعها الغرب في المجتمعات العربية.

والمثير للدهشة والتندر أن  العرب والمسلمين يفرحون عندما يقتل الصهاينة والعالم الغربي المجرم أخاهم العربي والمسلم وكأن العدو الغربي المتحالف  يقدم خدمة الخلاص من غريمه المسلم المخالف له بالنهج أو المذهب أو لحالة العداء والحقد الذي يتغلغل بين الحكام والمجتمع، ومن خلالهم تأثرت وجرحت حماسة وعنفوان  الشعوب العربية المتحررة والمناصرة للقضية الفلسطينية و المناهضة للاحتلال.

الوهن الذي أصاب العرب شجع  الغرب المتحالف مع الكيان الصهيوني التمادي أكثر في اقتحام حاجز النخوة العربية في تغذية الصراع العربي العربي وحالة الانقسام والاختلاف والمماحكات البينية، وإذكاء الصراع الديني والتيارات المذهبية والآيدلوجيات لتفريق الجمع والإجماع للشعوب العربية حول القضايا المصيرية ومقاومة الاحتلال  لتتحقق خطط وبرامج الغرب في قضم وضم الأرض ونهب المال وتدمير مقدرات الشعوب العربية وقتل وذبح العرب والمسلمين بدم بارد بل قتل عشرات الآلاف من الغزاويين واللبنانيين وهدم المنازل فوق رؤوس ساكنيها دون أن يحرك العرب والمسلمين وحكامهم ساكنا وسط صمت العالم مدعي الإنسانية.

ومن سخرية التاريخ والقدر أن العرب والمسلمين ليس بمقدورهم ولم يعد لديهم القدرة على المطالبة أو يطالبون باستعادة الجولان السوري ومزارع شبعا  بل أصبحنا اليوم نطالب باستعادة الأرض المغتصبة مؤخرا كجبل الشيخ والقنيطرة ومدينة البعث وغيرها من المناطق على الحدود السورية وأصبح اللبنانيون يطالبون اليوم بخروج المحتل من مزارع شبعا ومن جنوب نهر الليطاني وغيرها من المناطق على الحدود التي احتلها وسيطر عليها خلال العدوان الأخير ، وكما هو الحال في الضفة الغربية ورام الله التي لا تزال ترزح تحت سطوة الإحتلال الإسرائيلي ، وهذا نتيجة طبيعية لخذلان العرب لبعضهم البعض وتنامي حالة الحقد والعداء البيني وارتفاع حالة الخصومة الدينية والمذهبية التي يرعاها ويغذيها الغرب والصهاينة لتحقيق أهدافهم وقبول العرب  وحكامهم الذل والمهانة ونزيف الأرض والمال والدماء واتساع دائرة الفرقة في ما بينهم.

مقالات مشابهة

  • شعوب في انتظار المساعدات الإنسانية
  • “ويومئذ يفرحُ المؤمنون بنصر الله”
  • محافظ قنا: الحروب النفسية عبر نشر الرسائل السلبية بداية انهيار الشعوب
  • شاهد | قلق صهيوني من تصاعد العمليات البطولية في الداخل المحتل
  • قبل انتهاء مدة الهدنة.. «حزب الله» يطالب بانسحاب المحتل الإسرائيلي من لبنان
  • متحف المستقبل يطلق سلسلة محاضرات
  • الدبيبة من دافوس: هذه رسالتي لترمب
  • محمد العزيزي:العرب فرحون أن اليهود يقتلونهم!
  • الأمن للجميع!!
  • شعوب العصافير الملونة «الأخيرة»