الإقليم والقسمة الغائبة في غزة
تاريخ النشر: 23rd, November 2023 GMT
المخاوف الأمريكية من اتساع نطاق الحرب في غزة، تبددت. وهو ما أتاح الفرصة لتوغل إسرائيل في سفك الدماء. الطمأنينة منحتها قدرة أكبر على توجيه الصواريخ إلى مراكز الإيواء لأونروا.
حبل الانتقام من المدنيين الفلسطينيين يطول، بمقدار ما يطول حبل القناعة بأن أحداً لن يهدد إسرائيل بشيء آخر، ليفرض وقفا لإطلاق النار بالقوة.
خيارات القوة في الإقليم كانت مستبعدة أصلاً. العديد من دول المنطقة اختارت طريق الدفاع عن الحقوق الفلسطينية بوسائل سلمية. وهو خيار عملي مفتوح، منذ اتفاقات كامب ديفيد. ولقد مرت على هذا الخيار اختبارات، أو امتحانات، كثيرة وعصيبة، إلا أنه صمد أمام عواصفها مجتمعة. لماذا؟ من ناحية، لأن القسط الأكبر من الفلسطينيين اعتبروه خيارا عمليا لأنفسهم أيضا. ومن ناحية أخرى، لأن القناعة التي تقول إنك لا تستطيع أن تحرر شعبا إذا لم تكن أنت نفسك حرا، أثبتت قوتها.
الفلسطينيون حتى وإن انقسموا حول خيار السلام، فإن انقسامهم نفسه ظل يدور حول سؤال البدائل من دون أن يلقى جوابا موحدا. والعرب حتى وإن انقسموا على الموقف من العلاقات مع إسرائيل، إلا أن كلا منهم ظل يواجه تحدياته الخاصة.
دول “"لصمود" مثل الجزائر، وسوريا، والعراق، مأزومة بنفسها. ودول السلام ترى منعطفا اقتصاديا عاصفا وتخشى أن تخسر السباق فيه، فيضيع كل شيء لمئة عام مقبلة أو أكثر. ترى بوضوح أن الفرص المتاحة اليوم سوف تختفي في غضون ربع القرن المقبل، وهي ما لم تتدارك اليوم، فإنها لن تتدارك غدا. سيكون القطار قد فات.
وهناك، ضمن هذا الفريق دول مثل الأردن، ومصر، تواجه معضلات اقتصادية لا تتعلق بتدبير شؤون الغد، وإنما بشؤون خبز اليوم، حصرا.
الأردن، في هذا السياق، اكتفى بتحديد خطوطه الحمر، على اعتبار أن تنفيذ سياسة تهجير جماعية للفلسطينيين في غزة سوف يؤدي إلى سياسة تهجير جماعية في الضفة الغربية، مما يهدد الوجود الكياني للمملكة. وهو ما اعتبره الأردن “إعلان حرب”، لأنه سيكون كذلك بالفعل.
بمعنى آخر، أرجأ الأردن التدخل في الحرب إلى حين أن تصبح حربا فعلية عليه. وهو يضغط باتجاه إحياء "حل الدولتين"، لتجنب تلك الحرب.
مصر، المأزومة بجبل من الديون، حولت الحرب إلى فرصة للحصول على إعفاءات وقروض ميسرة. خبز 100 مليون إنسان حاجز إستراتيجي لا يمكن تجاهله. ولو أن الدول المانحة هي التي ضغطت على هذا الحاجز، من دون حرب على غزة، لكان الوقوف وراء اندلاعها خيارا معقولا من الناحية الإستراتيجية.
إيران وحلفاؤها كانوا هم الوحيدين من حملة السلاح الذين يريدون تحرير فلسطين، ويوجهون الإنذارات لإسرائيل، أربع مرات كل خمس دقائق، هذا، لو أنك أحصيت ما يُدلى به من التصريحات الرسمية وغير الرسمية والميليشياوية. ولكن انتهى الأمر بأن قبض الولي الفقيه ثمن الصمت، صمت السلاح، لا صمت الضجيج، على ذبح غزة. بضعة مليارات من الدولارات، كانت كافية لجعل هذا الصمت مدويا. ولكن بقيت للضجيج مناوشات على جبهة الشمال، تساعد في إبقائه ضجيجا حيا.
الأسئلة في إيران، ولدى ميليشياتها، هي: وماذا نفعل إن لم ندّع أننا نريد الموت لإسرائيل؟ وبما نغطي مشروعنا الطائفي في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن؟ وما الذي يوفر المبرر لمجازرنا الخاصة التي ارتكبناها هنا وهناك وهنالك؟
حماس نفسها تعرف الآن أن "وحدة الساحات" مع إيران وحزب الله كانت وهما ليس أقل دويا من قصف الصواريخ لغزة. تعرف أكثر أن الرهان على مشروع طائفي تسبب بسلسلة طويلة من المجازر في العراق وسوريا، وكان رهانا أرعن. لا توجد كلمة أفضل من هذا الوصف.
وحدة الساحات الحقيقية التي كان يجدر الرهان عليها، هي الساحات الفلسطينية بالذات. ليس ساحة الضفة الغربية، والقدس وحدهما، وإنما ساحة الداخل الفلسطيني أيضا. هذه الساحات وإن كانت هي مصدر القوة الحاسمة في التغلب على المشروع الصهيوني، فإنها تتطلب جرأة أكبر من إطلاق الصواريخ على العدو المشترك. كانت تتطلب جرأة على تقديم خيار وطني، نضالي مشترك، يعيد تقسيم المواقف والبدائل الإستراتيجية، على قاسم أعظم.
هذه الجرأة هي التي ظلت ناقصة. وليس من المتوقع أن تتوفر قريبا.
بحرب أم من دونها، غزة لا يمكنها أن تحقق نصرا من دون ساحاتها الداخلية. لا يحتاج الأمر فهما معقدا. سبعة ملايين فلسطيني هم الظهير الوحيد الذي يمكن التعويل عليه. وما لم يقتسم الفلسطينيون قسمتهم المشتركة، فيما بينهم، على وجهة إستراتيجية، غالبة على الأقل إن لم تكن موحدة، فلا تعجب لماذا تتحول سلطة محمود عباس في الضفة الغربية إلى مسخرة، كما لا تعجب لماذا تتحول سلطة حماس في غزة إلى مجزرة. كما لا تعجب كيف يسود الخوف والرهبة في أوساط فلسطينيي 48. في ظروف أخرى، كان فلسطينيو الداخل هم السباقين في المواجهة مع الاحتلال والعنصرية.
"يوم الأرض"، الذي يحتفل به الفلسطينيون في كل مكان، هو يوم للمقاومة أقامه ويديمه فلسطينيو الداخل. أين هم اليوم؟ حتى أنك لن تعثر على تظاهرة!
هذه مفارقة. ولكن عجز حماس عن الانخراط في القسمة، وإيمانها القاطع بأن طريقها وحده هو الصحيح، هما اللذان يقفان وراءها.
حسن تماما أن تتمكن من تكبيد عدوك خسائر "فادحة". ولكن كم هي "فادحة" حقا؟ ألف، ألفان، ثلاثة آلاف جندي، زائد ناقص، هل سيغير الكثيرَ بالنسبة للمشروع الصهيوني، أو لمن يقف خلفه؟ وعشرة أو عشرون أو خمسون مليار دولار من الخسائر الاقتصادية، هل تشكل معضلة لإسرائيل فعلا؟ هل أدلّك على شركة واحدة في الولايات المتحدة تستطيع تعويض هذا المبلغ من دون الحاجة إلى طلب دعم من الكونغرس؟
إسرائيل لا تخوض حربا في غزة. الحرب بدأت وانتهت، كما يقول القيادي الفلسطيني محمد دحلان، يوم 7 أكتوبر. كل ما بقي منها هو الانتقام. كل ما بقي هو سفك الدماء الذي لا يُفضي إلى شيء أكثر من سفك الدماء نفسه. لا سياسة، ولا أفق، ولا حتى مفاوضات على أي شيء يتعدى تبادل الأسرى.
معادلة حماس اللاتوافقية، أو التي ظلت تمتنع عن القبول بالقسمة بين الخيارات الفلسطينية، انتهت إلى صفر سياسي وإستراتيجي كبير.
هذا أمر لا علاقة له بالموقف البطولي الذي يواجه به المسلحون الفلسطينيون قوات الاحتلال في غزة. إذا كنت تبحث عن "دفاع عن النفس"، فهذا هو الدفاع عن النفس. إنه شيء تفعله تلقائيا، وبديهيا، من دون أي اعتبارات سياسية أو فكرية. أعط أي غزاوي بندقية ودعه يتصرف، من دون أن تسأله عن أي انتماء آخر غير أنه ابن تلك الأرض فقط.
إذا كان ثمة تعويض جدير بأن تنحني له الظهور، ولكل ما تم تقديمه من ضحايا، فهو السعي لبناء إستراتيجية قسمة فلسطينية مشتركة، قسمة تراهن على سبعة ملايين فلسطيني، وتكف عن الرهان على إيران وحزب الله، أو على مشروع ميليشياوي طائفي كان وراء مقتل وتهجير ما لا يقل عن 18 مليون إنسان في العراق، وسوريا وحدهما، فما بالك بجوع لبنان، وخراب اليمن.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة وإسرائيل فی غزة من دون
إقرأ أيضاً:
محلل إسرائيلي: هذه التغيرات التي عجّلت بإنجاز صفقة تبادل الأسرى
بات واضحا أن مخطط صفقة تبادل الأسرى الحالية بين الاحتلال وحماس يعتمد على النسخة التي تم تقديمها بالفعل في شهر أيار/ مايو، لكن أشياء كثيرة تغيرت منذ ذلك الحين، أهمها انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وانهيار المحور الإيراني، بجانب الاعتبار الحزبي داخل الاحتلال، حيث سيتم تمرير الصفقة عبر الائتلاف الحكومي بسهولة، فيما لا يمنح ترامب "إسرائيل" وحماس أي فرصة للتراجع.
نداف آيال مراسل الشؤون الدولية بصحيفة "يديعوت أحرونوت"، أكد أن "الاتفاق الذي يجري التفاوض عليه بين إسرائيل وحماس لا يختلف بشكل أساسي عن اقتراح نتنياهو وبايدن في أيار/ مايو 2024، بل إن الخطوط العريضة متشابهة، حتى في الأرقام المذكورة: 33 مختطفًا سيتم إطلاق سراحهم معظمهم على قيد الحياة، لكن الفرق أنه منذ ذلك الحين مات العديد من المختطفين، وسقط أكثر من 120 جنديًا في المعارك، واتسع نطاق الدمار في غزة، وأسفر عن مقتل آلاف الفلسطينيين، وضعفت مكانة إسرائيل الدولية".
وأضاف في مقال ترجمته "عربي21" إن "الإنجازات العسكرية التي حققها الاحتلال كان يمكن أن تتحقق في وقت أبكر لو تم توجيه الاهتمام للاعتبارات الاستراتيجية، وليس لسباق القط والفأر في غزة، مع ما يعنيه ذلك من مصالح سطحية للحكومة، مما أظهر إخلاء محور نتساريم وعودة الفلسطينيين لشمال القطاع، على أنها إنجازات لحماس، لكن الحركة حينها لم توافق على الصفقة برمتها خشية ألا تؤدي لوقف الحرب".
وأشار إلى أنه "كانت هناك فرصة للتوصل لاتفاق مع حماس من قبل، وبالتالي فإن الاحتلال لم يحقق أي إنجازات كبيرة خلال الأشهر الماضية، مقارنة بالظروف التي تحدثنا عنها قبل أشهر قليلة، لكن الظروف تغيرت تماما، وبثمن باهظ للغاية، فيما تمثلت أمامنا ثلاثة مكونات رئيسية: أولاها أن ترامب الفائز في الانتخابات قرر وقف حرب غزة، وكان موقفه منها ثابتا طوال الوقت، وينبغي النظر بجدية لتهديده بـ"الجحيم" إذا ظل المختطفون، صحيح أنها في ظاهرها رسالة لحماس، لكنها أيضًا رسالة لإسرائيل".
وأشار إلى أن "مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف علم تفاصيل الصفقة بسرعة، وهو يتمتع بقدرة على عدم الاستماع لـ"الهراء، ولذلك لم يوافق على منح الوسطاء وإسرائيل وحماس لحظة من الراحة، وبسبب فعاليته، نشأ أساس للتقدم السريع، وإزالة أي شك".
وأوضح أن "التغير الثاني الذي عجّل بالصفقة هو الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمحور الإيراني، حيث لم يتبق الكثير منه، وتلاشت آمال حماس بأن يحرك الطوفان المنطقة بأسرها، وتحطّمت الحرب الشاملة ضد إسرائيل، التي رأت هي الأخرى خسائرها الفادحة، كما تعيش حماس في غزة وضعاً صعباً، تخسر مقاتلين بمعدل مرتفع للغاية، ومع ذلك فلم يكن ممكنا دفعها للتوصل إلى اتفاق عبر الضغوط العسكرية".
وأشار إلى أن "حماس لديها مصلحة علنية كبيرة بوقف القتال الآن، خاصة مع تسريب جيش الاحتلال بتحضيره لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق إذا فشلت المفاوضات، وشعورها بأن ترامب قد يضرّ بالمساعدات الإنسانية المقدمة لغزة، وتضاؤل الاهتمام العالمي بما يحدث في غزة".
وأكد أن "العنصر الثالث لإبرام الصفقة يتعلق بالسياسة الإسرائيلية الداخلية، حيث يستمتع نتنياهو بالنجاحات في الشمال وضد إيران، وتم تعزيز مكانته بشكل كبير، وتوسّع ائتلافه بشكل كبير، مع إضافة كتلة غدعون ساعر، وبذلك فلا يمكن لاستقالة بن غفير الإطاحة به، وأصبحت تقديرات عدم اجتياز بتسلئيل سموتريتش لنسبة الحسم الانتخابي ثابتة في استطلاعات الرأي، ولذلك اعتقد نتنياهو أن معارضي الصفقة من اليمين المتطرف لن يقدموا على الانسحاب من الحكومة".
وكشف أن "تصريحات نتنياهو العدوانية كانت منسقة مع فريق التفاوض؛ بما فيها تلك المهدّدة بتجديد الحرب، ويكفي أن نلقي نظرة واحدة على استطلاعات الرأي التي كشفت أن الغالبية العظمى من الجمهور الإسرائيلي تريد وقف الحرب بالكامل لصالح عودة المختطفين".
وختم بالقول أن "نتنياهو يدرك جيداً أن صور قادة حماس وهم يرفعون أيديهم ويخرجون من الأنفاق ليست هنا، ولن تكون في المستقبل القريب، ويعلم أن إعادة المختطفين تحقيق لأهداف الحرب، وبالتالي فإن نافذة واسعة انفتحت للتوصل للصفقة، وإن تجاهل هذه الحقيقة الآن، في نظر الإسرائيليين، أمر مستحيل، ولا يغتفر".