ربما لو كان الأديب السودانى الطيب صالح – رحمه الله – يعيش بين ظهرانينا الآن لجادت قريحته بعمل أعظم وأجل مما قدمه فى رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» ولقدم لنا عملا مفعما بالإنسانية - المقهورة فى القرن الحادى والعشرين–عن ذلك الحدث الذى نحياه ونعيشه على وقع الحرب الجارية على غزة يرصد فيه ملامح ما يمكن وصفه بـ «موسم الهجرة إلى الجنوب».
بعيدا عن الأجواء التى قد تبدو لك مخملية فى الهجرة إلى الشمال، فإن الهجرة إلى الجنوب تكتسى بأجواء بالغة الكآبة وتقطّع القلب كما يقولون، تجعلك تعيش القرون الوسطى وأكثر، التى من المؤكد أنك لم تعشها ولم ترها.
فى موسم الهجرة إلى الجنوب يعمل الفلسطينيون على مواجهة غوائل الزمن، وجبروت المحتل دون جدوى فيسيرون على غير هدى إلى اللامكان! يخرج النازحون قسرا من شمال غزة عن طريق صلاح الدين الذى يربط الشمال بالجنوب سيرا على الإقدام لأن العدو فرض حظرا على تزويدهم بالوقود، لا يحملون شيئا من الممتلكات سوى ما قد يغطى أجسادهم وأطفالهم بأيديهم أو على أكتافهم!
وفى عربات تجرها الجياد، بسبب نفاد الوقود، تلك العربات التى ربما لم تعد تشاهدها سوى فى الأفلام التى تقدم لك ملامح من عصور فاتت وانقضت يجلس الفلسطينى القرفصاء مادا بصره إلى السماء على أمل أن يزوده الله بالقوة التى تعينه على مواجهة مصائب الدهر وبطش العدو وعجز الأشقاء.
مليون و100 ألف فلسطينى يواجهون خطة التهجير والرحيل إلى الجنوب على أمل النفاذ بأرواحهم وأرواح اطفالهم وسط شكوك بنوايا العدو المخادع، وفى بالهم أن تلك ربما تكون الرحلة الأولى وليست الأخيرة على طريق الخروج نهائيا من الوطن فى نزوح قسرى إلى دول الجوار العربى أو إلى الشتات، حيث يعيش ملايين آخرين من الفسطينيين اندمجوا وذابوا فى المجتمعات التى خرجوا إليها.
فى رحلة الطريق إلى الجنوب تشاهد ملامح الهلع على سيدات وأطفال لا يملكون سوى توجيه دعوات ميئوس منها بالتدخل لعالم أصم آذانه عن الاستماع لأنينهم. ترى بعضهم يرفع رايات بيضاء تفاديًا لهجوم غادر، فيما دبابة إسرائيلية تظهر فى الأفق البعيد. وما أن يستقر بهم المقام إلا ويجدوا أمامهم خياما مكتظة مع قليل من الطعام ان استطاعوا العثور عليه حيث إن الكثير منهم لا يأكل فى بعض الأيام على الإطلاق. ولتقريب الصورة لك أن تعرف ان مجموع المدارس التى تشرف عليها الأونروا وتقدر بـ94 مدرسة – آسف ملجأ – تضم بين جنباتها نحو 670 ألف شخص، وان لكل 125 شخصا حماما واحدا ولكل 700 شخص مكان استحمام واحد.
فى مواجهة المأساة ربما يتفتق ذهنك عن ان النازحين أمامهم البحر فيما العدو خلفهم!! ومن قال لك إنهم لم يفعلوا فهم يستخدمون ماء البحر لكل شيء.. لغسل الملابس وتنظيف أوانى الطبخ وحتى للشرب حينما لا يجدون ماء نظيفا لشربه ويتوسلون للبحارة لمنحهم سمكة أو سمكتين للأطفال.
يقولون ان التاريخ يعيد نفسه.. عندما بدأ الأسبان فى طرد المسلمين من الأندلس عبر المتوسط إلى الجنوب حيث المغرب العربى توجهت كل الآمال إلى الإمبراطورية العثمانية آنذاك ومصر القوية فى تلك الفترة بل وارسلوا رسلا فى طلب النجدة، ولكن خاب املهم بعد ان بدا أن رد الفعل على تلك الطلبات هو أنه لا حياة لمن تنادى.. ووسط أهوال وفظائع تعيدنا إلى ما كان يرتكب فى ذلك العصر، فإن العرب، كل العرب، يبدو أنهم فى كل واد يهيمون إلا وادى إنقاذ النازحين!
اللهم انصر اخواننا فى فلسطين.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: تأملات الطيب صالح
إقرأ أيضاً:
وائل الدحدوح: أتمنى العودة إلى غزة رغم عدم وضوح الرؤية حتى الآن
قال الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح، نحن في نهاية المطاف دفعنا ثمنًا باهظًا لكن هذا قدر رب العالمين، ويجب أن نقبل به ونرضى به ونضعه على العين والرأس، ويجب أن نقبل هذا التحدي الذي أراد من خلاله قوات الاحتلال الإسرائيلي أن تفرض علينا تحديًا ربما يصعب تحمله ويصعب استيعابه.
وأضاف خلال مداخلة هاتفية ببرنامج مساء DMC، المُذاع على قناة DMC، تقديم الإعلامي أسامة كمال، قائلًا: «تحملنا هذا الألم كله، وربنا سبحانه وتعالى أمدنا بقوة وقبلنا هذا التحدي، ولم تستطع قوات الاحتلال وقف مسيرتنا الإعلامية».
وتابع: «تجاربنا مع الاحتلال الإسرائيلي مُرة وغير مشجعة حقيقة، ولكن أعتقد أن الظروف هذه المرة ربما اختلفت نوعًا ما، وبالتالي أصبح لزامًا على الاحتلال الإسرائيلي الالتزام ولو مؤقتًا بهذا الاتفاق، لأن هناك ظروف سياسية تتعلق بالعالم، وظروف سياسية تتعلق بالكيان الإسرائيلي نفسه».
وأكمل: «مازلت أتلقى العلاج، ومازلت لمدة 4 شهور في ألمانيا، وخلال أيام سوف أبدأ المرحلة الثانية من التعافي إن شاء الله، وأتمنى العودة إلى قطاع غزة رغم عدم وضوح الرؤية حتى الآن».