- عشت الحادثة التي دمرت بطلتي بتفاصيلها مع فرق النوايا

- عند الكتابة لا أفكر في القارئ كثيراً ولا بعناصر الإدهاش والحرفية والصنعة

- اقتربت من العمارة في دمشق رغبة مني في مداعبة خيالات الغرباء

- كنت حذرة جداً ولم أتعامل مع الشام كحالة فلكلورية وبيَّنت حجم الابتذال الذي لحق بها

- أحببت دمشق في فقرها وغناها.

. في تهتكها وفي تعاليها.. في خرابها وخندقة مبانيها

- بيروت أُتخمت بالهراء والفشل السياسي والفساد الاقتصادي والتهاوي الأخلاقي

- دبي مدينة فتية جداً تحتفي بالمخيلة وبالشباب

لم يتغير شيء بالنسبة للكاتبة السورية عبير اسبر منذ صدور روايتها الأولى "لولو"، قبل عشرين عاماً، سوى أنها أضافت لقب عائلتها "داغر" إلى اسمها، حتى يفرِّق الناس بينها وبين فنانة تشكيلية اسمها أيضاً عبير اسبر.

ظلت عبير كامنة في الظل، أصدرت عدداً قليلاً من الروايات، وصل حتى الآن إلى أربعة، دون أن تهتم بمن يكتب عنها أو لا يكتب، ودون أن تصارع لتحصل لنفسها على مكان في الصورة، حتى حينما اختارت مهنة أخرى اختارت أن تكون مخرجة وراء الكاميرا. عبير داغر اسبر روائية شديدة التمكن والصدق، أعمالها تشبه صرخات حادة ضد الخوف والزيف والفساد وانعدام الأخلاق وتفسخ المجتمعات وانحدار الذوق. هنا حوار معها حول روايتها "سقوط حر".

- هل قصدتِ البدء بحدثٍ قاس كـ "قتل الأب" لتحققي أعلى ذروة للرواية من أول لحظة؟

• الحقيقة أني توقفت طويلاً عند فعل "قصدتِ" فباعتقادي أن معظم الكتَّاب يحبون الادعاء بأن كل خياراتهم السردية هي خيارات واعية وبالتالي قصدية وأنا مثلهم، لكنه ادعاء ليس صحيحاً أو دقيقاً بالضرورة، وللدقة فإني في "سقوط حر" فعلت كما أفعل عادة في معظم رواياتي، أن أقول نصف الحقيقة، ربما ثلثها، وأبني حول تلك "الحقائق/ الوقائع" تأملاتي. وبالتالي هل سأكون قاسية كثيراً لو أخبرتك أن عبير داغر إسبر عاشت هذه الحادثة بتفاصيلها مع فرق النوايا! وأن عقلي المتأمل الواعي والقصدي أراد أن يقدم كل ما أخافه من تهم وأرميها على هامة شخصية روائية جاعلة منها النموذج الأكمل لـ"البطل المضاد"؟

وبسبب ضميري المرتبك والمرتاع أمام الحقائق، أردت أن تحمل ياسمينا كل صفات شخصية "الأنتي هيرو" التي لا يمكنك التعاطف معها، ومع ذلك عندما تسمع حكايتها تفعل، فكل ما في ياسمينا أتى صادماً، قاسياً ومثيراً للريبة وأحياناً الغثيان، أردت تقديم شخصية عدمية، تحمل الكم الكافي من الشك كي لا تؤمن بشيء ولا تصدق شيئاً، وكي تحقق ياسمينا مصداقيتها الروائية كحاملة لكل تلك الصفات، كان عليها أن تتورط بفعل القتل، قتل الأب.

- حكمتِ على الرواية وعلى نفسك منذ أول لحظة بحرق الحدث الرئيسي.. فهل مثل لك تحدياً شخصياً لك بجذب القارئ إلى النهاية رغم ذلك؟

• عند الكتابة لا أفكر في القارئ كثيراً ولا بعناصر الإدهاش والحرفية والصنعة وما عليَّ فعله أو عدم فعله كي لا أخسر قارئي كما أشرتْ، ما يعنيني هو تسخير كل ما راكمته من معارف وقراءات، وكل ما طورته من حساسية لتلمس طريق مجهول، شديد الرعب والغموض بأكبر قدر ممكن من الصدق الأدبي والمعرفي. وأعتقد أن الوعي هنا يلعب -باعتباره مسؤولاً عن كل الخيارات- أكبر أدواره، فكل قرار يتخذه الكاتب في هذا السياق هو خيار ملزم وواع سيتم التعامل معه بجدية، ويؤخذ في الحسبان حتى انتهاء العمل الروائي.

- قبل أن أنتقل إلى مناقشة تفاصيل العمل أقول لك إن هناك تماساً في دوافع القتل بين بطلتك وبطل غريب ألبير كامو، وهو "الحَرُّ الخانق" لحظة ارتكاب الجريمة، مع الإشارة إلى أن هناك دوافع أخرى لدى بطلتك طبعاً، ما رأيك؟

• أوافقك جداً.. لقد أردت مداعبة الفكر العدمي الذي يناسب ترددي ولايقينيتي، فتركت ياسمينا تقتل أباها لأنها ببساطة تستطيع أن تفعل. ولأنه لا يهم أن تكون أسبابها قاهرة كي تفعل، فالجنون الذي عاشته تلك المدينة في لحظات مخاضها في 2011 لن يماثله عبثٌ سوى أن تُرتكب الجرائم للاشيء، فهكذا كانت "الشام" بجغرافيتها مكاناً بزعيقه وحره وعبثيته يسبب الجنون ويمكِّنك من القتل بصفاء سفاح، حتى لو قتلت أباك.

- هل يمكن اعتبار روايتك عملاً عن تحولات المدينة التي مرت بأطوار مختلفة، من التقشف إلى سيطرة الاستهلاك والسطحية، ثم تحولها إلى مدينة للموت والأموات؟

• العمل عن تحولات البشر أنفسهم، سواء كانوا دمشقيين أو من وفدوا إلى الشام من أمكنة أخرى، عن المركز المشتهى والهامش المنفي، عن الحجيج إلى المكان الذي نبغي وصولنا إليه وقد يكون بيتاً، منصباً، أو حبيبة. عن السير إلى تلك المدينة المبتغاة، عن إتيانها من فراغ، من هيولى، من اللاقوام. فحكاية الشام، حكاية الريف والمدينة سهلة التفاصيل، المتوقعة والمتنبأ بها ظلت ولا زالت صالحة لتروى حتى الآن. فالمرثيات واللطم ودق الصدور وشق الأثواب لا زالت تمارس على روح تلك المدينة في الخفاء والعلن.

- الرواية مشغولة كذلك بالمعمار، كتأمل تفاصيل بيوت الشام التي تفتح أبوابها ونوافذها على الداخل.. هل كان الهدف وضع أسباب للهوَّة بين مارلا وذوقها الأوروبي وزوجها الطبيب الغارق في شهرته وتمدد نفوذه؟

• اقتربت من تحليل العمارة في دمشق رغبة مني في مداعبة خيالات الغرباء عنها، فالرعب والحسرة من الترييف متجذران في ذاكرة هذه المدينة. مارلا التي امتلكت "المدينة/ الشام" -دون عناء- لم تعان من النفي كما عاناه خليل ابن الريف. وبالتالي استطاعت أن تكره دمشق وتنتقد عمارتها، لأنها في حيازتها وحيازة عائلتها منذ قرون، بينما ظل خليل يترنح تحت تأثير جمال تلك المدينة المخدِّر.

- بهذه المناسبة.. لماذا فضلتِ استخدام مفردة الشام على دمشق؟

• هل باستطاعة أي قاهري أن يشير إلى القاهرة كقاهرة، بالنسبة له هي مصر.. وهكذا هي الشام لسكان سوريا.

- البطلةُ أحبَّت أمها مارلا رغم أنها هربت وتركتها مع الأب.. لماذا؟

• ياسمينا لم تكن ممن يستطعن أن يحببن أحداً، هي فهمت أمها لأنها مضطرة أن تفعل، كما تفعل الضحية عندما تعي أن جلادها أكثر بؤساً من أن تنتقم منه. فغفرت لها كما نغفر للمعذبين أخطاءهم.

- هل الرواية هي أيضاً عمل عن الخوف؟ الخوف من الفقد؟ الخوف من العيون المتلصصة والجبابرة؟

• العمل عن الخوف بالتأكيد، الخوف من الواقع، من البذاءة، وانفلات الجسد في خرابه، في نسيانه وفي وعيه بالمأساة، الخوف من المعتقلات وتعقب تاريخ الألم الإنساني غير الضروري، عبر العصور.

- هل يمكن وصف البطلة ياسمينا خليل داغر بـ"اللامنتمية"؟

• لقد حاولت أن تكون كذلك، حاولت أن تنجو من الانتماء، من الذاكرة بتفتيتها على الأرصفة وفي المطارات ونثرها في طرقات المدن الغريبة وفوق أجساد العشاق، لكنها فشلت وعادت لتموت في مدينتها.

- لماذا صار على الفرد أن يخجل من كونه ريفياً في سوريا ولماذا لم يكن هذا هو الحال في عقود قديمة؟

• الحقيقة أن ما حصل هو العكس فبحكم وصول رجل إلى السلطة في السبعينيات، وهو من أصول ريفية، أتى الترييف المبتذل والانتهاكي للمدن بمجملها، فصار من المحبذ الإصرار على استخدام لهجة ريفية "ساحلية" في دمشف مثل "كود" للسلطة، بحيث لبست تلك اللهجة لبوساً طائفياً كريهاً. وللنجاة وللخوف ولأسباب مركبة ومعقدة تواطأ الجميع على فعل ذلك الترييف من سكان المدن ذاتهم، فخسر الكل أمام سلطة ادعت أنها تناصر العمال والفلاحين وصغار الموظفين، سلطة أتت لتحكي باسم الفقراء وعن الفقراء، ثم أصرت على تمركز الكادرات السياسية والخدمية والتعليمية والاقتصادية في العاصمة، ساحبة البساط من تحت بقية مدن سوريا، وخاصة حلب مدينة سوريا الأجمل والأكثر كمالاً.

للملاحظة "أنا هنا أحلل كروائية" ما حصل ليس لانبهاري بالمدن أو لأنني متعالية على الريف، فأنا ابنة ريف حتى النخاع، شربت روح القرى واندغمت بها، قريتي "مقلس" التي تحدثت عنها طويلاً، لم يكن يتجاوز عدد سكانها بضع مئات عندما وُلدت، وهي منفية... تصلها "البوسطة" مرة في اليوم، وتائهة بضبابها بين أحراش الكستناء وعواء بنات آوى!

- استخدمتِ بعض مفردات اللهجة الشامية بحذر شديد أو فلنقل بنسبة ضئيلة للغاية لماذا؟

• الحقيقة أني كنت حذرة جداً ولم أتعامل مع الشام كحالة فلكلورية وبيَّنت بكثير من الوضوح حجم الابتذال الذي لحق بهذه المدينة بسبب تحويلها وتحويل تقاليدها وعادات رجالها ونسائها وحتى عماراتها إلى مطاعم سياحية ومادة استهلاكية لمسلسلات "البوجقة" وهو التكلم بمحلية شديدة ومبالغة بلهجة أهل الشام.

- ولماذا طغى السرد والاستبطان بينما بدا الحوار شبه غائب؟

• لا أحب استخدام الحوارات إلا لتحديد "التون"، أستخدمه كضربة فرشاة فوق صفحة بياض، كأنه لحظة الصمت في قطعة متواترة الإيقاع، أفضل أن أسرد الحدث، تاركة شخصياتي لتفعل ما تريد قوله. أن تمارس أفعالها تحت سمع وبصر القارئ، هكذا دون وسيط يسمى حوار.

- يمكن تفسير كل شيء في هذه الرواية كذلك بالسياسة.. فهل السياسة تتحكم في الحياة وكذلك الفن؟

• انشغالي الحقيقي لم يكن سياسياً بالمعنى المباشر على الرغم من حضور الأحداث السياسية وخاصة الثورة السورية بتفاصيلها وإحالاتها، لكن رغبتي الأشد الحاحاً كانت نقل روح هذه المدينة على الورق بأشد أصالة وإخلاص ممكنيْن، وهنا كان التحدي الهائل، إذ قلت سابقاً إني كاذبة وأفاقة في كل ما يتعلق بالشام، فحبي لها لم يكن غير مشروط، بل مكبل بآلاف من تلك الشروط. لقد تعلمت أن أحب الشام على مهل، أحببتها بعقلي، وعلى يد الغرباء والعشاق والأصدقاء، تعلمت أن أحبها لأني درستها كطالب عليه أن يأخذ علامة تامة كي يستطيع أن ينتمي لها، تعلمت استقراء منمنماتها وفسيفسائها على يد السينمائيين والتشكيليين والرواة. صرحت مراراً أني لا أحبها وهاجمت كليشيهاتها، من ياسمين ونارنج وبحيرات مياه دافقة، لكن ما حصل عندما غادرتها إلى الصقيع الكندي أن تفجرت في وجداني تلك المدينة إلى ألف ذكرى وحدث، فلم أعد أستطيع التوقف عن استحضارها، فانبعاث عبقها، تعرجات حاراتها، مطبخها العريق، وعمارتها الخلابة كان لها تأثير النشوة، والذاكرة حضرت بحالتها العليا والأشد تكثيفاً كمؤرخ، أحببتها في فقرها وغناها، في تهتكها وفي تعاليها، في خرابها وفي خندقة مبانيها الصلدة كسر لا يمكن البوح فيه، دمشق مدينة لا تتقن الحكي كثيراً، تأتي من تاريخ طويل من اللاإفصاح، تأتي من تحفظ الدمشقيين عن البوح، مدينة راكمت خوفاً ممنهجاً ضد الغزاة وتعلمت أن تخفي جمالها رعباً من معاودة اغتصابها مرة بعد مرة على يد سفاحين قدماء وجدد.

- هل حرك ياسمينا إحساس قديم بالذنب تجاه أسامة بعد وشايتها به، وهذا الإحساس دفعها لحمايته من الحرس الذين اقتحموا البيت؟ ولماذا عادت لخيانته بعد الوداع الأخير بينهما؟

• ياسمينا هي كتلة إحساس بالذنب تتحرك على هذه الأرض وهي تترنح تحت وقع ضربات الحياة، بينما يصرعها وعيُها بحقيقتين متناقضتين، وتتنازعها رغبات كثيرة، أولها أن تكون شجاعة، متفانية، مضحية وعلى قدر المسؤولية، فهي تريد أن تكون ابنة مثالية وترافق والدها مريض الألزهايمر في رحلته الجحيمية، تريد أن تحب أمها التي هجرتها، تريد ألا تشي بأسامة حبيبها حتى لو صُفعت واشتمت روائح فم كريهة، وبللت ثيابها رعباً من الاعتقال بينما هُددت بالاغتصاب. تريد أن تكون قوية وشجاعة ومثالية، لكنها وفي الوقت نفسه لم تستطع إلا أن تلحظ اللاإنسانية والبذاءة والإجرام ممن طلبوا منها بطولة تعجز الألهة عن تأديتها! وهذا ما يُطلب من شعوبنا الآن، يطلب منهم أن يتصرفوا في صمودهم وصراع البقاء الذي يخوضونه كأبطال لا يقهرهم الشك ولا الأسى ولا حتى الجبن.. يريدون من الكل أن يصبح بطلاً فهل هناك ما هو أكثر ابتذالاً وقسوة من طلب كهذا؟ كل ما أرادته ياسمينا أن تكون ضعيفة وأفاقة وخائنة، أي أن لا تكون بطلة لأنها إن قدرت أو احترمت شيئاً في حياتها فهو القدرة على أن تكون ضعيفة، فهي لم تحترم شيئاً كما احترمت الضعف البشري.

- لماذا تحولت بيروت إلى مدينة جامدة؟ وهل كان ذلك التحول سببه أنها أُتخمت بالسوريين؟

• بيروت مثلها مثل كل مدننا، أُتخمت بالهراء. بالفشل السياسي، بالفساد الاقتصادي، بالتهاوي الأخلاقي، بالمعنى الإسبارطي، بالحق والفضيلة والجمال.. عندما تحدثت عن بيروت، تحدثت عن المدينة الحاضنة التي شكلتها في الستينيات، عندما أعاد الغرباء تشكيل منمنماتها وفكرتها عن ذاتها، عن المثقفين العرب.. وعندما عدت لرثائها، رثيت كل ما مات فينا بعد حروب كثيرة.

- لماذا وصفتِ دبي بأنها مدينة لا وقت لديها للذاكرة؟

• لأنها مدينة فتية جداً.. لأنها "حالة" تحتفي بالمخيلة وبالشباب، لأنها تسكن المؤقت الذي قد يستمر سنوات كثيرة، لكنها ليست هناك كي تمتلكها، فهي مدينة لا تلعب الوراثة فيها دورها كحامل للتاريخ وللذاكرة بالمعنى "الفردي/ الشخصي" للأفراد. دبي هي قصتك الشخصية معها. فهي تتشكل الآن تحت سمعنا وبصرنا، مدينة عندها حكاية. أنا صرحت مراراً بأني مفتونة بحالة دبي الجمالية وأنتظرها لتطور معنى خاصاً بها.

- هل كان يجب أن تنتهي الرواية بسقوط ياسمين من نفس السلم الذي سقط منه أبوها؟

• لا أعلم الحقيقة إن كان يجب أو لا يجب.. ما أعلمه أني لم أجد ما أفعله بياسمينا إلا أن أرحمها من عذابها وتيهها وهذياناتها وهي تسير بكيس الجثث على ظهرها، إلا بأن أغلق دائرة البذاءة والعنف من حولها وأرسلها للموت..

- لماذا تصرين على كتابة اسمك الثلاثي؟

• سأوشوش لك بحقيقة صغيرة، هناك فنانة تشكيلية سورية اسمها عبير اسبر وهي تقريباً في نفس عمري ومن مدينتي حمص! وكي أحل هذه المشكلة أضفت اسم عائلتي داغر كي أُميز نفسي بالاسم، وأعتقد أنها تعاني من نفس سوء التفاهم الذي أوقعنا فيه العم "غوغل".

- كيف استفدتِ من كونك مخرجة سينما؟

• استفادتي من السينما لم تكن مباشرة، أنا مفتونة بالاختزال، بالصورة، بالبناء المتسق وأعتقد أن تلك الصفة قد يملكها كل من هو غير سينمائي أيضاً، الاستفادة الحقيقية تكونت من تطوير علاقة مميزة مع الثقافة بمجملها من فلسفة، إنثروبولوجيا، تاريخ وفنون.

- لديك أربع روايات فقط.. فهل ترين أنك مقلة في النشر وهل يشغلك هذا؟

صدرت "لولو" روايتي الأولى منذ عشرين عاماً وخلال الخمس سنوات اللاحقة صدرت لي "منازل الغياب" و"قصقص ورق"، وظننت عندها أني سأتوقف عن الكتابة، وأتفرغ للإخراج، لكني لم أفعل، ثم كتبت "سقوط حر" على امتداد عشر سنوات، ولولا محنة اللجوء وسؤال الهوية الحارق لما كتبتها، قد أبدو مقلة لكني وبأمانة كافية لم أستطع تصديق صفة الروائية إلا مؤخراً جداً، فبعد خمس سنوات من نشر "سقوط حر"، تصدر روايتي "ورثة الصمت" وقد أخذت في كتابتها الكثير من الجهد، ليس النفسي فقط بل البحثي أيضاً، وأنا أتطلع لصدورها وأترقب كيف ستُستقبل وهذا ما لم أفعله في رواياتي السابقة.. أعتقد أني أصبحت روائية على مهل، وقد يصدقُ وصف "مقلة" بهذا المعنى.

- ولماذا لم تفكري في إصدار أعمال قصصية؟

• أجد أن كتابة القصة القصيرة محنة واختبار حقيقي لمقدرتي على الكتابة، حاولت أن أكتب قصة قصيرة، على استعجال ودون جدية كافية وكنت شديدة الواقعية ولم أترك نفسي لتقع في ضلال. أنا عاجزة عن كتابة القصة القصيرة، هي فن مختلف تماماً عن الكتابة الروائية، صعب جداً وتلزمه أدوات لا أملكها، ما هي تلك الأدوات؟ لا أعلم بالظبط . لكن الشيء الوحيد الذي أدركته عند خوضي لتلك التجربة هو أني لا أستطيع أن أترك شخصياتي باكراً وفي القصة القصيرة أعتقد أنك تفعل.

- وما الخطوط العريضة لمشروعك القادم؟

• "ورثة الصمت" تُعنى بالأسئلة الحارقة التي تؤرقنا الآن، تبحث سؤال الهوية وتقدم رؤية متطرفة قليلاً قد لا تعجب كل من يخلط سؤال الهوية بالسؤال الحقوقي، بسؤال الاضطهاد، واستلاب التاريخ والأرض بمعناه الإنساني الشامل، رؤيتي تعارض فكرة الهوية "أي نقاءها، نخبويتها، صفاءها" متتبعة خريطة اللغات وكيف بنيت واشتبكت السلالات اللغوية مع السلالات الإنسانية. فمن راقب بانتباه كيف انجدل التاريخ الانساني بشكل لا يمكن فكفكته دون اللجوء لحضور الآخر وذكره، كيف غمسنا أيدينا ولو لغوياً وانهمكنا بصنع جديلة هائلة وأرخيناها فوق كتف حكايتنا، الحكاية الإنسانية، لوجدنا أنه ليس من الجهل وحده، بل من الغباء أيضاً التحدث عن نقاء الهوية. وهذا ما لا نفعله بالطبع لأن هذا الخيار بحاجة لكثير من الشجاعة، وقد اكتشفنا ولا زلنا نكتشف أن التاريخ يصنعه الأغبياء والمتطرفون لا الشجعان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تلک المدینة الخوف من أن تکون لم یکن

إقرأ أيضاً:

حروب مصر وتركيا وإيران مع إسرائيل بين الحقيقة والتهويل؟!

بينما تخوض إسرائيل ثلاثة حروب عدوانية فعلية تحولت الأنظار أو تم تحويلها عمدا إلى ثلاثة حروب أخرى محتملة باعتبارها الخطر الأكبر الماثل الذي تواجهه هذه المنطقة المنكوبة.

تخوض إسرائيل حرب إبادة وتهجير في الضفة وحرب إبادة وتجويع وتهجير في غزة.

تخوض حربا ضد لبنان للقضاء على استعادة مقاومته لعافيتها وجعل نظامه السياسي عجينة طيعة في يده. وتخوض حربا للاستيلاء على جنوب سوريا وتحويل دمشق لبلد منزوع السلاح والسيادة.

إلا إنه في غضون ذلك دقت أجراس الخطر تنذر بأن إسرائيل قد تدخل حربا إمّا مع تركيا وإمّا مع مصر وإما مع إيران.

في الحالة التركية وعلى الأرض السورية التي يتنازع عليها الطرفان، شنت إسرائيل غارات على مطارات سوريا، تدّعي إسرائيل أنها قامت بتدميرها لأن تركيا كانت تخطط لتحويلها إلى قواعد طيران ودفاع جوي تابعة لها قد تهدد إسرائيل.

التحذير من حرب محتملة بين مصر وإسرائيل كان قد بدأ بوتيرة منخفضة بعد طوفان الأقصى بنحو شهرين مع إعلان إسرائيل عن خطتها لتهجير الفلسطينيين في غزة إلى سيناء، ارتقى إلى وتيرة متوسطة عندما احتلت إسرائيل محور «فيلادلفيا» منذ ما يقرب من عام منتهكة اتفاقيات السلام مع مصر. ولكنها وصلت لذروتها الإعلامية في الأسبوعين الأخيرين مع بدء الإسرائيليين حملة تزعم أن مصر أنشأت بنية تحتية عسكرية هجومية في سيناء بالمخالفة للاتفاقيات، أي أنها مع ارتفاع مستوى تسليح جيشها في العقد الماضي ربما تخطط لمفاجأة إسرائيل بحرب على غرار حرب أكتوبر ٧٣.

أما الحرب بين إيران وإسرائيل فعادت نذرها مع إعطاء ترامب الشهر الماضي مهلة شهرين لطهران للدخول في مفاوضات حول برنامجها النووي أو التعرض لهجوم جوي مؤلم. وجرى بعدها تصعيد الحشد العسكري في المنطقة وإعلان واشنطن عن تطوير صواريخ تحمل قنابل قادرة على اختراق تحصينات الموقعين النوويين الإيرانيين. هذه الحروب الثلاثة غير مطروحة جديا على المدى القصير رغم اختلاف نمط العلاقة «التحالف الاستراتيجي» التي تربط القاهرة وأنقرة مع واشنطن عن العلاقة «العداء الاستراتيجي» التي تربط طهران بواشنطن وتل أبيب. اختلاف نمط العلاقة بين أطراف الإقليم الثلاثة الأصيلة مع المعربد الإسرائيلي وداعمه الأمريكي لم يمنع من وجود أسباب مشتركة بين هذه الأطراف ترجح عدم نشوب الحرب في المدى المنظور.

هذه الأسباب يمكن إجمالها في الآتي:

الدفع لحافة هاوية الحرب ليس شرطا لنشوبها بل يكون ـ في أحيان ـ سببا في منع حدوثها بتفضيل أطراف للتفاوض بدلا من القتال أو لجوء أطراف أخرى للتراجع والتنازل بفعل الردع الذي حققه خصمها. من المؤشرات على التراجع عن حافة المواجهة تحت الضغط في الجبهة التركية - الإسرائيلية التي تتخذ من سوريا العربية مرتعا لها يقول الأتراك الآن بعد الغارات إنهم لا يسعون لمواجهة مع إسرائيل وهناك مؤشرات على أن أنقرة قد تتراجع عن خطة نشر صواريخ دفاع جوي وطائرات في سوريا. هناك مؤشرات أيضا على أن الإيرانيين الذين رفضوا المفاوضات المباشرة مع واشنطن قد يقبلوا بها لاحقا إذا حصل تقدم جدي في المفاوضات غير المباشرة.

إسرائيل بحكم طبيعتها ككيان توسعي ستصل عند نقطة ما وبصورة متدرجة إما لمواجهة مع دول عدة في المنطقة ولكن الحرب مع مصر أو ومع تركيا ليست من الأولويات الحالية لها. أولويات إسرائيل الإقليمية مدعومة من إدارة ترامب تنحصر راهنا في ٣ أهداف أساسية:

في الجبهة - الفلسطينية استكمال الاستيلاء على أكبر قدر من الضفة الغربية وتقسيم ما تبقى من فتات إلى سبعة كانتونات فلسطينية منعزلة عن بعضها تتحكم إسرائيل فيها وتقسم قطاع غزة لخمسة مناطق منعزلة «خطة الأصابع الخمسة» تمهيدا على المدى الأطول لتنفيذ مخطط التهجير الفلسطيني من كليهما والحصول على نحو ٩٠٪ من فلسطين التاريخية كدولة يهودية عنصرية.

الهدف الثاني هو استكمال تقويض محور المقاومة المرتبط بإيران قبل الالتفات لإيران نفسها أي أن التركيز الإسرائيلي الآن هو استكمال تدمير حماس في غزة وفي الضفة وتدمير حزب الله في لبنان، وبالتعاون أو بالاعتماد على الأمريكيين العمل على تدمير الحوثيين في اليمن.

الهدف الثالث هو إخضاع بلاد الشام لهيمنة إسرائيلية تتضمن نزع سلاح المقاومة في لبنان ونزع سلاح الدولة في سوريا والاستيلاء على مواقع استراتيجية في كليهما وبإخضاع هذه الدول للدخول في عملية التطبيع.

إذا نجحت إسرائيل وأمريكا في إنجاز هذه الأهداف من الحروب القائمة وهو أمر مشكوك فيه ستلتفت أول ما تلتفت إلى إيران العدو الإقليمي الحقيقي المستقل عن الإرادة الأمريكية والرافض لأي هيمنة إسرائيلية على الشرق الأوسط.

وهنا فإن أنقرة الشريك الاستراتيجي لواشنطن في حلف الناتو- ومهما استخدمت حكومتها من خطاب معادي لإسرائيل- ليست أولوية للسلوك العسكري الإسرائيلي الحالي. الحرب أيضا مع مصر ليست أولوية لإسرائيل في حرب مع مصر هو إيذان بعودة الصراع العربي/ الإسرائيلي إلى مرحلة العداء الشامل وينقلها مرة أخرى معسكر العداء للولايات المتحدة وهذه خسارة استراتيجية أكبر من أن تتحملها أمريكا وليس فقط إسرائيل فكل هندسة الشرق الأوسط الأمريكية مبنية بالأساس على نهاية عصر التحرر الوطني ومعاداة الإمبريالية وانتقال القاهرة لمعسكر الغرب الرأسمالي.

سبب آخر هو أن القيادة السياسية لا تميل إلى التورط في هذه الحرب أو في التجاوب مع سلوك إسرائيل الاستفزازي. قادة الدول الثلاثة الأصيلة في المنطقة يعرف على حدة أن الحرب تتضمن احتمالا ولو كان ضئيلا بالخسارة وهذا معناه أن هذه القيادة ستكون مضطرة للخروج من الحكم إذا منيت بهزيمة أمام إسرائيل الدخيلة على الإقليم. اللافت أن هذا هو حال نتنياهو أكثر من الجميع فرغم تبجحه بأنه سيغير خريطة الشرق الأوسط وينتصر على كل الأعداء فإنه ليس مندفعا كما هو حاله مع الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين.. فهو يعلم أنه كان قد نجا من الخروج من السلطة بعد هزيمة السابع من أكتوبر فإنه قطعا سيخرج مجللا بالعار إذا هزم في حرب مع طهران أو أنقرة أو القاهرة.

المنظومة العسكرية في البلاد الأربعة ليست أقل حذرا. إيران مثلا تحتاج فترة لاستعادة قوة منظومة دفاعها التي تضررت بقسوة من الهجوم الإسرائيلي الأخير. وتركيا ربما لديها مخاوفها من مواجهة مع الجيش الإسرائيلي في سوريا المتفوق فيها جويا وميدانيا. اللافت أيضا أن الإسرائيليين يخافون من حرب من هذا النوع ففي تقديراتهم أن الجيش يحتاج لفترة حتى يستعيد قوته المنهكة ويعيد بناء فرقه البرية.

الدور الأمريكي رغم التطابق الأيديولوجي بين نتنياهو وترامب إلا أن هناك حدودا لن تسمح واشنطن لإسرائيل بتخطيها كأن تؤدي هذه العربدة بتهديد بقاء النظامين الحليفين للولايات المتحدة في مصر والأردن أو إشعال منطقة الخليج، كما لن تسمح بأن تخرج دولة بوظائف شديدة الأهمية مثل تركيا من عضوية الناتو. دور ضابط التفاعلات الصراعية بين إسرائيل وحلفائها العرب والأتراك من جهة قد يمنع تحويلها حروبا فعلية. دعوة ترامب لكل من نتنياهو والسيسي لزيارة واشنطن على التوالي خلال الشهر الجاري تشير إلى تدخل أمريكي لمنع إلحاق الأذى بما تعتبره أحد أكبر إنجازاتها الاستراتيجية وهو إخراج مصر من الصراع مع إسرائيل. وحتى مع عدوتها إيران هناك تفضيل أولي لدى فريق ترامب لتجريب الضغط المؤلم على إيران التي يعاني اقتصادها بشدة لتقديم تنازلات قبل الذهاب للحرب غير المضمونة مع عدو لا يستهان به.

هذه هي حقيقة الاحتمالات المحدودة للحرب في أي من الجبهات الثلاثة التي تم فيها قدر من التهويل في الفترة الماضية.. وبالتالي لابد من الالتفات إلى أن تضخيم إسرائيل لحروب لن تحدث قريبا يساعد في تحويل الأنظار عن الحروب الثلاثة الإسرائيلية الدائرة فعليا في فلسطين ولبنان وسوريا ويعطيها كل الوقت للاستيلاء على كامل فلسطين وتثبيت لإسرائيل كقوة مهيمنة على بلدان المشرق العربي. كما يعطي فرصة للنظام الرسمي العربي للإيحاء لجمهوره الغاضب من أنه حقق إنجازا بتفادي الدخول في حرب جديدة. على أن الحقيقة تقول: إن منع حرب مع إسرائيل دون وقف حرب الإبادة في غزة ومنع مخطط الاستيلاء على الضفة إنما يؤجل فقط استفراد إسرائيل بوحدات هذا النظام لاحقا بعد إكمال هيمنته على فلسطين وبلاد الشام.

حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري

مقالات مشابهة

  • يرصد معاناة المهاجرين غير الشرعيين لأمريكا.. حسام داغر يكشف تفاصيل فيلم 40 يوم
  • حروب مصر وتركيا وإيران مع إسرائيل بين الحقيقة والتهويل؟!
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • الإهمال يطارد مدينة سلا.. هل قدم مجلس المدينة استقالته ؟
  • الحقيقة والتهويل
  • سوريا اليوم: عناصر لقراءة سوسيولوجية- تاريخية حول الراهن
  • تحريض إسرائيلي ضد وزير سوري في الحكومة الجديدة بسبب طوفان الأقصى (شاهد)
  • ضبط شخص ادعى القبض على شخص متلبس بالقاهرة على غير الحقيقة
  • رئيس مدينة بورفؤاد : استمرار حملات مجابهة ظاهرة فارزي القمامة بنطاق المدينة
  • مراسل سانا في حلب: قوات الجيش العربي السوري تصل إلى محيط مناطق قوات سوريا الديمقراطية في مدينة حلب وتؤمّن الطريق الذي سيسلكه الرتل العسكري المغادر من حيي الشيخ مقصود والأشرفية باتجاه شرق الفرات