ليس هناك تاريخ لقصيدة النثر في فلسطين، فهي لم تأتِ ضمن تيار متكامل أو جيل محدد، وهي ليست راسخة بالقدر الذي يمكن أن نفكر ببداياتها، لكن الشعراء القليلين الذين اقترفوها بقناعات قوية ورؤية ناضجة يصرون على أنها الطريق الأمثل في تمثل وعكس ومقاربة تفاصيل الحياة المعاصرة بأبعادها النفسية والحضارية والاجتماعية الجديدة، أبرز كتاب قصيدة النثر في فلسطين هو عثمان حسين، وعثمان لم يكتف بكتابتها فقط بل أسس مجلة للتنظير لها والدفاع عن حقها في الوجود.

أمامنا ديوان عثمان المختلف، صدر هذا العام عن دار الكلمة للنشر والتوزيع في غزة وشاعرنا ابن مدينة رفح في غزة وأحد أهم شعراء فلسطين، الذين رسموا معالم الشعر الفلسطيني الحديث أواخر الثمانينيات، ليس هذا فحسب، عثمان أحد أهم منشطي الحياة الثقافية في فلسطين من خلال مجلته الشهرية الشهيرة التي أسسها «مجلة عشتار» وكان لها دور واضح في ترسيخ والبحث عن النص الحديث في المشهد الإبداعي الأدبي الفلسطيني، وفي صفحات هذه المجلة التي توقفت قبل عقد من الزمان لأسباب مالية، قدمت مجلة عشتار للوسط الثقافي الفلسطيني عددا من الأسماء المبدعة التي أثرت الحياة الإبداعية وطورت وغيّرت ذائقة الفلسطينيين الأدبية، على رأس هؤلاء الشاعر العكاوية غادة الشافعي صاحبة النص المفاجئ الذي هبط على الثقافة الفلسطينية، محدثًا إرباكًا جماليًا وجدلًا كبيرًا.

وتأثر بعالمها شعراء شبان كثيرون، إن شاعرا مثل عثمان حسين له كل هذا التأثير والإلهام، في المساهمة مع آخرين طبعًا في تشكيل حياة ثقافية حديثة وعميقة، لا بد أن يكون اقتراحه الشعري الشخصي مثيرًا للاهتمام، فجزء كبير من هالته الثقافية هي نصوصه المختلفة التي كسر بها أفق توقع الذوق الفلسطيني. في ديوانه الجديد، وهو من القطع المتوسط، ويضم ما يقارب 30 قصيدة نثر، يواصل عثمان كتابه نصه الشعري النثري الخارج من الاعتياد:

أبحث عنك

متسلحا وعارفا أنك لم تفهم معالم الطريق

مسترشدا بوقفتك الخجولة أمام شجيرات إكليل الجبل

ممسدا رؤوسها.

بحثت ولم أجدك.

تركت لي لحظة العثور عليك

أهديتني وقتا رجراجا،

فرحة الكائنات وظلالها.

لكني وجدتك حالما

سريع العطب.

تشع قصيدة النثر في كتاب عثمان، صارمة وواثقة وتعرف إلى أين هي ذاهبة، فالشاعر الذي اقترب من الستين والذي خاض التجارب الحياتية المختلفة وتنقل بين مدن كثرة وقرأ كثيرا، وكتب كثيرا، يعرف تمامًا أنه لا يستعرض نهجًا جديدًا ولا يبغي إبهار قارئ ولا الزعم بثروته اللغوية، إنه يعبّر عن واقعه وهواجسه وسياقه بلغته الجديدة وصياغته الشعرية رآها مناسبة لذلك، وكما في حياته تمامًا لا يستعرض عثمان ثقافته ولا يبحث عن ضوء أو كاميرا أو دعوات لمعارض كتب أو أمسيات، التعفف والصدق مع الذات والنزاهة في العلاقات، عكست نفسها في طبيعة نصه الساخن المتفجر صدقًا وانسجاما، فلا نجد صراخا في فضائه الشعري أو فذلكات لغوية أو تشنجا في الصورة الشعرية أو مجازا مفتعلا:

أشعر أن لغتي أكل عليها الدهر وشرب،

وأنه قد مسها الضعف والذبول

لكن الهوان أصابني فلم أستطع أن آكل وأشرب كالدهر،

حتى أنني لم أنهش كتف اللغة كعادة الشعراء الذين يلخّصون الحياة بخيال لا يهدأ،

واشتقاقات جارحة، للمخيال العام.

عثمان من الشعراء الأذكياء الذين لم يسقطوا في هوة المباشرة والتصوير الفوتوغرافي للألم الفلسطيني، فهو أستاذ في التخلص من هذه الطريقة في مقاربة الهم الوطني، وهو يعرف أنه يستطيع أن يكون فلسطينيا جدا حتى وهو يكتب نص الومضة الشعرية النثرية الشخصية والوجودية الذي خلخل به نسق الكتابة الفلسطينية السهلة والمتكئة على الشعار والصراخ، يقول في حوار قديم مع الكاتب وحيد تاجا:

«المعلوم أن القضية الفلسطينية من أعدل القضايا على وجه الأرض، والعدل قيمة أساسية من قيم علم الجمال، فكيف لي كشاعر أو كأديب ينتمي إلى هذه القضية العادلة ولا أمتلك مقومات الجمالي في ما أكتب؟ ولكي أبدو مخلصًا لمفهومي للالتزام لا بد لي من مراعاة شرط الجمالي في نتاجي الأدبي الذي هو تعبير عن عدالة ما أنتمي إليه وأعتقد أن الشاعر يكون أكثر التزاما بعدالة قضيته حين يقدم نصا شعريا جميلا وخالدا».

اللغة عند نصوص عثمان «جوانية» ليس بالمعنى الهروبي الانعزالي، بل بالمعنى التأملي، لا تؤمن بالتفلسف، ولا تدعي احتكارا لحقيقة ولا تحاول إبلاغنا بشيء، هي تصور فقط، وتشير لأشياء ربما تكون أقرب للاحتمال أو الحدس أو الهاجس، النصوص ملأى بالأسئلة، لا إجابات ولا قضايا كبرى، أكبر شيء في نصوصه هو السؤال:

مزهوا

يملأ رئتيه بغبار الفجيعة،

يزفر مترنحا بفرح غامض،

كمن نجا من سقفين تعانقا

وأنجبا نهرا غامرا

يتلوى في مفاصل الوقت.

يجلس عثمان الآن في بيت ابنته المتزوجة مع بناته وبعض كتبه التي حملها من مكتبة بيته الذي تضرر جزئيا، في رفح قرب حدود غزة مع مصر،

ماذا تفعل يا عثمان في داخل هذه الحرب البشعة؟ سألته: ولم يجبني لأن النت هناك مقطوع ولا اتصالات هاتفية، لكن نصا قصيرا عنوانه (أمل) له في كتابه هذا حارس الضحية تطوع وأجاب:

أعلق جسدي على أمل.

يتعب الأمل.

تقفز فئراتي في بحر لا يضحك

أبحث عن ثقب فيّ

أرشح ثرثرة ونداءات حبلى

يا غزة كوني بردا وسلاما.

عثمان حسين شاعر وإعلامي فلسطيني يقيم في رفح بقطاع غزة، عمل في عدة صحف عربية خليجية، قبل أن يستقر نهائيا في غزة، أسس مجلة أدبية رفيعة المستوى عشتار، إلا أن المجلة توقفت لأسباب عديدة منها شح الإمكانيات وعدم دعمها رسميا، وهي المجلة التي يقول عنها الشاعر باسم النبريص: خلخلت ولو بمقدار قانون السائد الشعري، وغيّرت الذائقة الشعرية التقليدية، وراهنت على الإبداع الحقيقي، وتبنت الأصوات الشعرية الشابة وخصوصا شعراء قصيدة النثر.

مؤسس ورئيس جمعية عشتار للثقافة والفنون، شغل منصب رئيس القسم الثقافي في صحيفة الوحدة الظبيانية الإمارات (1985-1989) وكذلك سكرتير اتحاد الكتاب الفلسطينيين (1991-1993)، كما شغل منصب المدير التنفيذي لمؤسسة بيسان للإعلام (1993-1997) عضو مؤسس في جمعية الفينيق الثقافية فلسطين وشغل قبل التقاعد منصب مدير دائرة الثقافة في مركز التخطيط الفلسطيني وقد أصدر الشاعر «رفح أبجدية مسافة وذاكرة» بالاشتراك مع خالد جمعة (1992) «البحار يعتذر عن الغرق»(1993) «من سيقطع رأس البحر» (1996) «له أنت» (2000) «الأشياء المتروكة إلى الزرقة» (2004) وآخر دواوينه (حارس الضحية) صادر عن دار الكلمة بغزة هذا العام 2023.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قصیدة النثر عثمان حسین

إقرأ أيضاً:

كاتم أسرار ملف قيصر يكشف لأول مرة تفاصيل توثيق جرائم نظام الأسد

وقد لعب المهندس أسامة عثمان، المعروف سابقا باسم "سامي"، دورا محوريا في حفظ وتوثيق هذه الصور التي شكلت أساسا لقانون العقوبات الأميركي المعروف باسم "قانون قيصر".

وفي مقابلة مع بودكاست "ذوي الشأن" الذي يبث على منصة "الجزيرة 360" ناقشت مقدمة الحلقة خديجة بن قنة مع المهندس أسامة عثمان، المعروف سابقا باسم "سامي"، تفاصيل دوره في توثيق وحفظ ملف قيصر، أحد أهم الأدلة على جرائم نظام المخلوع بشار الأسد.

وروى عثمان كيف بدأت رحلته مع الملف عندما اتصل به صديقه "قيصر" ليلا، وكانت صداقتهما تمتد لأكثر من 15 عاما، وأوضح أن قيصر كان ينقل إليه الصور التي توثق آثار التعذيب عبر وسائط رقمية، متحملا مخاطر كبيرة في كل مرة، إذ كان اكتشاف الأمر سيحوله إلى واحد من ضحايا النظام.

وتحدث عثمان عن معاناته الشخصية في التعامل مع هذه الصور المروعة، مشيرا إلى أنه فقد جزءا من قدرته على التعاطف بسبب بشاعة ما رآه.

مواقف صعبة

وأضاف أن من أصعب المواقف التي واجهها كان عدم قدرته على إخبار الأمهات بمصير أبنائهن، حتى عندما كان يمتلك صورا تؤكد وفاتهم تحت التعذيب.

وأكد عثمان أن الشعب السوري دفع ثمنا باهظا من أجل ثورته، رافضا وصف ما حدث بأنه مجرد "حركة تصحيحية".

إعلان

وشدد على أن سلامة سوريا شرط أساسي لسلامة المنطقة العربية بأكملها، داعيا إلى تغيير النظرة التقليدية التي تضع الدولة فوق المساءلة والنقد.

وعن هويته الحقيقية، أوضح عثمان أنه -بحسب "شهادة ميلاد" منحت له- من مواليد ديسمبر/كانون الأول 2014، منحتها له الثورة السورية، مشيرا إلى أن تخلفه عن الخدمة العسكرية كان يمكن أن يكلفه حياته في ظل نظام الأسد.

وختم حديثه برفضه القول إن سقوط النظام يستحق التهنئة بعد، مؤكدا أن الطريق ما زال طويلا أمام الشعب السوري.

2/1/2025

مقالات مشابهة

  • إبراهيم عثمان يكتب: الرصاصة الأولى والتقسيم الأول!
  • جامعة حلوان تطلق قافلة توعوية لمناهضة العنف ضد المرأة بمساكن عثمان
  • ماجدة خير الله عن فيلم "بضع ساعات في يوم ما": أهم أفلام العام الماضي
  • أرتيتا يتحدث عن «الخيبة والإحباط»!
  • باحث: الولايات المتحدة تواصل تقديم مساعدات لأوكرانيا رغم التحديات
  • محمد عثمان ابراهيم يكتب: تستاهلوا
  • فيلم «بضع ساعات في يوم ما» يحصد أكثر من 13 مليون خلال 9 أيام
  • كاتم أسرار ملف قيصر يكشف لأول مرة تفاصيل توثيق جرائم نظام الأسد
  • شاهد.. بمشاركة عدد من الحسناوات.. الفنان عثمان بشة يطلق الفيديو كليب الضجة “جو جبنة”
  • اللواء عثمان: آن الأوان للخروج من دوّامة الخلافات والمصالح الضيّقة