بسم الله الرحمن الرحيم

يزداد إنحدار السودان نحو الهاوية ، و تتفاقم الأوضاع فيه بصور مزعجة و متسارعة، و بالشكل الذي جعله لم يَعُد ذلك الوطن الواعد الذي حلم به الآباء المؤسسون ، و تطلعت له أجيال ما بعد الإستقلال ، و إنتظرته الأجيال الصاعدة اللاحقة.
لقد ظل الوطن لعقود طويلة يئن تحت وطأة مِحَنٍ و إِحَنٍ ، و إبتلاءاتٍ و خيبات سياسية و إقتصادية و مجتمعية ، مما أصبح يهدد بفنائه ، أرضاً و شعباً ، و يستوجب البحث الجاد عن مخرج قد تحتم الضرورة أن يكون غير تقليدي ، و مستنبط من خارج الصندوق ، تطلعاً لبداية جديدة ، و لبعث جديد للوطن ، يكون متحرراً من الأُطر التقليدية التي أوردت السودان و أهله موارد الهلاك و المسغبة المشهودة حالياً في كل نواحيه.



*دعونا نعترف بأننا قد فشلنا كلنا ، مدنيين و عسكريين و تكنوقراط و سياسيين ، في إدارة شئون وطننا السياسية والإقتصادية و الأمنية.*

لقد تعاقبت علينا أنظمة شمولية قاهرة ، و أنظمة حزبية فاشلة ، وتولى أمورنا من خابت آمالنا فيهم من المدنيين و العسكريين منذ جيل الإستقلال و حتى وقتنا الحاضر الذي أكملت فيه ثلاثينية الإنقاذ رسالة الخراب و التخريب بكفاءة شديدة ، و أعقبها مؤخراً غرق تكنوقراط الثورة في بحار الضعف و التردد و فقدان الإتجاه .لهذا أصبح في كل حين يسيطر على البلاد مَن ضَعُفَت فيهم روح الوطنية و صِدْق الإنتماء ، و قويت فيهم الأنانية و التفكير الفردي الذي يجعل الذات هي المِحوَر و ماعداها يذهب إلى الجحيم ، حتى و إن كان الوطن و أهله !!! و لم يكتفي العاجزون بكل ذلك، بل أدخلوا البلاد مؤخراً في حرب كارثية تنذر بشؤم كبير علي الوطن و وحدته ،و علي الشعب و أمنه و إستقراره.

لهذا و لغيره من سلبيات كُثُر لا تخطئها عين المراقب و المتابع من خارج دوائر مَن يُسَمُّون بالمجموعات الفاعلة في الساحة السياسية ، فإني أعتقد أن السبيل للخروج من هذه الورطة القومية لا يتوافر بالطرق التقليدية أو بالوسائل المحلية الجودية..

*لذا فإن إنسداد أفق الحلول المحلية قاد لتفكير جدي راديكالي يرى أن إنقاذ السودان من عبث بنيه و من أحلام الطامعين في أرضه و ثرواته الطبيعية ، و في إمكاناته الإقتصادية ، لن يكون ممكناً سوى بوضعه( مؤقتاً ) و ( إختيارياً ) تحت مظلة الوصاية أو الإدارة الدولية لمدة محدودة ، يكون خلالها تحت رعاية مجلس الأمن الدولي مباشرة. مثل هذا الإجراء إذا تحقق فإنه سيوفر تأميناً فورياً للبلاد مِن أعداءٍ خارجيين يتناوشونها ، و مِن أبناءٍ عاقين يسعون لتمزيقها ، و مِن هواة حُكم مُفتَقِدِين للمقدرات اللازمة لإدارة دولة بهذا الحجم ،و بهذه الإمكانيات البشرية و الإقتصادية و الإستراتيجية ، و الجيو-سياسية مثل التي ينعم بها السودان.*

إن في الوصاية أو الإدارة الدولية المؤقتة ، إذا أُجيد إستغلالها ، سانحة عظيمة لتوفير فرصة جديدة لنا معشر السودانيين للحفاظ علي بلادنا مُوَحَّدَة و آمِنَة ، و لإعادة هيكلة أطرها الإدارية و الإقتصادية علي أسس عصرية سليمة و فاعلة ، و لضمان توطينها من جديد في عجلة الإقتصاد العالمي ، وقفاً للتدهور العام المريع و المتزايد ، و إنطلاقاً بالبلاد نحو آفاق تنمية حقيقية و مستدامة ، و تدريباً لكوادر شبابية جديدة قادرة على إدارة البلاد بإيجابية ، و مؤهلة علمياً و نظرياً و عملياً ، لتنميتها و النهوض بها ، و إستدامة تطويرها.
و لضمان إحداث التغيير المرتقب خلال الفترة الزمنية القصيرة المقترحة لوضع البلاد تحت وصاية مجلس الأمن ، لابد من إعادة هيكلة الدولة. و ترتيب الأمور بشكل مُحكَم و عاجل يقتضي أن تُحكَم البلاد بدايةً بشكل مركزي لضبط الأمن ، وضمان الإستقرار ، و توفير الإحتياجات العاجلة مركزياً..

*و يُقتَرَح أن يتم ذلك في إطار خمس ولايات ، أو أقاليم ، كبرى ، تدار بواسطة إداريين أكفاء، مدركين لأهمية التعاون المنُتِج مع الإدارات الأهلية القائمة ، إلى حين توفير بدائل تُقنِع الجميع بخطل ما نحن فيه من مفاهيم قبلية و جهوية أقعدت بالسودان ، وعطلت تقدمه ،و أصبحت تهدد وجوده كدولة، و وجودنا كأمة سودانية مُوَحَّدَةٍ ذات جذور تاريخية عميقة ، و صاحبة إرث حضاري يحسدنا عليه كثيرون ..*

بجانب ذلك فإن تهيئة السودان للإنطلاق إلى الأمام في ظل إعادة تأسيس و تأمين دولي مُحكَم ، تقتضي إعطاء أولوية قصوى لوضع دستور دائم للبلاد ، وهي المهمة التي فشلت فيها كل الأنظمة التي تعاقبت على حُكم السودان منذ الإستقلال .

لقد بدأ عهد الحرية و الإستقلال عام ١٩٥٦م بدستور مؤقت أعدته ، قُبيل الإستقلال ، لجنة دولية مؤهلة ، و أُجريت عليه تعديلات طفيفة بُعَيد إعلان الإستقلال ليكون حاكماً لدولة حرة و مستقلة . كانت تلك الوثيقة الدستورية المُعدَّلة من أفضل الصِيَغ الدستورية التي شهدها السودان منذ إستقلاله ، حيث أن الأنظمة التي توالت بعد ذلك ، عسكرياً و مدنياً ، حاولت وضع دساتير خرجت شائهة ، و لم تحظ أبداً بإجماع الأُمة السودانية ، ولهذا لم تجد الإحترام الواجب ، حتى من العسكريين و الوزراء الذين قاموا أمام الله و الناس بأداء قَسَم الولاء لتلك النُسَخ المتعاقبة من الدساتير، و الحاملة لشعار الأُمة المغلوبة على أمرها. لذا
فإن أُهل السودان المتطلعين لحياة جديدة آمنة و مستقرة ، و لتنمية حقيقية و مستدامة ، سيكونوا في حاجة إلى دستور دائم مُحكَم ، ذي طبيعة مدنية و إنسانية ، مُستَمدة من تجارب الشعوب التي سبقتنا في سُلَّم الحضارة الحديثة ، و بعيدٍ كلياً عن المفاهيم الدينية و النصوص الشرعية التي لم يُحدِث إقحامها في دساتير السودان المؤقتة المتعاقبة إلا المزيد من التشرذم و التمزق المجتمعي ، والكثير من عدم الإستقرار السياسي الذي أدى في بعض نهاياته المحزنة إلى فصل جزءٍ عزيزٍ من السودان ، كما أدى إلى إذلال الناس عموماً ، و النساء خصوصاً ، فأصبحت الأمهات و الأخوات و البنات يُجلَدن بالسياط ، و على مرأى من الناس، في إنتهاكٍ مخجلٍ لإنسانيتهن ، و إنسانية الذين يشهدون تلك العملية الوحشية التي تُرتكب باسم الدين ، دعك من الذين فقدوا أطرافهم في سرقات جوعٍ ، و أُوقفوا قسراً أمام محاكم بائسة و قضاة شائهين وغير مؤهلين .

*لذلك فإن الأُمة السودانية في حاجة إلى دستور عصري دائم يتمحور حول مفاهيم مدنية بحتة ، يبقى فيها الدين لله و الوطن للجميع .*

و بما أننا قد فشلنا في إعداد دستور دائم ، و مقبول شعبياً ، على الرغم من مضي أكثر من سبعة و ستين عاماً علي الإستقلال، علينا إذاً العهد بهذه المهمة إلى لجنة دولية ، مثل التي تم تكليفها قُبَيل الإستقلال ، و يتم إختيارها من مجموعة خبراء دستوريين دوليين ، على أن تُخضَع مسودة الدستور المقترحة منها لإستفتاء شعبي عام لكي تصبح مُجَازة شعبياً ، و مُلزِمَة للجميع ، إذا حازت على ما لا يقل عن ثُلثي أصوات الرجال والنساء الذين لا تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً . ويمكن إنجاز مسودة الدستور المقترح و إكمال الإستفتاء عليها قبل إنقضاء السنوات العشر المقترحة للوصاية أو الإدارة الدولية ، ليتم علي ضوئها إجراء إنتخابات شعبية في نهاية فترة الوصاية الدولية ، يعود بعدها السودانيون لحكم أنفسهم ، فاتحين صفحة جديدة في تاريخهم السياسي و الإداري.

*في ظني ستكون هناك حاجة لحُكم مركزي قوي ، بِدَايَةً ، لضبط الأوضاع السياسية و الإدارية ، و لإعطاء الأُمة فرصة مناسبة للإستقرار و من ثم للتفكير العقلاني في المستقبل السياسي للبلاد ، و للتحاور التفاضلي بين أنظمة الحُكم المركزية و الفيدرالية ، كأنظمة حكم مستقبلية ، إذ أن الفيدرالية مثلاً قد تكون في نظر الكثيرين هي الحل العملي و السياسي لمشكلات الحُكم المزمنة في السودان ، أو هي ربما الترياق الناجع للصراع ، القديم و المُسْتَحْدَث ، بين المركز و الهامش الذي تنامى مع الأيام منذ إستقلال السودان عام ١٩٥٦م .*

و بما أن إستقرار الحُكم و التنمية المتوازنة والمتكاملة هي من أهم تطلعات المجتمعات ، فربما يكون من المناسب طرح مسودات مشروعين لنظامين دستوريين، أحدهما مركزي و الآخر فيدرالي ، ليختار الشعب أحدهما عبر إستفتاءٍ حرٍ قبيل نهاية فترة الوصاية الدولية. هذا الإجراء يجب أن يسبقه بالضرورة تنوير كافي للشعب ، ليقرر أهل السودان، بحرية ، و عن وعي و إدراك ، ما يريدونه ليكون نظاماً مستقبلياً لحكم وطنهم .

و في خضم البحث عن ترتيبات أفضل لمستقبل السودان ، لا بد من التنبيه لمعضلة كبرى قادرة علي الحيلولة دون التطور المنشود ، و متطلعة دوماً لإرباك المشهد السياسي في السودان ، و تعويق التطورات المنشود توطينها بهدوء و كفاءة.. إنها مؤسسة الجيش و نَزَعَاتِها الإنقلابية المتأصلة فيها منذ الإستقلال . إنه الخطر الحقيقي الذي ظل ، و لا يزال ، مهدداً لطموحات الأُمة ، و مُعَوِّقَاً لتطلعها لحكم مدني ديمقراطي مستقر .

*لذا لا بد من تحييده خلال فترة الوصاية الدولية بإعادة بنائه ، هيكلةً وعقيدةً و تدريباً عسكرياً و تثقيفاً وطنياً ، و تخليصه من الجهوية والحزبية التي أصبحت طاغية عليه و منفية لقوميته ، وفوق هذا و ذاك مُضعِفَةً لكينونته كحامٍ للوطن و للدستور .*

لكن حجم الدمار الذي أصاب بُنية الجيش في ثلاثينية عهد الإنقاذ ، بالذات ، ربما يصعب أو يستحيل علاجه بدون تسريح كامل الجيش الحالي ، و إعادة بنائه كلياً من جديد كمؤسسة مهنية قومية ، مع إيكال أمر حفظ حدود الدولة مؤقتاً إلى قوات أممية إلى حين إكمال تكوين الجيش بصورته الجديدة .. وتسريح الجيش ، أو إعادة صياغته ، تعني بالضرورة إنهاء كل التشكيلات العسكرية الأُخرى ، نظامية كانت أو غير نظامية ، بما في ذلك مجموعات الدعم السريع و كل المجموعات المسلحة المتظللة بإتفاقية جوبا أو أي إتفاقيات أخرى سابقة أو لاحقة لها. و بذا لا يبقى من الأجهزة العسكرية القائمة حالياً سوى الشرطة بمهامها المدنية المتعارف عليها دولياً ، شريطة إخضاعها هي الأخرى لما يعيدها إلى أُطُرها المهنية و المدنية المتعارف عليها دولياً.

من ناحية أخرى ليس بالجيش وحده قد يتزعزع الإستقرار خلال فترة الوصاية الدولية و ما سيليها من حُكم مدني ديمقراطي. فللأحزاب السياسية و منظمات المجتمع المدني ، كالنقابات و الإتحادات و الجمعيات و غيرها ، الكثير من الآليات و النشاطات التي أعاقت في الماضي تحقيق تطلع الأُمة السودانية للإستقرار والتنمية المستدامة. إنها تمتلك الكثير مما يمكن أن تعرقل به الإستقرار المُستَهْدَف للسودان وأهله خلال فترة الوصاية الدولية و ما سيليها من حُكْم ديمقراطي مدني.

*ولهذا من الضروري أن تقتنع القيادات السياسية والنقابية التقليدية بأنها قد نضب معينها ، وضاع السودان ، قصداً أو جهلاً ، بين ثنايا الكثير من نشاطاتها غير المشروعة التي أعاقت إستقرار الحُكم بخاصة خلال الفترات القصيرة التي ظللت فيها الديمقراطية البلاد .*

فلقد رضخت البلاد بما يكفي و يزيد للأحزاب اليمينية الطائفية، و لأهل اليسار العلني و المستتر ، و لجحافل الإسلام السياسي، الصفوي و الشعبوي و الداعشي .. كفى أيها المعنيون. إن الوطن في حاجة إلى تنظيمات سياسية و مدنية جديدة متفهمة لحاجة الأُمة السودانية في ثوبها الجديد المتطلع للخروج من دائرة الفشل المفرغة ، والإنطلاق نحو تكوين أُمة معافاة من كل ما كَبَّلها و عَطَّل حركتها ، وجعلها تتقهقر إلى الخلف بخطى فاقت كل تصوُر وخيال .لا بد من التنحي الطوعي للقيادات التقليدية لكل تلك المنظومات السياسية والنقابية ، و إفساح الساحة لقيادات شبابية جديدة قادرة علي إعادة صياغة أحزابها و منظماتها المدنية القائمة ، أو تكوين بدائل حديثة فكرياً و تنظيمياً .

*فليترك التقليديون الأُمة السودانية لتحقق مطالبها و طموحاتها ، وترسم مستقبلها المرجو ، عبر رؤى مستحدثة ، و قيادات جديدة.*

إن كل ما جرى إستعراضه أعلاه ينبع من مطلب أساسي هو المحافظة علي السودان كوطن ، و علي الأمة السودانية ككتلة حضارية مُمَيَّزَة ، تحقيقاً لإستقرار و تنمية متوازنة و مستدامة ، تسمح بالقفز بالبلاد و بالإقتصاد السوداني إلى الأمام في جو معافى ، و بطرق مبتكرة ، وغير تقليدية. و إقتصادياً ، من الطبيعي أن نتوقع تمحور النشاطات و القفزات أساساً حول الزراعة ، لتضع السودان في طريق الكفاية والتصنيع الزراعي ، تمهيداً للإكتفاء الذاتي أولاً ، ومن ثمَّ الإنطلاق نحو تحقيق حلم أن يكون السودان سلة غذاء الاقليم بما حباه الله به من أرضٍ وماءٍ ومُزَارِع كفءٍ قادر علي العطاء إذا توفرت له الإمكانات الإدارية اللازمة ، و التقنيات الحديثة ، و توفر له التمويل الكافي و العادل ، و الرعاية الإجتماعية التي تجعل منه إنساناً منتجاً بِرِضَىً وكفاءة . و في هذا الصدد فإنه يمكن إستدعاء تجربة مشروع الجزيرة في فترة إزدهاره لِيُبنَى عليها خلال فترة الوصاية الدولية..

*و الإشارة هنا لنظام المشاركة الثلاثية الذي قام عليه سابقاً المشروع ، شركة و حكومة و مزارع ، مع تطوير يرتكز على ما برز في تلك التجربة من إيجابيات ، و تفادي و معالجة ما شابها من سلبيات . وبمثل ذاك المفهوم المُجَرَّب يمكن للمشروعات الزراعية الكبرى في السودان الجديد أن تستعيد ألقها بشقيها الزراعي والحيواني ، تمهيداً لجعل التصنيع الزراعي محوراً أساسياً للتطور يستهدف الإستهلاك الداخلي والتصدير ، و يجعل للنشاطات الزراعية قيمة إضافية مقدرة و مطلوبة و مُستحَقَّة .*

وفي إطار الإبتكار و التفكير غير التقليدي مضمون العائد ، يمكن خلال فترة العشرة سنوات المقترحة للوصاية الدولية، تنفيذ قفزة تنموية ولائية ، أو عبر-ولائية، عن طريق تحديد ثلاثة مشروعات كبرى لكل ولاية علي حدة ، في مجالات التنمية الإقتصادية ، والتعليم، والخدمات ، والبنى التحتية ، وتكليف مؤسسات إستشارية عالمية معروفة لتقديم دراسات جدوى لتلك المشروعات ، ومن ثَمَّ عرض مشروعات كل ولاية على حدة على واحدة من الدول الصديقة لتتبناها وتنافس بها الدول الأُخرى ، مما سيخلق منافسة حميدة بين الدول الصديقة تدفع بتنمية الولايات جميعها ، و بشكل متوازي ، لتقريب الشُقَّة التنموية بينها وبين المركز ، تشجيعاً للهجرة الطوعية المعاكسة ، وتخفيفاً أو إنهاءً للتَكَدُّس البشري غير المنتج في عواصم الولايات .

*ليس هذا فحسب ، بل إن ذلك سيمثل أساساً قوياً يمكن البناء عليه لإحداث قفزة كبرى إلى الأمام تتمثل في تحويل كينونة السودان و نظامه السياسي و الإداري ، ليصبح دولة فيدرالية معافاة ، و كاملة الدسم ، يُقتَرَح لها مُسَمَّى ( الولايات المتحدة السودانية ).*

إنه مشروع مقترح كتطور مستقبلي و كمرحلة ثانية لدولة السودان القادمة ، تلي ما يتوقع حدوثه من إستقرار ، و إعادة ترتيبات دستورية و إدارية و إقتصادية ، خلال فترة الوصاية أو الإدارة الدولية.

في ظني أن مشروع دولة *(الولايات المتحدة السودانية)* المقترح لما بعد فترة الوصاية الدولية ، ينطوي علي حلولٍ ضِمْنِية للعديد من المعضلات السياسية و المجتمعية التي أعاقت تحرك البلاد إلى الأمام ، و أدخلتها في حروب كارثية ، لا يزال أخطرها قائماً و مهدداً بفناء الأمة و الوطن.
و كما ورد أعلاه ، فإن فشلنا في إدارة بلادنا كدولة واحدة متماسكة ، قد أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن من فقدانٍ تامٍ للبوصلة، و وقوفٍ مُرعِبٍ علي حافة إنهيار دولة كانت عظيمة ، و ذات تاريخ مجيد، تميزت بوحدة أهلها ،و تماسك أرضها، و عظمة صورتها
إقليمياً و عالمياً... نعم كان السودان كل ذلك و أكثر ، لكن ما أَبعَدَنا اليوم عن كل ذلك ، و ما أحرانا بالتوقف مع الذات ، و التفكير بعقلانية من خارج الصندوق، تطلعاً لسودان جديد ، جدير بما يستحقه من إسم و عنوان و تاريخ مجيد.

*إن ما علق بالنفوس من أطماع و أحقاد و مشاعر سلبية،حقيقية أو متخيلة ، غرسها ضعف الإلتفات للتربية الوطنية، و سوء الإدارة السياسية للبلاد ،و تَشَوُّه أو غياب السياسات التنموية اللازمة و المتوازنة، مما أربَكَ ، و لا يزال يُربِك ، المشهد العام في البلاد، و يجعله يدور في فلك صراعٍ دامٍ بين المركز و الهامش، ظل يتفاقم بمرور الأيام ،و يكسب أراضٍ متزايدة، جعلت النظرة المحلية، أو الجهوية ، تتفوق كثيراً علي النظرة القومية ، بل جعلت الجهر بتفتيت الدولة ، عبر دعاوي الحُكم الذاتي أو الإنفصال، يتم الصَدع بها علناً في قلب الخرطوم ، و في منابر التفاوض الإقليمية و الدولية.*

و عموماً يبدو أننا كشعب ، قد وصلنا ، بالذات بعد حرب أبريل القائمة، إلى نقطة اللاعودة التي تجعل الإبقاء علي دولة السودان مُوَحَّدَة بالشكل التقليدي الذي ورثناه لأكثر من مائة عام ، أمراً مستحيلاً ، أو علي الأقل عصياً إلى درجة الإستحالة. قد يكون البديل هو تنفيذ خطة خبيثة ذات أبعاد دولية تهدف إلى تقسيم السودان إلى خمس دول مستقلة، لا يتوقع أن يكون بينها أي رابط غير العداء و التنازع علي الحدود و الموارد، لتزداد تخلفاً ، و يزداد أهلها بؤساً ، و تتفاقم صراعاتها الداخلية لتقضي علي ما تبقى فيها من أخضر و يابس.

*و تفادياً لأي تفتيت مستقبلي محتمل لوطن نعتز بالإنتماء اليه ، و حرصاً علي الإبقاء علي الصورة التاريخية ، و علي الإرث الحضاري المشترك بين كل أجزائه ، و رضوخاً لحقيقة ظللنا ننكرها دهوراً بأن أهل السودان أمة هشة مكوَّنة من شعوب متباينة ثقافياً و عرقياً ، ظلت متعايشة مع بعضها البعض دون إنصهارٍ حقيقي، و دون قبولٍ أو ثقةٍ مطلقة بين بعضها البعض ، فإن التفكير المنطقي يجعل من فكرة إنشاء فضاء جديد أو دولة فيدرالية جديدة بمسمى :(( ألولايات المتحدة السودانية )) فكرة جديرة بالتأمل و القبول مع إمكانات التطوير ، وِفق تقييم دقيق لتجارب العالم في الأنظمة الفيدرالية، لأخذ ما أثبتته من إيجابيات ، و تفادي ما أفرزته من إخفاقات إن وُجٍدَت.*

إن الفكرة الأساسية وراء دولة (الولايات المتحدة السودانية ) المقترحة تستهدف :-

١- الإبقاء علي الوحدة الجغرافية للسودان كمساحة أو أرض مشتركة لكل السودانيين .
٢- المحافظة على مظلة عامة تجمع شعوب الأمة السودانية مختلفة الثقافات و الأعراق و السحنات.
٣- إنهاء صراع المركز و الهامش ، وقفاً لما يهدد البلاد ، و ما يغذي الكراهية بين أبناء الوطن الواحد.
٤- تَحَكُّم أبناء كل ولاية في خيراتها و في تحديد أولوياتها التنموية.
٥- إفساح الطريق تماماً لتطوير الثقافات و اللغات و اللهجات المحلية الخاصة لمن ترغب من الولايات ، مع أهمية الإبقاء علي لغة تعامل و إدارة مشتركة بين الولايات بعضها البعض ، و بين الولايات و المركز.
٦- التنمية المتوازنة محلياً حسب رؤى أبناء الولاية.
٧- التحديد المنطقي و العادل لنسب و مقدار المساهمات الولائية في المشروعات القومية أو العبر-ولائية.
٨- فتح مجالات التعاون الولائي الخارجي المباشر مع العالم و الإقليم ضمن بروتوكول ينظم ذلك في إطار قومي مُتَّفَقٌ عليه.
٩- حرية التكامل التنموي بين الولايات المتجاورة.
١٠- توفير فرص عمل و توظيف يشجع الراغبين من أبناء الولايات علي الهجرة الطوعية العكسية لولاياتهم لتطويرها و للإستفادة القصوى من خيراتها و إمكاناتها التوظيفية و التنموية.
١١-تكون الحكومة المركزية رمزاً للسيادة، ذات دور تنسيقي ، و يكون للدولة علم قومي واحد ، و عملة قومية واحدة، و تمثيل ديبلوماسي مُوَحَّد ، يُراعي التنوع و التوازن التوظيفي.

و كمتطلب مسبق أساسي لتنزيل و تطبيق مشروع الولايات المتحدة السودانية علي أرض الواقع ، و بمثل الأسس العامة الواردة أعلاه ، و القابلة للمزيد من الضبط و التطوير ،فإن هناك حاجة لبذل جهود حثيثة من أهل الإختصاص العلمي ، مثل أساتذة العلوم الإدارية و السياسية و الإقتصادية و غيرهم ، في جامعاتنا الموقرة و مراكز البحوث ، لشرح طبيعة و مزايا و مشاكل أنظمة الحُكْم الفيدرالي ، و مدى ملاءمته ، أو إمكانية تطويعه ، لطبيعة السودان و أهله، و لتوضيح أبعاد العلاقات المتداخلة و المتكاملة المتوقعة بين المركز و الولايات ، و بين الولايات بعضها البعض، و لتحديد مَدَى الإستقلالية الذي يمكن أن تصله أي ولاية في علاقاتها المباشرة بدول العالم ، و بالمؤسسات الدولية ، ليتحرك الجميع ، حكومة و شعباً، على هُدَىً و عِلْم ، نحو تحقيق مشروع دولة (الولايات المتحدة السودانية ) ، كهدف قومي يستهدف الإنطلاق نحو آفاق جديدة ، لوطن يستحق واقعاً متميزاً ، يختلف عن ما عاشه في الماضي ، و أفضل مما يمكن أن يعيشه في المستقبل إذا بقي الحال على ما هو كائن بكل تقليديته و منقصاته الماثلة و الكامنة.

*بجانب ذلك ، و كتمهيد علمي و عملي لتنفيذ مقترح الدولة الفيدرالية الجديدة ، فإن هناك حاجة لوضع خريطة جغرافية جديدة لما يمكن أن تكون عليه ولايات السودان في ثوبها المتحد الجديد . لقد شهدت خريطة السودان عبر تاريخها الحديث تقسيماً إستعمارياً إلى تسع وحدات إدارية ، كانت تسمى مديريات ، تعدَّل إسمها لاحقاً لتكون تسعة أقاليم . و في عهد الإنقاذ أصبح تسمى ولايات و ارتفع عددها بداية إلى سبعة و عشرين ولاية ، لكنها تقلصت بعد إنفصال جنوب السودان لتصبح حالياً ثمانية عشر ولاية ذات حدود لا تزال ، في معظمها ، مبنية علي ترضيات سياسية أو قبلية ضيقة ، أو قائمة علي أسس عشوائية غير منطقية ، أو غير علمية ، أدت إلى صراعات قبلية و إثنية لا تزال طبول حربها ماثلة في بعض المواقع ..*

لقد آن الأوان لوضع خريطة علمية جديدة لولايات السودان أو وحداته الإدارية الكبرى ، تأخذ في الإعتبار طبيعة الأرض ، و المكونات البشرية ، و الثروات الطبيعية ، و إمكانات التواصل الإداري ، و سهولة تحديد الحدود بعلامات طبيعية بقدر الإمكان.. إن وضع خريطة إدارية جديدة بمواصفات علمية دقيقة، يعتبر امراً أساسياً لإنجاز و إنجاح فكرة (الولايات المتحدة السودانية) ، و لتصحيح الكثير من الأخطاء و ألعشوائية التي أدت إلي مشاكل حدودية و مرارات لا بد من إزاحتها ، بأخذ كامل الإعتبار لما افرزته التجارب ، و دفع ثمنه المواطنون أرواحاً و نزوحاً و تهجيراً قسرياً.

وبعد ، فإن هذه خطوط عريضة لصرخة تصحيح مسار ، و بناء مستقبل، تستهدف الخير ، و تتعظ من الماضي ، و تخشى إرهاصات الحاضر ، و تقترح بداية جديدة ، غير تقليدية ، بعد أن تاهت البلاد طويلاً، وإبتعدت عن مرافئ الإستقرار السياسي والتنمية المستدامة. إنها محاولة للحفاظ علي وطنٍ عظيمٍ حلم به الآباء المؤسسون ، وإفتقدته أجيال ما بعد الإستقلال ، و تستحقه دون شك الأجيال الصاعدة، ديسمبرية الهوى و الهوية .

و الله و الوطن من وراء القصد .

بروفيسور
مهدي أمين التوم
نوفمبر 2023م
mahdieltom23@ gmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الولایات المتحدة السودانیة بین الولایات بعضها البعض إلى الأمام بین المرکز السودان م الکثیر من لا بد من یمکن أن التی ت

إقرأ أيضاً:

غارة جوية جديدة تضرب صنعاء .. والحوثيون يتهمون الولايات المتحدة وبريطانيا

ضربت غارة جوية مدينة صنعاء اليمنية، بعد يوم من الغارات الإسرائيلية القاتلة، التي شنها جيش الاحتلال باستخدام 100 طائرة واستهدفت منشآت حيوية في اليمن من بينها مطار صنعاء الدولي وميناء الحديدة.

ووجه الحوثيون الاتهامات للولايات المتحدة وبريطانيا في الهجوم الذي جرى اليوم بحسب ما أوردته وكالة فرانس برس.

استشهد بيان للحوثيين بـ "العدوان الأمريكي البريطاني" للهجوم الجديد، كما أفاد شهود عيان في العاصمة أيضًا بالانفجار. 

ولم يرد تعليق فوري من إسرائيل أو الولايات المتحدة أو بريطانيا.

وفي وقت سابق يوم الجمعة، أكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي، أن هجمات الميليشيات الحوثية ضد القوات الأمريكية ستستمر.

وأضاف كيربي في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، أن الحوثيين المتمركزين في اليمن، لا يزالون يشكلون تهديدا على الشعب الإسرائيلي ويشنون عمليات ضد إسرائيل.

وأشار كيربي إلى أن الولايات المتحدة تريد أن يشن الإسرائيليون عملياتهم في اليمن بشكل يحد من الأضرار على البنية التحتية المدنية.

مقالات مشابهة

  • كييف تتلقى 485 مليون دولار من الولايات المتحدة والبنك الدولي
  • وزير الخارجية السوداني: الثقة الكبيرة التي نوليها للرئيس التركي هي الأساس
  • غارة جوية جديدة تضرب صنعاء .. والحوثيون يتهمون الولايات المتحدة وبريطانيا
  • سفير السودان لدى إثيوبيا يطمئن على ترتيبات إنطلاق امتحانات الشهادة السودانية المؤجلة
  • سفارة السودان في الرياض تعلن نقل مركز إنعقاد إمتحانات الشهادة السودانية لمقر جديد
  • الولايات المتحدة تعتمد مشروع طاقة الرياح في الساحل الجنوبي بقدرة 2.4 جيجاوات
  • حكومة السودان تُعرب عن أسفها واستنكارها لرفض السلطات التشادية السماح بإقامة إمتحانات الشهادة السودانية
  • وزارة الخارجية السودانية: سيظل حرمان أبنائنا من الجلوس لإمتحانات الشهادة السودانية نقطة سوداء في سجل السلطات التشادي
  • شاهد بالفيديو.. الحسناء المصرية “خلود” تعود لإشعال مواقع التواصل السودانية بترديدها أغنية الفنانة ندى القلعة التي تمجد فيها ضباط الجيش (حبابو القالوا ليهو جنابو)
  • السودان.. 48 إصابة جديدة بالكوليرا والحصيلة 48 ألفا و598 بينها ألف و258 حالة وفاة، وفق وزارة الصحة السودانية