سؤالٌ أساسيّ ما زال يشغل الناظرين في الخطاب الأدبيّ وخاصّة السرديّ منه، هل أنّ الأدب يصنع العالم (كما رسّخ ذلك توماس بافل في نظريّة العوالم الممكنة) أو هو يصف العالم في رؤية ترفض أن يكون الأدب مُوهما بالواقع أو موهما بالحدوث، هي الرؤية التي ترفض أن يكون الأدب «مصنع مغالطات»، حيث يُدافع النقد على الحقيقة ويُعيد إلى الأدب وجهه التصويري للواقع، ذلك أنّ وسْم الأدب في هذا التصوّر بالإيهام هو تمتينٌ لصلته بالكذب.
هذا الأمرُ يحملنا على الوقوف على النظريتين المؤسّستين للرؤية الناسجة وللرؤية الناسخة، أمّا النظريّة الأولى، «نظريّة العوالم الممكنة» التي أثارها أساسا المناطقة وأهل فلسفة وأجراها النقد الأدبيّ خاصّة في المجال السرديّ، ومختَصَر هذه النظريّة أنّ الأدب يُعْملُ آلة التخييل لتمثيل عوالم ممكنة، قد تُشابه العالم المرجعيّ وتتّصل به بأسباب، وقد تُناظره أو تصدر عنه. ويُعتَبر الفيلسوف الألماني ليبنتز (Leibniz) أوّل من استخدم مصطلح «العوالم الممكنة» مشيرا إلى أنّ عالمنا المتحقّق هو واحد من عوالم ممكنة لا متناهية، وأنّ هذا العالم الذي اختاره اللّه لنا هو أفضلها وأحسنها وأنسبها للإنسان! ومن هذا المنطلق تعدّدت مقاربات العوالم الممكنة وتلقّى نقّاد الأدب هذه الفكرة للعودة إلى إعمال ثنائيّة التخييلي والمرجعي وثنائيّة الصدق والكذب في الأدب، وفق منظور سائد مفاده أنّ الكتابة السرديّة التقليديّة كان همّها الأساس الإيهام بالواقع والاجتهاد في الاقتراب منه و»عكسه»، وأنّ الكتابة السرديّة الحديثة تنصرف إلى الميتاسرد، فهي تصنَع عوالمها بأدوات تختلف عن أدوات الواقع وبالتالي فهي تُقيم عوالم ممكنة تخصّ الشعور والإدراك والأحلام وممكن الحياة عموما (ويُمكن أن أحيل إلى قسمٍ من الأعمال النظريّة الرائدة في المجال النقدي: توماس بافيل: «نظرية العوالم الممكنة وعلم دلالة الأدب»- دافيد لويس: «الحقيقة في التخييل-ولوسيا فاينا «نظرية العوالم الممكنة والسيميوطيقا النصية»).
أمّا النظريّة الثانية فهي التي يرعاها التسجيليّون المؤمنون بنمط من الأدب يُسجّل الواقع وهو راصِدٌ لحركته ومظاهره، ليصبِح الأدب «شاهدا» فاضحا معرّيا للواقع، ومن هنا تنفتح الكوّة القديمة لصلة الواقع بالأدب، وصلة الأديب بالأخلاق، فما الذي أدرانا (كما أوضح ذلك العديد من المؤرّخين ومنهم روجيه غارودي) أنّ محرقة اليهود قد وقعت بهذا الشكل؟ وما أدرانا أنّ الشاهد الأديب صادقٌ في ما يقصّه ويكتبه؟ وهنا يذهب فرانسوا راستيه، منظّرُ هذا التوجّه إلى أنّ أخلاق الشهادة الأدبيّة تصبح مفيدة وضروريّة»، حتّى يتنزّل الخطاب الأدبي السارد منزلة «المرآة» أو العين الواصفة للوقائع، المسجّلة لها. هذا التوجّه يُحوّل الأدب في جزء مهمّ منه إلى أدب شهادة، يدنو من «الموضوعيّة، ويكون الكاتب فيه بمنأى عن تجسيد البطولة أو تغليب المنظور الذاتي، وبمقرب من إعمال الموضوعيّة ووضع «الجريمة في الفضاء المشترك للإنسانيّة». نتج هذا التصوّر للأدب عن رؤيتين في تاريخ الأدب، الرؤية الأولى ماثلة أساسا في النقديّة التسجيليّة التقليديّة التي ترى في الأدب توثيقا وتسجيلا للوقائع، وقد مثّل هذه الرؤية النقديّة في أدبنا العربي شوقي ضيف، والرؤية الثانية هي التي اهتمّت بالأدب الشاهد.
إنّ هذا التجاذب النقدي الثنائيّ بين تصوّر للأدب يؤسّس عوالم ممكنة بلغة يُمكن أن تُحيل إلى مرجع، أدب ينسج عالما، وتصوّر للأدب ينسخ عالما متحقّقا، يحاكيه ولا يحوكه، أفضى إلى إنتاج قراءات للأدب تتراوح بين الصدق والكذب، بين المطابقة والتخييل. في أيّامنا هذه، بعد أهوال حرب غزّة، أعتقد أنّ هذه الثنائيّة ستتحطّم، وأنّ الأدب ونقده ومن ورائهما الفلسفة والمنطق، ستتبدّد مفاهيمهم أمام صخرة اجتمع فيها الخيال والواقع، في غزّة نرى الواقع والخيال في الآن ذاته، أصبحت واقعيّة الخيال أشدّ من تشييد قديمِ التصوّر للخيال لعوالم ممكنة. حرب غزّة ستكون نقطة مفصليّة في تاريخ الفكر الحديث وسينعكسُ هذا حتما على الأدب. لقد قام العصرُ الحديث على حقائق إنسانيّة مُطلقة، تركّز فيها المحور الأوروبي والغربي عموما حاميا لحقوق الإنسان ولمفاهيم العدل والحريّة والكرامة الإنسانيّة، أصبح التفكير الحرّ مكسبا غربيّا لا يُمكن التفكير في تهاويه أو التراجع عنه، وفقدت شعوب من ثالث العالم أعمارا وأجيالا وشبابا ومفكّرين في سبيل الاقتداء بالغربي المتحرّر في فكره، وها هي غزّة تُفْقِدُ العالم الغربيّ كسْبه التاريخيّ، ليُمنَع في بلاد الضياء والتعقُّل ذكرُ بلدٍ مُسْتَعمَر وهو فلسطين أو رفع علمه أو نُصْرَته أو الدعوة إلى تحرّره. كشفت حربُ غزّة أنّ العالم الأبيض ينتصرُ لملّته ولمُعتقده فقط، وأنّ الصراع الكونيّ التاريخي هو صراعٌ عَقَديّ، وأنّ وجها مطليّا بالزيف والمكْر قد بانت حقائقُه، وأنّ البشر نوعان، هم ونحن. ماذا بقي للفكر لعقلنَة العوالم الممكنة أو لنسخ عالم له وجه ظاهرٌ وأوجه مخفيّةٌ، له ظاهرٌ وبواطن؟ العوالم المنسوجة والعوالم المنسوخة ضاعت في ظلّ تبدّلٍ في «منظور» الجهة «الحُلم» التي أضحت الجهة «الكابوس». لقد كان الغرب بؤرة حُلم ومرجعيّة للعالم الممكن المتحضّر، فتكشّفت منه وحشيّة تفوق تخيّل الفنّان، هذا العالم الغربيّ الذي حمل لواء «الإنسان الإنسان» صار حاملا لواء إنسان من درجة أولى ولا شيء من بعده. لقد ذهب في ظنّنا أنّ الغرب انتهى من حقوق الإنسان، وكنّا نحسده على ذلك، وكنّا نظنّ أنّه تفرّغ إلى حقوق الحيوان، وإلى حقوق النبات، صاغرين كُنّا، وسذّجا، ألقينا من جرابنا الغزالي وابن رشد وابن سينا، واهتدينا بديكارت وبكانط وبهيجل، تخلّينا عن امرئ القيس وعن تأبّط شرّا، تخلّينا عن الشنفرى وقسمه، تخلّينا عن مؤانستنا، وعن «مغازينا»، واهتدينا ببلزاك، وحفظنا «البؤساء»، وسرنا خلف شكسبير وفيكتور هيجو وإرنست هيمنجواي، ولكن «لمن تقرع الأجراس؟». حربُ غزّة دقّت -على الأقلّ بالنسبة إلى شريحة من جيلي- جرس التنبيه أنّ خللا في الكون ماثل، أنّ أساسا يُمكن أن يُنسى بسرعة أو أنّ سلطة معرفيّة في الكون قادرة على الكذب والكذب حتّى يصبح الكذب واقعا وليس ممكنا.
المُعادلة البسيطة التي يريدوننا أن ننساها، أنّ فلسطين مُستعمَرة وأنّ الكيان الإسرائيلي مستعمِر، تغيير هذه السرديّة باعثٌ لقصّة جديدة، هل يقدر العالم الغربي على كتابتها؟ لهذا فإنّ قطيعةً معرفيّة ممكنة التولّد من مشاهد تقتيل الأطفال وقطْع الأوكسيجين عن الرُضّع في المستشفيّات، وتقتيل اللاّجئين في المدارس. القتل الوحشيّ الذي صار سافرا مكشوفا -ولا حجّة لمن يدّعي غياب المعلومة- هو وجه البشريّة المتحضّرة المعقلنة الحقيقيّ. ما يأتيه بنو صهيون اليوم من فعلٍ فاحش، هو في عمق الأمر فعلٌ ناتج عن «وجهة النظر» الغربيّة في إقامة سردٍ جديد بصدد التشكّل، سردُ المظلوميّة، سرد الضحيّة، وليس المقصود بالضحيّة في هذا المقام أبناء فلسطين الذين نُكِّل بهم تجويعا وتقتيلا وذبحا للرُضّع والمرضى، وليس المقصود بالضحيّة العالم العربيّ الذي اعترته «دهشة» فلسفيّة مكتومة، وليس الضمير الكوني الذي يغطّ في سُباتٍ دوغمائي عَمِهٍ وعميٍّ وعييٍّ، بل المقصود بالضحيّة الشعوب التي كانت مستعدّة للتضحيّة بالحياة في سبيل أن تعيش الأجيال القادمة «الحُلم» الغربي، الحُلم في التفكير الحرّ، الحُلم في الرأي الحرّ، الحُلم في تحقّق الإنسانيّة. يحتاج الكون إلى مفاهيم فلسفيّة جديدة عن العدالة، عن معنى الإنسان، عن معنى الوجود، والأهمّ من كلّ ذلك نحتاج إلى فلسفة عربيّة تُسْقِط المرجعيّة الفكريّة الغربيّة وتَهدِمُ سُلطة المحور والهامش.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النظری ة
إقرأ أيضاً:
غياب المجلس التشريعي نتج عنه هذه المتاهة التي نحن فيها !!..
سيدة بريطانية عادية (ربة منزل) في معرض استذكارها للغة الإنجليزية ( لغتهم الأم والحبوبة ) مع بنتها التي تدرس في الصف الثالث الابتدائي طلبت منها أن تتهجي كلمة بسيطة فوقف حمار طفلها في العقبة وتلعثمت وترجمت مأساتها ومأساة امها وعموم الشعب البريطاني بأن لاذت بالصمت تاركة العيون تجري مثل نهر التايمز والام حارت في أمرها هل هي الأخري تشارك في يوم البكاء العالمي هذا ام تتذرع بالصبر والسلوان الي أن تنقل القضية الي جهات الاختصاص ...
تصوروا أن هذه السيدة البسيطة وإيمانا بقضيتها العادلة التي تتمثل في أن بنتها تروح المدرسة وتعود في رحلات ماكوكية تفوقت بها علي هنري كيسنجر ومع ذلك لم تستفد من المدرسة أي شيء وقد فشلت في تهجية كلمة عادية لاتحتاج إلي أي مجهود أو خمة نفس أو شحتفة روح ... هذه السيدة أوصلت خطابها الي مجلس العموم البريطاني مضمنة بكل التفاصيل أن التعليم في بريطانيا قد انهار مثل سد مأرب وان الخطر يتهدد فلذات الاكباد مالم يتم تدارك هذا الوضع المازوم ...
وقد قام مجلس العموم بواجبه وبما يمليه عليه ضميره وتم تخصيص جلسة كاملة شاركت فيها المعارضة بكل قوة وتم عرض جميع وجهات النظر وتقليب القضية علي نار هادئة ووصلوا الي أن الطريقة الكلية التي حلت محل الطريقة الجزئية هي السبب في ضعف التلاميذ الصغار في التهجية ومن ثم في القراءة والكتابة ( طيب بعد دا فضل شنو ... ماياها الأمية عديل بلحمها وشحمها وامها وأبوها ...
اكيد أن التوصيات صدرت وارسلت لوزارة التربية وأنها قامت باللازم ووضعت الأمور في نصابها وانحلت القضية لأن المواطن متابع وغير متهاون في حقوقه والجهات المسؤولة تستجيب على الفور لاي شكاوي وتاخذها ماخذ الجد وتسير بها الي ان تحل بصورة ناجعة لصالح المواطن الذي هو دائما في حدقات العيون !!..
ونحن الذين غاب عنا الحكم الديمقراطي افتقدنا المجالس النيابية وصار الحاكم الانقلابي يقوم منفردا بحل أعقد المشاكل علي طريقته ومهما كانت النتائج كارثية هنالك من أهل الإعلام من يصور له انه عبقري زمانه و ( حلال العقد وبطل الساحة وبراك خربانة ام بناءاً قش ومنو انت زيك يا زعيم ) !!..
كأنما الحرب اللعينة العبثية المنسية غير كافية لتخريب الوطن كمان ظهرت لينا معركة امتحان الشهادة السودانية التي يبدو أن وطيسها سيزداد اشتعالا في مقبل الأيام وقد تتفوق علي معركة واترلو والعلمين وكرن وبسبب هذه الشهادة سوف تصنف حكومية الأمر الواقع المواطنين الي فسطاطين فسطاط مع قيام الشهادة وفسطاط ضدها طبعا المعارضون سيقدمون لمحاكم عسكرية ربما تحكم عليهم بالاعدام ...
وهكذا نحن لا نجلس في صعيد واحد لحل قضايانا وانما من وثب الي دست الحكم هو صاحب الحل والعقد ومن يأت برأي مخالف له فهو مارق وعميل للسفارات الأجنبية ويستلم مقابل عمالته الدولارات واليوروهات والدينارات !!..
دا كلو كلام فارغ وجدل عقيم ... المهم متي تتوقف الحرب اللعينة العبثية المنسية ومتي يكون عندنا مجلس نيابي ومحكمة دستورية وقضاء عادل وفصل للسلطات واستقلال القضاء والجامعات والعسكر الثكنات والجنجويد ينحل والثورة خيار الشعب . حرية سلام وعدالة !!..
حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم .
ghamedalneil@gmail.com