مثّلت نتائج الجولة الثانية لانتخابات الأرجنتين الرئاسية، يوم الأحد الماضي، مفاجأة لأغلب الرأي العام الدولي، رغم احتمال حدوثها الكبير، حيث بات قبول فوز المرشح الليبرالي المتطرف خافيير ميلي، المشهور بـ "المجنون"، أمرًا واقعًا فرضه حوالي 56% من الناخبين. في المقابل حصل خَصمه وزير الاقتصاد الحالي سرخيو ماسا على 44%، بنسبة مشاركة بلغت 76%.

ورغم استياء بعض دول الجوار من هذه النتيجة، فإنَّ أكبر مستفيد منها، هما: إسرائيل والولايات المتحدة، اللتان اعتبرهما ميلي، أهم شريكين والمثل الأعلى له. وللرئيس المنتخب، حديثًا، علاقة خاصة بإسرائيل والدين اليهودي، من المحتمل جدًا أن تحدث صخبًا أكبر من الذي أحدثته مؤخرًا، وذلك بعد تولّيه منصب الرئاسة.

لماذا فاز؟

وحتى نتعرف على ملامح شخصية ميلي وسرّ تركيزه على إسرائيل والدين اليهودي، نحتاج فتح نافذة صغيرة للتعرف أولًا على وضع الأرجنتين السياسي والاقتصادي، الذي جعل ميلي يفوز برئاستها.

فالأرجنتين- صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية- مرّت في السنوات الأخيرة بانهيار اقتصادي حادّ، نتيجة سياسات متراكمة غير موفقة، زادت من حدّتها، جائحة كورونا. ووصل مستوى التضخم فيها إلى 143%، وطال معدل الفقر 40% من المجتمع. ورغم كل الانتقادات الموجهة لحكومة فرنانديز ونائبته كريستينا كيرشنر المنتهية ولايتها، فإن حجم الدين لصندوق النقد الدولي البالغ 44 بليون دولار، يمثل في الحقيقة ما تبقى من أكبر قرض في تاريخ البلاد، كان سلفهم اليميني ماوريسيو ماكري قد تلقاه في 2018، والبالغ 57 بليون دولار. لكن عمليات الشيطنة الممنهجة لحكومة "كيرشنر"- كما يعرّفها الأرجنتينيون- جعلت منها المسؤولة على كل نكبات البلاد، وعجّلت بإسقاطها، وتسليط أقسى العقوبات عليها قريبًا، كما توعّد بذلك الرئيس المنتخب ميلي. مع الإشارة أيضًا إلى أن الخلافات السياسية- التي تغلغلت في المطبخ الداخلي لحكومة فرنانديز ونائبته كيرشنر، وبلغت حدّ القطيعة بين أكبر رأسين في مؤسسة الرئاسة- أسقطت السقف على الجميع، واعتبرها بعض المحللين "حكومة الابن الضال" للمنظومة البيرونية الحاكمة منذ ثمانية عقود؛ (نسبة إلى مدرسة الرئيس الراحل خوان بيرون)، التي مثلت فخر الفكر اليساري في نظر أغلب الأرجنتينيين والمنطقة. مع العلم أن نائبة الرئيس في الحكومة المنتهية ولايتها، كريستينا كيرشنر، سطرت مع زوجها مرحلة "الكيرشنرية"، كفترة متميزة في المنظومة البيرونية، وذلك خلال رئاستهما تباعًا من 2003 إلى 2015، لكن يبدو أنها ستكون الأخيرة.

حاضنة اليهود

ولم يفلح أحد من السياسيين في امتصاص الغضب الشعبي على الحكومة الحالية وسابقتها، سوى شخصية ميلي التي تغلبت على ترامب وبولسونارو في مستوى الشعبية وسلاطة اللسان. ويبدو أن فهمه للدين كان عاملًا آخر، من الواضح أنه مثّل دورًا أساسيًا في نجاحه، على الأقل فيما يتعلق بالجالية اليهودية، وباروناتها المالية والإعلامية.

فالأرجنتين، هي أكبر حاضنة لليهود في أميركا اللاتينية، والخامسة في العالم، بـ250 ألف شخص. وتستقطب آلتها الإعلامية من خلال قناتي لاناسيون ماس وإيه 24 المعارضتين، ملايين المتابعين. وقد تبنّت أسلوب النفخ في ميلي منذ ظهوره على الساحة السياسية وفوزه بمقعد في برلمان 2021، ملبّية رغباته الجامحة في الظهور كـ "العارف بكلّ شيء"، وعينها على صيد الرئاسة المتهالك. ومع أحداث غزة وموت 7 أرجنتينيين وفقدان 6 آخرين، استأثرت القناتان بقلوب ملايين المتابعين الإضافيين، وزادتا من خطاب المظلومية الإسرائيلية، وهلّلتا لصورة رئيس يهودي الهوى مثل ميلي، والتخلص من عار الحكومة الكيرشنرية التي رفع أهل غزة صورة رئيستها كريستينا عاليًا مع الزعيم الفنزويلي في 2011. وقد كررت إحدى القناتين ذلك المقطع مرارًا في البرامج المسائية، وكان المذيعون يشيرون إلى صورة كريستينا كيرشنر محذرين: "كريستينا والمقبور البائس تشافيز يدعمان هؤلاء الإرهابيين في غزة".

ومن غير الغريب أن يحظى خطاب الشيطنة للفلسطينيين، بقبول في أنفس كثيرة، لاسيما في أميركا اللاتينية، لكن الأغرب هو القبول بما يرويه الرئيس المنتخب ميلي عن علاقته باليهودية كدين، وكمفتاح دعم لا مشروط لفكرة إسرائيل. فالرجل يُعرف بأنه مولود في عائلة كاثوليكية غير متوازنة، ونما هو وشقيقته الوحيدة في علاقة تبيّن مع الوقت أنها غريبة الأطوار. وتبنّيا أفكارًا فوق واقعية، جهر بها هو خلال حملته الانتخابية، وأصبحت محل تندّر لدى البعض وانبهار لدى بعض آخر. من بينها أنه يؤمن بأن المسيح سيعود في المستقبل كملك يهودي من سلالة داود، وكمخلص للشعب اليهودي، وهو ما يعرف في المجتمع اليهودي بتيار "المسيحانية" الرائج مؤخرًا. ووصلت به الدرجة إلى القول، إن الله سبحانه "كلّمه" مرّة وأوحى إليه مرّات بنظريات "الإصلاح الاقتصادي للأرجنتين"، عن طريق رسائل نقلها له كلبه الشهير "كونان"، المتوفى منذ 2017، حين أتاه في المنام!.

تفرده بين البشر

وقد نالت هذه الأفكار عن ميلي انتشارًا واسعًا في السنة الأخيرة زادت من شهرته، ولم ينكرها هو، بل اتخذها دليلًا على تفرّده بين البشر، بهذه الخاصية. أمّا عن قصته مع الدين اليهودي فقد بدأت مع ارتمائه في أحضان الحاخام الأكبر للجالية اليهودية المغربية في الأرجنتين، في يونيو 2021 لقراءة التوراة، وأسرّ له بأن اليهودية هي أقرب دين إلى قلبه وعقله، فما كان من الحاخام إلّا أن احتواه وبارك له تلك الخطوة. وحصل التقارب بشكل أسرع من المتوقع، مع التقدم في قراءة التوراة. ومع فوز ميلي بأول منصب سياسي كنائب في برلمان 2021، زاد الشاب هيامًا بالقرار الذي اتخذه. وقام بزيارات عديدة لمعاقل الدين اليهودي في الولايات المتحدة والجاليات اليهودية، وقال بعد ترشحه للجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في أغسطس/ آب الماضي: إن الفوز لم يكن بفضل أصوات اليهود في الأرجنتين، ولكنه بفضل "الربّ" الذي بارك اقترابه من الدين اليهودي. ومع حصده فوزًا تلو الآخر في طريق رئاسة البلاد، أعرب للحاخام عن نيته في اعتناق اليهودية، لكن هذا الأخير صدمه بأن انتقاله من المسيحية إلى اليهودية يُلزمه بتسخير يوم السبت للعبادة، وهو ما سيقف عقبة في تأدية واجبه كرئيس. لكن ميلي، وعد الحاخام بأنه سيزور إسرائيل قبل تولي الرئاسة يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول، لشكر "الرب" ودعم "إخوته" في محنتهم هناك، وربما لإعلان استباقي بنقل سفارة الأرجنتين إلى القدس.

قد يتفاجأ القارئ بأن شخصية مثل ميلي تفوز في عام 2023 برئاسة بلد، يُعتبر أهله من أكثر المجتمعات المثقفة في العالم، وبلغ معدل الفقر فيه 40%، لكن هذه الشخصية فازت بأصوات 56% منهم، ونسفت كل أفكار التقدير لمستوى وعي الأرجنتينيين السياسي!

 

 

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

لماذا لا تحظى مناظرات نائب الرئيس الأمريكي بأهمية كبيرة؟

تناظر الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب ونائبة الرئيس كامالا هاريس للمرة الأولى والأخيرة هذا العام، وحظيت المناظرة على اهتمام كبير وقتها.

فيما يأتي حدث رئيسي واحد في تقويم الحملات الانتخابية الأمريكية، وهي مناظرة نائب الرئيس، بين المرشح الجمهوري جيه دي فانس والمرشح الديمقراطي تيم والز، مع اقتراب الانتخابات الأمريكية المقرر إجراؤها 5 نوفمبر المقبل.

وعلى عكس المألوف يشاهد أقل عدد من الناس مناظرات نائب الرئيس الأمريكي مقارنة بالمناظرات الرئاسية حسبما أفادت شبكة «إيه بي سي نيوز»، فلماذا لا تحظى مناظرات نائب الرئيس بأهمية كبيرة؟

هل المناظرة تحدث فارقا؟

بالرغم من أن المناظرات الرئاسية تحدث فارقًا عادةً في استطلاعات الرأي، إلا أن مناظرات نائب الرئيس لا تحظى بذلك، حيث لا يؤثر المرشحون على أصوات كثير من الناس.

وفي محاولة شبكة إيه بي سي نيوز للإجابة على سؤال «هل المناظرات السابقة لمنصب نائب الرئيس غيرت مسار السباق؟»، وجدت الشبكة أن الإجابة صعبة، ويرجع هذا لصعوبة عمل مقارنة لاستطلاعات الرأي قبل وبعد المناظرة.

ويرجع هذا إلى كون أغلب المناظرات الأخيرة بين المرشحين لمنصب نائب الرئيس كان يعقبها بسرعة مناظرات رئاسية، فمثلًا في 2000 كانت هناك مناظرة رئاسية بعد 6 أيام فقط من مناظرة المرشحين لمنصب نائب الرئيس.

ويوضح الرسم البياني متوسط استطلاعات الرأي البالغ عددها 538 للانتخابات الرئاسية 2000-2020 في الأيام التي تسبق مناظرات نائب الرئيس، واستطلاعات الرأي ما بعدها مباشرة.

وكما يظهر فإنها لا تظهر فارقا كبيرا في مناظرات نائب الرئيس، وعند تحركها فعادة يكون ذلك بعد حدوث المناظرة الرئاسية بالفعل، ما يُرجح أن المناظرات الرئاسية تتسبب في الحركة وليس مناظرة نائب الرئيس نفسها.

مقالات مشابهة

  • جيش الاحتلال يهاجم الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت 6 مرات خلال 20 دقيقة
  • لماذا بقي نظام الأسد خارج الصراع بين إسرائيل وحزب الله؟
  • ترامب يقول إن على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية
  • أ ف ب: مصدر مقرب من حزب الله اللبناني يقول إن أمينه العام حسن نصرالله دُفن في مكان سري
  • أذكار الصباح والمساء.. «اللهم إنا نسألك العفو والعافية»
  • وزير الخارجية الفرنسي يتصل بجنبلاط.. هذ ما تم التطرق اليه
  • 4 أمور تحصن الإنسان من السحر والحسد
  • لماذا يُريد حزب الله دخول إسرائيل إلى لبنان؟
  • لماذا تفاجأ الأميركيون من مناظرة نائب الرئيس؟
  • لماذا لا تحظى مناظرات نائب الرئيس الأمريكي بأهمية كبيرة؟