الوجود العسكري الأمريكي: مستجدات ومعادلات جديدة
تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT
الوجود العسكري الأمريكي بالشرق الأوسط: مستجدات ومعادلات جديدة
شهدت السنوات الماضية تحولًا في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة مع تراجع الاهتمام وزيادة دور القوى الإقليمية الأخرى.
تؤكد القيادة المركزية الأمريكية على ضرورة ردع إيران التي تطور برنامجا نوويا بسرعة، وتستخدم الصواريخ والطائرات دون طيار كأسلحة هجومية.
يرسل الوجود العسكري الأمريكي المعزز بالمنطقة رسالة لإسرائيل مفادها أن أمريكا لا تزال ملتزمة بردع إيران، مما قد يساعد في منع نشوب حرب أوسع نطاقا.
كان الانسحاب من أفغانستان عام 2021 بمثابة ضربة كبيرة للنفوذ الأمريكي بالمنطقة بعد عشرين عامًا من الاحتلال المباشر وسلط الضوء على تراجع الاهتمام بالمنطقة.
ازداد دور القوى الدولية والإقليمية بالمنطقة، مثل: إيران، تركيا، روسيا والصين. وسعوا إلى تعزيز نفوذهم ما فاقم التوترات الإقليمية وخلق تحديات جديدة للنفوذ الأمريكي.
يهدف الوجود العسكري الأمريكي المعزز لطمأنة دول الخليج بالتزام أمريكا بأمنها في ضوء التوترات الإقليمية المتزايدة، وتعزيز موقف أمريكا التفاوضي مع إيران بشأن برنامجها النووي.
* * *
كان الوجود الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مهيمنًا في العقود الأخيرة، حيث سعت الولايات المتحدة إلى الحفاظ على أمنها القومي ومصالحها الاقتصادية في المنطقة.
ومع ذلك، شهدت السنوات الماضية تحولًا في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة مع تراجع الاهتمام وزيادة دور القوى الإقليمية الأخرى. كان الانسحاب من أفغانستان عام 2021 بمثابة ضربة كبيرة للنفوذ الأمريكي في المنطقة حيث أنهى عشرين عامًا من الاحتلال المباشر، وسلط الضوء على تراجع الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط.
كما شهدت السنوات الأخيرة زيادة دور القوى الدولية والإقليمية في المنطقة، مثل: إيران، تركيا، روسيا والصين. وقد سعى هؤلاء اللاعبون إلى تعزيز نفوذهم، ما أدى إلى زيادة التوترات الإقليمية وخلق تحديات جديدة للأمن الأمريكي، وخاصة ما أدخلته الحرب الروسية الأوكرانية من تحديات ومخاطر على سلاسل التوريد، وخطوط الملاحة البحرية في هذه المنطقة من العالم.
في ضوء هذه التطورات، يمكن القول إن الوجود الأمريكي في المنطقة يشهد تحولًا كبيرًا في ضوء المنافسة المحمومة بين القوى الدولية والإقليمية على النفوذ، ما أدى إلى ظهور معادلات جديدة قد تستمر في التطور في السنوات القادمة، وهو ما يفرض مقاربة أمريكية جديدة للحفاظ على مصالحها في المنطقة.
تعامل إدارة بايدن مع المنطقة عندما تولت إدارة بايدن السلطة في عام 2021، كانت تركيزها الأساسي على الاتفاق النووي مع إيران والصراع في اليمن، وهو ما أثار توترات في علاقتها مع دول الخليج العربية.
لكن عندما وقع الغزو الروسي لأوكرانيا، أصبحت أهمية دول الخليج العربية للولايات المتحدة أكثر وضوحًا، نظرًا لأنها تمثل مصدرًا حيويًا للطاقة. هذه التطورات دفعت إدارة بايدن إلى إعادة تقييم سياستها تجاه الخليج. في يوليو 2022، قام الرئيس بايدن بزيارة إلى السعودية، وهي الزيارة الأولى لرئيس أمريكي إلى المملكة منذ عام 2017.
خلال هذه الزيارة، التقى بقادة مجلس التعاون الخليجي وقادة عرب آخرين. على الرغم من عدم تحقيق إنجازات كبيرة خلال هذه الزيارة، إلا أنها كانت خطوة رمزية مهمة في إعادة بناء العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج. إدارة بايدن تعمل الآن على إعادة بناء العلاقات مع دول الخليج العربية، مع التركيز على التعاون في مجالات مثل الطاقة والتجارة ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
في يونيو حزيران 2023، أكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمام وزراء خليجيين في الرياض، أن بلاده لا تزال ملتزمة تجاه شركائها في منطقة الخليج، في وقت تشهد التحالفات الإقليمية تغييرات سريعة تتمحور حول التقارب الأخير بين السعودية وإيران.
وقال بلينكن في مستهلّ الاجتماع حول الشراكة الاستراتيجية بين الخليج وواشنطن في الرياض إن "الولايات المتحدة موجودة في هذه المنطقة لتقول إننا لا نزال منخرطين بعمق في الشراكة معكم جميعًا". وأشار إلى أن دول "مجلس التعاون الخليجي هي جوهر رؤيتنا لشرق أوسط أكثر استقرارًا وأمانًا وازدهارًا".
نوعية المخاطر في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط، أكد الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية، التزام واشنطن بالمنطقة منذ عقود، نظراً لدورها الحيوي في تأمين إمدادات الطاقة للعالم.
وشدد على استمرار دعم بلاده لأمن المنطقة. تأتي زيارة ميلي في إطار تحديث استراتيجية الولايات المتحدة للتصدي للتهديدات المتزايدة على مصالحها في غرب آسيا، بناءً على تقارير عسكرية واستخباراتية أمريكية.
في 13 مارس 2023، قدم الجنرال مايكل كوريا، قائد القيادة المركزية الأميركية، تقريراً حول الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة في منطقة غرب آسيا، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ.
وفي 6 فبراير 2023، أصدر مجتمع الاستخبارات الأمريكي تقريره السنوي حول "تقييم التهديد" الذي يستعرض أهم التهديدات العالمية التي تواجه الأمن القومي للولايات المتحدة خلال عام 2023.
وتتفق التقارير على تحديد روسيا والصين وإيران باعتبارهم أبرز المصادر للخطر على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. فالصين تسعى لزعزعة المصالح الأمريكية في غرب آسيا والظفر بالصدارة في المنطقة، باستخدام مبادرة "الحزام والطريق" كوسيلة لتوسيع نفوذها الاقتصادي والأمني.
أما روسيا فتحاول تقويض الوجود الأميركي في المنطقة بإبرام اتفاقات عسكرية وتجارية مع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة. وإيران تستمر في محاولاتها لإضعاف موقع الولايات المتحدة في غرب آسيا والإضرار بمصالحها الحاسمة في المنطقة.
يضاف إلى هذه التحديات، تغييرات في مواقف الدول الخليجية التقليدية تجاه خياراتها الاستراتيجية لناحية تنوع التحالفات الدولية.
فقد وافقت السعودية والإمارات على الانضمام إلى تكتل البريكس، وهو تكتل اقتصادي إقليمي يضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. وقد نجحت الولايات المتحدة مؤخراً في خلق منافس بديل لمبادرة "الحزام والطريق" الصيني عبر طرحها "الممر الاقتصادي" في قمة العشرين التي عقدت في الهند قبل أسابيع.
الممر الاقتصادي الذي يربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا هو مشروع ضخم يهدف إلى إنشاء شبكة نقل وبنية تحتية تربط هذه المناطق الثلاث. يشمل المشروع بناء طرق وسكك حديدية وخطوط أنابيب وكابلات بحرية، بالإضافة إلى تطوير الموانئ والمطارات.
تعتبر السعودية والإمارات ركيزتين أساسيتين في هذا المشروع الذي يربط أسواق آسيا الضخمة بأسواق أوروبا، حيث تمتد شبكة خطوطه البرية والبحرية ضمن أراضيهما بما فيها من موانئ وسكك حديدية ونقاط عبور، ويتفق المشروع مع طموحات البلدين في تعزيز نفوذهما الدولي على خارطة التجارة الدولية وامدادات الطاقة وتوطين التكنولوجيا.
تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الرياض ونيودلهي يبرز كجزء من استراتيجية أمريكية أعمق وأكثر تعقيدًا. يبدو أن هذا الجهد الدبلوماسي يخدم هدف واشنطن في تقويض النفوذ الاقتصادي الصيني المتزايد في منطقة الخليج العربي.
ومع ذلك، تواجه السعودية تحديات فيما يتعلق بفكرة نظام عالمي ثنائي القطب، حيث تجد نفسها مضطرة للتوازن بين العلاقات مع الصين والولايات المتحدة، وهي مهمة ليست بالسهولة التي يمكن تصورها، حيث يتعين عليها النظر في تأثيرات هذه العلاقات على مصالحها وسياستها الخارجية.
إيران وإعادة تعزيز القوات الأمريكية تعتبر إيران أولوية قصوى للولايات المتحدة في مواجهة التهديدات الإستراتيجية في غرب آسيا، وفقًا للقيادة المركزية الأمريكية، التي تشير إلى قدراتها النووية والصاروخية المتزايدة ودعمها للجماعات المسلحة في المنطقة.
كما تشير إلى تعزيز العلاقات بين إيران وروسيا والصين، والتي تشكل تحديًا للمصالح الأمريكية. وفي تقرير للمجمع الاستخباراتي الأمريكي، يتوقع أن يؤدي التقارب بين إيران وروسيا والصين إلى مزيد من التعاون الثلاثي في المجالات الاقتصادية والدفاعية والسياسية، مما يزيد من التنافس على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تحظى بأهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة بسبب مواردها الطاقية ونقلها والخطر الأمني على حلفائها، خصوصًا إسرائيل.
وتؤكد القيادة المركزية الأمريكية على ضرورة ردع إيران، التي تطور برنامجها النووي بشكل سريع، وتستخدم الصواريخ والطائرات دون طيار كأسلحة هجومية. كما تتهم إيران بإثارة الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة من خلال دعم جماعات مسلحة تعمل كوكلاء لها، مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن.
وتقول إن إيران تستغل أزمات المنطقة لتعزيز نفوذها. وقد قامت الولايات المتحدة مؤخرًا بنشر قوات بحرية وجوية وبرمائية كبيرة في الخليج العربي، في استعراض للقوة يهدف إلى ردع إيران عن مهاجمة أو مضايقة السفن التجارية في المنطقة.
يهدف هذا الوجود العسكري المعزز أيضًا إلى طمأنة دول الخليج العربية بالتزام الولايات المتحدة بأمنها خاصة في ضوء التوترات الإقليمية المتزايدة، وتعزيز موقف الولايات المتحدة التفاوضي تجاه إيران في حالة إحياء المحادثات غير المباشرة حول ما يسمى "الاتفاق المصغر" بشأن برنامجها النووي.
كما يرسل الوجود العسكري الأمريكي المعزز في المنطقة أيضًا رسالة إلى إسرائيل مفادها أن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بردع إيران، مما قد يساعد في منع نشوب حرب أوسع نطاقا.
في ظل هذه التعقيدات، والتي يضاف لها الحرب في اليمن بما تلقيه من ثقل في مجمل القضايا الشائكة والعالقة دون حل في الشرق الأوسط، يقارب المسؤولون الأمريكيون الحل من زاوية احتمالية اختراق حقيقي في ملف إيران النووي، حيث يسعى المسؤولون الأمريكيون إلى تجديد الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، والذي يعتقدون أنه سيساعد في خفض التوترات الإقليمية ومنع إيران من تطوير سلاح نووي.
يعتقد بعض المحللين أن الوجود العسكري الأمريكي المعزز في الخليج والرد الإيراني هما جزء من "رقصة"، تمكّن كل منهما في تعزيز موقفه التفاوضي، في حين تقف دول المنطقة عاجزة باستثناء ترقب المشهد بكثير من الحذر.
*محمد علوش كاتب صحفي
المصدر | البيت الخليجيالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الخليج إيران إسرائيل الصين تركيا روسيا الشرق الأوسط التوترات الإقليمية الاتفاق النووي الوجود العسكري الأمريكي مبادرة الحزام والطريق التوترات الإقلیمیة دول الخلیج العربیة للولایات المتحدة الولایات المتحدة روسیا والصین إدارة بایدن فی غرب آسیا المتحدة فی فی المنطقة دور القوى فی منطقة فی ضوء
إقرأ أيضاً:
كأس الخليج: الظاهرة الاجتماعية
يحفل الشارع الخليجي هذه الأيام بالحديث وتوجيه النظر نحو بطولة كأس الخليج العربي لكرة القدم، وذلك في نسختها الـ 26 والتي تستضيفها دولة الكويت العزيزة، وتجتمع فيها منتخبات الخليج العربي الـ 8 لتعيد إلى الأذهان صورًا ومشاهد امتدت عبر تاريخ هذه المنطقة من التنافس على البطولة التي يعتبرها سكان منطقة الخليج العربي ذات رمزية مهمة في سياق الاجتماع الخليجي. البطولة التي انطلقت منذ عام 1970 واستضافت نسختها الأولى مملكة البحرين رسخت في الذاكرة الخليجية أسماء ومواقف وسطرت مجد أعلامٍ في مختلف المجالات سواء في الرياضة أو الإدارة أو الإعلام، وكانت كل نسخة من نسخها شاهدًا على اتصال شعبي ومجتمعي أقوى وأكبر بين مجتمعات المنطقة، رغم الظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي توالت عبر خمسة عقود، لتضل أحد ثوابت العمل الخليجي واللحمة الخليجية، ويراهن عليها في الوقت ذاته - بعيدًا على الجوانب الفنية - أنها الحدث الذي تخلع معه المجتمعات قبعتها السياسية، لترتدي زيًّا خليجيًّا موحدًا عنوانه التنافس المحمود، والقربى، وتعميق الأواصر.
في تقديرنا هناك خمسة أسباب تستوجب استمرار بطولة كأس الخليج كحدث أساسي ودوري في هذه المنطقة، ومع هذه الأسباب لابد للقيادات الخليجية أن تحرص على تطوير ودعم وتمكين هذا الحدث؛ الأول أن هذه البطولة عبر تاريخها أسهمت بشكل موسع في تطوير العديد من أشكال البنى الأساسية في دول المنطقة، فالدول في استضافاتها المتعددة سارعت لتجهيز أفضل المرافق الرياضية، وهيأت العديد من البنى الأساسية في مجال السياحة والضيافة، إضافة إلى المنشآت والمرافق اللوجستية الأخرى التي هدفت معها لتقديم أفضل الاستضافات والنسخ، وعلى مستوى المجمعات الرياضية فهناك ملاعب أصبحت اليوم من أبرز المرافق الرياضية على مستوى الإقليم والعالم كانت قد أنشأت لأغراض استضافة البطولة. وهي حالها - في أوقات سابقة - من تاريخ المنطقة كحال استضافة الأحداث الرياضية الكبرى، وهذا يقودنا للسبب الثاني لضرورة استمرار مثل هذا الحدث؛ وهو أن اليوم ومع تسابق دول المنطقة لاستضافة أحداث رياضية كبرى وعلى رأسها كأس العالم لكرة القدم، والأحداث الرياضية العالمية والإقليمية الأخرى فإنها تتكئ على إرث من خبرات التنظيم والتجهيزات وإدارة الفعاليات الذي كانت بطولة كأس الخليج رافدًا أساسيًّا له عبر عقود سابقة. لقد استطاعت هذه البطولة عبر ما تشهده من توافدٍ واسع من كافة الأقطار الخليجية للدول المستضيفة أن تشكل رصيدًا جيدًا لهذه الدول، سواء في مجال تصميم وإدارة التجارب الرياضية المتكاملة، أو تنظيم الاحتفالات الافتتاحية والختامية، أو إدارة الحشود والتجمعات، أو التسويق والإدارة الإعلامية، أو التنسيق الدولي للأحداث، ونسخة بعد نسخة كانت القوى البشرية في المنطقة تتعلم وتكتسب خبرات وتجارب جديدة في هذا السياق.
السبب الثالث الذي نراه لضرورة استمرارية مثل هذا الحدث هو أنه أبرز خبرات خليجية في مجالات مختلفة مرتبطة بـ Ecosystem المنافسة الرياضية في ذاتها؛ فلو أخذنا الإعلام على سبيل المثال يمكن العد في الكثير من أسماء الإعلاميين الرياضيين الذين ارتبط بزوغهم واستمرارهم وتأثيرهم من خلال بطولات كأس الخليج المتوالية، وعلى الجانب الآخر هناك من القنوات الإعلامية والبرامج المصاحبة التي بدأت وبعضها استمر حتى اليوم مرتبطًا بهوية البطولة، ومعبرًا عن التشاركية الخليجية - الخليجية في إبراز مشهدها، فالإعلاميون الرياضيون في المنطقة يعتبرون التجمع الخليجي فرصة بارزة للتعبير عن قدراتهم، ومشاركة أقرانهم في أقطار الخليج الأخرى تفاصيل الحدث، والتنافس في إبرازه بالصورة اللائقة. أما السبب الرابع والأهم في ضرورة استمرارية كأس الخليج العربي فهو أنها ظاهرة اجتماعية بامتياز، لدرجة أن بعض متابعيها يرون أن ما يحدث خارج الملعب من تفاعل اجتماعي وشعبي وهوياتي أهم وأكثر لفتًا مما يحدث داخله، شكلت كأس الخليج ما يُعرف في علم الاجتماع بنسق (الهويات التفاوضية Identity negotiation) يأتي المشجع من (س) من دول الخليج بزيه وأهازيجه وثقافته وكل الرمزيات المعبرة عن هويته الوطنية، وانتمائه القُطري، ليجد نفسه منصهرًا لاحقًا ضمن هوية خليجية أشمل، يتفاعل معها، ويعيد من خلالها تشكيل ذاته، وينسجم بطريقة تلقائية ضمن حيز مكاني، أو تجمع عام، أو مع مشهد معين في صورة الهوية الخليجية الأسمى. وهناك الكثير من السرديات في شكل أغنيات أو مشاهد أو مواقف تشكل الدلالة الرمزية لما نتحدث عنها، هذا الحدث في ذاته كما يقول جوفمان يجعل من «الهوية عملية تفاعلية»، ويجعل من الحدث بكل تفاصيله موقفًا تفاوضيًّا على الهوية ذاتها.
السبب الخامس الذي نسرده في هذا السياق هو أن هذه البطولة تستمد قيمتها في الأساس من اجتماع الفاعلين الاجتماعيين، أكثر من أي قيمة أخرى، فهي لا تحكمها في المقام الأول المرجعية لمعايير البطولات العالمية والاعتراف المؤسساتي بها، ولا تحكمها كذلك سطوة وقوة منتخبات بعينها، ولا تحكمها القيمة المادية لجوائزها ومكافآتها، بقدر ما يحكمها ما يمنحه المجتمع الخليجي ككل من قيمة وتفاعل وأهمية لكل تفاصيلها، وما تشكله عبر ذاكرتهم من أهمية قصوى لاستدامة الاجتماع الخليجي. في 2015 كنت قد أجريت دراسة وصفية شملت عينة من شباب دول الخليج العربي في الأعمار بين (18 - 45 عامًا)، وكانت تبحث في التأثيرات الاجتماعية لكأس الخليج العربي لكرة القدم على الهوية الخليجية، وما لفتني في النتائج أن النتيجة الوحيدة التي لم يكن للعوامل الاجتماعية تأثير فيها (أي أن هناك إجماعا مطلقا من مختلف عناصر العينة عليها) هي الشباب في المنقطة يرون بشكل مطلق بأن كأس الخليج يعزز من روح التعاون والتضامن بين الشباب الخليجي. وهذا في تقديرنا مكتسب مهم يجب البناء عليها والمحافظة على استدامته بعيدًا عن أي تفاصيل أخرى مرتبطة بالجوانب الفنية أو الجوانب المؤسساتية.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان