من صيدا وتونس إلى سواحل البرازيل!
تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT
يمتلئ التاريخ بالمفاجآت، ولعل فرضية وجود علاقة بين صيدا أو تونس وسواحل البرازيل واحدة بارزة في هذا الطريق. عدة خبراء متخصصون يرجحون هذا الاحتمال ويجدون له ما يعدونها أدلة قوية.
إقرأ المزيد هكذا تضيع الأوطان.. "أذكى" صفقة من نوعها في التاريخالحديث يدور حول الفينيقيين الذين يعدون من أمهر البحارة في العصور القديمة، فقد اكتشفوا الكثير من الأراضي الجديدة وأسسوا العديد من المستعمرات على طرق التجارة البحرية القديمة.
يعرف بشكل واسع عن الفينيقيين دولتهم العتيدة في قرطاجة بتونس الحالية ومقارعتهم الرومان في سلسلة من الحروب البونيقية التي انتهت بتدمير الرومان لقرطاجة وحرثها بالملح!
أما الجانب الآخر للحضارة الفينيقية، فهو انخراطها في تنافس محموم بشأن أولوية اكتشاف العالم الجديد وتحديدا البرازيل، إلى جانب الفايكنغ والسكان البولينيزيين الأصليين.
خبراء في علم الآثار والحضارات كرسوا حياتهم لإثبات أن الفينيقيين الكنعانيين لم تبحر سفنهم في مياه المتوسط فقط، بل وامتدت إلى مساحات واسعة من المحيطيين الأطلسي والهندي، وأنهم أبحروا حول القارة الإفريقية، وكانوا الأكثر مهارة في الملاحة البحرية في عصرهم.
لغز نقش "بارايبا" الحجري:
أنصار فكرة اكتشاف الفينيقيين المبكر لمناطق من جنوب القارة الأمريكية اللاتينية وخاصة البرازيل وبيرو، يجدون في نقش اكتشف في عام 1873 على حجر بمنطقة "جواو پيسوا"، الواقعة بشمال شرق البرازيل، أنصع دليل على ذلك.
جدل واسع ثار بين العلماء ولا يزال حول حقيقة النص المكتوب باللغة الفينيقية على ذلك الحجر قبل ضياعه نهائيا. بعض الخبراء رجحوا أنه مزور مثل عدة عملات فينيقية كان عثر عليها في المنطقة، إلا أن علماء بارزين أكدوا أن النص الفينيقي حقيقي وليس مزيفا.
العالم والمستشرق الألماني قسطنطين شلوتمان خلص بعد دراسة النقش في عام 1874 إلى القول: "إذا كان هذا مزيفا، فلا بد أن الفاعل كان خبيرا ممتازا في اللغة الفينيقية ولديه موهبة كتابية كبيرة، لأن السمات الفردية للنقش ليست فينيقية فحسب، بل ومن صيدا بلا شك. من الصعب افتراض أن مثل هذا الخبير في لهجات اللغة الفينيقية يعيش في البرازيل، حتى في أوروبا لا يوجد من مثل هؤلاء الكثير".
لاحقا أكد سايروس غوردون، وهو خبير أمريكي شهير صحة النص الفينيقي على الحجر "البرازيلي"، وبحكم خبرته في فك شفرة اللغة الفينيقية توصل في عام 1960 إلى ترجمة ذلك النص المنقوش على الحجر.
ترجمة النص الفينيقي تقول: "نحن أبناء كنعان من صيدا، مدينة ملكنا. نحن، البحارة التجار، ألقينا بالبحر إلى هذا الساحل البعيد لبلد جبلي. ذهبنا إلى البحر، ونضحي بشبابنا ونمتدح الآلهة، في السنة التاسعة من عهد ملكنا حيرام. رفعنا أشرعة سفننا العشر في ميناء إيزيونجيبر على البحر الأحمر. لمدة عامين كاملين أبحرنا إلى الحافة الجنوبية لأرض حام (إفريقيا، لكن عاصفة قوية من يد الإله بعل قسمت السفن، وفقدنا رفاقنا. وهكذا وصلنا إلى هنا إلى هذا الشاطئ ونحن 12 رجلا و3 نساء"، أتاح الاسم المذكور للملك حيرام للخبراء إمكانية تحديد تاريخ النقش في الفترة بين 553 إلى 533 قبل الميلاد.
بنهاية القرن التاسع عشر، عثر على آثار مادية تعود للفينيقيين على سواحل القارتين الأمريكيتين، من ذلك اكتشاف حبات خرز فينيقية في مقاطعة لانكستر بساوث كارولينا، كما عثر في ولاية بنسلفانيا على نقوش حجرية فينيقية في عام 1949، واكتشف حجر مماثل في ولاية أوهايو في عام 1956، وعثر على نقوش فينيقية حجرية أيضا في ولاية فرجينيا، والقائمة تطول.
مع تواصل الجدل في الأوساط العلمية حول صحة الآثار الفينيقية في العالم الجديد، عثر سكان محليون في عام 1978 بمقاطعة بوياكا الكولومبية على ألواح طينية عليها نقوش فينيقية.
صمود هذه الرواية على مر الزمن، وتمسك العديد من الخبراء الكبار بها، جعل منها احتمالا قائما، وعلى الرغم من أن زيارة الفينيقيين القدماء إلى العالم الجديد لم تصبح بعد بمثابة فرضية مقبولة على نطاق واسع، إلا أنها بلا شك لم تعد هامشية.
المصدر: RT
المصدر: RT Arabic
إقرأ أيضاً:
ترامب ووعود الجهاد.. استراتيجية داعش الإعلامية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تُعد صحيفة النبأ، التابعة لتنظيم داعش إحدى أبرز أدوات التنظيم الإعلامية؛ لنشر أيديولوجيته المتطرفة، وتبرير أعماله العنيفة. في افتتاحيتها الأخيرة الصادرة فجر الجمعة 15 نوفمبر 2024، العدد 469، تناولت الصحيفة موضوع الانتخابات الأمريكية وصعود دونالد ترامب إلى سدة الحكم، مُستخدمة خطابًا مشحونًا بالرموز الدينية والاستعارات التاريخية لتوجيه رسائل متعددة إلى جمهورها.
واستغل التنظيم هذه المناسبة السياسية العالمية لتأكيد رؤيته للعالم، باعتباره ساحة صراع أزلي بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، واصفًا ترامب وحلفاءه بـ«الطواغيت» الذين يسيرون في طريق الهلاك المحتوم.
سوف نقدم في السطور التالية تحليلًا معمقًا لافتتاحية النبأ وفق منهجية تحليل الخطاب، من خلال تفكيك البناء اللغوي للنص، واستكشاف الرموز الثقافية والدينية المستخدمة، وتوضيح الأهداف التي يسعى التنظيم إلى تحقيقها من وراء هذا الخطاب.
كما يُبرز المقال كيف يُوظف التنظيم الأحداث السياسية العالمية لإعادة صياغة رؤيته للعالم ولتعزيز عقيدته الجهادية، في محاولة لترسيخ مكانته بين أنصاره وتشويه صورة خصومه المحليين والدوليين.
النص الذي نُشر في الافتتاحية يتبنى خطابًا يُظهر موقف التنظيم من التحولات السياسية العالمية، وخاصة الانتخابات الأمريكية وما ترتب عليها من صعود دونالد ترامب.
أولًا: من حيث البناء اللغوي والدلاليالنص يوظف لغة مشحونة بالعاطفة والاستعلاء الديني بهدف تحقيق تأثير نفسي لدى المتلقي. يستخدم الكاتب: ألفاظًا قطعية وجازمة: مثل الطاغوت، الجاهلية، الكفر، التهافت المحموم، وهي تعبيرات تحمل شحنة دلالية قوية تهدف إلى تكريس صورة أيديولوجية سلبية عن الآخر، سواء كان فردًا مثل ترامب أو كيانًا مثل الحكومات الإسلامية.
تشبيه الاستعارات الدينية بالتاريخية: الإشارة إلى شخصيات مثل النمرود، فرعون، وقارون، لخلق تماثل بين الحاضر والماضي، ولإضفاء شرعية دينية على المواقف السياسية التي يتبناها التنظيم.
اللغة التقريرية: النص يطرح أفكارًا كأنها حقائق لا تقبل الجدل، مستخدمًا الاقتباسات القرآنية لتثبيت هذه الأفكار في ذهن القارئ.
ثانيًا: الرموز الثقافية والدينيةالنص يعتمد بشكل كبير على الرمزية الدينية لإقناع جمهوره، عبر: استحضار قصص الأنبياء والأقوام البائدة: مثل قارون وفرعون كأمثلة على نهاية الطغاة، وذلك بهدف تقديم ترامب كنموذج مماثل يُنتظر سقوطه بنفس الطريقة.
التصنيف الثنائي للعالم: تقسيم العالم إلى معسكر إيمان مقابل معسكر كفر، بحيث يُصور كل من يخالف التنظيم بأنه جزء من القوى التي تحارب الإسلام.
تعظيم الذات التنظيمية: النص يُظهر تنظيم داعش كجهة موحدة لله ومجسدة للإيمان، في مقابل القوى العالمية التي يُصورها بأنها تخوض حربًا صليبية ضد الإسلام.
ثالثًا: الأهداف الخطابيةالنص يسعى لتحقيق عدة أهداف، وهي:
ترسيخ أيديولوجيا الصراع: بتقديم التنظيم كمدافع عن الإسلام في مواجهة الحرب الصليبية، التي يشنها الغرب بزعامة أمريكا.
تعزيز روح المقاومة والجهاد: بالدعوة إلى الاستمرار في القتال وعدم التهاون، مع التركيز على أن الحرب مستمرة سواء بقي ترامب أو أتى غيره.
تشويه الخصوم الداخليين والخارجيين: من خلال وصف الحكومات الإسلامية بأنها خاضعة وخانعة للطاغوت الأمريكي.
رابعًا: الأسلوب الجدلي والسياق السياسيالنص يستفيد من السياق السياسي العالمي، لا سيما حالة الاستقطاب التي رافقت الانتخابات الأمريكية، ليبني: حججًا تدعم نظرية المؤامرة: بتصوير أن كل القوى السياسية تعمل تحت إرادة "الطاغوت الأمريكي"، مما يعزز فكرة أن العالم بأسره عدو للإسلام.
التلاعب بالمشاعر الدينية والقومية: باستخدام خطاب يمزج بين استنهاض العزة الإسلامية وتذكير المتلقي بالضعف العالمي المزعوم أمام قوة الله.
تفصيل المحتوى النقدييستهل النص بانتقاد واسع لترامب، واصفًا إياه بـ«الطاغوت»، وهو تعبير يحمل دلالة قرآنية ويُستخدم للإشارة إلى الحاكم المستبد الخارج عن طاعة الله. هذا الوصف يُرسخ صورة ترامب كعدو للإسلام، ويهدف إلى تعزيز الكراهية ضده وضد النظام العالمي الذي يمثله.
كما يهاجم النص النخب السياسية العالمية والإسلامية، بما في ذلك قطر وطالبان؛ متهمًا إياهم بالخضوع لإرادة ترامب. هذا الهجوم يعكس رؤية داعش الإقصائية التي تصف أي جهة لا تتبع منهجها بأنها متواطئة مع الأعداء، مما يعزز خطاب التنظيم القائم على تكفير الخصوم.
وباستخدام أمثلة تاريخية مثل قارون وفرعون، يخلق النص رابطة بين الماضي والحاضر، ليُظهر أن مصير الطغاة دائمًا الزوال. هذه الأداة الخطابية تهدف إلى استنهاض مشاعر الثقة لدى المتلقي بأن نهاية ترامب وحلفائه ستكون مشابهة لهؤلاء.
كما ينتقد النص الديمقراطية الغربية باعتبارها مصدر كل الشرور، ويتهمها بأنها السبب في انحراف العالم عن الطريق المستقيم. هذا الانتقاد يهدف إلى تسفيه أي محاولة إصلاحية من داخل النظام العالمي، وتقديم التنظيم كبديل وحيد.
ويختم النص بدعوة صريحة إلى تعزيز اليقين بنصر الله، مهما طال الصراع. هذا الجزء يمثل نواة الخطاب الدعائي للتنظيم، إذ يسعى من خلاله إلى استقطاب المزيد من الأنصار.
وأخيرًا؛ يمثل هذا النص نموذجًا للخطاب الأيديولوجي الذي يستخدم الدين كأداة لتبرير العنف والصراع. وهو يعتمد على تقنيات الإقناع القائمة على استحضار الرموز الدينية، تشويه الخصوم، وتكريس رؤية ثنائية للعالم.
ورغم أن النص يبدو مترابطًا على السطح، إلا أنه يُظهر تناقضًا بين دعوة التنظيم إلى تطبيق الشريعة ونقده للديمقراطية، وبين ممارسات التنظيم العنيفة التي تتناقض مع القيم الإسلامية التي يدعي الدفاع عنها.
وفي الأخير؛ تُبرز افتتاحية صحيفة النبأ مدى براعة تنظيم داعش في استغلال الأحداث السياسية الكبرى لإعادة صياغة خطابه الدعائي، حيث تُقدم الانتخابات الأمريكية وصعود ترامب كأمثلة تعكس الصراع الأزلي بين ما يُسميه التنظيم الإيمان والتوحيد والكفر والطغيان.
اعتمد التنظيم على توظيف خطاب ديني مُشبع بالرموز والاستعارات المستمدة من القرآن والسنة، في محاولة لإضفاء شرعية إلهية على رؤيته ومواقفه، مع تجاهل تام لتعقيدات السياسة الدولية والواقع المتغير الذي يتجاوز التفسيرات الأيديولوجية الأحادية.
يبقى خطاب التنظيم متكررًا في سردياته، إذ يعتمد على خلق صورة عالمية قائمة على الثنائية المطلقة بين الخير والشر، مع تصعيد لغة التحريض ضد خصومه ووصفهم بـ«الطواغيت»، الذين سينتهي بهم الأمر إلى الهلاك المحتوم.
ومع ذلك، فإن هذا الخطاب يفتقر إلى أي مقاربة واقعية للتحديات التي يواجهها التنظيم على الأرض، مثل تراجع نفوذه وفقدانه العديد من معاقله، مما يُشير إلى فجوة بين دعائياته وطموحاته المعلنة وبين الواقع الفعلي.
لذلك، فإن تحليل خطاب صحيفة النبأ يُبرز أهمية تفكيك السرديات المتطرفة وتفنيد مزاعمها في الفضاء العام. من الضروري أن تتضافر جهود المؤسسات الإعلامية والتعليمية والدينية لمواجهة هذه الأيديولوجيات المتطرفة.
وذلك بتقديم بدائل فكرية متماسكة وعقلانية تعكس التعاليم الحقيقية للإسلام، وتُعزز قيم التسامح والسلام، بعيدًا عن المغالاة في التفسيرات المتشددة التي تروجها هذه التنظيمات.