الفلسطينيون والإسرائيليون.. سر غياب التعاطف المتبادل
تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT
مع استمرار الحرب على غزة وتفاقم الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، سلطت صحيفة "نيويورك تايمز" الضوء على أزمة مختلفة تتعلق باتساع الفجوة النفسية بين الطرفين، موضحة أن عدم الفهم الكامل لدوافع الطرف الآخر من كلا الجانبين تسبب في أنهم أصبحوا لا يرون بعضهم كبشر وأصبح من الصعب جدا العثور على تعاطف متبادل.
وسعت الصحيفة في تقريرها، الاثنين، إلى إلقاء الضوء على دوافع كل طرف لكراهية الطرف الآخر.
بالنسبة للدافع الفلسطيني، أوضحت الصحيفة، أنه يمكن استنتاجه من خطاب موشيه ديان، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بعد ثماني سنوات من تأسيس دولة إسرائيل.
وقف ديان بالقرب من حدود غزة لإلقاء خطاب تأبين لضابط أمن إسرائيلي قُتل على أيدي مهاجمين فلسطينيين ومصريين، وقال في عام 1956: "دعونا لا نلقي اللوم اليوم على قتلته. ماذا يمكننا أن نقول ضد كراهيتهم الفظيعة لنا؟ لقد وجدوا أنفسهم منذ ثماني سنوات في مخيمات اللاجئين في غزة وشاهدوا كيف قمنا، أمام أعينهم، بتحويل أراضيهم وقراهم، حيث كانوا يعيشون وأجدادهم في السابق، إلى وطن لنا".
وترى الصحيفة أن هذا الخطاب القصير لا يعبر فقط عن الرؤية العميقة للغضب الفلسطيني بقدر ما يُذكر بالاستنتاج الحازم الذي توصل إليه ديان حين قال: "بدون الخوذة الفولاذية وفوهة المدفع، لن نتمكن من غرس شجرة وبناء منزل".
وتقول الصحيفة أن الإسرائيليين قرروا مؤخرا تناسي أسباب الغضب الفلسطيني.
أما بالنسبة للدافع الإسرائيلي، ذكرت الصحيفة أنه لا يوجد فهم فلسطيني لتاريخ الاضطهاد المعادي للسامية الذي استيقظ لدى اليهود بعد الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر. لذلك من الصعب جدا العثور على تعاطف متبادل.
وعلى هذا الأساس أشارت الصحيفة إلى أن النتيجة هي فجوة نفسية عميقة لدرجة أن الفلسطينيين أصبحوا يعتبروا غير مرئيين كأفراد بالنسبة لليهود الإسرائيليين، والعكس صحيح. وذكرت أنه هناك استثناءات بالطبع، فقد كرس بعض الإسرائيليين والفلسطينيين أنفسهم لسد هذه الفجوة. لكن بشكل عام، تتباين روايات الجانبين، ما يؤدي إلى دفن أي تصور للإنسانية المشتركة.
وأعطت الصحيفة مثالا على الفجوة الواسعة بين رواية الطرفين في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، المعروفة لدى الإسرائيليين باسم حرب الاستقلال، لكنها بمثابة النكبة أو الكارثة بالنسبة للفلسطينيين. والنكبة تتنافس مع المحرقة حيث يستحضر كل جانب "الإبادة الجماعية".
وذكرت الصحيفة أن شيطنة الطرف الآخر حاليا أصبحت لا تعرف حدودا. ومنذ هجوم حماس في أكتوبر الماضي، تحدث وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، عن قتال "الحيوانات البشرية". ووصف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، الإسرائيليين بأنهم "نازيون جدد تدعمهم القوى الاستعمارية". وبدوره، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حماس بأنها "النازية الجديدة".
ولذلك ترى الصحيفة أنه في غياب الاعتراف أو الحوار أو التفاهم، سيتدفق دم كثير.
وأوضحت أن الكراهية الفلسطينية التي أدركها موشيه ديان وتعهد بمقاومتها من خلال "الاستعداد والتسليح والقوة والعزم" لا تزال تنمو، ويغذيها القمع الإسرائيلي، والحصار والسيطرة، فضلا عن سوء الحكم الفلسطيني المزمن. ويخشى الفلسطينيون في غزة، الذين يبلغ عدد قتلاهم أكثر من 12 ألف شخص بحسب وزارة الصحة في غزة، الإبادة.
وأدى القصف الجوي والبري والبحري الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر إلى مقتل أكثر من 12 ألف فلسطيني، معظمهم مدنيون بينهم أطفال ونساء، وفقا لوزارة الصحة في قطاع غزة.
وتقول الأمم المتحدة إن ثلثي سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة صاروا بلا مأوى.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي تولى منصبه في الأول من يناير 2017، للصحفيين "نشهد مقتل مدنيين بشكل لا مثيل له وغير مسبوق في أي صراع منذ أن توليت منصب الأمين العام".
وأدى هجوم حماس، المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة، في السابع من أكتوبر إلى مقتل نحو 1200 شخصا معظمهم مدنيون وبينهم أطفال ونساء، وفقا للسلطات الإسرائيلية التي قالت إن حماس أخذت 240 شخصا رهائن خلال الهجوم.
والاثنين، أُجليت مجموعة تضم 28 من الأطفال الخدج (ناقصي النمو) من أكبر مستشفى في قطاع غزة إلى مصر، الاثنين، لتلقي العلاج، في الوقت الذي أعلنت فيه السلطات الصحية الفلسطينية ومنظمة الصحة العالمية مقتل 12 شخصا في مستشفى آخر في غزة تحاصره دبابات إسرائيلية.
وكان الأطفال حديثو الولادة في مستشفى الشفاء بشمال غزة، حيث لقي عدة أطفال آخرين حتفهم بعد أن توقفت حضاناتهم عن العمل في ظل انهيار الخدمات الطبية خلال الهجوم العسكري الإسرائيلي على مدينة غزة.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الصحیفة أن فی غزة
إقرأ أيضاً:
المؤسسة الفلسطينية لمكافحة المقاومة.. ما الذي جرى لأجهزة السلطة؟
في مطلع فبراير/شباط 2023، وقبل أشهر من هجوم "طوفان الأقصى"، أفاد موقع "أكسيوس" الأميركي، نقلا عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين، أن وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن ضغط على الرئيس الفلسطيني محمود عباس من أجل القبول بخطة أمنية تعيد سيطرة السلطة على مدينتَيْ نابلس وجنين، وتشمل "تدريب قوة فلسطينية خاصة" لمواجهة المسلحين -المقاومين- في الضفة الغربية المحتلة.
بعد مرور أقل من عامين على زيارة بلينكن، تحديدا في ديسمبر/كانون الأول الماضي، دشَّنت السلطة الفلسطينية حملة أمنية شرسة ضد المقاومين في مخيم جنين، ثاني أكبر مخيمات الضفة، بدعوى "إنهاء الفوضى الأمنية" و"منع تكرار سيناريو غزة"، وفي الحقيقة كان ما جرى في جنين مخُططا له قبل أحداث غزة بأشهر على الأقل.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2يوم أدار حنظلة ظهره لماجد فرجlist 2 of 2فتح المخطوفة.. هل ينجح العالول ورفاقه في تحريرها؟end of listوقد أعادت هذه الحملة تسليط الضوء مجددا على الدور الذي تلعبه أجهزة أمن السلطة في رام الله، وطرحت إلى الواجهة كذلك الاتهامات التي تُوجَّه لها من قِبَل بعض الفصائل الفلسطينية، التي ترى أن دور التنسيق الأمني الذي تمارسه السلطة مع الاحتلال قد تخطّته إلى ممارسة أمنية أكثر قمعية، وإلى دور هو أشد حِدَّة وقسوة تجاه فصائل المقاومة، وأن الأمر يمضي في تصاعد بلا توقف.
إعلانوفي هذا السياق، تجدد السلطة موقفها بشأن دور أجهزتها الأمنية، مع التأكيد أنها ليست مؤسسة اشتباك مع الاحتلال، بل قوة أمن داخلي، مهمتها أن تُبقي الأوضاع داخل المناطق التي تخضع لها هادئة، وألا تدخل في مجابهة غير متكافئة مع الاحتلال، وهو ما طرحه بوضوح سافر مسؤول جهاز الأمن الوقائي السابق في الضفة جبريل الرجوب، الذي قال إن الأجهزة الأمنية للسلطة "ليس من وظيفتها الاشتباك مع إسرائيل أو مقاومتها".
هذا الطرح، الذي يبدو أنه يُمثِّل السلطة خير تمثيل، يضعها أمام معضلة أخلاقية كبرى أمام تيار واسع من الفلسطينيين، باعتبار أن القضية الأعلى للشعب الفلسطيني هي تحرير الأرض، وأن ما يجسد ذلك هو مواجهة الاحتلال، وأنه لا يمكن التعامل مع المقاومة وأفرادها باعتبارهم "خارجين على القانون" في الوقت الذي لا تُحرِّك فيه السلطة وقواها الأمنية ساكنا أمام اعتداءات المستوطنين وجيش الاحتلال على الفلسطينيين، ولا تجاه عشرات الحواجز التي تضعها إسرائيل بين مدن الضفة لتحوِّل حركة الفلسطينيين إلى طقس للعذاب اليومي.
هذه المادة تستعرض المسار الزمني لذلك التحول في عقيدة أمن السلطة منذ اتفاق أوسلو وحتى عملية جنين الحالية.
ينظر الكثير من الفلسطينيين إلى اتفاقية أوسلو (1993) باعتبارها تخليا من منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها الراحل ياسر عرفات عن خيار المقاومة المسلحة نحو تبنّي ما يُعرف بـ"خيار السلام". وبموجب الاتفاقية، أقرَّ عرفات ورفاقه في النضال لأول مرة بحق إسرائيل في الوجود والعيش بسلام فوق قرابة 77% من أراضي فلسطين التاريخية مقابل حلم تأسيس "الدولة الفلسطينية" على المساحة المتبقية منها، وبالتبعية تحولت الغالبية العظمى من مقاومي ما قبل أوسلو إلى أفراد في أجهزة شرطية وأمنية فلسطينية تطرق باب السلام باتجاه دولة فلسطينية موعودة.
إعلانتأسست الأجهزة الأمنية جزءا من ترتيبات "الحكم الذاتي" المحدود للفلسطينيين الذي نص عليه الاتفاق، وحُدد حجم هذه الأجهزة بما بين 9 آلاف إلى 12 ألف عنصر في البداية بما يتناسب مع الاحتياجات الأمنية للسكان الفلسطينيين، وزُوِّدت بأسلحة خفيفة تَحُول دون إمكانية دخولها في مواجهة جدية مع الاحتلال الإسرائيلي. لكن الخطوة الأهم كانت هيكلة هذه الأجهزة "وظيفيا" بشكل يضمن التنسيق الأمني مع الاحتلال، من خلال لجان تنسيق مشتركة للإشراف على الترتيبات الأمنية، كانت مهمتها الحقيقية توجيه هذه الأجهزة نحو هدفها الأساسي الجديد: منع أي نشاط فلسطيني مقاوم لإسرائيل ينطلق من المناطق الخاضعة لسيطرة السلطة في الضفة الغربية.
كانت نقطة التحول الأخطر على العقيدة الأمنية للمقاتلين القدامى والشُّرطيين الجدد حين عملت منظمة التحرير على تعديل بنود الميثاق الوطني ليتماشى مع مخرجات أوسلو، وذلك بتبنّي "نبذ العنف" في محاولة لتغريب حالة المقاومة عن الشارع الفلسطيني في خضم انتفاضة الأقصى الأولى، وإلزام كل عناصر وأفراد منظمة التحرير بهذه التعديلات والعمل على "ضبط المنتهكين".
وساعد على ذلك التحول أن تمويل أجهزة الأمن التابعة للسلطة أتى عبر الدعم المقدَّم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وظل هذا الدعم مشروطا باستمرار التنسيق الأمني، وهو ما عنى أن استمرارية تمويل الأجهزة الأمنية ومن فوقها السلطة الفلسطينية ظل مربوطا بقدرتها على تلبية المتطلبات الأمنية لسلطة الاحتلال.
ظهر التحول أيضا في الطريقة التي صُمِّمت على أساسها الأجهزة الأمنية الفلسطينية وسقف إمكاناتها وتسليحها وطبيعة تشكيلاتها، التي هُندست بغرض حماية اتفاقية أوسلو ومنع العمل المقاوم.
تبدو هذه الأجهزة عاجزة أو مكبلة تماما، أو ربما غير مستعدة للدفاع عن الشعب الفلسطيني تجاه أي انتهاكات تُمارَس ضده سواء من جيش الاحتلال أو المستوطنين، وظلّ الانتماء إلى هذه الأجهزة مشروطا بـ"السلامة الأمنية" التي تعني عدم انتماء الشخص إلى أيٍّ من الفصائل الفلسطينية المقاومة أو تعاطفه معها بأي شكل من الأشكال.
فور وصول ياسر عرفات (أبو عمار) إلى قطاع غزة في أعقاب أوسلو، تحديدا في الأول من يوليو/تموز عام 1994، استقبلته الآلاف من الجماهير الفلسطينية في ساحة الجندي المجهول إلى الغرب من مدينة غزة، حيث امتلأت الشوارع بمشهد أفراد الأجهزة الأمنية التي عرفها الفلسطينيون لأول مرة. وتوجَّه عرفات بعدها إلى مخيم جباليا، مهد الشرارة الأولى لانتفاضة الأقصى لاحقا، وألقى كلمة قال فيها: "لنتحدث بصراحة، قد لا تكون هذه الاتفاقية -أوسلو- ملبية لتطلعات البعض منكم، ولكنها أفضل ما أمكننا الحصول عليه من تسوية في ظل الظروف الدولية والعربية الراهنة".
إعلانلم يكد يمضي على تشكيل الأجهزة الأمنية للسلطة بضعة أشهر حتى اندلعت أول مواجهة بينها وبين المتظاهرين من أنصار حركة حماس والمقاومة. بدأ الأمر بإقدام الاحتلال الإسرائيلي على اغتيال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي هاني عابد، عبر تفجير سيارته أمام كلية العلوم والتكنولوجيا بخان يونس التي كان يعمل محاضرا بها، وذلك رغم أن قطاع غزة كان خاضعا للسلطة بحلول ذلك الوقت.
ردا على ذلك، قام استشهادي ينتمي إلى الحركة بتفجير نفسه وسط جنود الاحتلال قرب مستوطنة نتساريم، وردا على ذلك شنَّت أجهزة أمن السلطة حملة اعتقالات وسط صفوف الحركة، ومنعتها من تشييع جثمان منفذ العملية الشهيد هشام حمد وفاءً بالتزاماتها الأمنية تجاه الاحتلال بموجب اتفاقية أوسلو، وقد احتشد على إثر ذلك أنصار حركة حماس والمقاومة يوم الجمعة 18 نوفمبر/تشرين الثاني في مسجد فلسطين بقطاع غزة للاحتجاج، ولكن أجهزة السلطة قمعت تظاهراتهم وأطلقت الرصاص الحي، ما تسبب في استشهاد 13 شخصا وإصابة 200 آخرين.
وفقا للمركز الفلسطيني للإعلام، قامت أجهزة السلطة في الفترة من مايو/أيار 1994 وحتى أغسطس/آب 1995 بـ12 حملة اعتقال في قطاع غزة، وأنشأت 24 مركز توقيف، وداهمت في شهر واحد (19 أبريل/نيسان – 19 مايو/أيار 1995) 57 مسجدا في القطاع 138 مرة.
وفي فبراير/شباط 1995، أنشأت السلطة "محكمة أمن الدولة" التي اشتهرت جلساتها بـ"محاكم منتصف الليل" بسبب توقيت انعقادها والسرية التي فُرضت عليها، وخلال شهر ونصف (9 أبريل/نيسان – 27 مايو/أيار 1995) أصدرت أحكاما بحق 33 معتقلا معظمهم من حركتَيْ حماس والجهاد الإسلامي، وكانت بعض المحاكمات تستغرق دقائق معدودة. وقد أشاد جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشاباك) بأداء أجهزة أمن السلطة خلال تلك الفترة، التي نجحت بحسب تقديراته في منع 80 عملية ضدّ أهداف إسرائيلية خلال سنة 1995.
إعلانلم تقف ممارسات السلطة الأمنية عند هذا الحد، ولكنها اتخذت نهجا أكثر تصعيدا في أعقاب اغتيال الاحتلال الإسرائيلي للشخصية الأبرز في الجناح العسكري لحماس المهندس يحيى عياش في يناير/كانون الثاني 1996، دفع ذلك جناح حماس العسكري لتنفيذ سلسلة عمليات في الداخل المحتل ردا على الاغتيال.
وعلى إثر عمليات الثأر تلك، انعقدت "قمة صناع السلام" في 13 مارس/آذار 1996 في شرم الشيخ بدعوة من مصر والولايات المتحدة الأميركية، وكان أبرز مخرجاتها التشديد على "مكافحة الإرهاب وتجفيف مصادر تمويله"، في إشارة إلى المقاومة الفلسطينية.
الآن يُنظر إلى ذلك المؤتمر باعتباره نقطة تحول في العقيدة الأمنية للأجهزة الفلسطينية، حيث بدا أن السلطة تتجه نحو التعامل مع المقاومة المسلحة الفلسطينية بالتصنيف الذي تضعه فيها الإدارة الأميركية: مجموعات إرهابية.
مواجهة مفتوحةكانت الثمرة الأولى لذلك التحول أنْ شنّت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في 25 فبراير/شباط 1996 عملية واسعة استمرت 6 أشهر ضد حركتَيْ حماس والجهاد الإسلامي طالت جميع المؤسسات والبنى التحتية القتالية والسياسية والتعليمية والخيرية للحركتين، وصادرت خلالها الأسلحة والأموال، واعتقل جهاز الأمن الوقائي والمخابرات أكثر من 2000 شخص من الصفوف القيادية للحركتين، وأخضعوهم لتعذيب شديد في محاولة لتفكيك بنيَتهما التنظيمية.
ولم يقتصر الأمر على قطاع غزة فقط، بل توسعت الحملة الأمنية إلى الضفة الغربية أيضا، لكنها ظلت أقل حِدَّة من غزة لاعتبارات متعددة، منها ضعف السيطرة الأمنية للأجهزة في مقابل العائلات.
تحت وطأة هذا الضغط الأمني، أدخلت حركة حماس جملة تغييرات على طريقة تنظيم جهازها العسكري في غزة، وتحولت إلى المقاومة ضمن "خلايا سرية" باتت مهمة السلطة أكثر صعوبة في مطاردتها.
في غضون ذلك، شهدت الضفة الغربية أحداثا محورية لعبت فيها أجهزة الأمن الفلسطينية دورا مهما، على رأسها واقعة تسليم خلية صوريف التابعة للقسام، التي يُعتقد أنها نفذت عمليات قُتل خلالها 11 إسرائيليا، وأسرت الجندي "شارون أدري" وقتلته وأخفت جثته لسبعة أشهر كاملة، قبل أن يعتقل أمن السلطة الوقائي بقيادة جبريل الرجوب أعضاء في الخلية ويسلمهم للاحتلال الإسرائيلي، في مشهد يُجسِّد مآلا مأساويا لمقاومي الأمس وشرطة اليوم.
هذا فضلا عن وقائع اغتيال محيي الدين الشريف، المهندس الثاني للقسام وخليفة يحيى عياش، في مارس/آذار 1998، واغتيال القياديين الشقيقين في القسام عماد وعادل عوض الله في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، وقد اتهمت حماس الرجوب صراحة بالمسؤولية عن الأحداث السابقة، ما دشَّن عصر الخصومة العلنية بين حماس وفصائل المقاومة من جهة، وبين السلطة وأجهزتها الأمنية من جهة أخرى.
أعقب ذلك الصخب عامان من الهدوء المشوب بالترقب لعمليات المقاومة الفلسطينية (1998-2000)، تضخم خلالهما الجهاز الأمني الفلسطيني ليُشكِّل أعلى نسبة لتعداد الشرطيين إلى عدد السكان في العالم قبيل انتفاضة الأقصى بواقع نحو 40 ألف شرطي، أي بمعدل رجل أمن واحد لكل 84 فلسطينيا (ارتفعت النسبة في مطلع 2006 إلى نحو 70 ألف شرطي بمعدل رجل أمن واحد لكل 50 فلسطينيا تقريبا)، وفق ما أشار إليه رئيس مركز الزيتونة للدراسات محسن صالح. ومع هذا التضخم انتشرت اتهامات تتعلق بالصراعات البينية بين الأجهزة، وأخرى تتعلق بالفساد.
إعلانفي مقابل ذلك كله، لم تجلب أوسلو أيًّا مما وعدت به الفلسطينيين على قِلّته، فلم ينسحب جيش الاحتلال إلا من مراكز المدن الفلسطينية، وظل يحافظ على انتشاره خارج هذه المدن، مع الإبقاء على المستوطنات التي قطعت أوصال قطاع غزة فيما عُرف بالأصابع الخمسة (محور نتساريم، محور كفار داروم، محور ميراج، مع مستوطنتَيْ دوغيت وإيلي سيناي شمال غزة، ومحور فيلادلفيا في جنوبها)، وكان على كل محور نقاط عسكرية للجيش الإسرائيلي يسبقها بعشرات الأمتار مقرات عسكرية وأمنية عُرفت بنقاط الارتباط تتبع لأجهزة الأمن الفلسطينية.
الأهم أنه بعد انتهاء الفترة الانتقالية الأولى لاتفاق أوسلو -خمس سنوات- وهي مرحلة الحكم الذاتي المحدود، كان من المقرر توقيع اتفاق نهائي بحلول عام 1999 يشمل قضايا الحل النهائي، وهي القدس، واللاجئون الفلسطينيون، والحدود، والمستوطنات الإسرائيلية، فضلا عن الترتيبات الأمنية وقضية المياه، لكن ذلك لم يحدث أبدا لأن إسرائيل عملت منذ اللحظة الأولى على وضع العراقيل والشروط أمام اتفاق أوسلو لجعله غير قابل للتطبيق، في الوقت الذي عملت فيه بدأب على تغيير الوقائع على الأرض.
لقد أتاحت اتفاقية أوسلو للاحتلال الإسرائيلي توسعة مشروعه الاستيطاني الاستعماري دون مواجهة عقوبات أو ضغوط فلسطينية، ولا أدل على ذلك من أرقام جهاز الإحصاء الفلسطيني، ففي عشية توقيع أوسلو عام 1993 بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية 268,759 مستوطنا، قبل أن يرتفع عددهم عام 2000 إلى 379,099 مستوطنا بزيادة أكثر من 40%. في غضون ذلك، ظلت القيادة الفلسطينية مُتمسّكة بأوهام السلام التي وعدت بها أوسلو، وهو سلام كان يصير أبعد منالا في كل يوم.
انتفاضة الأقصى وما بعدهاباتت هذه الحقيقة واضحة أمام الجميع، وفي مقدمتهم ياسر عرفات نفسه الذي دخل إلى مفاوضات كامب ديفيد في يوليو/تموز عام 2000 وهو يسيطر على أقل من 18% من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، ليجد أن إدارة بيل كلينتون الأميركية وحكومة حزب العمل الصهيونية بقيادة إيهود باراك وضعتا مقترحات جديدة تماما على الطاولة، تضمنت استثناء وضع القدس واللاجئين من مفاوضات الحل النهائي. ساعتها أطلق عرفات عبارته الشهيرة: "في حال قبولي مقترح الإسرائيليين سأُقتل… أُفضِّل الانتحار على ذلك، فأي قائد فلسطيني يُبدي تنازلا في القدس لم يُولد بعد".
إعلانتعتقد تقارير الاستخبارات الأميركية أن تلك هي الفترة اللي بدأ عرفات يفقد فيها إيمانه بـ"خيار السلام" ويسمح بـ"تهريب" بعض الأسلحة إلى أراضي السلطة، استعدادا ربما لانهيار كل شيء واستعادة خيار المقاومة مجددا.
تزامن ذلك مع اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر/أيلول من العام نفسه احتجاجا على اقتحام أرييل شارون وجنوده للمسجد الأقصى، وإقدام إسرائيل بعد شهر واحد على الانتفاضة على اغتيال القيادي الكبير في حركة فتح في مخيم طولكرم الدكتور ثابت ثابت، ليؤسس صديقه رائد الكرمي، ابن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بمباركة من يسار عرفات، كتائب ثابت ثابت، التي تحوَّل اسمها لاحقا إلى كتائب شهداء الأقصى.
ضمَّت كتائب شهداء الأقصى عددا كبيرا من قيادات وأفراد الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أهمهم عاطف عبيات، ويوسف ريحان أبو جندل الذي قاد المقاومة في معركة مخيم جنين 2002 بعد إعلانه الانفصال عن قوات الأمن، واللواء أحمد مفرج أبو حميد مسؤول قوى الأمن الوطني الفلسطيني في جنوب قطاع غزة، والقائد جهاد العمارين مسؤول كتائب الأقصى في قطاع غزة، وغيرهم الكثيرون من ذوي الخبرات والتدريب العالي.
اعتبر الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأميركية هذا الانخراط النسبي لأعضاء الأجهزة الأمنية الفلسطينية وقياداتها في المقاومة مجددا تراجعا مقلقا عن عقيدتها الأمنية الجديدة وبنيتها الوظيفية، وظهر تخوف من إمكانية نقل الخبرات العسكرية من أفراد الأجهزة الأمنية للشباب المقاوم، ما قد يثمر مقاومة أكثر تنظيما وكفاءة.
لذلك كثَّف الاحتلال آنذاك من عمليات الاغتيال بحق قيادات وأفراد الأجهزة الأمنية الفلسطينية منعا لنقل الخبرات القتالية إلى الفصائل الفلسطينية، ثم دمّر غالبية مقرات الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بهدف تقويض بنيتها التحتية. وقد خلص الأميركيون والإسرائيليون آنذاك إلى أن تصلب موقف ياسر عرفات، وشعوره بالخذلان من التراجع عن وعود أوسلو، هو السبب في هذا التراجع، غير أنهم لم يتخلوا عن خطتهم بقمع مقاومة الفلسطينيين بأيادي الفلسطينيين أنفسهم، لكنهم كانوا بحاجة إلى قيادة جديدة أكثر تمرسا في قبول التنازلات، وأكثر استعدادا لقبول البضاعة القديمة واللهاث وراء إغراءات الدولة المنتظرة.
إعلانبحلول عام 2004، وفي هذا السياق كان من الطبيعي أن يغيّب الموت (أو الاغتيال) عرفات عن المشهد السياسي الفلسطيني، وتبع ذلك قنبلة سياسية أخرى هي الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005 دون أي تنسيق مع السلطة الفلسطينية، لتتفرغ واشنطن وتل أبيب لإعادة هندسة الوضع المضطرب في الضفة.
وقتها، قررت واشنطن الانخراط مباشرة للمرة الأولى في تعزيز بيئة التعاون الأمني بين إسرائيل والأجهزة الأمنية الفلسطينية، وشكَّلت في مارس/آذار 2005 مجلس تنسيق التعاون الأمني بين الطرفين بقيادة الجنرال الأميركي كيث دايتون، وحصل برنامج دايتون على تمويل أميركي بـ100 مليون دولار، إضافة إلى تمويل للبعثات التدريبية الدائمة للشرطة الفلسطينية بمبلغ من 10-16 مليون يورو، فضلا عن مقررات تمويلية غير معلنة تصل مباشرة إلى أجهزة أمنية مثل جهاز المخابرات الفلسطينية.
بالتزامن مع ذلك، نُظر إلى دخول الفصائل الفلسطينية، وتحديدا حركة حماس إلى المشهد السياسي الفلسطيني من خلال انتخابات تشريعية، باعتباره خطوة مفيدة على المدى البعيد في تحجيم خيار المقاومة المسلحة عبر إلزام حماس بنتائج الانتخابات وقرارات نظام أوسلو السياسي والعقيدة الأمنية لأجهزة الأمن الفلسطينية وإثقال حماس بأعباء السياسية وتفريغها تدريجيا من أعباء المقاومة، وكانت التوقعات آنذاك أن تحصد حماس ثلث الأصوات بالحد الأقصى، ما يجعلها مجرد فصيل معارض أو شريك هامشي في صناعة القرار في أفضل الأحوال.
لكن نتائج الانتخابات التي جرت في 25 يناير/كانون الثاني عام 2006 أسفرت عن مفاجأة مدوية، حيث حصدت حماس 76 مقعدا في المجلس التشريعي من أصل 132 مقعدا، ما يُمكِّنها من تشكيل الحكومة بمفردها، ويعني ذلك أن الجماهير الفلسطينية صوَّتت لصالح حماس حتى وإن لم تنتمِ إليها، بسبب السخط على حالة السطوة الأمنية التي كانت تمارسها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. وقد عرضت حماس على فتح وباقي الفصائل المشاركة في الحكومة الجديدة، لكن فتح رفضت المشاركة ربما بضغوط غربية أو إقليمية.
إعلانلم تكن المشاركة في الانتخابات قرارا سهلا بالنسبة لحركة حماس، لأن الحركة كانت تفطن إلى أن الهدف النهائي وراءها هو إرغام جميع الفلسطينيين على الاعتراف بإسرائيل ومقررات أوسلو، لكنها رجحت في النهاية أن بإمكانها استخدام الشرعية التي ستمنحها الانتخابات لإعادة تشكيل هوية النظام السياسي الفلسطيني ووقف التحول المتسارع في عقيدة أجهزته الأمنية.
لكن الضغوط الدولية على الحركة بدأت بمجرد إعلان فوزها، وفي 27 يناير/كانون الثاني عام 2006، أي بعد يومين على الانتخابات التشريعية الفلسطينية، عُقد اجتماع مهم للجنة الرباعية (مكونة من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) المنوطة بإدارة عملية السلام العربي الإسرائيلي في لندن، للنظر في "التحديات" التي طرحتها نتائج الانتخابات الفلسطينية.
خلال الاجتماع، اعترف الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الذي ترأس لجنة مراقبة الانتخابات الفلسطينية بنتائج الانتخابات قائلا: "هذه أنزه انتخابات راقبتها في حياتي وأكثرها حرية.. خففوا الضغوط على الفلسطينيين وحماس قبل فرض الشروط عليهم". لكن كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، أكد في الاجتماع نفسه أن مساعدة أي حكومة فلسطينية جديدة في المستقبل "يرتبط بالتزام هذه الحكومة بمبدأ نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل، وقبول الاتفاقات والالتزامات التي أبرمتها الحكومات الفلسطينية السابقة".
داخليا، لم تستجب الأجهزة الأمنية الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية منذ اللحظة الأولى لأيٍّ من قرارات وزير الداخلية في حكومة حماس سعيد صيام، فيما بدا أنه عصيان مقصود تزامن مع حالة من الفلتان الأمني تركزت في قطاع غزة قادتها "فرقة الموت" التابعة لقائد جهاز الأمن الوقائي محمد دحلان، وكذلك لمجموعات متعددة من عدة أجهزة أمنية مثل المخابرات الفلسطينية، ما دفع صيام لاستحداث قوة أمنية شرطية، تحت اسم القوة التنفيذية، للمساعدة في مواجهة الانفلات الأمني.
إعلانانتشرت عناصر القوة التنفيذية البالغ عددها 5 آلاف شخص لأول مرة في شوارع قطاع غزة في 17 مايو/أيار 2006، وزاد عددها في نهاية العام إلى 6300 شخص، منهم 4000 ينتمون إلى حماس والباقي موزعون على عدة فصائل، ما عدا حركة الجهاد الإسلامي التي لم تشارك في الانتخابات ولا في أي عمل له صلة بالنظام السياسي المنبثق عن اتفاق أوسلو.
تزامنت حالة الانفلات الأمني في قطاع غزة مع شن الجناح العسكري لحماس وعدد من الفصائل الأخرى عملية الوهم المتبدد في يونيو/حزيران عام 2006، التي أسرت خلالها الجندي جلعاد شاليط، وقتلت جنديين وأصابت 5 آخرين، حيث فشلت إسرائيل في تحديد مكانه أو تحريره على مدار خمس سنوات متتالية، شنَّت خلالها حربا واسعة على قطاع غزة. وقد دشَّنت تلك العملية ومثيلاتها مسرحا جديدا للنظام السياسي الفلسطيني، حيث حركة تتولى الحكم في الوقت الذي تواصل فيه المقاومة ضد الاحتلال.
على إثر ذلك بدأت مواجهة داخلية ما بين عقيدتين أمنيتين في قطاع غزة، حماس بقوتها التنفيذية، والسلطة الفلسطينية في رام الله بأجهزتها الأمنية التي رفضت الانصياع لحكومة حماس. تصاعدت تلك المواجهة حين بدأت مجموعات من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية موجة من عمليات الاغتيال بحق قيادات ورموز من حماس، مثل إمام مسجد العباس الشيخ محمد الرفاتي في 10 يونيو/حزيران 2007، والدكتور حسين أبو عجوة في 6 يوليو/تموز 2007، حيث اتهمت حماس قيادات في الأجهزة الأمنية بتوجيه عمليات الاغتيال.
استمرت حالة الانفلات والصراع الأمني بين الأجهزة الأمنية الشرطية التابعة لحماس وأجهزة السلطة التابعة للرئيس محمود عباس في رام الله حتى اتخذت حماس قرارها بمساعدة جناحها العسكري بـ"حسم" صراعها مع الأجهزة الأمنية والاستيلاء على مقراتها في 15 يونيو/حزيران 2007، فيما عُرف إعلاميا باسم "الحسم العسكري". كان هذا التحرك يعني أن حركة حماس خلصت إلى أن الأجهزة الأمنية للسلطة باتت عقبة أساسية أمام مشروع المقاومة، وأن ثمة انقلابا على الشرعية الانتخابية تنفذه مجموعات مرتبطة بالسلطة وعلى علاقة وثيقة بالاحتلال.
إعلانعلى مدار سنوات، فشلت جميع محاولات المصالحة بين فتح وحماس في إعادة تشكيل أجهزة أمنية مشتركة بين الطرفين، نظرا لتنافر العقيدة الأمنية لكلا الطرفين، ما أدى إلى انفصال تام بين الأجهزة الأمنية التابعة لحماس في غزة وتلك التابعة للسلطة في الضفة الغربية، التي استمرت في لقاءات التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي استغلت فيه حماس سيطرتها على غزة في تأسيس البنية التحتية للمقاومة وتطوير تسليحها بُغية تجهيزها لمهمة التحرير.
دايتون.. التحول الأخطرفي أعقاب الانقسام الفلسطيني، أعلنت الولايات المتحدة وإسرائيل رسميا عن مشروع دايتون تحت اسم "برنامج تدريب وتأهيل الأجهزة الأمنية الفلسطينية"، وكان من أهم أهداف المشروع ضمان استمرار التنسيق الأمني مع إسرائيل، ومواجهة أي تهديد محتمل من الفصائل المسلحة خصوصا حماس في الضفة الغربية، وفي فلسفته الكبرى، كان المشروع يهدف إلى "صناعة الفلسطيني الجديد" وفق المعايير التي حددتها أميركا وإسرائيل.
وقد كانت إعادة هيكلة أجهزة الأمن الفلسطينية وصياغة عقيدتها القتالية الجديدة في القلب من مشروع دايتون، الذي بدأ يكشف عن ملامحه من خلال خطوات على شاكلة إبعاد رجال الأمن القدامى، وتوظيف أجيال جديدة من شباب ليس لهم أي تاريخ مقاوم ضد الاحتلال بهدف قطع الوصل مع الأجيال النضالية السابقة، وجعل هذه الأجهزة تدين بالولاء المطلق للسلطة وتلتزم الاستكانة التامة للاحتلال.
أُقيمت مراكز التدريب في الأردن تحت إشراف خبراء دوليين، وموّلت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي المشروع ودعموه لوجستيا، وبدأت العناصر التابعة لشركة "ليبرا" الأمنية، وهي شركة أمن خاصة "مرتزقة" جُلبت لخدمة المشروع، تتجول في الضفة الغربية دائما بصحبة الضباط الفلسطينيين لتقديم المشورة الأمنية لهم، حتى إن الجنرال دايتون بدأ يتحرك في الضفة الغربية بنفسه بصحبة مساعديه من الإنجليز والكنديين.
إعلانشملت خطة دايتون تدريب 9 كتائب من قوات الأمن الوطني الفلسطيني في الأردن بين عامي 2008-2012، تحت إشراف متعاقدين من شركة "دينكورب" الأميركية بهدف نشر كتيبة في كل محافظة من محافظات الضفة الغربية باستثناء القدس، وتأهيل كتيبة احتياط من الحرس الرئاسي تعمل عند الطوارئ، وكان العدد الإجمالي المقرر تدريبه 19 ألف شرطي خلال عشر سنوات، فضلا عن تدريب 10 آلاف آخرين على يد مكتب التنسيق التابع للاتحاد الأوروبي لدعم الشرطة الفلسطينية في مركز تدريب أريحا الذي موَّلت الأمم المتحدة بناءه، قبل تدشين جامعة الاستقلال لتخريج ضباط الشرطة عام 2013.
منذ ذلك الحين، بدأ التحول الجديد والأخطر في مسار العقيدة الأمنية لأجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية باتجاه نهجٍ أكثر تفردا وتسلُّطا حتى من المستويات السياسية للسلطة، وأكثر تغوُّلا في الاقتصاد الفلسطيني، لقد أصبح التنسيق الأمني جزءا من بنية أجهزة أمن السلطة وشبكات المصالح المرتبطة بها، لذلك لا نستغرب أن الرئيس الفلسطيني لم يستجب لعشرات المطالبات من المجلس المركزي لمنظمة التحرير والمجلس الوطني الفلسطيني ومختلف الفصائل الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، فيما ظلت الأجهزة الأمنية تنسحب من الحواجز ويتعرض أفرادها للاعتقال والإهانة حين اقتحام جيش الاحتلال أي مدينة في الضفة الغربية.
في الأخير، أصبحت أجهزة أمن السلطة تدافع عن وجودها فقط، دون أي سياسات تراعي المصالح الفلسطينية، ودخلت في حالة قطيعة تامة مع أي فعل مقاوم، ونبذت المقاومين وصارت سيفا مسلطا على رقابهم.
وقد كشفت حرب غزة الأخيرة تحديدا عن عمق الخلل في العقيدة الأمنية لأجهزة السلطة، فلم تكتفِ هذه الأجهزة بملاحقة المقاومين ومنع الفعل المقاوم، لكنها لاحقت وقمعت كل أشكال التعاطف الشعبي مع المقاومة، بما في ذلك المسيرات السلمية المناصرة. ومن فضول القول إن تلك الأجهزة الأمنية وقياداتها في الضفة لم تتخذ موقفا فعليا مضادا للاحتلال على سبيل وقف التنسيق الأمني، ورفضت حماية مَن لجأ إلى المقرات الأمنية من أولئك المقاومين.
إعلانباتت الأجهزة الأمنية في حالة تنسيق لحظي وصل ذروته مع الاحتلال الإسرائيلي للقضاء على جذور المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية في وسط الحرب الحاصلة على غزة، والأكثر خطورة من ذلك أن السلطة وظَّفت المجازر الإسرائيلية بحق قطاع غزة لكيّ وعي الجماهير في الضفة الغربية، تماما مثلما أرادت السلطات الإسرائيلية، واتهام المقاومة بالمسؤولية عن الضحايا والدمار في القطاع بدلا من تحميل المسؤولية للاحتلال.
أكثر من ذلك، وبينما تقصف قنابل الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة، كانت أجهزة أمن السلطة تقتحم البيوت في مخيم جنين وتقتل وتعتقل المقاومين الفلسطينيين، وعلى مقربة منها يقتحم الجيش الإسرائيلي مدينة مجاورة ويغتال مقاومين فلسطينيين يوميا دون أي تدخل من أجهزة الأمن. المفارقة أنه في مقابل الالتزام المخلص من قِبَل السلطة الفلسطينية لدورها المستحدث في مواجهة الشعب الفلسطيني، تتبرأ إسرائيل من كل وعود أوسلو الهزيلة أصلا، بتأكيد رفض فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، والإعلان عن خطط لتهجير سكان غزة، وضم الضفة نهائيا بمباركة الولايات المتحدة وإدارتها الجديدة.
من أجل ذلك، يقف المواطنون الفلسطينيون يوميا على قرابة 132 حاجزا وبوابة عسكرية تقطّع أوصال الضفة الغربية من الساعة الثامنة صباحا حتى السادسة مساءً يتعرضون عبرها للتفتيش المهين والتهديد بالقتل أو الاعتقال طمعا في قطع مسافة لا تتجاوز عشرات الأمتار بين مدينتين فلسطينيتين، أو الوصول إلى قرية أو حي قريب، ويتساءلون عن دور الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي ارتضت أن تُشهر أسلحتها في وجه فصائل المقاومة، وهي الأجهزة التي يفترض بها أن تكون جزءا من حلم التحرير.