طبيعة الإمارات.. مُلهمة الإبداع
تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT
نوف الموسى (دبي)
لا يُمكنك التفكير بالاستدامة والبيئة الطبيعية في دولة الإمارات، عبر الفضاء الثقافي الشاسع دونما استحضار إبداعي للمخيلة، فأنت في البداية تحتاج إلى أن تتأمل اللغة والإشارات الحيّه القابعة في روح التضاريس والجغرافيا المتنوعة، فلكل طبيعة سواء كانت بحرية، أم برية، أم جبلية، وحتى زراعية، هناك فلسفة خاصة، وعلاقة وجودية امتدت لبناء حالة وجدانية متفردة بين إنسان هذه الأرض، وبين حاجته الماسة للحفاظ عليها من خلال إضفاء قيمة «المعنى» في المنتوج الثقافي بأشكاله المتعددة، والموروث الاجتماعي بسياقاته الرحبة المتصلة بالتاريخ الحضاري للمنطقة، فلا يُمكن أن تسقط قطرة مطر واحدة، أو أن تهب نسمة هواء باردة على وجنتي اللحظة، دون أن تؤثر في سيرورة المجتمع، المتماهية مع الهوية وبنيتها التفاعلية مع كل ما يحيطها من متغيرات وتحديات وأسئلة جوهرية حول البيئة الطبيعية.
البيئة الملهمة
ومن هنا فإن «الثقافة» هي الدلالة المعرفية والفكرية لجذور «الاستدامة» كمفهوم في الحياة اليومية، وبذلك فإن الانتقال إلى مناقشة آلية الحفاظ على الأنظمة الطبيعية وظواهرها، يستدعي الرجوع إلى الكيفية التي بنيت على أساسها علاقة الإنسان بالأرض، وهنا يتعين تفسير الموجودات الثقافية، وأبرزها الموروث الثقافي المحلي، ويبرز في هذا المقام، «الموروث الغنائي» لدولة الإمارات وعلاقته الوجودية بالتضاريس المحلية.
ولعل أجمل ما يُمكن تناوله في هذا الموضوع هو كيف ألهمت الطبيعة الإماراتية الإبداعات الصوتية، لأُناس الإمارات؟ فالجبل مرر صوته في قوة وصبر أهالي الجبال البعيدة، والبحر اختار أن يجعل من همس أهل الساحل مسموعاً بانسيابية انجرافه الليّن على الرمال البيضاء، ولُدُونة انكساره على الصخرة، بينما ظل أهل البادية يسكنون في بيوت ترويها الشمس، لتضيء حرارة أنفاس لواعج «الونّة»، أيّ الأنين الصوتي مع الوجود، الذي لطالما تواضع أمام هيبة الصحراء الشاسعة.
امتزاج إبداعي
ولإدراك مسألة الالتقاء بين الطبيعة والموسيقى الشعبية في دولة الإمارات، كان لابد من تأمل العفوية في استقبال الإنسان لما تتيحه الطبيعة من إمكانيات، فالإنسان الأول امتلك فطنة التمييز بين مختلف الأصوات والانتقالات الإيقاعية، بل إنه يرتبط بها، في محاولة تعزيز شعور الاستقرار والتكيف والتبادل، مشكلاً بذلك ما يمكن أن نسميه امتزاجاً إبداعياً، حيث يكاد يكون كل إنتاج موسيقي فردي أو جماعي، إعلاناً لمواقيت النهار والليل في المجتمع المحلي، فعندما نقترب من فن «العيالة» على سبيل المثال، نجد أن فيها أربعة مقامات ومسميات حسب الأوقات اليومية، وثقها الباحث الإماراتي سعيد أبوميان المتخصص في مجال التراث الشعبي، موضحاً تسمياتها باللهجة المحلية وهي: مقام «العميري»، مقام «البداوي»، مقام «العاشوري»، مقام «الليلي أو المشي»، ما يجعلنا نتصور كيف أن الحركة كانت مرتبطة بميلان الشمس وهدأة الليل.
الصمت والصوت
و«ارتباط الفنان بالأرض في بيئته المحلية، يعطيه المنطق الموسيقي ويهديه فعل الإيماءة الموسيقية»، وهنا تفسير قدمه الموسيقي والملحن الإماراتي إبراهيم جمعة، حول الدور الجوهري للبيئة الطبيعية في تشكل الأغنية في الثقافة المحلية، وفي العالم عموماً، موضحاً أن الإنسان يرتبط بالمكان الذي يعيش فيه، إلى درجة الاتحاد بينهما في السمات العامة، أي أن المتابع يلاحظ كيف أن الصحراء تلقي بظلالها على البدوي، الذي يترجم شعورها تلقائياً عبر قصائد «التغرودة» والتَّأوه في «الونّة»، مضيفاً أن البدوي بطبيعته يمتاز بقدرة التلحين الذاتية للنص الغنائي عبر ما نسميه بالـ «هيمة»، وهي مسألة قادمة من بيئته. فهو يحتاج وسط هذه المعايشة الجافة والقاسية أن يروح عن نفسه بالغمغمة من خلال خروج نغمة خافتة مريحة من الروح، وبمجرد أن نفكر بالدندنة ومصدرها، ومن أين تعلمها الإنسان الأول في مختلف حضارات العالم، فقد تجلّت بالتأكيد من الطبيعة، باعتبارها أم الصمت والصوت في تجاربنا الحسية، فهي والدة الأشياء كلها.
وأضاف الموسيقي والملحن إبراهيم جمعة: محور آسر في موضوع الموروث الموسيقي وعلاقته بتشكيل الحناجر وأثرها على الحبال الصوتية وفقاً للتضاريس المختلفة، فبالنظر إلى أهل الجبل، فإن أصواتهم دائماً عالية، كونهم يعيشون في المرتفعات، ويحتاجون إلى طبقة صوتية مرتفعة للمناداة بين بعضهم بعضاً من حي إلى آخر، بينما تنخفض أصوات أهل الساحل، لقرب المسافة، واستواء الأرض، فكل شيء لديهم مسموع ومتجاوز وقريب.
طقوس مجتمعية وفنية
وقد تأثر الموسيقي والملحن الإماراتي إبراهيم جمعة بالبحر، مبيناً أن هذا الفضاء الأزرق الكبير هو المعهد الذي استقى منه أبجديات الموسيقى في داخله، قائلاً عن ذلك: «بيتنا في طفولتي كان بجانب البحر، في حي الضغاية في بر ديرة بمدينة دبي قديماً، ولكم أن تتخيلوا حياً زاخراً بمختلف ألوان الفنون الشعبية، منها العيالة والنوبان والمالد والليوا وغيرها، وكيف يمكن أن يكون تأثيرها عليّ؟ فقد كنت أعيشها كطقوس مجتمعية وممارسة فنية، ولا يمكن أن أنسى كيف أن التفاصيل الصغيرة في سردها، الغائرة في معناها، لعبت دوراً في انتباهنا المسبق منذ الطفولة لأثر البيئة الطبيعية في تشكلنا الذي ساهم باستدامة الموروث في تجاربنا الموسيقية، حيث أتذكر عندما يحين وقت النوم في الليل، ولقرب منازلنا من البحر، المبنية في أساسها من سعف النخيل، أنني كنت أشعر وكأنني نائم على موجة، من قرب الصوت، بسبب حالة السكون الكاملة التي تعم الحي، وتحديداً قدرية الالتقاء بين الموجة الحانية على الرمال الناعمة، حيث إن لها صوتاً بمثابة الهارموني، كأنها إيقاع أتعايش معه، وأسقي وجداني ومشاعري من خلاله، بل وأمتع شجوني بهذا الصوت، ومن هنا فلا أزال أُؤلف موسيقياً، وأحتفي بالجملة اللحنية من خلال رؤيتي أن الأغنية هي موقف يحصل أمامنا، سواء في وضوح الصحراء الكاشفة، أو تحت ظلال أشجارنا المحلية المرهفة، وأتذكر القصيدة التي كتبت فيها: رسام تايه في هواء الصحراء، موضوعي عيون سمراء».
استدامة الموروث
والحال أن روح البحث في موضوع «الاستدامة» وارتباطها بالبيئة الطبيعية لم تتوقف عند بيان العلاقة الإبداعية بين الإنسان والأرض، ولكنها ارتحلت أيضاً إلى استدامة الموروث الموسيقي في تناقله بين الأجيال، والسؤال الأساسي حول هذه الجزئية، أن البيئة الطبيعية، لا تقدم إلهامها ومخزونها الجمالي والمعرفي فقط، وإنما أعطت للإنسان أيضاً إمكانية تعلم الحالة الإبداعية وأهمية تكثيفها وترسيخها في تجربته الذاتية، فهي تتعامل مع الأمر، وكأنها تنبت الجذور في كل ممارسة إبداعية، وقد يتفق الباحثون على أن الحاصل يعود بنفعه للإنسان وتطوره في بيئته الطبيعية، ولكنها في المقابل تحمل بعداً مهماً أن الطبيعة نفسها تحتاج لأن يرتكز الإنسان ويصوغ هويته الممتده عبرها، فهي من خلاله تشعر بوجودها وتبين احتياجاتها، وتطمئن لوجود لغة مشتركة قابلة للتأويل والبحث والتأمل.
ذاكرة المكان
من بين أجمل المقامات في فن «العيالة» مقام «التعوشير»، وهو يمثل، بحسب الباحث سعيد أبوميان، خاتمة عرضة العيالة قبل صلاة المغرب. وقد نلاحظ كيف أن قصائدها تحتفي بذاكرة النباتات والأزهار الموسمية المحلية ومشهدية التقائها مع الطاقة الريحية، التي تعد من أنقى مصادر الطاقة المتجددة، وفيها يتغنى المؤدون لفن العيالة بقولهم: «حي بنسيم الشرق لمريف.. لي نفحته نرجس ومشموم، رحبت به وأصبحت في كيف.. مني وزالت كل الهموم». وجميعها استدلالات جازمة بأن الموروث الغنائي هو بمثابة تفكيك لشفرة اللغة الكونية من خلال وضعها في أشكال تعبيرية قابلة للتطوير والتطويع وفي ذات الوقت هي تهذيب للنفس، وصقل لها بما ينسجم مع المتغيرات في الطبيعة المناخية والتضاريسية للمنطقة، أو في ظهور الكائنات الحيّه الجديدة، بمختلف فصائلها وعلاقتها بالحياة البرية.
أنظمة بيئية متكاملة
وفي هذا الصدد، أوضح الباحث الإماراتي د. سعيد الحداد، المتخصص في مجال التراث الشعبي، أن علينا أن ننظر إلى جميع المعارف والعلوم الحضارية، وكيف استقاها إنسان هذه الأرض، وشكلت أبعاده الفكرية والتاريخية والإنسانية، ووصلت به لأن يتفاعل مع نقاط التقاء ممتدة تصل بنا إلى حضارات العالم القديمة والحديثة، ومنها المعارف والعلوم البحرية، المرتبطة بالملاح العربي الشهير أحمد بن ماجد (ابن جلفار، الاسم القديم لإمارة رأس الخيمة)، وكيف أنها أثرت على الخريطة الحضارية للمنطقة، وبذات القوة والقيمة الإنسانية، جاءت الفنون الشعبية كمراسٍ للحياة المجتمعية، التي حرص مؤدوها أن يتم تناقلها بالقول والفعل، فهي تمتلك أنظمة بيئية متكاملة، تكاد تدهشنا من فرط انضباطها وتفاعلها البديع الشبيه تماماً بالطبيعة.
ذلك أن الموروث الموسيقي يستند إلى الحركة، في تلاحمه مع الطبيعة، ويراها باحثون في مختلف الثقافات والحضارات، وكأنها الرقصة الأبدية للإنسان، ونشوة تحقيق الاتصال بالبيئة المحيطة، ومن هنا نتمعن أكثر في المثال الذي قدمه الباحث د. سعيد الحداد، في أن علينا أن نلاحظ الصعود والنزول للمؤدين عند تقديمهم فن «الآه هلّه» الشعبي، فمن خلال تشخصيه وتحليله استدل بأنها تمثل حركة مياه البحر عندما تكون راكدة، حيث تؤدى على ظهر السفينة، وبالأخص اللحظة البطيئة، ما يطلق عليه في اللغة الإنجليزية Slow motion، وفيها يشعر المشاهد للأداء أن الوقت يتباطأ.
محاكاة للطبيعة
ولفت الباحث د. سعيد الحداد، أننا لو نظرنا إلى حركة الرقبة في فن «العيالة»، نجد أنها مرتبطة بالصقر، فبمجرد أن يرفع البرقع عن عيون الصقر، حتى يبدأ بالتلفت يميناً ويساراً، مع النظرة المباشرة إلى الأمام، فهي محاكاة أصيلة للطبيعة التي كان كثيرون مغرومين بها. وفي توضيح مهم، أشار الباحث د. سعيد الحداد إلى أنه حينما ابتعدنا عن الطبيعية وتناغمنا معها، سقطنا في النوع الواحد والشكل الواحد والطريقة الواحدة، ليس فقط في الموسيقى، بل حتى في أثر رؤيتنا للحياة ككل، فقوة الطبيعة في تنوعها وانفتاحها واحتمالاتها غير المتوقعة، فأنت تحتاج لأن تذهب إلى كل هذا الموروث باعتباره فرصة للحوار المستدام مع الطبيعة.
البيئة ضرورة جمالية
وختم الباحث د. سعيد الحداد هذا الجانب بقصة المزارع وعلاقته بالحيوان كالثور، الذي كان سابقاً يساعد في عملية حرث الأرض، ويقول: «في إحدى مرويات المزارعين القدماء، أنه بمجرد أن يبدأ المزارع بالتغني وسط عمله - إشارة مهمة لموروث الأغنيات في البيئة الزراعية المحلية - حتى يروح الثور برأسه، استجابه لتلك الأغنيات، فلنا أن نتصور مدى عمق العلاقة، بين الإنسان والكائنات في الطبيعة، وهي مسألة لا يمكن الخلاص منها أو تجاوزها، لأنها الأساس الذي نبني عليه حياتنا على الأرض، والعودة إليها ضرورة جمالية للحفاظ على البيئة الطبيعية، ومزجها بإبداعنا الإنساني الخالص المبني على الحس».
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الإمارات الثقافة الاستدامة البيئة كوب 28 التغير المناخي البیئة الطبیعیة سعید الحداد الباحث د من خلال کیف أن
إقرأ أيضاً:
الماجستير بامتياز للباحث باكر حسن الاهنومي في اللغة العربية
الثورة نت/هاشم علي
نال الباحث باكر حسن الاهنومي درجة الماجستير بامتياز بدرجة 95% في اللغة العربية من كلية التربية جامعة صنعاء، اليوم الاحد 22 جمادي الأول 1446هـ الموافق 24 نوفمبر 2024م، عن رسالته الموسومة بـ”الأصول النحوية عند الخبيصي في كتاب الموشح على كافية ابن الحاجب دراسة نحوية وصفية”.
وتشكلت لجنة المناقشة والحكم برئاسة الأستاذ الدكتور صالح علي النهاري، مناقشاً داخليا، وعضوية الأستاذ الدكتور محمد حسين النقيب ، مناقشاً خارجيا جامعة عمران، والأستاذ الدكتور/ عبدالله أحمد النهاري ، المشرف الرئيس على الرسالة.
وبعد المناقشة اقرت اللجنة باعطاء الباحث درجة الماجستير بامتياز وتقدير 95%.. وأوصت اللجنة بطباعة الرسالة وتداولها بين الجامعات والجهات ذات العلاقة.
وقد هدفت الدراسة الى بيان حجية الكلام العربي عند الخبيصي سواء كان كلام الله – تعالى – أم كلام رسوله، أم الكلام العربي شعره ونثره، وذلك في تأصيل القواعد النحوية ، وكذلك حجية القياس والإجماع عند الخبيصي في تأصيل القواعد النحوية.
واتبعت الدراسة المنهج الوصفي التحليلي المرتكز على المسح الميداني للحصول على البيانات من خلال الاستبانة، واستخدم الباحث مسائل النحو عند الخبيصي، ثم تحليلها ونسبة كل منها إلى أصله .
وكشفت نتائج الرسالة أن كتاب الموشح مليء بجميع أصول النحو السمعية والعقلية، والأدلة السمعية النقلية التي مصدرها القرآن الكريم وقراءاته – متواترة وشاذة – والحديث الشريف كلام العرب – نظماً ونثراً ؛ فلا تكاد تخلوا مسألة منه، وقد بلغت الشواهد النقلية فوق ثمانين وتسع مائةٍ شاهداً نقلياً،ولم يتقيد الخبيصي بالإطار المكاني كالبصريين، فمذهبه كمذهب ابن مالك في التوسع.
حضر المناقشة الدكتور حمود عبدالله الاهنومي ومدير عام مكتب رئيس مجلس الإدارة بمؤسسة الثورة للصحافة الاستاذ/حسن شرف الدين وعددا كبير من الاكاديميين والباحثين واصدقاء وزملاء الباحث.