صحيفة الاتحاد:
2025-01-31@04:04:38 GMT

طبيعة الإمارات.. مُلهمة الإبداع

تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT

نوف الموسى (دبي)
لا يُمكنك التفكير بالاستدامة والبيئة الطبيعية في دولة الإمارات، عبر الفضاء الثقافي الشاسع دونما استحضار إبداعي للمخيلة، فأنت في البداية تحتاج إلى أن تتأمل اللغة والإشارات الحيّه القابعة في روح التضاريس والجغرافيا المتنوعة، فلكل طبيعة سواء كانت بحرية، أم برية، أم جبلية، وحتى زراعية، هناك فلسفة خاصة، وعلاقة وجودية امتدت لبناء حالة وجدانية متفردة بين إنسان هذه الأرض، وبين حاجته الماسة للحفاظ عليها من خلال إضفاء قيمة «المعنى» في المنتوج الثقافي بأشكاله المتعددة، والموروث الاجتماعي بسياقاته الرحبة المتصلة بالتاريخ الحضاري للمنطقة، فلا يُمكن أن تسقط قطرة مطر واحدة، أو أن تهب نسمة هواء باردة على وجنتي اللحظة، دون أن تؤثر في سيرورة المجتمع، المتماهية مع الهوية وبنيتها التفاعلية مع كل ما يحيطها من متغيرات وتحديات وأسئلة جوهرية حول البيئة الطبيعية.

 

البيئة الملهمة
ومن هنا فإن «الثقافة» هي الدلالة المعرفية والفكرية لجذور «الاستدامة» كمفهوم في الحياة اليومية، وبذلك فإن الانتقال إلى مناقشة آلية الحفاظ على الأنظمة الطبيعية وظواهرها، يستدعي الرجوع إلى الكيفية التي بنيت على أساسها علاقة الإنسان بالأرض، وهنا يتعين تفسير الموجودات الثقافية، وأبرزها الموروث الثقافي المحلي، ويبرز في هذا المقام، «الموروث الغنائي» لدولة الإمارات وعلاقته الوجودية بالتضاريس المحلية.
 ولعل أجمل ما يُمكن تناوله في هذا الموضوع هو كيف ألهمت  الطبيعة الإماراتية الإبداعات الصوتية، لأُناس الإمارات؟ فالجبل مرر صوته في قوة وصبر أهالي الجبال البعيدة، والبحر اختار أن يجعل من همس أهل الساحل مسموعاً بانسيابية انجرافه الليّن على الرمال البيضاء، ولُدُونة انكساره على الصخرة، بينما ظل أهل البادية يسكنون في بيوت ترويها الشمس، لتضيء حرارة أنفاس لواعج «الونّة»، أيّ الأنين الصوتي مع الوجود، الذي لطالما تواضع أمام هيبة الصحراء الشاسعة. 
امتزاج إبداعي
ولإدراك مسألة الالتقاء بين الطبيعة والموسيقى الشعبية في دولة الإمارات، كان لابد من تأمل العفوية في استقبال الإنسان لما تتيحه الطبيعة من إمكانيات، فالإنسان الأول امتلك فطنة التمييز بين مختلف الأصوات والانتقالات الإيقاعية، بل إنه يرتبط بها، في محاولة تعزيز شعور الاستقرار والتكيف والتبادل، مشكلاً بذلك ما يمكن أن نسميه امتزاجاً إبداعياً، حيث يكاد يكون كل إنتاج موسيقي فردي أو جماعي، إعلاناً لمواقيت النهار والليل في المجتمع المحلي، فعندما نقترب من فن «العيالة» على سبيل المثال، نجد أن فيها أربعة مقامات ومسميات حسب الأوقات اليومية، وثقها الباحث الإماراتي سعيد أبوميان المتخصص في مجال التراث الشعبي، موضحاً تسمياتها باللهجة المحلية وهي: مقام «العميري»، مقام «البداوي»، مقام «العاشوري»، مقام «الليلي أو المشي»، ما يجعلنا نتصور كيف أن الحركة كانت مرتبطة بميلان الشمس وهدأة الليل.

الصمت والصوت
و«ارتباط الفنان بالأرض في بيئته المحلية، يعطيه المنطق الموسيقي ويهديه فعل الإيماءة الموسيقية»، وهنا تفسير قدمه الموسيقي والملحن الإماراتي إبراهيم جمعة، حول الدور الجوهري للبيئة الطبيعية في تشكل الأغنية في الثقافة المحلية، وفي العالم عموماً، موضحاً أن الإنسان يرتبط بالمكان الذي يعيش فيه، إلى درجة الاتحاد بينهما في السمات العامة، أي أن المتابع يلاحظ كيف أن الصحراء تلقي بظلالها على البدوي، الذي يترجم شعورها تلقائياً عبر قصائد «التغرودة» والتَّأوه في «الونّة»، مضيفاً أن البدوي بطبيعته يمتاز بقدرة التلحين الذاتية للنص الغنائي عبر ما نسميه بالـ «هيمة»، وهي مسألة قادمة من بيئته. فهو يحتاج وسط هذه المعايشة الجافة والقاسية أن يروح عن نفسه بالغمغمة من خلال خروج نغمة خافتة مريحة من الروح، وبمجرد أن نفكر بالدندنة ومصدرها، ومن أين تعلمها الإنسان الأول في مختلف حضارات العالم، فقد تجلّت بالتأكيد من الطبيعة، باعتبارها أم الصمت والصوت في تجاربنا الحسية، فهي والدة الأشياء كلها.
وأضاف الموسيقي والملحن إبراهيم جمعة: محور آسر في موضوع الموروث الموسيقي وعلاقته بتشكيل الحناجر وأثرها على الحبال الصوتية وفقاً للتضاريس المختلفة، فبالنظر إلى أهل الجبل، فإن أصواتهم دائماً عالية، كونهم يعيشون في المرتفعات، ويحتاجون إلى طبقة صوتية مرتفعة للمناداة بين بعضهم بعضاً من حي إلى آخر، بينما تنخفض أصوات أهل الساحل، لقرب المسافة، واستواء الأرض، فكل شيء لديهم مسموع ومتجاوز وقريب. 
طقوس مجتمعية وفنية
وقد تأثر الموسيقي والملحن الإماراتي إبراهيم جمعة بالبحر، مبيناً أن هذا الفضاء الأزرق الكبير هو المعهد الذي استقى منه أبجديات الموسيقى في داخله، قائلاً عن ذلك: «بيتنا في طفولتي كان بجانب البحر، في حي الضغاية في بر ديرة بمدينة دبي قديماً، ولكم أن تتخيلوا حياً زاخراً بمختلف ألوان الفنون الشعبية، منها العيالة والنوبان والمالد والليوا وغيرها، وكيف يمكن أن يكون تأثيرها عليّ؟ فقد كنت أعيشها كطقوس مجتمعية وممارسة فنية، ولا يمكن أن أنسى كيف أن التفاصيل الصغيرة في سردها، الغائرة في معناها، لعبت دوراً في انتباهنا المسبق منذ الطفولة لأثر البيئة الطبيعية في تشكلنا الذي ساهم باستدامة الموروث في تجاربنا الموسيقية، حيث أتذكر عندما يحين وقت النوم في الليل، ولقرب منازلنا من البحر، المبنية في أساسها من سعف النخيل، أنني كنت أشعر وكأنني نائم على موجة، من قرب الصوت، بسبب حالة السكون الكاملة التي تعم الحي، وتحديداً قدرية الالتقاء بين الموجة الحانية على الرمال الناعمة، حيث إن لها صوتاً بمثابة الهارموني، كأنها إيقاع أتعايش معه، وأسقي وجداني ومشاعري من خلاله، بل وأمتع شجوني بهذا الصوت، ومن هنا فلا أزال أُؤلف موسيقياً، وأحتفي بالجملة اللحنية من خلال رؤيتي أن الأغنية هي موقف يحصل أمامنا، سواء في وضوح الصحراء الكاشفة، أو تحت ظلال أشجارنا المحلية المرهفة، وأتذكر القصيدة التي كتبت فيها: رسام تايه في هواء الصحراء، موضوعي عيون سمراء». 

أخبار ذات صلة منتدى «COP28 المناخي» يناقش سبل الحفاظ على الطبيعة «طرق دبي» تعتمد خطة متكاملة لاستقبال المشاركين في «COP28» مؤتمر الأطراف «COP28» تابع التغطية كاملة

استدامة الموروث
والحال أن روح البحث في موضوع «الاستدامة» وارتباطها بالبيئة الطبيعية لم تتوقف عند بيان العلاقة الإبداعية بين الإنسان والأرض، ولكنها ارتحلت أيضاً إلى استدامة الموروث الموسيقي في تناقله بين الأجيال، والسؤال الأساسي حول هذه الجزئية، أن البيئة الطبيعية، لا تقدم إلهامها ومخزونها الجمالي والمعرفي فقط، وإنما أعطت للإنسان أيضاً إمكانية تعلم الحالة الإبداعية وأهمية تكثيفها وترسيخها في تجربته الذاتية، فهي تتعامل مع الأمر، وكأنها تنبت الجذور في كل ممارسة إبداعية، وقد يتفق الباحثون على أن الحاصل يعود بنفعه للإنسان وتطوره في بيئته الطبيعية، ولكنها في المقابل تحمل بعداً مهماً أن الطبيعة نفسها تحتاج لأن يرتكز الإنسان ويصوغ هويته الممتده عبرها، فهي من خلاله تشعر بوجودها وتبين احتياجاتها، وتطمئن لوجود لغة مشتركة قابلة للتأويل والبحث والتأمل. 
ذاكرة المكان
من بين أجمل المقامات في فن «العيالة» مقام «التعوشير»، وهو يمثل، بحسب الباحث سعيد أبوميان، خاتمة عرضة العيالة قبل صلاة المغرب. وقد نلاحظ كيف أن قصائدها تحتفي بذاكرة النباتات والأزهار الموسمية المحلية ومشهدية التقائها مع الطاقة الريحية، التي تعد من أنقى مصادر الطاقة المتجددة، وفيها يتغنى المؤدون لفن العيالة بقولهم: «حي بنسيم الشرق لمريف.. لي نفحته نرجس ومشموم، رحبت به وأصبحت في كيف.. مني وزالت كل الهموم». وجميعها استدلالات جازمة بأن الموروث الغنائي هو بمثابة تفكيك لشفرة اللغة الكونية من خلال وضعها في أشكال تعبيرية قابلة للتطوير والتطويع وفي ذات الوقت هي تهذيب للنفس، وصقل لها بما ينسجم مع المتغيرات في الطبيعة المناخية والتضاريسية للمنطقة، أو في ظهور الكائنات الحيّه الجديدة، بمختلف فصائلها وعلاقتها بالحياة البرية. 

أنظمة بيئية متكاملة
وفي هذا الصدد، أوضح الباحث الإماراتي د. سعيد الحداد، المتخصص في مجال التراث الشعبي، أن علينا أن ننظر إلى جميع المعارف والعلوم الحضارية، وكيف استقاها إنسان هذه الأرض، وشكلت أبعاده الفكرية والتاريخية والإنسانية، ووصلت به لأن يتفاعل مع نقاط التقاء ممتدة تصل بنا إلى حضارات العالم القديمة والحديثة، ومنها المعارف والعلوم البحرية، المرتبطة بالملاح العربي الشهير أحمد بن ماجد (ابن جلفار، الاسم القديم لإمارة رأس الخيمة)، وكيف أنها أثرت على الخريطة الحضارية للمنطقة، وبذات القوة والقيمة الإنسانية، جاءت الفنون الشعبية كمراسٍ للحياة المجتمعية، التي حرص مؤدوها أن يتم تناقلها بالقول والفعل، فهي تمتلك أنظمة بيئية متكاملة، تكاد تدهشنا من فرط انضباطها وتفاعلها البديع الشبيه تماماً بالطبيعة.
ذلك أن الموروث الموسيقي يستند إلى الحركة، في تلاحمه مع الطبيعة، ويراها باحثون في مختلف الثقافات والحضارات، وكأنها الرقصة الأبدية للإنسان، ونشوة تحقيق الاتصال بالبيئة المحيطة، ومن هنا نتمعن أكثر في المثال الذي قدمه الباحث د. سعيد الحداد، في أن علينا أن نلاحظ الصعود والنزول للمؤدين عند تقديمهم فن «الآه هلّه» الشعبي، فمن خلال تشخصيه وتحليله استدل بأنها تمثل حركة مياه البحر عندما تكون راكدة، حيث تؤدى على ظهر السفينة، وبالأخص اللحظة البطيئة، ما يطلق عليه في اللغة الإنجليزية Slow motion، وفيها يشعر المشاهد للأداء أن الوقت يتباطأ. 

محاكاة للطبيعة
ولفت الباحث د. سعيد الحداد، أننا لو نظرنا إلى حركة الرقبة في فن «العيالة»، نجد أنها مرتبطة بالصقر، فبمجرد أن يرفع البرقع عن عيون الصقر، حتى يبدأ بالتلفت يميناً ويساراً، مع النظرة المباشرة إلى الأمام، فهي محاكاة أصيلة للطبيعة التي كان كثيرون مغرومين بها. وفي توضيح مهم، أشار الباحث د. سعيد الحداد إلى أنه حينما ابتعدنا عن الطبيعية وتناغمنا معها، سقطنا في النوع الواحد والشكل الواحد والطريقة الواحدة، ليس فقط في الموسيقى، بل حتى في أثر رؤيتنا للحياة ككل، فقوة الطبيعة في تنوعها وانفتاحها واحتمالاتها غير المتوقعة، فأنت تحتاج لأن تذهب إلى كل هذا الموروث باعتباره فرصة للحوار المستدام مع الطبيعة.
البيئة ضرورة جمالية
وختم الباحث د. سعيد الحداد هذا الجانب بقصة المزارع وعلاقته بالحيوان كالثور، الذي كان سابقاً يساعد في عملية حرث الأرض، ويقول: «في إحدى مرويات المزارعين القدماء، أنه بمجرد أن يبدأ المزارع بالتغني وسط عمله - إشارة مهمة لموروث الأغنيات في البيئة الزراعية المحلية - حتى يروح الثور برأسه، استجابه لتلك الأغنيات، فلنا أن نتصور مدى عمق العلاقة، بين الإنسان والكائنات في الطبيعة، وهي مسألة لا يمكن الخلاص منها أو تجاوزها، لأنها الأساس الذي نبني عليه حياتنا على الأرض، والعودة إليها ضرورة جمالية للحفاظ على البيئة الطبيعية، ومزجها بإبداعنا الإنساني الخالص المبني على الحس».

 

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الإمارات الثقافة الاستدامة البيئة كوب 28 التغير المناخي البیئة الطبیعیة سعید الحداد الباحث د من خلال کیف أن

إقرأ أيضاً:

القراءة بين الإبداع والاستهلاك

آخر تحديث: 30 يناير 2025 - 10:45 صأ. د. طلال ناظم الزهيري كثيرًا ما يتم تداول المقولة الشهيرة: “القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ”، المنسوبة غالبًا إلى الشاعر الفلسطيني معين بسيسو، كإشارة منه إلى المشهد الثقافي العربي في منتصف القرن العشرين. حيث تُستخدم هذه العبارة بشكل عام من باب الفخر والتباهي للتعبير عن الدور الريادي للعراق في حب القراءة والإطلاع. غير أن هذا التصور السائد قد يحمل في طياته إشكالية أعمق، إذ يمكن أن يُنظر له باعتباره إشارة ضمنية إلى محدودية الدور الذي يضطلع به المثقف العراقي في سلسلة الإنتاج الثقافي. القراءة وحدها، مهما كانت كثافتها، إذا لم تتحول إلى إبداع فكري أو إنتاج معرفي، تصبح مجرد استهلاك سلبي للمعرفة. إن اختزال المشهد الثقافي العربي بهذه العبارة يمنح العراق دور المستهلك، مقارنة بدوري الإبداع والصناعة اللذين تمثلهما القاهرة وبيروت. القراءة، بوصفها شرطًا أساسيًا للمعرفة، لا تكتسب قيمتها إلا عندما تتحول إلى كتابة أو إنتاج فكري يُضاف إلى الإرث الثقافي. فالتاريخ لا يخلّد القرّاء، بل يكرّم الكتّاب والمبدعين الذين أسهموا بإنتاجهم الفكري في تشكيل الحضارة الإنسانية. لم يسجل التاريخ شخصية عُرفت فقط بكونها قارئة عظيمة، بل خلد أولئك الذين استطاعوا توظيف قراءاتهم في صياغة أفكار جديدة وإنتاج إبداعي يُسهم في تطور الفكر والمعرفة. من هنا، تبدو الإشكالية في ثقافة القراءة إذا ما بقيت مقتصرة على استهلاك المعرفة دون السعي لتحويلها إلى عملية إنتاجية. فعلى الرغم من انتشار القراءة في أوساط المثقفين العراقيين، كثيرًا ما يلاحظ أن الحوارات الفكرية بينهم ترتكز بشكل كبير على اقتباسات مأخوذة من نصوص العلماء والفلاسفة الغربيين والشرقيين، دون أن تكون هناك محاولات واضحة لتقديم رؤى نقدية أو إضافات جديدة تتجاوز حدود النقل. هذا النمط السائد يُكرّس صورة المثقف العراقي كناقل للمعرفة، بدلًا من كونه منتجًا لها، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا أمام تطور الفكر الثقافي والإبداعي. القراءة، في جوهرها، ليست غاية، بل وسيلة للوصول إلى الإبداع والابتكار. غير أن القراءة التي تبقى حبيسة حدود الاستهلاك تظل فعلًا عقيمًا، لا يؤدي إلى التقدم الفكري. والسؤال المحوري الذي يجب أن نطرحه هنا هو: ما الذي يمنع القارئ من أن يصبح كاتبًا؟ وما العوائق التي تحول دون تحول المثقف العراقي من مستهلك للمعرفة إلى منتج لها؟ قد تتعدد الأسباب بين نظام تعليمي يكرس الحفظ والتلقين على حساب النقد والتحليل، وثقافة مجتمعية تخشى الخروج عن المألوف، وغياب بيئة داعمة للإبداع توفر الحوافز اللازمة للكتابة والابتكار. في المقابل، نجد أن الثقافات الإنتاجية، لا سيما في الغرب، تنظر إلى القراءة كجزء من عملية متكاملة للإبداع. الفلاسفة مثل سارتر وديكارت، والعلماء مثل نيوتن وأينشتاين، لم يكتفوا بقراءة من سبقهم، بل تجاوزوا هذه الحدود وأعادوا تشكيل المعرفة بما أضافوه من أفكار جديدة. أما في المشهد الثقافي العربي عامة والعراقي على وجه الخصوص، غالبًا ما نتوقف عند حدود الإعجاب بالنصوص ونقلها دون أن نجرؤ على نقدها أو تجاوزها. واليوم لم يعد ممكنًا الاستمرار في تكرار هذه العبارة دون مراجعة جادة لدورها وتأثيرها في صياغة التصورات الثقافية. القراءة التي لا تنتج كتابة، والكتابة التي لا تضيف جديدًا، كلاهما يشيران إلى ثقافة استهلاكية لا تسهم في تطور الإنسانية. نحن بحاجة إلى منظومة ثقافية جديدة تُحفّز الإبداع والابتكار، وتكسر قيود النقل والتبعية. العبارة “القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ” قد عكست واقعًا ثقافيًا في فترة معينة، لكنها لم تعد ملائمة لعالمنا اليوم. المطلوب الآن هو بناء نموذج ثقافي جديد يُعيد توزيع الأدوار، بحيث يصبح المثقف العراقي ليس فقط قارئًا، بل أيضًا كاتبًا ومبتكرًا يسهم في صياغة مستقبل الفكر العربي. ففي الوقت الذي نتابع فيه الجهود التي تبذلها العديد من المنظمات المحلية في التشجيع على القراءة وإقامة الفعاليات الداعمة لها، إلا أننا نعتقد ان هذه المبادرات تفتقر إلى التوازن، إذ نادرًا ما نرى فعاليات مناظرة تهدف إلى تعزيز الكتابة والإسهامات الإبداعية. القراءة، رغم دورها الأساسي في بناء الوعي وتنمية المعرفة، تظل مجرد خطوة أولى في سلسلة الإنتاج الثقافي. ولا شك أن غياب التركيز على الكتابة يحرم الأفراد من تطوير قدراتهم الإبداعية وتحفيزهم على المساهمة بأفكارهم وتجاربهم. ان تعزيز الكتابة لا يقل أهمية عن التشجيع على القراءة، بل هو الخطوة الطبيعية التي تكمل هذا الجهد، لأن الإبداع هو ما يُخلّد ويُحدث الفارق في تطور الثقافات والمجتمعات.

مقالات مشابهة

  • “طوفان العودة” لخّص للعدو الإسرائيلي طبيعة وجوده
  • نهيان بن مبارك يكرم خريجي برنامج “مستقبلي” الذي نظمه صندوق الوطن
  • القراءة بين الإبداع والاستهلاك
  • الماجستير بإمتياز للباحث عبدالمجيد العلوي في الإدارة والتخطيط التربوي
  • باحث يعلق على الاتصال الهاتفى بين وزير الخارجية المصرى ونظيره الأمريكي
  • انهيار “طريق الجبهة”.. الطبيعة تفضح العيوب وجدوى الدراسات
  • كيف ستكون طبيعة علاقات ترامب رجل الصفقات مع السعودية ودول الخليج؟
  • عندما تسحرك الطبيعة فتعيش أجوائها
  • الموروث الشرطي يعيد تاريخ الشرطة القديم بقصر الحصن
  • الطبيعة في شعر اكرم الزعبي للباحثة الطالبة فريال عبدالله حسين في جامعة جرش