صالح عوض ليس خوفا على العربية في بلاد العرب ولكن خوفا علينا نحن مما يمكن أن تفعله عمليات التغريب والتهميش وعدم العناية وبعثرة الامكانات.. خوفا على مستقبلنا وقد اسحكمت منا المكيدة الاستشراقية الاستعمارية لاحضارة الا بلغة أهلها: من المهم التقرير بوضوح ان التاريخ حمل لنا سير الحضارات السابقة وثقافاتها من الفراعنة والرومان والكنعانيين وسواهم ولا يستطيع احد ان يدعي ان أمة نهضت بغير لغتها، فاللغة ليست مفردات ومجموعة قواعد ونحو فقط انما اللغة جسد متكامل متواصل حي بما يحمل من قيم وفلسفة حياة ومفاهيم ودلالات تعبر عن الحال والاحتياج وثقافة تترتب على سلم الوعي والذكاء والادراك تتداخل في الوجود الانساني فتصبح هي عنوانه، لهذا فاللغة لسان الانسان في سيرورته في واقع الناس وهي الاطار الحضاري الصالح لتعريف كتلة بشرية به… ولهذا أشار إليها الرسول بانها هي هوية الانسان والمجتمع فلم تكن العروبة كما اوضح صلى الله عليه واله وسلم بأب أحد أو جد إنما اللسان اللسان.
والآن عبر بلدان العالم لا يخطئونا النظر في التأكد من أن كل الدول التي ارادت الاسهام في النهضة العالمية اعتمدت لغتها فهاهي روسيا والصين واليابان بالاضافة الى ايطاليا واسبانيا فلم تقف اللغة على الحياد انما كان تطويرها وتفاعلها لحمل العلم والثقافة بل ان هناك لغات ميتة كالعبرية اصبحت في الكيان الصهيوني هي لغة العلم والثقافة والتكنلوجيا كما الادب والشعر في المدارس والجامعات. ورغم كل المحاولات التي بذلتها قوى المركز في تعميم اللغة الانجليزية والفرنسية على العالم الا ان الدول التي تشعر باعتزازها الوطني وسيادتها ادركت ان هذه العولمة ليس من قصد لها الا التمييع الثقافي والحاق المجتمعات بذاواق معلبة خدمة لتوجهات كونية يشرف عليها عصابة المال المتحكمة في السياسات الدولية.. وأصبحت مفاتيح الجامعات العالمية ومراكز الابحاث والدراسات في هولندا والمانيا وروسيا وسواها لغاتها المحلية واصبح مجبرا كل من يريد الالتحاق بها ان يتقن لغة البلد وهكذا تكسرت سطوة العولمة اللغوية التي تستتبع العولمة الثقافية والنفسية. لماذا كنا النشاز في الحراك العالمي: نحن نمتلك في هذا الشأن تجربتين احدها التاريخية والاخرى الواقعية وهما تجربتان متعاكستان ومتناقضتان تماما.. التجربة التاريخية التي سبقت رسالة الاسلام في سوق عكاظ والمعلقات ونهضة اللغة في جزيرة العرب فلقد بلغت مبلغا عظيما من التطور والاشتقاق والتوسع في الوصف والدقة واعتز اهلها بها كمعبر امين عن مشاعرهم وقيمهم وثقافتهم فعلقوا نصوصها الرائعة على استار الكعبة جزءا من العبادة والقداسة.. وفي هذا جعل تميز خاص لها عن تلك اللغات التي حملت رسالات السماء الاولى والتي لم تحظ من جهود ابنائها ونماء لاوعيتها يكفي لكي تكون امينة على حمل المعاني الالهية فكان ذلك أحد اسباب التحريف الذي الحقوه بالرسالات السماوية السابقة فنشأ عنه الظلم والعنصرية والعدوان.. وهنا تتجلى العربية باقتدار ان تكون وعاء الاسلام الأمين الى الدرجة التي يجعلها الله سبحانه احد صفات القران الكريم عندما وصفه بانه قران عربي مبين وانها بهذا احد شروط حفظ الكتاب العزيز.. واصبحت العربية رديفة للبيان فلا بيان للمعنى الا بها وان كل ماسواها فهو اعجمي لا يستطيع اللحاق بها في تبيان المعاني والحاجات ودقة التوصيف.. حملت الاسلام بهذه القدرة الذاتية فكانت احد اهم ركائز الانبعاث الحضاري بما كان لها من قدرة للوصول الى اعمق المعاني بدقة ودونما عياء لارتباطها مع العقل والوجدان.. اما التجربة المعاصرة التي انبعثت من محاولات النهضة في مشرق العرب ومغربهم وكذلك في مشرق المسلمين ومغربهم.. في هذه التجربة اصاب الزيغ ابصارنا وتخطينا مرحلة اساسية فكانت محصلة جهودنا هباء منثورا.. تجاوزنا الوقوف الضروري امام اللغة التي عانت في القرون الاخيرة جراء انبساط السلطنة العثمانية من كمون وانزواء بانزواء و ابتعاد عن الحضور الفاعل لها.. انطلقت محاولات النهضة في مشرقنا ومغربنا ظانين ان اللغة ليست مشكلة بل هي تحصيل حاصل وان كانت بعض البلدان كالجزائر اهتمت بها على الصعيد السياسيي كونها احد عناصر الهوية الوطنية ولكن دونما مشروع حقيقي جاد لتعزيزها وتعميقها وظلت قضية سياسية بحتة. ورغم ان رواد النهضة في المشرق والمغرب كانوا ممن اوتوا نصيبا وافرا من الادب والبيان بالاضافة الى الافكار التنويرية التي دعوا اليها الا ان ذلك كله كان جهودا شخصية محدودة ولم يتطور ليصبح منهج ومسلكية اجتماعية ضمن برنامج ولهذا سريعا ما انقضى بريق تلك المرحلة الاستثنائية واخذت طبقات جديدة من المثقفين والكتاب والمفكرين والاعلاميين تطفو على السطح وتكرس واقعا رديئا للغة العربية واصبح الاهتمام بها من باب التندر والتقعر والازدراء. بعد ان تلاشى بريق رواد النهضة ارتكست اللغة واصبحت عناوين الردة قاتلة واصبحت اللغة قيد السياسي الذي لقي في مواجهة تطور اللغة عنتا حقيقيا يهدد تسلطه وتجبره ولكم ان تتخيلوا ان يدعى طه حسين ليكون عميدا للادب العربي في زمن يملأه عباس العقاد الذي يقصى ليس لاي سبب سوى ان كل شيء اصبح بيد الحاكم وان كل شيء يصبح مرتبطا برضا المستعمر القديم الجديد.. بعد انقضاء مرحلة رواد النهضة عبده ورشيد رضا والرفاعي والثعالبي وابن باديس والابراهيمي وسواهم برز تيار الردة في الاعلام والثقافة في الوطن العربي يدعو الى تبني اللهجات المحلية لغة للبلد كما حصل في مصر ولبنان وعززوا ذلك ببرامج وسياسات ولم يكن ذلك ابدا بعيدا عن توجيهات تأتي من خلف البحار..وهنا لابد من ملاحظة خطورة الوجود الهندي وسواه في دول الخليج على لغتنا العربية وهنا لابد أن نستحضر الدور الاستعماري في المسألة والذي يشتغل بطريقة منهجية وعبر برنامج مراحل ليصل الى افساد المعين الصافي للغة العربية.. وهنا نفتح نافذة على الاخر الذي يشاركنا الحياة البشرية في تدافع لا يتوقف منذ الاف السنين وهو كما نحن نرى ان في ضعفنا قوة له وفي قوتنا ضعف له وانه لايمكن وضع حد للتدافع الحضاري والصراعي وذلك ليس نزوة ولا رغبة عابرة بل هي سنن الحياة ومحاولات التحكم بالقوة والسيطرة.. ورغم اننا مغيبين عن الوعي بالاخر ومغيبين عن العمل ضده من خلال ترصد ضعفه وقوته الا انه لم يترك عملية الرصد ووضع الخطط لحظة بلحظة.. وفي نهايات منحنانا الحضاري ومع بدايات التغول الاستعماري علينا منذ قرنين اهتدى المستشرقون الفرنسيون والانجليز الى سر قوتنا الذي يرفض انكسارنا وينهض بنا بعد كل كبوة.. انه اللغة العربية التي يتلقاها الطفل العربي منذ صغره فيبلغ حصيلته من مفردات في طفولته عشرات الالاف في الثقافة والعقائد والفلسفة والقانون والادب والقيم والمفاهيم فلقد كان نظام التعليم لدينا يعتمد النهوض بالطفل في سني مبكرة جدا لحفظ القران الكريم وقسط كبير من الاحاديث ومتين الشعر وجميله ولا يستوي الطفل للسعي حتى يكون لديه من مخزون اللغة وبحمولاتها ما يكفي لكي يعبر عن نفسه وعن احتياجاته ويما يكفي لفتح افاق روحه ونفسه على الحكم والسنن والوعي.. هنا قدم المستشرقون ورقة عملهم لقادة الحملات الاستعمارية بضرورة تدمير المنظومة التعليمية التقليدية في بلادنا واستبدالها بالمدرسة المعاصرة التي تعمل على تسطيح اللغة وتتفيهها.. وهكذا كان حيث اصبحت مناهج التعليم في كل البلاد العربية اليوم تحت اشراف منظمات دولية مخادعة خبيئة.. واصبحت مدارسنا وجامعاتنا تخرج كتل بشرية فاقدة الاحساس بالانتماء وعناصر القوة الاساسية.. لقد ضربوا اللغة العربية في مقتل عندما وضعوا برامجها بنمط يسهم في التزهيد منها واصبحت على هامش العملية النهضوية ولهذا زاد ثقل تخلفنا وشدتنا الهاوية الى القاع. الدول والاحزاب سواء: الجميع من الاحزاب والدول بل ومعظم المثقفين والمفكرين يتحدث عن كل شيء في قضايا الصراع المفروض على امتنا و قلما تجد من يطرح موضوع اللغة العربية كحجر ارتكاز لنهضتنا واقل منه من يرفع رايتها كقضية بيننا ومشاريع التفسيخ الثقافي والتبعية اللغوية.. واقل القليل من يضع رؤية وخطط “بصيرة” لانجاز تعزيز اللغة العربية. حتى مايسمى باحزاب الاصالة أي الاحزاب القومية والاسلامية لم تهتد الى هذا السر الخطير فكانت عبارة عن جزء من عملية التضليل والضياع.. وكما هو غائب عنها ادراك أي ملف من ملفات النهضة كمفهوم الدولة والاقتصاد والحكم فانه استحكم حولها السور دون فهم قيمة اللغة في العملية الحضارية وحتى لو سمعنا من هنا او هناك شعارات تبجل العربية الا ان ذلك كله دون رؤية حضارية او برنامج عملي.. وفي الوقت الذي يتقدم فيه اصحاب نوايا طيبة لسد الفراغ فانهم يضيعون في الكم فيتم اضافة هم فوق الهموم. ابتليت بلداننا العربية والاسلامية بحملة تهميش لمناهج التعليم التقليدية واقحامنا في فلك ثقافي وسياسي اخر أعد لنا خصيصا لكي نلحق تبعيا بذيل الحضارة الغربية وثقافتها؟؟ لم ننتبه الى اسلحتنا الحضارية الخاصة المستهدفة بالتحطيم وعلى رأسها اللغة فكان نتيجة ذلك ان سقطنا مرة بعد اخرى نتخبط في مشاريع فاقدة الروح والقدرة والعزيمة. وفي بلداننا العربية انقسمت النخب وتشتتت حول موضوعة اللغة وذهب بعض المصابين بروح قومية من خلال عملية دفاع نفسي الى المطالبة باستبدال لغة اجنبية باخرى وذلك لاحساس خطير بالعجز ان تكون العربية هو الاصل والبديل.. واصبحت ترى كثير من احباب اللغة العربية والمحسوبين عليها يدافعون عن خيار الاستبدال بلغة اجنبية عن اخرى.. وهنا يقع هؤلاء في مغالطات عميقة وعدم ادراك وبحث عن حلول في غير المكان والزمان.. بلداننا التي ورثت اوضاعا خاصة بعد الاستقلال كان عليها ان تفكر بعمق للوصول الى الحقيقة في موضوع اللغة ومناهج تعليمها وفلسفة المدارس.. فكان اعادة التفكير في مناهج التعليم والمدرسة لاسيما العربية مسألة في غاية الاهمية وكان من الضروري انشاء مدرسة خاصة بنا لا تخضع للمعايير الغربية وانما فقط لهويتنا وشخصيتنا وفهمنا لتحضين مجتمعاتنا وبعص روح النهضة فيه.. ان هذا يحتاج وضع استراتيجية بعيدة المدى تعيد الاعتبار للغتنا ولمدرستنا الخاصة.. فكفى عبثا بالتعليم والعربية. العربية من جديد تبدو انها لازالت تقاوم وهي في اخطر المراحل.. وانها قادرة على التجلي والقاء التحدي من حين لاخر ويظل القران الخالد معين قوة وتبصر وعطاء لتقويم اللسان وتعزيز الوعي والادراك والتوسع النفسي والمعرفي وهو بلا شك ضامن حقيقي لبقاء الامة المتميزة وهنا يجب قراءة هذا الموضوع ليس فقط على صعيد الايمان وهذا مهم ولكن ايضا على صعيد مصالح الامة الحقيقية التي ليس لها فرصة الا في انبعاث حقيقي من عناصر وجودها الخاصة.
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية:
اللغة العربیة
إقرأ أيضاً:
باللغتين العربية والإنجليزية.. جناح الأزهر بمعرض الكتاب يقدم لزوَّاره "معجم مصطلحات الحج والعمرة"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يقدِّم جناح الأزهر الشريف بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الـ 56 لزوَّاره كتاب "معجم الأزهر لمصطلحات الحج والعمرة.. عربي إنجليزي"، بقلم داليا حلمي، من إصدارات مجمع البحوث الإسلامية.
تعد ترجمة النصوص الدينية بكل اللغات شكلًا من أشكال الدعوة إلى الله؛ لذا عُني أصحاب الديانات المختلفة عناية بالغة بترجمة نصوصهم المقدسة وتراثهم الديني إلى جميع اللغات.
وقد واجه هؤلاء المترجمون أو الدعاة تحديات ليست بالبسيطة ولا الهينة جعلتهم يسطرون المعاجم ويطرقون أبواب علوم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم، إلى جانب العلوم اللغوية للوصول إلى العقول المُحَمَّلة بمفاهيم ثقافية ودينية وفلسفية مختلفة، فتفننوا في دراسة الجمهور المستهدف، ووضعوا نظريات ترجمة عدة لضمان وصول الرسائل السماوية إلى جميع أرجاء المعمورة.
لذا يأتي إصدار معجم الأزهر لمصطلحات الحج والعمرة (عربي - إنجليزي) الذي يهدف إلى توفير مرجع يحتوي على أكثر من مائتي مصطلح خاص بالحج والعمرة، يُقدِّمها بلغة عربية مع ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، كما يعرض تعريفات مفصلة لكل مصطلح، مدعومة بأمثلة سياقية تُوضِّح طريقة استخدامه، بما يُعين المترجمين، وصناع المحتوى، والدارسين ثنائيي اللغة، على فهم المصطلحات الدينية وتوظيفها في سياقاتها الصحيحة.
وقد دُعِمَ هذا العمل بصور توضيحية تُبرز المواقع المقدسة، وتُعِينُ القارئ على فهم المصطلحات المتعلقة بالشعائر الإسلامية بشكل بصري واضح، وتم توثيق التعريفات بمصادر ومراجع في الهوامش؛ لضمان تقديم نصوص علمية دقيقة تُسهم في تعزيز الوعي بالدين الإسلامي وشعائره العظيمة.
ولم يقتصر العمل على تقديم ترجمة حرفية، بل جاء ليحقق الغاية من الترجمة التي أشار إليها علماء الإسلام، وهي تقديم النصوص الدينية بأسلوب يفهمه القارئ غير العربي، دون الإخلال بجوهر النص ومعانيه، وهو على هذا النحو يُمثل أداة عملية تُعزِّز من قدرة المترجمين على التعامل مع النصوص الدينية، وتُيسِّر فَهُمَهَا ونَقْلَهَا إلى العالم أجمع، وتعزز التواصل بين الناطقين بالعربية وغيرهم.
ويشارك الأزهر الشريف -للعام التاسع على التوالي- بجناحٍ خاص في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 56 وذلك انطلاقًا من مسؤولية الأزهر التعليمية والدعوية في نشر الفكر الإسلامي الوسطي المستنير الذي تبنَّاه طيلة أكثر من ألف عام.
ويقع جناح الأزهر بالمعرض في قاعة التراث رقم "4"، ويمتد على مساحة نحو ألف متر، تشمل عدة أركان، مثل قاعة الندوات، وركن للفتوى، وركن الخط العربي، فضلًا عن ركن للأطفال والمخطوطات.