بعد فرض قانون الخدمات الرقمية (DSA) الذى أثار كثيرا من الجدل والذى فرض على الدول الأوروبية من قبل الاتحاد الأوروبى فى أغسطس ٢٠٢٣ فإن حريتنا فى التعبير على وشك التقلص إلى حد كبير بعد التصويت على قانون SREN الذى تم اعتماده فى ١٧ أكتوبر ٢٠٢٣ فى الجمعية الوطنية (٣٦٠ صوتا مؤيدا، ٧٧ معارضا) وفى ٨ نوفمبر ٢٠٢٣ أعلن المفوض الأوروبى تييرى بريتون عن إطلاق هوية إلكترونية فى الاتحاد الأوروبي.

قانون منتقد

واجه مشروع القانون الذى يهدف إلى تأمين وتنظيم الفضاء الرقمى (SREN) لانتقادات حادة من قبل دعاة السيادة والتأمين المعلوماتي، ومن قبل جزء من اليسار وبعض نواب حزب التجمع الوطنى كما انتقده فلوريان فيليبو رئيس حزب الوطنيين السيادي. وقد ظل ناقوس الخطر يدق لعدة أشهر فقد حذر الفرنسيون من أن قانون SREN سيفرض قيودا حول الهوية الرقمية. وقد وصفه نيكولا دوبونت إيجنانت بأنه "خطر حقيقى على حرياتنا" إذ أنه سيفرض إمكانية تتبع جميع المواطنين بسبب الارتباط بالهوية الرقمية وقريبًا باليورو الرقمي، مع إمكانية قيام الحكومات فى نهاية المطاف بمنع الإنفاق الفردى على سبيل المثال من أجل الحد من استهلاك  الطاقة أو السفر، وتحت ستار النوايا الحسنة وحماية مستخدمى الإنترنت فإن الرقابة التعسفية والواسعة النطاق على المحتوى المنشور على الإنترنت سوف تشكل الآن ذراعًا حقيقيًا وبوابة للائتمان الاجتماعى الصيني. علاوة على ذلك، فإن تعزيز الصلاحيات الممنوحة لـARCOM (هيئة تنظيم الاتصالات السمعية والبصرية والرقمية) وهى هيئة إدارية وأيضًا لعمالقة الإنترنت - GAFAM - على حساب السلطة القضائية يطرح مشكلة.

واعتبرت صحيفة "لا فرانس إنسوميز" أن الحكومة كانت تضع من خلال هذه الوسائل "الأدوات العملية للسيطرة الاجتماعية الجماهيرية". ومن المقرر أن تحيل منظمة LFI الأمر إلى المجلس الدستورى بعد إقرار القانون من قبل لجنة مشتركة فى ديسمبر المقبل. تمت الموافقة على مشروع القانون بالإجماع فى مجلس الشيوخ فى يوليو ٢٠٢٣.

لقد عمدت وسائل الإعلام الفرنسية إلى التعتيم على هذا الموضوع وهو موضوع لم تناقشه المعارضة فى البرلمان الفرنسى إلا فيما قل. ومع ذلك فهو "نسخة جديدة" من قانون أفيا الشهير (الذى سمى على اسم النائبة لاتيتيا أفيا) الذى اعتبر غير دستوري.

قانون SREN: صورة رمزية لقانون Avia الذى يعتبر غير دستوري

يهدف قانون Avia الذى صدر فى يونيو٢٠٢٠ رسميًا إلى السيطرة على "المحتوى الذى يحض على الكراهية" على الإنترنت. وطالبت الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث بإزالة المحتوى غير المشروع "بشكل واضح" فى غضون ٢٤ ساعة بعد الإبلاغ عنه أو بعد ساعة واحدة فقط إذا جاء البلاغ من الشرطة. وللقيام بذلك نصت على تشكيل مرصد مسئوليته رصد وتحليل تطور محتوى الكراهية، بالتعاون مع الفاعلين والجمعيات والباحثين المعنيين”. وفى ذلك الوقت، كان أعضاء مجلس الشيوخ المعارضون قد أحالوا الأمر إلى المجلس الدستوري. وقد رأت هذه المؤسسة أن بعض الأحكام تنتهك بطريقة غير متناسبة وغير مناسبة وغير ضرورية حرية التعبير وتحمل خطر الإفراط فى الرقابة من جانب المنصات. وهكذا اعتبر النص مخالفًا للدستور الفرنسى وتم إلغاؤه.

وقد اعتبر المجلس الدستوري  أن تحديد الطبيعة غير المشروعة للمحتوى الإرهابى أو المواد الإباحية المتعلقة بالأطفال لا يستند إلى طبيعتهما وهويتهما  المحددة  وقد كان هذا فى قانون أفيا، رهنًا بالتقييم الوحيد للإدارة، والوقت المسموح به للمشغل للامتثال دون السماح له بالحصول على قرار من القاضي..  بذلك أصبحت الرقابة إدارية بدلًا من أن تكون قضائية.

قانون الخدمة الرقمية الأوروبي

وبعيدًا عن الاعتراف بالهزيمة وتجاهل المؤسسات الوطنية فقد حمل المروجون لقانون أفيا مشروعهم إلى المفوضية الأوروبية. وكانت هذه هى الطريقة التى تم بها تضمين القانون الشهير بالكامل فى هذه الأحكام غير الدستورية فى DSA (قانون الخدمات الرقمية) أو الإطار التشريعى العام المتعلق بالخدمات الرقمية - وهى مجموعة من التوجيهات الأوروبية بشأن التجارة الرقمية والتى نظرًا لأن التجارة أصبحت اختصاصًا حصريًا للاتحاد الأوروبى فرضت نفسها على القانون الوطنى الفرنسى وبالتالى يتحايل على قرار المجلس الدستوري.

ويفرض قانون DSA الذى يدعمه المفوض الأوروبى تيرى بريتون، سيطرة الاتحاد الأوروبى على الشبكات الاجتماعية من خلال إنشاء التزامات جديدة للمنصات التى تضم أكثر من ٤٥ مليون مستخدم. ودخلت حيز التنفيذ فى ٢٥ أغسطس ٢٠٢٣ فى الاتحاد الأوروبي، كما أن المنصات الرقمية الكبيرة ومحركات البحث مثل جوجل، فيسبوك وتويتر وتيك توك يجب أن تكون تحت عيون الرقابة بما يفرض عليها تعديل محتواها إذا تضمن بعض العناصر غير القانونية! كل ذلك يدور فى تلك الذريعة التى تطالب ب "التحرك بشكل أكبر ضد المحتوى غير القانوني" على الإنترنت! وفى حالة عدم الامتثال لهذه الإجراءات تكون الغرامات رادعة. وينطوى ذلك على غرامات تصل إلى مخالفة تصل قيمتها إلى ٦٪ من حجم مبيعاتها وفى حالة تكرار المخالفة إلي الإغلاق الكامل لخدماتها على أراضى الاتحاد الأوروبي. وهنا يجدر الإشارة إلى أن تييرى بريتون كان الرئيس التنفيذى لشركة ATOS المتخصصة فى رموز QR من عام ٢٠٠٩ إلى عام ٢٠١٩.

ويدين معارضو قانون الأمن الرقمى تلك الطبيعة التعسفية للرقابة الخارجة عن  أى إطار علمي، حيث سيتم تنفيذها من خلال عدد كبير من "المدققين" الجدد وغيرهم من "المراسلين الموثوق بهم"، الذين سيتم توظيفهم من قبل الاتحاد الأوروبى والذين سيكون لديهم سلطة غير متناسبة ويشير الخبير فلوريان فيليبو إلى أنه فى حالة حدوث أزمة يمكن تفعيل الرقابة مباشرة من السلطة التنفيذية الأوروبية من خلال آلية الاستجابة للأزمات. وفى ظل أزمات المناخ والأمن والصحة فمن المتوقع أن تكون الرقابة التى يتم تشغيلها من بروكسل على قدم وساق من أجل تحقيق "نظام عام رقمي" جديد.

فرض هوية الدولة الرقمية

لا شك أن قانون الحماية الرقمية الجديد SREN يعتبر تعبيرًا عن رغبة الحكومة فى كبح جماح الإنترنت والذى يفلت جزئيًا من سيطرة القوانين.. وسيكون ذلك ذريعة لفرض هوية الدولة الرقمية دفعة واحدة وإلى الأبد على جميع المواطنين. وفى مقال نشرته Konbini أكد أن مشروع قانون SREN يمكن أن يدمر حريات الإنترنت الأساسية دون أن ينجح  فى ضبط التجاوزات على الإنترنت وتعزيز حماية مستخدميه وخاصة القاصرين. وتدرك الحكومة جيدا ان هناك إجراءات مماثلة للتصفية والتحقق من الهوية على الإنترنت قد تم اتخاذها بالفعل فى المملكة المتحدة وأستراليا ولكنها فشلت فى عام ٢٠١٩ بسبب استحالة تطبيقها من الناحية الفنية. وبالتالى فإن قانون SREN سيكون مجرد ذريعة.

وفى مقال نشر فى صحيفة "لاكوادراتور دو سيركل" بتاريخ ١٢ سبتمبر ٢٠٢٣ بعنوان: "مشروع قانون SREN: الحكومة لا تسمع أى أخبار عن واقع الإنترنت" يؤكد المقال أنه "بسبب الرغبة فى إنشاء رقابة استبدادية وخارجة عن نطاق القضاء وبسبب الرغبة فى وضع حد لإخفاء الهوية على الإنترنت وتكرار الأخطاء التى ارتكبت بالفعل مع قانون أفيا، فإن الحكومة تسير مرة أخرى على المسار الخطأ.

ويهدف قانون الحماية الرقمية إلى وضع حد لإخفاء الهوية عبر الإنترنت تحت غطاء حماية تعرض القاصرين للمواقع الإباحية (المادتان ١ و٢). سيفرض هذا الحكم فى الواقع استخدام الهوية الرقمية والرقابة الإدارية التى ستحل محل الرقابة القضائية حيث يقوم القاضى فقط بالتحقق من شرعية الإجراء ومن خلال قانون الحماية الرقمية الجديد  SREN تسعى الحكومة بشكل  إلى حجب مواقع مختلفة على الإنترنت وتتطلب المادة ٦ بشكل خاص من المطورين تثبيت الوظائف الفنية التى تسمح بذلك. وأثار هذا المقال انتقادات واسعة بين منشئى الصفحات الذين أدانوا هذا التوجه فى ذلك القانون لأنه "لا ينقض فقط عقود من المعايير الراسخة فيما يتعلق بالإشراف على المحتوى"، ولكنه أيضًا "سيوفر للحكومات الاستبدادية وسيلة لتقليل فعالية الأدوات؛ التى يمكن استخدامها للتحايل على الرقابة".

وفى هذا الصدد ينص القانون على حظر الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN) والتى تتيح إمكانية  التحايل على الرقابة الموجودة بالفعل فى جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. ويحضرنا هنا ما حدث فى فرنسا عندما اضطرت منصات مثل Rumble إلى وقف نشاطها بسبب حظر القنوات الروسية حيث تم حظر العديد من الشبكات الاجتماعية. ومن المثير للاهتمام أن نرى صحيفة لوموند تصف "Rumble" بأنها منصة لـ "اليمين المتطرف"، وبالتالى تسلط الضوء على ذاتية وتحيز الرقابة وتم التخلى أخيرًا عن مشروع حظر الشبكات الافتراضية الخاصة  بعد أن أثار الكثر من الاحتجاجات والانتقادات.

هذا بالإضافة إلى إنه يتم تقديم قانون الحماية الرقمية الجديد  SREN إلى البرلمانيين كوسيلة لمكافحة الاحتيال، فى حين أن هناك العديد من أدوات الحماية الموجودة بالفعل ضد البرامج الضارة والتصيد الاحتيالي. ووفقا لمقال نشر على مدونة موزيلا، فإن التدابير التى ينص عليها هذا القانون، مثل فرض الحكومة لقوائم الحظر من شأنها أن تؤدى إلى "إنشاء سابقة مثيرة للقلق وقدرات تقنية ستستغلها الأنظمة الأخرى فى المستقبل".. وأكد المقال أن "هذا الإجراء الذى يهدف إلى حجب المواقع مباشرة فى المتصفح سيكون بمثابة كارثة على الإنترنت المجانى ولن يتناسب مع أهداف مشروع القانون".

وبالتالى فإن قانون الحماية الرقمية الجديد الذى يتخفى وراء ستار مكافحة المحتوى الضار والاحتيال سوف يضع حتمًا المبلغين عن المخالفات فى المقعد الساخن وسوف يسحق أى إمكانية لمستخدمى الإنترنت لمواجهة الحقيقة ولن يكون من الممكن بعد الآن التشكيك فى أيديولوجيات أنصار نظرية "الووكيزم"، مثل إضفاء الطابع الجنسى على الأطفال، على وسائل التواصل الاجتماعى فى البلاد. ولكن من المؤكد أن الأمر نفسه ينطبق على فضائح الفساد، على سبيل المثال! وكما يؤكد الخبير فلوريان فيليبو هذا الأمر؛ فإن قانون SREN يفتح الباب أمام حكم التعسف، والذى قد يؤدى فى النهاية إلى تأسيس الاستبداد الرقمي.

قانون يذكرنا بالرقابة التى وضعها الحزب الشيوعى الصينى على الشبكات الاجتماعية

ويتأسس هذا القانون على الرغبة فى محاربة “الكراهية والتلاعب والتضليل”، وهى كلها مفاهيم غير قانونية وذاتية وتعتمد على "من يشرف على القانون".. وفى مقال بعنوان: "الإنترنت فى الصين بين الدولة والرأى العام"، يوضح الأكاديمى جوزيبى ريشيري، الخبير فى الإعلام الصيني، أنه فى عام ٢٠١٧، تم تقنين القواعد المتعلقة بالإنترنت فى شكل قانون وفقًا لإرادة الرئيس الصينى شى جين بينج وذلك بدافع  حماية مستخدمى الإنترنت.  وفى الحقيقة يشير القانون إلى المحتويات التى لا يمكن تداولها على الإنترنت والتى يجب مراقبتها من خلال سلسلة من الآليات التلقائية، ولكن أيضا من خلال التعاون المباشر مع الشركات التى تقدم الخدمات عبر الشبكات. يُطلب من هذه الشركات عدم السماح بالوصول إلى المواقع التى لا تحترم القواعد وإبلاغ السلطات عنها. ويحدث نفس الشيء للبريد الإلكتروني: فالرسائل التى تتضمن محتوى سياسى "خطير"، أو عنيف أو إباحى أو من أى نوع آخر، يتم حظرها تلقائيًا بفضل تطبيقات برمجية ومقدمى خدمات محددين. كما يجب أن تشير الخدمات إلى هوية الأشخاص الذين أرسلوها وهكذا لم تتمكن شركات فيسبوك وتويتر (X) ونيتفليكس وغيرها التى لم تقبل هذه القواعد القمعية من دخول الصين.

ويبدو أن نموذج الصين الشيوعية يغرى زعماءنا الأوروبيين، وهذا مؤسف للغاية! ولذلك ومن أجل إنقاذ ما تبقى من حرياتنا الفردية وروحنا النقدية فمن الأفضل للفرنسيين أن ينظروا عبر المحيط الأطلسي، حيث يوجد مشروع قانون بشأن حماية حرية التعبير من قبل أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين راند بول وجيم جوردان انطلاقا من فكرة مفادها أن الرقابة تشكل الآن تهديدًا كبيرًا اليوم حيث قال بول راند فى هذا الشأن "الأميركيون شعب حر ونحن لا نتعامل مع الهجمات على حرياتنا باستخفاف.. لقد حان الوقت للمقاومة واستعادة حقنا الذى منحه الله لنا فى حرية التعبير.. وبموجب قانون حماية حرية التعبير لن تتمكن الحكومة من الاختباء وراء "والحياة الشخصية والسرية" لتقويض حقوق الأمريكيين مع التعديل الأول للدستور.. وفى الحقيقة، الحريات الأساسية للفرنسيين تستحق أكثر من أى وقت مضى، الدفاع عنها من خلال قانون جديد لصالح حرية التعبير؛ فهل يتمكن الجماهير والمواطنون من إدراك حجم هذا التحدي؟

آنا بوفرو: متخصصة فى المجالين الروسى والتركى حاصلة على دكتوراة فى الدراسات السلافية من جامعة السوربون وتخرجت فى جامعة بوسطن فى العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، لها العديد من الكتب فى الجغرافيا السياسية وتعمل فى معهد دراسات الدفاع الوطنى المتقدمة.. تتناول قانون حماية الخدمات الرقمية  الجديد فى دول الاتحاد الأوروبى، والذى تعتبره قيدًا على حرية التعبير على الإنترنت.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: أوروبا حرية التعبير الشبکات الاجتماعیة الاتحاد الأوروبى الاتحاد الأوروبی الخدمات الرقمیة حریة التعبیر على الإنترنت من خلال من قبل

إقرأ أيضاً:

سوريا.. حنين لا يغادر محبيها

حلم الرجوع يداعب أقلام الطيور المهاجرة
أدب العودة.. أمل تحقق أم سيظل طريدا؟

هذى دمشق.. وهذى الكأس والراح

إنى أحب... وبعـض الحـب ذباح

أنا الدمشقى.. لو شرحتم جسدى

لسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح

و لو فتحـتم شرايينى بمديتكـم

سمعتم فى دمى أصوات من راحوا

زراعة القلب.. تشفى بعض من عشقوا

وما لقلـبى –إذا أحببـت جـراح
مآذن الشـام تبكـى إذ تعانقـنى

و للمـآذن.. كالأشجار.. أرواح
هنا جذورى.. هنا قلبى... هنا لغـتى

فكيف أوضح؟ هل فى العشق إيضاح؟


خمسون عاماً.. وأجزائى مبعثرةٌ..

فوق المحيط.. وما فى الأفق مصباح

تقاذفتنى بحـارٌ لا ضفـاف لها..

وطاردتنى شيـاطينٌ وأشبـاح


هكذا عبر نزار قبانى فى قصيدته الدمشقية عن ذلك الحنين الساكن فى حنايا قلوب المغادرين لأوطانهم قهرا..
نعم، إنه الوطن، جرح غائر، تستبيحه الغربة وتمد فى عمقه نصلا من نار، لا يشعر به إلا كل ذى وطن مستلب، باحتلال كان أو تهجير قسرى، أو حتى ظلم داخلى..
ولأنه الأنشودة الخالدة فى دماء العرب، ستظل العودة إلى الوطن أو إعادته حلم كل حالم، وزائرا دائما فى منامات العاشقين، وفوق أقلام المبدعين، لا يغادر ما يسطرون ولا تنساه أفئدتهم مهما ذاقوا استقرارا أو هدوءا فى بلاد الغربة.. فالوطن يقبع هناك، بين أدمى ربوة فى القلب.
منذ اندلاع الثورة السورية فى 15 مارس 2011، وما صاحبها من حرب ظلت نيرانها مستعرة لسنوات، وراح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى، فقد شهدت السنوات التالية على تلك الثورة عملية نزوح واسعة للمبدعين السوريين، الذين هاجروا لبلدان عربية وأوروبية، ليأمنوا فيها على أنفسهم وعائلاتهم، ويمارسوا إبداعهم الأدبى بحرية، ولمعت أسماء الكثيرين منهم فى سماوات الأدب وشقوا طريقهم بقوة إلى العالمية، عبر أعمالهم التى ألقى الواقع السورى الراهن بظلاله عليها.
ويعد الأدب السورى أعظم شاهد على المرحلة الأهم والأخطر من تاريخ سوريا المعاصر، فلا تكاد تخلو الأعمال من ثيمات الحرب والحلم والحب والموت والغربة والهجرة ومعاناة اللجوء.
ولا شك أن الأدب المهجرى السورى قد أسهم مساهمة جلية فى التعبير عن معاناة الشعب السورى فى ظل ثورته، حيث نجد كتّابًا توزعوا فى بلدان العالم حاملين معهم همهم الوطنى، وأحلامهم المؤجلة، وحنينهم الذبيح وظلّوا مخلصين فى كتاباتهم لما آمنوا به، رغم أوضاعهم النفسية الموسومة بالإحباط والوحشة، ومع ذلك بقيت قلوبهم معلقة فى وطنهم تقطر ألمًا جسدوه من خلال أقلامهم التى ما فتئت تبث الظلم والقهر الممزوجين بأمل الانتصار وحلم العودة.
* سوريا حاضرة فى أقلام أبنائها
هكذا تناول الأديب السورى فى مغتربه موضوعات شتى، لكن الأغلب الأعم طغى عليه المضمون (الاحترابى السياسى) وما خلفه من تداعيات، تبدى هذا جليا فى الكثير من الأجناس الأدبية التى اتخذها أدباء سوريا أداة لتعبيرهم، وبرزت على سطح الأدب أسماء مهمة، ربما لم تنل من الشهرة على أرض الوطن ما نالته فى بلدان المهجر، وربما استطاعوا التعبير بحرية أوسع وبأقلام أكثر انطلاقا من تلك التى وصمتهم بالتقييد والخوف والارتعاش تحت سماء الوطن المستلب.
وقد تبدى ظل الوطن حاضرا بين إبداع ما بعد ثورة سوريا، نذكر على سبيل المثال القليل، رواية «باب الأبواب» ليوسف دعيس، ورواية «الخميادو» لإبراهيم جبين، ورواية «حتى إذا بلغت الأربعين» لليندا الشبلى، ورواية «اغتصاب الياسمين» لرشا الحسين، وكذلك ديوان «فراشة ونور» لسمية علونى، وديوان «أناشيد ميونخ المؤجلة» لفواز القادرى، رواية «جمهورية العبث» لفواز العلو، و«صداع فى رأس الزمن» لعواد الجدى، رواية «أرمان»، مجموعتا «جرح الفينيق»، «الشهيد الحى» لريتا بربارة.، روعة سنبل «دو يك»، ناهدة شبيب».
فأغلب هذه النصوص الأدبية مهما تشعب سردها، أو اختلفت طريقة تناولها وزاوية ولوجها، يبقى الناظم الجامع لها، والمحور الأساس الذى تدور حوله هو الوطن ولا شىء سواه... ولنا أن نطالع بعض تلك النماذج:
ريتا بربارة: 
قاصة وروائية سورية، مقيمة بمصر، لها العديد من الإصدارات، أحدثها رواية «أرمان»، تتناول فيها ذوى الشهداء ومعاناتهم لفقدانهم أولادهم، كما تتطرق الرواية إلى الحرب وإفرازاتها من فساد وفقر وعهر.
كما تتناول رواية ريتا بربارة، ظهور تنظيم داعش فى مدينة الرقة والإرهاب الذى حدث فى سورية.. والرواية تتحدث عن بعض الشهداء الأبطال بأسمائهم الحقيقية مثل البطل الشهيد كريكور وعن والدته أمل التى حولت ألمها وحزنها إلى حالة إجابية رائعة.
تأخذنا الكاتبة ريتا بربارة من خلال روايتها أرمان، لنحيا معها لحظات وأحداث قد عايشتها بألم ووجع لا يدركه إلا من عايش الحرب فى وطنه.
لا تفقد ريتا الأمل فى العودة والانتصار، فهى تؤكد عبر «أرمان» أن سوريا ستنهض وتنفض عنها غبار الفقد والوجع والألم لتحيا من جديد كما طائر الفينيق وهذا ما أظهرته لنا من خلال مسيرة بطلتها «أمل».
* روعة سنبل
روائية وقاصة ومسرحية سورية، تعبر مجموعتها القصصية الأحدث «دو. يَك» عن شعور الفقد والاغتراب، وتحاكى الحياة بوصفها لعبة يكون فيها الربح والخسارة محكومَين بالحظ والمصادفات. وتشتمل المجموعة التى تقع فى 104 صفحات، على 15 نصًّا، بعدد الأحجار المخصصة لكل لاعب نرد. و«دو. يَك» هى رمية مرتبطة غالبا بالخسارات، التى هى الهاجس الأساسى للمجموعة القائمة بأكملها على فرضية أن عشر سنوات ثقيلة ومنهكة مر بها بلدها كافية ليكون الجميع خاسرين حتى من «نَجا» منهم.
وتدور القصص فى ثلاثة فضاءات، هى: «ذاكرة»، و«دروب»، و«ليل». وتعتمد سنبل تقنيات متنوعة فى القصّ، من دون أن تنتمى بصرامة إلى الواقعية، إذ تنطلق أحيانا نحو فضاءات المتخيل الفانتازى، فى محاولة لمجاراة عبثية الراهن وغرائبيته. وتتناول القصص ثيمات مختلفة تدور فى فلك الخسارات، مثل: الأحلام التى دُفنت، وأزمات الذاكرة التى خسرها أصحابها طوعا أحيانا للتخلص من عبء ما حملوه، أو كرها، لأن هناك من يشوهها ويطمسها، وكذلك الأزمات الوجودية لشخصيات خسرت ذواتها، وتحولت إلى كيانات أخرى لا تشبهها، أو خسرت كرامتها التى هُدرت فى طوابير طويلة بانتظار كفاف اليوم، أو سُفحت ثمنًا للخوف الذى يتنفسه الجميع.
ويمكن القول: إن الفقد والوحدة والاغتراب هى الثيمات الحاضرة فى أجواء المجموعة، وإن الذاكرة والأغنيات والحكايات تشكل عناصر متلاحمة مع السرد.
ناهدة شبيب
شاعرة سورية، تتضمن مجموعتها الشعرية الأحدث «أجراس الحنين» 38 قصيدة على الشكلين العمودى والتفعيلة،، تتنوع قصائد الكتاب بين الوجدانية والوطنية نزفت فيها الشاعرة من جرح الوطن صهيلا موجعا.
عرجت الشاعرة بروحها على المخيمات وحالة الفقر والجوع وترجمت معاناة المهاجرين فى البحر على متن سفن الموت وفى قصيدتها المزاد شرحت واقع الحال وماآلت إليه البلد من الخراب وراحت على رأيها تهرول فى صحراء الروح باحثة عن الخلاص بالكثير من الحسرة.
* أيا سوريا جرح لا يغادر منذ الأقدمين 
ولأن تاريخ سوريا يحفل بالاستلاب والظلم، يظل الهم السورى البطل الأوحد والأهم فى إبداع من أبدعوا، منذ الرواد والأقدمين، ليس فقط فى سطور المعاصرين والحداثيين، من برزوا بعد ثورة سوريا، بل هو ضارب فى عمق أقلامهم، كما يضرب حلم استعادة فلسطين فى عمق سطور كل عربى، فمن الشعراء السوريين الذين حملوا راية الوطن نذكر: محمد البزم خير الدين الزركلى.. خليل مردم بك..شفيق جبرى بدوى الجبل..نزار قبانى، سليمان العيسى، عبد الباسط الصوفى، على كنعان.. أدونيس.. فايز خضور، ممدوح سكاف، وآخرون.
ومن الروائيين والقصاصين والمسرحيين: حنا مينة ونبيل سليمان وعبد النبى حجازى وعبد السلام العجيلى وفارس زرزور ووليد إخلاصى وأحمد يوسف داوود وهانى الراهب وغادة السمان وناديا خوست وخليل النعيمى وحيدر حيدر.
فواز حداد ونهاد سيريس ومحمد أبو معتوق وممدوح عزام وعلى عبد الله سعيد وخليل الرز وعبد العزيز الموسى، سعيد حورانية وعبد الله عبد وزكريا تامر وجميل حتمل وإبراهيم صموئيل وغادة السمان وهيفاء بيطار)، سعدالله ونوس، حمدى موصللى ووليد فاضل ومحمد الماغوط وعبد الفتاح قلعه جى ورياض عصمت، الذين اعتمدوا على جهود سابقة قدمها ممدوح عدوان ووليد إخلاصى. 
* ألفت الإدلبى
ومن الروائيين والقصاصين الذين اتخذوا من الوطن هما لا يغادر، الروائية السورية ألفت الإدلبى، والتى تعد إحدى أشهر رواياتها “صبرية: دمشق يا بسمة الحزن” التى كتبتها عام 1980، وتصور معاناة فتاة سورية شابة بين يدى المحتل الفرنسى وضغوط المجتمع المتمثل بعائلتها وبحثها عن هويتها الشخصية والوطنية، وتمتْ كتابتها لتلائم عملاً تلفزيونياً سورياً، وأصبحت واحدة من الآثار الكلاسيكية الهامة فى الأدب السورى.
* خالد خليفة
أما خالد خليفة فهو الروائى والكاتب الحاصل على جوائز عديدة، والذى أحدثت أعماله جدلاً كبيراً فى بلده الأصلى، واجه خليفة من خلال أدبه وقائع المجتمع السورى المعاصر والحكومة.
أحد أهم موضوعاته وأكثرها تكراراً هو التوتر القائم بين الفرد والنظام السياسى ومعاناة الأول على يد الأخير، ولذلك قد منعت كتبه بشكل متكرر فى بلده سورية.
* حنا مينة:
كان لتصريحه الشهير: «ستصبح الرواية فى القرن الحادى والعشرين للعرب مكان ما هو عليه الشعر اليوم». الفضل فى أن يُنسب ل»حنا مينة» الريادة فى التقاليد الروائية السورية، وتعتبر روايات مينة أمثلة بارزة على الواقعية الاجتماعية، وتستكشف رواياته صعوبات وصراعات المواطنين العاديين الذين يعيشون فى المجتمع السورى.
أحد أهم أعماله «المستنقع» الذى استوحى من طفولته فى الاسكندرونة، والذى يعد مثالاً حياً على الفقر، الصراعات الطبقية والمرونة البشرية.
سعد الله ونوس:
على غرار كتّاب المسرحية الأوروبيين مثل «بيرتورت بريخت – Bertolt Brecht»، تدور أعمال ونوس حول العلاقة بين الهياكل الفردية والاجتماعية والسلطات، مستخدماً المسرح كمنصة لإشراك الجمهور بالأسئلة السياسية المثيرة بشأن المجتمع العربى المعاصر.
بهذه الطريقة، فإن مسرحياته تمثل نقد وردّ على الأدب والثقافة التى تسيطر عليها الحكومة.
لا يسعى ونوس لصنع السياسة اليومية، بل بدلًا من ذلك يسعى لاستجواب السياسة فى الحياة اليومية.
* سمر يزبك
الوعى السياسى والاجتماعى العميق الجذور المتشارك مع القضايا المعاصرة، والذى تنسجه فى أعمالها، هو ما يجمع كل إبداعها، ويعد كتابها «امرأة فى تبادل إطلاق النار: يوميات الثورة السورية 2012» أبرز مثال لذلك، وهو قصة مشاركتها فى الاحتجاجات ضد النظام السياسى فى سورية قبل هروبها النهائى والنفى إلى باريس، وحصل الكتاب على جائزة «PEN Pinter»، والتى تمنح سنوياً لكاتب دولى تعرض للاضطهاد بسبب أعماله.
* محمد الماغوط
احترف محمد الماغوط الفن السياسى، وقام بتأليف العديد من المسرحيات الناقدة. وتعتبر مسرحية غربة، ومسرحية خارج السرب، ومسرحية العصفور الأحدب، ومسرحية المهرج من أهم مسرحياته.
* نزار قبانى
رغم رومانسيته التى اشتهر بها، إلا أن شعره يواجه قضايا اجتماعية عميقة وخطيرة، جامعاً جمال وبساطة الأسلوب مع الحديث عن الثقافة والقومية العربية، ومكانة المرأة فى المجتمع، الأمر الذى جعل منه واحداً من أبرز الأصوات التقدمية المناصرة للمرأة فى سورية.
* حيدر حيدر
كثير هو إبداعه المقاوم والثائر، لكن يمكن اعتبار المجموعة القصصية «الفيضان»، أحد أشكال أدب المقاومة، فهى على تصويرها لمآل الدول العربية التى اُحتلت فى فترات ما من التاريخ الحديث، والإشارة سواء ضمنيًا أم مباشرة لتلك الحروب التى عانى ويلاتها وطننا العربى، إلا أن تجاوزها لمجرد الرصد الشكلى، وعبورها إلى الانعكاسات النفسية والاجتماعية، ودعوتها الضمنية للمقاومة والثورة على الظلم، كل ذلك إنما يرجح كفة انتمائها لأدب المقاومة فى معناه الأشمل والأعمق.
ففى مجموعته تلك تتمثل ذات حيدر الثائرة، وكأننا نراه فى ظلال أبطالها، فهو إذن ذلك السورى الذى غادر دمشق إلى الجزائر ليشارك فى ثورة التعريب، وهو نفسه من لحق بالمقاومة الفلسطينية مع بدايات الحرب اللبنانية.
إنه ذلك الأديب الثائر، الذى لم يكتفِ بالقلم سلاحًا، بل تجاوزه لفعل المشاركة، إنه العروبى القومى الذى أبى إلا أن يفنى عمره مقاومًا ثائرًا ضد الظلم أينما كان ووجد.
هكذا، توحد الكاتب مع أبطال قصص المجموعة، ففى كل قصة منها نلمح جيفارا العرب، الناقم الثائر على كل ضيم، والباحث الدائم عن حرية الشعوب وخلعها عباءة الاستسلام والمداجنة.
إذن، إذا كان الأدب الذى كُتِبَ فى سنوات الحرب السورية، بأقلام كتّاب وكاتبات أجبروا أو آثروا النزوح عن سوريا منذ أول رصاصة شهدتها التظاهرات التى عمّتِ البلاد، فهل بعدما تغير المشهد الآن، وما تشهده سوريا من عودة أبنائها إلى أرضها، وفرحتهم التى لا ينكرها شاهد، هل ننتظر أدبا من نوع آخر، قد يغادره حلم العودة والحنين إلى الوطن وبكاء التهجير والظلم والاستلاب؟ هل ننتظر أدبا يتغنى بواقع الاستعادة، ويرفل طربا بين ذراعى دمشق وحلب وغيرهما؟ هل يتحول حلم العودة الذى تحقق إلى أغنيات فرح وهزيج طرب فوق ربوع الوطن؟ أم أن القراءة الواقعية للمشهد السياسى تجعلنا نتريث فى انتظارنا هذا.. وربما أجلناه طويلا؟ ربما.

مقالات مشابهة

  • بوب ديلان: الصوت الذى شكّل ثقافة الستينيات
  • طارق عبدالعزيز: مشروع قانون المسئولية الطبية تضمن في فلسفته وأهدافه حماية الحقوق
  • لإدارة المدفوعات الرقمية بأمان.. كل ما تريد معرفته عن تطبيق Google Wallet
  • قانون المسئولية الطبية.. صحة الشيوخ توضح أهداف القانون الجديد
  • مشروع قانون التمويل الأمريكي الجديد: إنقاذ الحكومة من الإغلاق بتأخير تقني
  • وزير العمل: ظهور قانون العمل الجديد قريبا.. وتطبيقه على كل من يعمل بأجر في مصر
  • سوريا.. حنين لا يغادر محبيها
  • كأسك يا وطن
  • رئيس «اتحاد التأمين»: القانون الجديد سيزيد عدد المتعاملين بالسوق
  • 3 حالات تحمي الطبيب.. متى تنتفي المسئولية الطبية في مشروع القانون الجديد؟