ألكسندر عون يكتب: ياسر عرفات.. 19 عامًا على رحيل رمز القضية الفلسطينية.. «أبو عمار» شارك فى الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948
تاريخ النشر: 20th, November 2023 GMT
الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات
ياسر عرفات هو مرآة الشعب الفلسطيني. وقد أمضى سنوات عديدة فى المنفى فى بلدان عربية مختلفة، وقضى حياته يناضل من أجل القضية الفلسطينية. كان ذات يوم أحد رجال المقاومة، ثم تحول إلى دبلوماسى حسب ما يمليه عليه الوضع. حياة أبوعمار هى رمز نشاط شعبه: فى استجواب دائم، وحيد أو مطمع لجيرانه لأغراض سياسية.
ولد عام ١٩٢٩ فى القاهرة، وهو ابن تاجر من غزة وأم من القدس. وكان يقول أحيانًا أنه ولد فى القدس، ويهدف ذلك إلى إضفاء المزيد من الشرعية على نضاله من أجل القضية الفلسطينية.
أمضى السنوات الأولى من حياته فى القاهرة، ثم أُرسل إلى القدس عام ١٩٣٦ ليعيش مع أحد أعمامه. وفى هذا الوقت لاحظ الظلم الكامن الذى يعانى منه الشعب الفلسطيني. فى الواقع، فى ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الهجرة اليهودية على حساب السكان الفلسطينيين الأصليين. وفى مواجهة هذه المضايقات والانتهاكات المنتظمة بشكل متزايد، يشهد ياسر عرفات، وهو بلا حول ولا قوة، العديد من الثورات الفلسطينية.
وبعد أن أمضى ٤ سنوات فى المدينة المقدسة، عاد إلى القاهرة حيث واصل دراسته وفى نفس الوقت بدأ تدريبه السياسي. وسرعان ما أصبح الشاب ياسر شغوفًا بفلسطين، حيث درس المفكرين القوميين العرب ومنظرى الصهيونية تيودور هرتزل وفلاديمير جابوتنسكي. وكان فى البداية قريبًا من جماعة الإخوان المسلمين المصرية، ثم ابتعد عنها فيما بعد. وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبسبب الجرائم النازية، اعترفت القوى الغربية فى ذلك الوقت بواجب وأهمية إنشاء دولة يهودية فى فلسطين.
الانتقال إلى القيادة الفلسطينية
شارك محمد عبدالرءوف عرفات، المعروف باسم ياسر عرفات، فى الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام ١٩٤٨. ومثلت هذه الهزيمة الساحقة كارثة «النكبة العربية» على المنطقة بأكملها. وكان هذا «الازدراء» الأول مقدمة لمعاناة الشعب الفلسطينى الطويلة.
وبالعودة إلى القاهرة، حصل الشاب ياسر على شهادة الهندسة المدنية عام ١٩٥٦. وفى الخمسينيات من القرن الماضى، أصبح رئيسًا لمجموعة من الطلاب المنفيين، حيث ظهر الوعى بالقومية الفلسطينية. وانضم للجيش المصرى خلال أزمة قناة السويس عام ١٩٥٦ ضد العدوان الثلاثى الفرنسى والإنجليزى والإسرائيلي.
شيئًا فشيئًا، ينأى الناشط الفلسطينى الشاب بنفسه عن الحكومات العربية التى يعتبرها غير قادرة على إنجاز هدف تحرير فلسطين. وبحسب قوله فإن الحل يجب أن يأتى من الداخل وليس من دولة عربية. واستقر ياسر فى نهاية المطاف فى الكويت كمدير أعمال. وفى هذا البلد أسس حركة التحرير الفلسطينية، وهو حزب سرعان ما أعيد تسميته بفتح مع صلاح خلف وخليل الوزير وفاروق القدومي. ياسر عرفات يستعير الاسم الحركى لأبى عمار، تكريما لعمار بن ياسر، صاحب النبى محمد.
الهدف الأساسى هو إقامة دولة فلسطينية، متجاهلين الاعتراف بالدولة الإسرائيلية. إن موقع حركة التحرير الفلسطينية الوليدة ورغبتها فى استخدام العمل العسكرى أبعدها عن القادة العرب. وهو ينفى بشكل قاطع أن يتم استخدام القضية الفلسطينية لأغراض دعائية ديماجوجية. وهكذا أنشأ فى عام ١٩٥٩ مجلة بعنوان "فلسطيننا" التى أكملت القطيعة بين رؤيته ورؤية القومية العربية.
فى هذه المجلة، يقوم ياسر عرفات بتنظير إيديولوجيته ويشرح أهمية الكفاح المسلح للاجئين الفلسطينيين «فى الأردن ولبنان وسوريا ومصر». وبالفعل، فهو يتصور فكرة الفدائيين الفلسطينيين (وهى فكرة تعنى حرفيًا التضحية بالنفس من أجل قضية). وفى مواجهة تباطؤ الحكومات العربية واستيلاء الإسرائيليين على الأراضي، يريد ياسر عرفات أن يتحرك بمفرده، لتعبئة وتدريب مجموعات الكوماندوز الفلسطينية.
كفاح مسلح لا يحقق الإجماع
وبعد هزيمة حرب الأيام الستة ضد إسرائيل عام ١٩٦٧، تعززت لدى ياسر عرفات فكرته القائلة بأن خلاص فلسطين لا يمكن أن يأتى من دولة عربية.. خلال مؤتمر فتح فى دمشق فى يونيو ١٩٦٧، دعا ياسر عرفات إلى العمل المسلح فى الضفة الغربية، وهى الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى نفس العام. ويصبح الرئيس الرمز للفدائيين.
وتستهدف الهجمات المصالح الإسرائيلية من خلال أعمال الاختطاف والتفجيرات واحتجاز الرهائن. ياسر عرفات يخوض حرب استنزاف ضد «العدو الصهيوني». لكن إسرائيل ترد بالقوة، مما يجبر الفلسطينيين على إقامة مقرهم فى الأردن. وأدى ذلك إلى تأجيج التوترات بين المملكة الأردنية الهاشمية والمقاتلين الفلسطينيين.
ومع ذلك، حقق الفدائيون نجاحهم الأول فى مارس ١٩٦٨ فى الكرامة بالأردن. وبعد محاصرة مخيم اللاجئين وقصفه، واجه الإسرائيليون مقاومة مفاجئة من ٣٠٠ فلسطينى وحوالى ١٠٠ أردني. وتم تدمير قاعدة الكرامة أخيرًا، لكن الجيش الإسرائيلى اضطر إلى مغادرة الموقع. وبعد تتويجه بهذا النصر الرمزي، يرسخ ياسر عرفات شرعيته.. علاوة على ذلك، وبعد ترك العمل السري، تم تعيينه رئيسًا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية فى فبراير ١٩٦٩، التى ينكر ميثاقها وجود الدولة اليهودية.
لكن هذا الأمر لم يدم طويلًا، حيث أثرت الصراعات الداخلية والقومية على الصراع ضد إسرائيل. والواقع أن قوات الكوماندوز الفلسطينية غير المنضبطة تصطدم بانتظام مع الجيش الأردني. وسرعان ما شكلوا «دولة داخل الدولة» وتجاوزوا بكثير الوظائف السيادية للدولة الأردنية. وفى سبتمبر ١٩٧٠، قُتِلَ آلاف من الفلسطينيين والمدنيين والجنود. وتعرف هذه الحلقة الدرامية فى تاريخ القضية الفلسطينية باسم «أيلول الأسود».
وبسبب تصلب السياسة الأردنية تجاه الفلسطينيين آنذاك، توجه ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية للاستقرار فى بيروت عام ١٩٧٠.
وفى غياب الاعتراف الدولى بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، فإن ياسر عرفات يريد أن يجعل من لبنان أرضًا خاضعة لقضيته. وخلال القمة العربية فى الرباط فى أكتوبر ١٩٧٤، تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطيني.
ويتواجد الفلسطينيون فى لبنان منذ عام ١٩٤٨ حيث كانت أول هزيمة عربية أمام إسرائيل. ومن خلال منظمة التحرير الفلسطينية، قام ياسر عرفات بتنظيم وشن عمليات عسكرية ضد البلدات الإسرائيلية من جنوب لبنان بمساعدة بعض السكان المحليين.
وأصبحت تصرفاتها قانونية منذ اتفاق القاهرة عام ١٩٦٩، فقد أجاز هذا الاتفاق للحركات الفلسطينية استخدام لبنان كقاعدة خلفية فى قتالها ضد «العدو الصهيوني». ومع ذلك، فإن الأعمال الانتقامية الإسرائيلية تدمر بشكل منهجى الهياكل الاقتصادية «الميناء والمطار ومحطات الطاقة والجسور وما إلى ذلك».. مرة أخرى، يتفاقم الوضع فى هذا البلد المضيف.
وانزلق لبنان إلى حرب مدمرة عام ١٩٧٥. ومع مرور السنين، تصبح البلاد "فسيفساء" من التحالفات المعقدة وغير المتجانسة. ويواجه الفلسطينيون بشكل رئيسى الميليشيات المسيحية. واندلعت الاشتباكات بين الجانبين. وفى مواجهة عجز الحكومة اللبنانية عن احتواء العمليات الفلسطينية، تدخلت إسرائيل عسكريًا وحاولت القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية فى عام ١٩٧٨، ثم فى عام ١٩٨٢ عن طريق غزو لبنان حتى بيروت.
بعد أن اقتربوا من الموت أثناء القصف الإسرائيلى على العاصمة اللبنانية، تم طرد منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات على متن السفينة التجارية أتلانتس التى ترفع العلم اليوناني، تحت حماية حراسة فرنسية أمريكية مشتركة، إلى تونس فى عام ١٩٨٢. وفى مواجهة هذا الوضع المرير، اضطر الفدائيون إلى التفرق فى الجزائر والعراق واليمن.
الالتزام بالتفاوض
ونجا عرفات من الموت فى الأول من أكتوبر ١٩٨٥ عندما قصفت طائرة إسرائيلية من طراز إف-١٥ مقر منظمة التحرير الفلسطينية فى تونس حيث كان من المقرر عقد اجتماع بين قادة الحركة، وهو الاجتماع الذى وصل إليه عرفات متأخرًا.. فى المنفى، شاهد ياسر عرفات شعبه ينتفض خلال الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧. وقد عجل اندلاع الانتفاضة الأولى بإعلان الدولة الفلسطينية من الجزائر ليلة ١٥ نوفمبر ١٩٨٨، وانتخب المجلس الوطنى الفلسطينى عرفات رئيسًا لهذه الدولة الجديدة.
لكن تحالفها الدبلوماسى مع صدام حسين خلال حرب الخليج الأولى عزلها عن بقية الدول العربية التى تبنت قضية التحالف الدولي. وقطعت السعودية والكويت التمويل عن منظمة التحرير الفلسطينية.
لقد كانت لياسر عرفات عدة أرواح فى حياة واحدة. فى دوره كمقاتل مقاومة وتكتيكي، كان يدعو بضمير حى إلى حرب العصابات المسلحة ضد العدو الإسرائيلي. لكنه لا يملك الوسائل لتحقيق طموحاته، ويحبس نفسه فى منطقه القومي، ويرفض كل رعاية عربية. وبعد استحالة تحرير فلسطين بالقوة، اضطر فى التسعينيات إلى إيجاد حل وسط من خلال الدبلوماسية مع إسرائيل خلال اتفاقيات أوسلو فى عام ١٩٩٣. وبعد هذه الاتفاقيات، فاز بجائزة نوبل للسلام مع إسحق رابين وشيمون بيريز فى عام ١٩٩٤.
أدى وصول بنيامين نتنياهو إلى السلطة فى عام ١٩٩٦ وتصلب السياسة الإسرائيلية من خلال الاستعمار والاحتلال إلى تأجيل عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية إلى أجل غير مسمى. ثم جاءت وفاة ياسر عرفات فى ١١ نوفمبر ٢٠٠٤ فى منتصف الانتفاضة الثانية لتترك الشعب الفلسطينى عاجزًا، واقعًا فى قبضة صعود نفوذ حماس، والصدام مع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الجديد محمود عباس، وفى الإفلات من العقاب الذى تتمتع به إسرائيل.
ألكسندر عون: صحفى فرنسى لبنانى متخصص فى قضايا الشرق الأوسط.. يكتب عن مشوار «أبو عمار» من الميلاد حتى الرحيل وما تخلله من أحداث درامية على المستوى السياسى والعسكرى والنضالى.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: ياسر عرفات الشعب الفلسطيني أبو عمار بنيامين نتنياهو رمز القضية الفلسطينية منظمة التحریر الفلسطینیة القضیة الفلسطینیة یاسر عرفات من خلال فى عام
إقرأ أيضاً:
لماذا نقرأ ألكسندر دوغين؟
بعد الأحداث الأخيرة في سوريا، خرج المفكر والفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين في منشورات على حسابه في منصة إكس يتحسر فيها ـ بشكل ظاهر أو خفي ـ على سقوط نظام بشار الأسد، ويتوعد تركيا وأعداءه المعتادين، الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها، ويخبرهم بأن روسيا وحلفاءها ستنتصر.
يفتح هذا سؤالًا كان لديّ منذ فترة طويلة، حول قراءة ألكسندر دوغين، فطوال دراستي في قسم العلوم السياسية في جامعة السلطان قابوس، لم أسمع أحدًا من المدرسين يذكره حتى في سياق التعريف بتأثيره على السياسة الروسية أو على الشكل الجديد للعالم، على الرغم من أنه أحد المفكرين الذين يسعون لإنهاء النظام العالمي الحالي واستبداله بنظام عالمي جديد متعدد القطبية، تكون فيه روسيا أحد الأقطاب كما كانت في النظامين السابقين. لذلك، يأتي هذا السؤال مرة أخرى وهو: لماذا يجب أن نقرأ ألكسندر دوغين؟
يتحدد تأثير ألكسندر دوغين في عدد من المواضع التي يجب النظر لها، منها الفكر الأوراسي الجديد، والنظرية السياسية الرابعة، وكتاب أسس الجيوبوليتيكا، والتأثير على السياسة الروسية، والخروج من عالم القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب، والبحث عن فكرة غير غربية، وأخيرا العودة للذات.
أثرت الأوراسية الجديدة على الدولة الروسية لا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة، فقد أثرت كفكر سياسي يدعو إلى أن تستعيد روسيا مكانتها الدولية، والأوراسية هي «أيديولوجية ذات طابع اجتماعي وسياسي لتيار فكري ولد ضمن بيئة الموجة الأولى من المهاجرين الروس إلى أوروبا عام 1920 وتعمل هذه الأيديولوجية على توحيد مفهوم الثقافة الروسية بوصفها ظاهرة غير أوروبية وتقدمها من بين ثقافات العالم المختلفة»، والأوراسية الجديدة التي ظهرت على يد ألكسندر دوغين تفترض عدة افتراضات منها أنها كونية، ولذلك فإنها تشكل الأساس، بحسب دوغين، في تكوين مشروع جيوبوليتيكي يشمل تحالفات روسية مع عدة محاور أوروبية وآسيوية لإزاحة التمدد الأمريكي، ومعارضة ما يسميه «الأطلسية» التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال العولمة ومحاولة «أمركة العالم»، كما يؤمن دوغين أن جيوبوليتيك الأوراسية الجديدة تشمل كل أوروبا وآسيا.
من أجل بناء النظرية الأوراسية الجديدة، اشتغل ألكسندر دوغين على كتابه (أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي) الذي يُمكن عده أهم كتب دوغين، بل واحدا من أهم الكتب المعاصرة في الجغرافيا السياسية. استخدم دوغين في الكتاب ـ بعد شرحه لتاريخ الجغرافيا السياسية ونظرياتها ـ نظرية ماكندر وتصور من خلالها الصراع العالمي، لذلك يرى بأن إنشاء امبراطورية قارية بقيادة روسية هو أمر مهم يجب أن يقوم على بناء عقدي يفترض فيه بأنه يكون معاديا للأطلسية وإسقاط الهيمنة الأمريكية على القارتين. ومن خلال بعض الأسس الاجتماعية والسياسية والجيوبوليتيكية، حدد دوغين ثلاثة محاور رئيسة يقوم عليها مشروع الإمبراطورية الأوراسية هي محور موسكو ـ برلين، ومحور موسكو ـ طوكيو، ومحور موسكو ـ طهران، كما تشرح ذلك دلال حميد عطية في مجلة دراسات دولية.
وفي كتابه النظرية السياسية الرابعة، طرح ألكسندر دوغين، نظرية سياسية مخالفة للنظريات الثلاث السائدة، الليبرالية عند الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي، والشيوعية، والفاشية في القرن العشرين. إن النظريات الثلاث هذه حكم عليها بالموت بالنسبة لدوغين لأن الأخيرتين لم تعد موجودة، وأما الأولى فإنه على الرغم من اعتقاد كثير بأنها مسيطرة على العالم وبأنها آخر ما يُمكن الوصول إليه كما عند فوكوياما، إلا أنها في المقابل تواجه بصعود دول أخرى لا تتبنى الخطاب الليبرالي بل لها خطاباتها المنفصلة التي يذكر دوغين أنها تشمل الأوراسية الجديدة، والتي يعتقد بأنها المقابلة أيديولوجيا لليبرالية، وكما أن الليبرالية تطورت إلى العولمة، فلا بد للأوراسية أن تتطور إلى النظرية السياسية الرابعة. تم انتقاد النظرية السياسية الرابعة، حيث إنها لا تميز بين ما هو أيديولوجي وثقافي في النظريات الثلاث السابقة، واعتبار أن الليبرالية شر مطلق.
حددت هذه النظرية بعض السلوكيات الروسية السياسية اتجاه الدول، فعلى سبيل المثال، في العلاقات الروسية المصرية، «اعترفت روسيا بثورة 30 يونيو عام 2013 وخريطة الطريق التي انبثقت عنها» كما سعت روسيا لتعزيز علاقاتها العسكرية مع مصر من خلال التدريب العسكري واتفاقيات بيع الأسلحة، والاتفاقيات العسكرية مثل الذي وُقع في 2014 بقيمة 3.5 مليار دولار، حيث إن مصر تشكل بوابة لدخول القارة الإفريقية والعالم العربي، إضافة لموقعها الجيوبوليتيكي الذي يظل على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. كما يحدد ذلك الدكتور أحمد العايدي.
من خلال هذا العرض يُمكن ملاحظة أن أفكار ونظريات ألكسندر دوغين تؤثر على السياسة الروسية وتحدد كثيرا من تحركاتها، لذلك للإجابة على السؤال الأول حول علّيّة قراءة ألكسندر دوغين، إذ يُمكن من خلالها ملاحظة التحركات الروسية وعقدها للاتفاقيات والتعاونات، إضافة لتدخلها في العديد من الدول مثل حربها الحالية مع أوكرانيا، ودخولها إلى سوريا، كما يُمكن ملاحظة تعاونها مع عدد من الدول منها الجمهورية الإسلامية الإيرانية والصين وغيرها، بل أن ألكسندر دوغين كان قد وصف الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مقابلة له على قناة حيرة مع هادي اللواتي بأنها قريبة من جمهورية أفلاطون التي يحكمها الفلاسفة، وهذه النظرة تعود إلى اعتقاد دوغين بأهمية هذا التعاون مع إيران باعتبارها حليفا جيوسياسيا وأحد المحاور الرئيسة للإمبراطورية الأوراسية، إضافة لاعتقاده بأن نظام ولاية الفقيه مضاد للنظرية السياسية الغربية والفكر السوسيولوجي الذي شكلته الليبرالية من خلال العولمة.
تقدم القراءة لدوغين رواية أخرى غير غربية، وهي رواية مناهضة للسيطرة الغربية بشقيها الصلبة والناعمة، لكنها أيضا تحتاج إلى نقد وتمحيص، إذ إن الهدف الذي يرمي إليه دوغين هو سيطرة روسية وإيجاد عالم تكون فيه روسيا قطبا في النظام العالمي. على الرغم من ذلك، فإن هذه النظرة يجب أن تكون شاملة مع التحركات العملية الروسية في الساحة الدولية، وفهم أسبابها ودوافعها من ذلك.
من خلال نظرياته، يقدم دوغين إطارا نظريا لعالم متعدد الأقطاب يتخلص من السيطرة الأمريكية، وهذا ما تسعى إليه روسيا حتى في الداخل، فإن العديد من المؤتمرات والندوات والمهرجانات يكون موضوع التعددية القطبية حاضرا فيها، ويُمكن الاستفادة من نظرة المفكرين من خارج روسيا للسير نحو هذه التعددية، على الرغم من أن كثيرا من المنظرين السياسيين لا يعلمون على وجه اليقين ما إذا كانت أكثر استقرارا وسلاما من النظام أحادي القطبية وثنائي القطبية أم لا، إلا أن دوغين يدفع بأطروحاته الفلسفية والسياسية نحوها بشكل متسارع.
وأخيرا، مما يقدمه ألكسندر دوغين أيضا هو العودة للذات، فمن خلال ما سبق، يُمكن إيجاد أنه يعارض التوجهات الغربية ليس السياسية فحسب بل حتى الفكرية، لذلك كان من المهم بالنسبة إليه أن يعود إلى الفكر الروسي المحافظ، فحافظ على أرثوذكسيته الدينية، ونظّر أنه يجب على العالم الإسلامي أن يعود للتعاليم الإسلامية أيضا من أجل أن يتوحد، لكن ليس هذا هو المهم هنا، بل المهم أن تكون هذه القراءة مدخلا لكيفية العودة إلى الذات وقراءتها والانطلاق من الأبعاد الثقافية والفكرية الذاتية بدلا من منطلقات الآخرين، فإن الليبرالية قد عمدت إلى إيجاد المواطن العالمي أو الخارج من هوياته إلى هويات كبرى متخيلة ولا يُمكن الوصول إليها، وهي بشكل أو بآخر هويات أمريكية أو غربية، فعمدت عملية المثاقفة للوصول في النهاية إلى التصديق بالأفكار الغربية-الأمريكية دون تمحيصها أو النظر ما إذا كانت تناسب السياق الاجتماعي والتاريخي والفكري الذي ينطلق منه الفرد والمجتمع، وجرى ذلك من خلال العولمة التي توصف كثيرا بأنها جعلت العالم قرية صغيرة، ليس اقتصاديا فحسب، لكن ثقافيا أيضا. هذه العودة للذات والنظر فيها توفر انطلاقات للاستقلالية والإبداع بشكل أكبر، لأنها كما تضطر للعودة إلى الأفكار، فإنها تضطر للعودة إلى اللغة التي فقدنا الصلة بها، وتحولت كثير من المجتمعات العربية إلى العجمة حتى في تعبيرها عن ذاتها باللغة العربية.
في الأخير، إن قراءة ألكسندر دوغين توفر فهم التحركات الروسية نحو أوروبا وآسيا، كما أنها توفر فهما لكيفية التعامل مع هذه التحركات من خلال فهم جذورها الفكرية والفلسفية، فعلى سبيل المثال، يُمكن من خلال هذه القراءة أن توفر فهما للتحركات الروسية في الخليج والمنطقة بشكل عام، إضافة لذلك، فإن هذه القراءة توفر فهما لكثير من أحداث الساحة الدولية المتعلقة بروسيا، فضلا عن الاستماع لسردية أخرى غير السردية الغربية المهيمنة، واستخلاص ما يُمكن الاستفادة منها أو نقدها أو الوصول إلى سرديات أخرى مناوئة عنها.