الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات
 

ياسر عرفات هو مرآة الشعب الفلسطيني. وقد أمضى سنوات عديدة فى المنفى فى بلدان عربية مختلفة، وقضى حياته يناضل من أجل القضية الفلسطينية. كان ذات يوم أحد رجال المقاومة، ثم تحول إلى دبلوماسى حسب ما يمليه عليه الوضع. حياة أبوعمار هى رمز نشاط شعبه: فى استجواب دائم، وحيد أو مطمع لجيرانه لأغراض سياسية.

ولد عام ١٩٢٩ فى القاهرة، وهو ابن تاجر من غزة وأم من القدس. وكان يقول أحيانًا أنه ولد فى القدس، ويهدف ذلك إلى إضفاء المزيد من الشرعية على نضاله من أجل القضية الفلسطينية.

أمضى السنوات الأولى من حياته فى القاهرة، ثم أُرسل إلى القدس عام ١٩٣٦ ليعيش مع أحد أعمامه. وفى هذا الوقت لاحظ الظلم الكامن الذى يعانى منه الشعب الفلسطيني. فى الواقع، فى ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الهجرة اليهودية على حساب السكان الفلسطينيين الأصليين. وفى مواجهة هذه المضايقات والانتهاكات المنتظمة بشكل متزايد، يشهد ياسر عرفات، وهو بلا حول ولا قوة، العديد من الثورات الفلسطينية.

وبعد أن أمضى ٤ سنوات فى المدينة المقدسة، عاد إلى القاهرة حيث واصل دراسته وفى نفس الوقت بدأ تدريبه السياسي. وسرعان ما أصبح الشاب ياسر شغوفًا بفلسطين، حيث درس المفكرين القوميين العرب ومنظرى الصهيونية تيودور هرتزل وفلاديمير جابوتنسكي. وكان فى البداية قريبًا من جماعة الإخوان المسلمين المصرية، ثم ابتعد عنها فيما بعد.  وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبسبب الجرائم النازية، اعترفت القوى الغربية فى ذلك الوقت بواجب وأهمية إنشاء دولة يهودية فى فلسطين.

الانتقال إلى القيادة الفلسطينية

شارك محمد عبدالرءوف عرفات، المعروف باسم ياسر عرفات، فى الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام ١٩٤٨. ومثلت هذه الهزيمة الساحقة كارثة «النكبة العربية» على المنطقة بأكملها. وكان هذا «الازدراء» الأول مقدمة لمعاناة الشعب الفلسطينى الطويلة.

وبالعودة إلى القاهرة، حصل الشاب ياسر على شهادة الهندسة المدنية عام ١٩٥٦. وفى الخمسينيات من القرن الماضى، أصبح رئيسًا لمجموعة من الطلاب المنفيين، حيث ظهر الوعى بالقومية الفلسطينية. وانضم للجيش المصرى خلال أزمة قناة السويس عام ١٩٥٦ ضد العدوان الثلاثى الفرنسى والإنجليزى والإسرائيلي.

شيئًا فشيئًا، ينأى الناشط الفلسطينى الشاب بنفسه عن الحكومات العربية التى يعتبرها غير قادرة على إنجاز هدف تحرير فلسطين. وبحسب قوله فإن الحل يجب أن يأتى من الداخل وليس من دولة عربية. واستقر ياسر فى نهاية المطاف فى الكويت كمدير أعمال. وفى هذا البلد أسس حركة التحرير الفلسطينية، وهو حزب سرعان ما أعيد تسميته بفتح مع صلاح خلف وخليل الوزير وفاروق القدومي. ياسر عرفات يستعير الاسم الحركى لأبى عمار، تكريما لعمار بن ياسر، صاحب النبى محمد.

الهدف الأساسى هو إقامة دولة فلسطينية، متجاهلين الاعتراف بالدولة الإسرائيلية. إن موقع حركة التحرير الفلسطينية الوليدة ورغبتها فى استخدام العمل العسكرى أبعدها عن القادة العرب. وهو ينفى بشكل قاطع أن يتم استخدام القضية الفلسطينية لأغراض دعائية ديماجوجية. وهكذا أنشأ فى عام ١٩٥٩ مجلة بعنوان "فلسطيننا" التى أكملت القطيعة بين رؤيته ورؤية القومية العربية.

فى هذه المجلة، يقوم ياسر عرفات بتنظير إيديولوجيته ويشرح أهمية الكفاح المسلح للاجئين الفلسطينيين «فى الأردن ولبنان وسوريا ومصر». وبالفعل، فهو يتصور فكرة الفدائيين الفلسطينيين (وهى فكرة تعنى حرفيًا التضحية بالنفس من أجل قضية). وفى مواجهة تباطؤ الحكومات العربية واستيلاء الإسرائيليين على الأراضي، يريد ياسر عرفات أن يتحرك بمفرده، لتعبئة وتدريب مجموعات الكوماندوز الفلسطينية.

كفاح مسلح لا يحقق الإجماع

وبعد هزيمة حرب الأيام الستة ضد إسرائيل عام ١٩٦٧، تعززت لدى ياسر عرفات فكرته القائلة بأن خلاص فلسطين لا يمكن أن يأتى من دولة عربية.. خلال مؤتمر فتح فى دمشق فى يونيو ١٩٦٧، دعا ياسر عرفات إلى العمل المسلح فى الضفة الغربية، وهى الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى نفس العام. ويصبح الرئيس الرمز للفدائيين.

وتستهدف الهجمات المصالح الإسرائيلية من خلال أعمال الاختطاف والتفجيرات واحتجاز الرهائن. ياسر عرفات يخوض حرب استنزاف ضد «العدو الصهيوني». لكن إسرائيل ترد بالقوة، مما يجبر الفلسطينيين على إقامة مقرهم فى الأردن. وأدى ذلك إلى تأجيج التوترات بين المملكة الأردنية الهاشمية والمقاتلين الفلسطينيين.

ومع ذلك، حقق الفدائيون نجاحهم الأول فى مارس ١٩٦٨ فى الكرامة بالأردن. وبعد محاصرة مخيم اللاجئين وقصفه، واجه الإسرائيليون مقاومة مفاجئة من ٣٠٠ فلسطينى وحوالى ١٠٠ أردني. وتم تدمير قاعدة الكرامة أخيرًا، لكن الجيش الإسرائيلى اضطر إلى مغادرة الموقع. وبعد تتويجه بهذا النصر الرمزي، يرسخ ياسر عرفات شرعيته.. علاوة على ذلك، وبعد ترك العمل السري، تم تعيينه رئيسًا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية فى فبراير ١٩٦٩، التى ينكر ميثاقها وجود الدولة اليهودية.

لكن هذا الأمر لم يدم طويلًا، حيث أثرت الصراعات الداخلية والقومية على الصراع ضد إسرائيل. والواقع أن قوات الكوماندوز الفلسطينية غير المنضبطة تصطدم بانتظام مع الجيش الأردني. وسرعان ما شكلوا «دولة داخل الدولة» وتجاوزوا بكثير الوظائف السيادية للدولة الأردنية. وفى سبتمبر ١٩٧٠، قُتِلَ آلاف من الفلسطينيين والمدنيين والجنود. وتعرف هذه الحلقة الدرامية فى تاريخ القضية الفلسطينية باسم «أيلول الأسود».

وبسبب تصلب السياسة الأردنية تجاه الفلسطينيين آنذاك،  توجه ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية للاستقرار فى بيروت عام ١٩٧٠.

وفى غياب الاعتراف الدولى بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، فإن ياسر عرفات يريد أن يجعل من لبنان أرضًا خاضعة لقضيته. وخلال القمة العربية فى الرباط فى أكتوبر ١٩٧٤، تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطيني.

ويتواجد الفلسطينيون فى لبنان منذ عام ١٩٤٨ حيث كانت أول هزيمة عربية أمام إسرائيل. ومن خلال منظمة التحرير الفلسطينية، قام ياسر عرفات بتنظيم وشن عمليات عسكرية ضد البلدات الإسرائيلية من جنوب لبنان بمساعدة بعض السكان المحليين.

وأصبحت تصرفاتها قانونية منذ اتفاق القاهرة عام ١٩٦٩، فقد أجاز هذا الاتفاق للحركات الفلسطينية استخدام لبنان كقاعدة خلفية فى قتالها ضد «العدو الصهيوني». ومع ذلك، فإن الأعمال الانتقامية الإسرائيلية تدمر بشكل منهجى الهياكل الاقتصادية «الميناء والمطار ومحطات الطاقة والجسور وما إلى ذلك».. مرة أخرى، يتفاقم الوضع فى هذا البلد المضيف.

وانزلق لبنان إلى حرب مدمرة عام ١٩٧٥. ومع مرور السنين، تصبح البلاد "فسيفساء" من التحالفات المعقدة وغير المتجانسة. ويواجه الفلسطينيون بشكل رئيسى الميليشيات المسيحية. واندلعت الاشتباكات بين الجانبين. وفى مواجهة عجز الحكومة اللبنانية عن احتواء العمليات الفلسطينية، تدخلت إسرائيل عسكريًا وحاولت القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية فى عام ١٩٧٨، ثم فى عام ١٩٨٢ عن طريق غزو لبنان حتى بيروت.

بعد أن اقتربوا من الموت أثناء القصف الإسرائيلى على العاصمة اللبنانية، تم طرد منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات على متن السفينة التجارية أتلانتس التى ترفع العلم اليوناني، تحت حماية حراسة فرنسية أمريكية مشتركة، إلى تونس فى عام ١٩٨٢. وفى مواجهة هذا الوضع المرير، اضطر الفدائيون إلى التفرق فى الجزائر والعراق واليمن.

الالتزام بالتفاوض

ونجا عرفات من الموت فى الأول من أكتوبر ١٩٨٥ عندما قصفت طائرة إسرائيلية من طراز إف-١٥ مقر منظمة التحرير الفلسطينية فى تونس حيث كان من المقرر عقد اجتماع بين قادة الحركة، وهو الاجتماع الذى وصل إليه عرفات متأخرًا.. فى المنفى، شاهد ياسر عرفات شعبه ينتفض خلال الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧. وقد عجل اندلاع الانتفاضة الأولى بإعلان الدولة الفلسطينية من الجزائر ليلة ١٥ نوفمبر ١٩٨٨، وانتخب المجلس الوطنى الفلسطينى عرفات رئيسًا لهذه الدولة الجديدة.

لكن تحالفها الدبلوماسى مع صدام حسين خلال حرب الخليج الأولى عزلها عن بقية الدول العربية التى تبنت قضية التحالف الدولي. وقطعت السعودية والكويت التمويل عن منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد كانت لياسر عرفات عدة أرواح فى حياة واحدة. فى دوره كمقاتل مقاومة وتكتيكي، كان يدعو بضمير حى إلى حرب العصابات المسلحة ضد العدو الإسرائيلي. لكنه لا يملك الوسائل لتحقيق طموحاته، ويحبس نفسه فى منطقه القومي، ويرفض كل رعاية عربية. وبعد استحالة تحرير فلسطين بالقوة، اضطر فى التسعينيات إلى إيجاد حل وسط من خلال الدبلوماسية مع إسرائيل خلال اتفاقيات أوسلو فى عام ١٩٩٣. وبعد هذه الاتفاقيات، فاز بجائزة نوبل للسلام مع إسحق رابين وشيمون بيريز فى عام ١٩٩٤.

أدى وصول بنيامين نتنياهو إلى السلطة فى عام ١٩٩٦ وتصلب السياسة الإسرائيلية من خلال الاستعمار والاحتلال إلى تأجيل عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية إلى أجل غير مسمى. ثم جاءت وفاة ياسر عرفات فى ١١ نوفمبر ٢٠٠٤ فى منتصف الانتفاضة الثانية لتترك الشعب الفلسطينى عاجزًا، واقعًا فى قبضة صعود نفوذ حماس، والصدام مع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الجديد محمود عباس، وفى الإفلات من العقاب الذى تتمتع به إسرائيل.

ألكسندر عون: صحفى فرنسى لبنانى متخصص فى قضايا الشرق الأوسط.. يكتب عن مشوار «أبو عمار» من الميلاد حتى الرحيل وما تخلله من أحداث درامية على المستوى السياسى والعسكرى والنضالى.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: ياسر عرفات الشعب الفلسطيني أبو عمار بنيامين نتنياهو رمز القضية الفلسطينية منظمة التحریر الفلسطینیة القضیة الفلسطینیة یاسر عرفات من خلال فى عام

إقرأ أيضاً:

القضية الفلسطينية تتصدر مباحثات السيسي ووزير التعاون الجنوب إفريقي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تطرق لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي، اليوم الخميي، ووزير العلاقات الدولية والتعاون الدولي بجنوب أفريقيا "رونالد لامولا" إلى القضايا الأفريقية، وسبل تعزيز التعاون من خلال الاتحاد الإفريقي، وجهود تعزيز الأمن والسلم بالقارة.

واستقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي اليوم وزير العلاقات الدولية والتعاون الدولي بجنوب إفريقيا "رونالد لامولا"، وذلك بحضور الدكتور بدر عبد العاطي وزير الخارجية والهجرة، و"جوزيف ماشيمباي" سفير جنوب أفريقيا بالقاهرة.

وأوضح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، أن الوزير الجنوب إفريقي نقل الرئيس رسالة شفهية من رئيس جنوب إفريقيا "سيريل رامافوزا" تتضمن الإعراب عن تقديره للرئيس وحرصه على مواصلة تطوير العلاقات والروابط بين البلدين، وهو ما ثمنه الرئيس، مؤكدا اعتزاز مصر بعلاقات الأخوة التاريخية التي تربط الدولتين والشعبين الشقيقين، والتواصل المستمر بين السيسي والرئيس "رامافوزا"، وفي هذا السياق، تم خلال الاجتماع استعراض سبل تعزيز التعاون الثنائي وتوسيعه في جميع المجالات، خاصة في ضوء عضوية البلدين بتجمع "بريكس"، ودوريهما الفاعل إقليميا وعلى مستوى القارة الأفريقية.

كما تطرق اللقاء إلى الأوضاع الإقليمية، وجهود مصر وجنوب أفريقيا في تقديم الدعم للقضية الفلسطينية بجميع السبل، حيث تم استعراض المساعي الجارية للتوصل لوقف لإطلاق النار في المنطقة، وتم في هذا الصدد تأكيد مسئولية المجتمع الدولي عن التحرك بشكل موحد وحاسم لاتخاذ خطوات تنهي التوتر في المنطقة وتمنع توسع الصراع.

وأضاف، أن اللقاء تناول سبل تعزيز التعاون بين دول الجنوب، في ضوء رئاسة جنوب أفريقيا المقبلة لمجموعة العشرين، حيث أكد  الرئيس أهمية العمل المشترك لوضع أولويات التنمية الإفريقية على الأجندة الدولية، وكذا تحقيق الاستفادة المثلى من عضوية الاتحاد الإفريقي الجديدة في مجموعة العشرين.

وأوضح المتحدث الرسمي، أن اللقاء تطرق أيضاً إلى القضايا الأفريقية، وسبل تعزيز التعاون من خلال الاتحاد الإفريقي، وجهود تعزيز الأمن والسلم بالقارة، حيث حرص وزير العلاقات الدولية الجنوب إفريقي على تأكيد تقدير بلاده للدور المصري الداعم للدول التي تتعرض للأزمات في المحيط الإقليمي لمصر وكذا على المستوى القاري، سواء على الصعيد السياسي أو الإنساني، وقد أكد الرئيس ترحيب مصر باستمرار التشاور والتنسيق مع جنوب إفريقيا على جميع المستويات، بهدف التقدم نحو تحقيق السلم والأمن والتنمية بإفريقيا.

مقالات مشابهة

  • أبو العينين: الرئيس السيسي و100 مليون مصرى ضد تصفية القضية الفلسطينية
  • حسام زكي: القضية الفلسطينية هي الأولى والمركزية والمحورية للعرب
  • السفير حسام زكي: القضية الفلسطينية محورية ومحل توافق عربي
  • في الذكرى الـ 20 لرحيل ياسر عرفات: سيرة الشخص في سيرة الجماعة
  • أستاذ علاقات دولية: روسيا ومصر يدعمان القضية الفلسطينية على مبدأ حل الدولتين
  • صحفي: مصر منذ عام 1948 الدولة الأولى الداعمة لإقامة دولة فلسطينية
  • أستاذ علوم سياسية: لقاءات الرئيس بالقمة العربية الإسلامية أكدت رفض تصفية القضية الفلسطينية
  • سياسي: لقاءات الرئيس على هامش القمة العربية أكدت رفض تصفية القضية الفلسطينية
  • القضية الفلسطينية تتصدر مباحثات السيسي ووزير التعاون الجنوب إفريقي
  • باحث سياسي: إدارة بايدن توهم العالم بسعيها لحل القضية الفلسطينية بينما تدعم إسرائيل