النمذجة الاقتصادية وصنع السياسات
تاريخ النشر: 20th, November 2023 GMT
تعد أدوات النمذجة الاقتصادية إحدى الممكنات التي تزود واضعي السياسات والخطط الاقتصادية عوضا عن استخدام النهج الاقتصادي التقليدي لتحليل السياسات الاقتصادية التي كان لها دور في دراسة الأثر الاقتصادي لدراسة تلك السياسات من جانب اقتصادي عميق عبر استخدام أدوات وأساليب ساعدت في تطوير المجال الاقتصادي. وهذا ما يؤكد على أن صياغة السياسات الاقتصادية وتقييمها غالبا يعتمد على العوائد الاقتصادية بل يأخذ في الحسبان كافة المتغيرات الاقتصادية التي تنشط نتيجة بعض الأحداث المؤثرة في الاقتصاد العالمي، ولذلك بات من الضروري استخدام النمذجة الاقتصادية في صنع السياسات الاقتصادية التي تتعامل مع خيارات السياسات على أنها عوامل ثابتة ثم إجراء تحليل للسيناريو بمحاكاة الأثر الاقتصادي لتلك السياسات.
ولتوضيح أكثر حول مفهوم النمذجة الاقتصادية يمكن وضعها في سياق أنها «أدوات تزوّد واضعي السياسات الاقتصادية وصانعي القرار ومتخذيه ببيانات مهمة حول المدخلات المقترحة والنتائج والعوائد المتوقعة من الخطط والسياسات والقوانين والقرارات التي سيتم تطبيقها»، ولذلك يرى الاقتصاديون أهمية دمج نماذج صنع السياسات والنماذج الاقتصادية. ورغم أهمية النهجين الاقتصاديين التقليدي والنمذجة في صنع السياسات الاقتصادية إلا أن كلا النهجين يفتقر إلى الترابط بين الظواهر الاقتصادية والسياسية، ويتم اعتماد السياسة الاقتصادية التي تبدو مثالية لواضعي السياسات وإن كانت في مجملها مثالية ومناسبة للوضع الاقتصادي إلا أن الآثار الاقتصادية المصاحبة للسياسة الاقتصادية المتخذة تحول دون تنفيذها.
والنمذجة الاقتصادية عموما تعتمد على المهمة لاختبار دور النموذج الاقتصادي في التحليل والنظرية لمعرفة استناد النموذج على أي نظرية، وبعد تحديد هذه العناصر نستطيع بناء نماذج يراد بها تسهيل ظاهرة معقدة عبر مجموعة من العمليات والمعالجات.
فالنمذجة الاقتصادية رغم عدم رواجها بين المحللين الاقتصاديين والمهتمين بعلم الاقتصاد إلا أن الفائدة الكبيرة منها هي التنبؤ بالظروف الاقتصادية المستقبلية، فهي تعرّف المشكلة وتبسطها مع الاستناد على نظرية لتسهيل تصوير الواقع الحقيقي، وتساعد صانعي القرار ومتخذيه على ربط القرارات بالأهداف، وتحدّ من اتخاذ قرارات غير مدروسة أو مخاطر إجراء تعديلات أو تغييرات غير مدروسة، وتوفير الوقت والمال مقارنة باستخدام النهج التقليدي لصنع السياسات الاقتصادية، إضافة إلى تحليل وتقييم النتائج المتوقعة للبدائل المتعددة المتاحة في الخطط والسياسات. وبما يمكّن صانعي القرار من الاختيار بين هذه البدائل لرسم السياسات الاقتصادية المناسبة، ولبناء نموذج اقتصادي لا بد من تحديد المشكلة وتشخيصها وأن تكون واضحة ودقيقة واستبعاد العوامل التي ليس لها علاقة بالمشكلة، ثم وضع الأهداف عبر بناء دالة رياضية للهدف، مع الوضع في الحسبان أن هناك نوعين أساسيين للأهداف، واحدة تعنى بمدخلات النموذج والأخرى تعنى بمخرجات القرار، أما الخطوة الثالثة التي تأتي بعد تحديد المشكلة ووضع الأهداف فهي جمع البيانات المطلوبة والمرتبطة بالنموذج الاقتصادي فقط بحيث تمثل المتغيرات التي يحتويها النموذج ويتم ترتيبها وتبويبها، ثم تأتي الخطوة الرابعة ويتم من خلالها تحديد المتغيرات -تتغير قيمتها ويتم تمثيلها في النموذج برموز بدلا من قيمة محددة- والثوابت -الظواهر ذات القيمة الثابتة أي عكس المتغير-، أما الخطوة الخامسة والأخيرة فهي بناء النموذج وتعتمد كثيرا على من يقوم ببناء النموذج بحيث يقوم بتحديد إذا كانت المشكلة تتطلب عدة علاقات رياضية أم يتم الاكتفاء بعلاقة رياضية واحدة، وفي حالة البرمجة الخطية ينبغي توضيح القيود المفروضة عليها مع وضع دالة الهدف. وعموما، تختلف النماذج الاقتصادية وفقا لطبيعة بناء وتوصيف النموذج إلى نماذج رياضية Mathematical Models ونماذج قياسية Econometric Models ويتم استخدام برامج لتحليل النماذج الاقتصادية واختبار النتائج والفرضيات مثل برنامج EViews أو برنامج التحليل الإحصائي SPSS، وبدأت المحاولات الأولى باستخدام النمذجة الاقتصادية للعالم الاقتصادي تنبرغن عام 1937م الذي استوحى نموذجا لاقتصاد نيذرلاندز من أعمال كينز (1929) بشأن النظرية العامة، ثم تطورت العملية في الولايات المتحدة الأمريكية وأدى نجاح النماذج القياسية إلى انتشار النمذجة الاقتصادية في بقية دول العالم.
إن أهمية استخدام أساليب النمذجة الاقتصادية تتركّز في تقدير نتائج الخطط الاقتصادية ومواءمتها مع توقعات الأشخاص من جهة بالتعاون مع وحدة الاقتصاد السلوكي، وتقييم السياسات الاقتصادية ووضع أطر لحوكمة النماذج الاقتصادية من جهة أخرى مع ضرورة وجود تنسيق وتناغم بين السياسات والخطط الاقتصادية، ولذلك فإن وزارة الاقتصاد أنشأت في هيكلها الإداري دائرة تعنى بالنمذجة الاقتصادية ودائرة أخرى تعنى بالسياسات الاقتصادية، ومن المتوقع أن يكون للدائرتين دور في تقويم السياسات والبرامج الاقتصادية باستخدام تقنيات النمذجة الاقتصادية مع اقتراح الحلول الممكنة، وتصميم السياسات الاقتصادية الجديدة وتقييمها باستخدام أساليب النمذجة المناسبة، واقتراح برامج مبتكرة ونموذجية ترصد آثار الاختيارات البديلة على مستوى السياسات العامة عبر إنتاج سيناريوهات مختلفة مع إجراء دراسات سلوكية تضمن السلوكيات الاقتصادية كجزء من الاتجاه العام في تصميم السياسات الاقتصادية بالتعاون مع دائرة الاقتصاد السلوكي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السیاسات الاقتصادیة الاقتصادیة التی
إقرأ أيضاً:
إيكونوميست: خطة ترامب الاقتصادية تهدّد أسس الازدهار الأميركي
في الوقت الذي تنفس فيه الاقتصاد الأميركي الصعداء بعد موجة ذعر أعقبت فرض الرئيس دونالد ترامب رسومًا جمركية تحت عنوان "يوم التحرير" في أبريل/نيسان الماضي، أطلقت مجلة إيكونوميست تحذيرًا واضحا في تقرير حديث لها، من أن مشروع "القانون الكبير الجميل" الذي أُقرّ في مجلسي الشيوخ والنواب مطلع هذا الشهر، لا يُبشّر بازدهار، بل يهدّد بنسف القواعد التي بُني عليها الاقتصاد الأميركي الحديث.
عجز مالي يُذكّر بالحرب العالمية الثانيةأبرز ما في "القانون الكبير الجميل" هو تمديد التخفيضات الضريبية التي أقرها ترامب في ولايته الأولى، والتي كانت من المفترض أن تنتهي قريبًا.
ورغم أن الجمهوريين يروّجون لهذه الخطوة باعتبارها "إبقاءً على الوضع القائم"، إلا أن إيكونوميست تؤكد أن "الوضع القائم غير قابل للاستمرار أصلًا".
وتُشير الأرقام الرسمية إلى أن العجز في الميزانية الأميركية بلغ 6.7% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الأشهر الـ12 الماضية، ومع تطبيق القانون الجديد، من المتوقع أن تستمر هذه النسبة المرتفعة، ليتجاوز الدين الأميركي نسبة 106% من الناتج خلال عامين فقط، وهو ما يعادل أعلى مستوى سُجّل بعد الحرب العالمية الثانية.
ورغم الإيرادات الناتجة عن الرسوم الجمركية، فإنها لا تكفي لوقف تصاعد الدين، ما يعني أن "الانزلاق نحو أزمة مالية سيستمر بلا كوابح"، على حدّ تعبير المجلة.
وفي الوقت الذي تتجه فيه معظم الدول المتقدمة إلى رفع سن التقاعد لمواجهة شيخوخة السكان، يختار القانون الأميركي الجديد الاتجاه المعاكس: تخفيضات ضريبية لفئة المتقاعدين، مقابل خفض تمويل "ميديكيد" وهو برنامج التأمين الصحي للفقراء.
وتوقعت التقديرات الرسمية أن يؤدي ذلك إلى حرمان نحو 12 مليون أميركي من التأمين الصحي، في بلد يُفترض أنه الأغنى عالميًا.
إعلانكما أُدخلت شروط عمل معقدة للحصول على بعض المساعدات، وهي شروط وصفتها المجلة بأنها "متاهة بيروقراطية لا تحقّق نتائج فعلية في رفع نسبة التشغيل".
حنين للوقود الأحفوريومن أبرز ما تضمّنه "القانون الكبير الجميل" أيضًا، إلغاء الحوافز الضريبية التي أقرها الرئيس السابق جو بايدن لصالح مشاريع الطاقة النظيفة، تحت ذريعة أن هذه الحوافز كانت مشروطة بسياسات حمائية مثل "صُنِع في أميركا".
لكن إيكونوميست تحذّر من أن هذه الخطوة "تعني عمليًا غياب أي سياسة اتحادية واضحة لتقليل انبعاثات الكربون"، مما سيزيد من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة ويضر بقدرة أميركا على خوض سباق الذكاء الاصطناعي، الذي يعتمد جزئيًا على وفرة الكهرباء.
وكتبت المجلة "العودة إلى الوقود الأحفوري ليست فقط قصيرة النظر، بل تُضعف مكانة أميركا المستقبلية في مجالات التقنية والطاقة".
أزمة ديمقراطية تشريعيةالمجلة لم تغفل عن انتقاد الطريقة التي أُقرّ بها القانون، مشيرة إلى أن تمريره عبر ما يُعرف بآلية "التصويت الجماعي" داخل مجلس الشيوخ، كشف عن "اختلال جوهري في قدرة النظام التشريعي الأميركي على التدقيق والإصلاح".
وذكرت أن "أحزاب الحكم لا تحظى بسوى فرصة واحدة في السنة لتمرير قانون ضريبي أو إنفاقي بأغلبية 51 صوتًا فقط، ما يدفعها لتكديس كل شيء في مشروع واحد، بغض النظر عن الجودة والمضمون".
ورغم أن إدارة ترامب تتوقع نموًا بنسبة 5% خلال السنوات الأربع المقبلة، ترى إيكونوميست أن هذه التوقعات "متفائلة بشكل مضلل". فمع ارتفاع أسعار الفائدة إلى 3 أضعاف ما كانت عليه عند التخفيضات السابقة، فإن الحوافز الضريبية المحدودة الحالية لن تُحدث نموًا يُذكر، خصوصًا أن كثيرًا من الإعفاءات الجديدة مجرّد "حِيَل انتخابية"، مثل إعفاءات على الإكراميات والعمل الإضافي.
وتُشير تقديرات بنك "غولدمان ساكس" إلى أنه في حال تأخرت أميركا في الإصلاح المالي 10 سنوات أخرى، فإنها ستضطر حينها إلى تقليص الإنفاق أو زيادة الضرائب بمعدل 5.5% من الناتج المحلي سنويًا وهو مستوى تقشف يفوق ما شهده الاتحاد الأوروبي في أزمته السيادية خلال عقد 2010.
ورغم انتعاش المؤشرات في الأسواق الأميركية، تُنذر مؤشرات أخرى بانزلاق طويل الأمد: فقد تراجع الدولار بنسبة 11% منذ بداية العام، في إشارة إلى "مخاطر حقيقية تتزايد على المدى الطويل".
وتحذّر المجلة من أن هجمات ترامب المتكررة على الاحتياطي الفدرالي، وتقليصه لتمويل البحث العلمي، وتهديده لسيادة القانون، كلها عوامل "تجعل مناخ الاستثمار في أميركا أكثر تقلبًا وخطورة".
واختتمت إيكونوميست تقريرها بتشخيص قاتم، مؤكدة أن "الاقتصاد الأميركي في طريقه إلى أزمة انفجار صامتة، حيث تُخفي الإيجابيات الظاهرة هشاشة عميقة في السياسات والبُنى المالية".
وكتبت المجلة "ترامب لا يهاجم خصومه فقط، بل يهاجم الأعمدة التي جعلت من أميركا دولة عظيمة اقتصاديًا. وإذا استمر هذا النهج، فإن السؤال لن يكون متى تنمو أميركا، بل متى تنهار".