بايدن وشي يقطفان الثمار الدانية
تاريخ النشر: 20th, November 2023 GMT
«قِـمة أفضل بين بايدن وشي؟»، كان هذا عنوان تعليق نُـشِـر لي الشهر الماضي، وكان التركيز على علامة الاستفهام. ويرجع هذا إلى سبب وجيه: إذ كانت قمة العام الماضي في بالي فاشلة. فبسبب سوء التحضير والمبالغة في التركيز على الشعارات (وضع «أرضية» للعلاقات الأمريكية الصينية المضطربة)، سرعان ما أُحـبِـطَـت أي محاولة لتخفيف التوترات بعد أن أسقطت الولايات المتحدة بالون المراقبة الصيني في فبراير.
النبأ السار هنا هو أن قمة سان فرانسيسكو كانت أفضل حقا مقارنة باجتماع العام الماضي. المهم في الأمر أن الجانبين تعاملا مع التحضيرات بقدر أعظم من الجدية هذه المرة.
لم يقتصر الأمر على استئناف المشاركة الدبلوماسية الرفيعة المستوى في الصيف، مع الزيارات التي قام بها إلى بكين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين، ووزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، ووزيرة التجارة الأمريكية جينا ريموندو، ومبعوث المناخ جون كيري. بل كان تحديد القضايا الرئيسية التي من الممكن أن يتعاون الرئيسان بشأنها ويتفقان عليها في نهاية المطاف على ذات القدر من الأهمية.
جزء من الأسباب التي دفعتني إلى كتابة تعليقي الأخير كان رغبتي في تقديم إطار يمكن من خلاله تقييم قمة سان فرانسيسكو. يستند حكمي المبدئي في اليوم التالي للقمة إلى مقارنة دقيقة للتصريحات الرسمية الصادرة عن الجانبين، والمؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد القمة، والخطاب الذي ألقاه الرئيس شي جين بينج أمام مجموعة من قادة الأعمال الأمريكيين في مأدبة عشاء في سان فرانسيسكو، والتقارير المتعمقة التي قدمتها منافذ إعلامية كبرى. ليس من المستغرب، وفقا لنموذجي على الأقل، أن يكون معظم التقدم الذي تحقق محصورًا في أهداف واضحة قابلة للتحقق إلى حد ما، أو ما أسميه «الثمار الدانية». ويبرز هنا مجالان: استئناف الاتصالات بين المؤسستين العسكريتين، والجهود المشتركة للتعاون بشأن أزمة الفنتانيل (مستحضر دوائي مسكن). في غياب أي علامات تشير إلى انحسار التوترات في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، لا يملك أي من الطرفين تَـرَف تحمل خطر انقطاع الاتصالات العسكرية مرة أخرى كما حدث أثناء نكبة البالون.
باعتبارهما قوتين عظميين مسؤولتين، لم يكن من الوارد اختيار أي تصرف غير إعادة تأسيس الحوار المنتظم بين وزارتي الدفاع. الواقع أن أزمة الفنتانيل في الولايات المتحدة تتحدث عن نفسها، حيث تشكل الجرعات الزائدة من هذه المادة الأفيونية التخليقية أحد الأسباب الرئيسية للوفاة بين الأمريكيين من سن 18 إلى 45 عاما؛ وكان هذا سببا في تسليط ضوء قوي على سلسلة العرض الصينية من المواد الكيميائية الأولية التي يستخرج منها الفنتانيل باعتبارها مصدر نفوذ لا جدال فيه في معالجة أزمة مروعة.
كما قُـطِـفَـت ثمار أخرى أقل أهمية في سان فرانسيسكو. فبالإضافة إلى تعهد مشترك بزيادة الرحلات الجوية المباشرة العام المقبل والاعتراف المشترك بالحاجة إلى توسيع نطاق التبادلات الثقافية والرياضية والتجارية، قال شي إن الصين على استعداد لدعوة خمسين ألف أمريكي شاب إلى البلاد في إطار برامج التبادل والدراسة على مدار السنوات الخمس المقبلة. علاوة على ذلك، كان إعلان شي عن استعداد الصين لاستئناف التعاون مع الولايات المتحدة في مجال الحفاظ على الباندا مفاجأة سارة؛ فبعد رحيل ثلاثة من حيوانات الباندا مؤخرا من واشنطن العاصمة، من الواضح أن هذا الإعلان ضرب على وتر عاطفي لدى عدد كبير من محبي الحيوانات بين الأمريكيين، وأنا منهم.
في كتابي الأخير «صراع المصادفة»، ركزت على أهمية إيجاد أرضية مشتركة نستطيع إعادة بناء الثقة عليها. كنا نفتقر بشدة إلى أجندة مشتركة في هذا العصر الذي يتسم بتصاعد الصراع الصيني الأمريكي. وعلى الرغم من عدم وجود وصفة بسيطة لتبديد الشكوك المتبادلة، وخاصة بعد العداوة التي دامت طوال السنوات الخمس ونصف السنة الأخيرة، فإن قطف الثمار الدانية في سان فرانسيسكو يمثل خطوات صغيرة مهمة على الطرق إلى حل الصراع.
أتمنى لو كان بوسعي أن أقول الكلام ذاته عن بابين آخرين من أبواب حل الصراع التي تناولتها في تعليقي السابق: التهديدات الوجودية (تغير المناخ والصحة العالمية) التي يواجهها البلدان والتحسينات التي أُدخِـلَـت على بنية المشاركة. كان الاستثناء الوحيد الملحوظ ما يسمى اتفاق سونيلاندز، الذي أُبـرِم عشية قمة سان فرانسيسكو، والذي يَـعِـد بتأسيس فريق عمل جديد يسعى إلى دفع عجلة التعاون المناخي قبيل مؤتمر الأمم المتحدة المقبل المعني بتغير المناخ (مؤتمر الأطراف 28 COP28) في دبي.
على النقيض من هذا، لم نشهد أي تقدم ملموس في إدارة الذكاء الاصطناعي، باستثناء الاتفاق على الحاجة إلى إجراء محادثات ثنائية للحد من المخاطر التي تفرضها أنظمة الذكاء الاصطناعي. كما لم يحدث أي تقدم في مجال الأمن السيبراني، أو حقوق الإنسان، أو الاحتكاكات الإقليمية ــ وجميعها قضايا لها تاريخ طويل من المحادثات بين القوتين العظميين. في ما يتصل ببنية المشاركة، كان كل شيء يدور حول الدبلوماسية وأقل القليل كان مرتبطا بالتحول إلى نموذج مؤسسي لتعميق وإدامة الروابط المشتركة والعلاقات. مع تولي الدبلوماسيين على الجانبين قيادة الاجتماع، لم تكن هذه نتيجة مفاجئة. ولكن في ضوء قمة العام الماضي الفاشلة في بالي، يصيبني هذا بالحيرة. فبرغم أنني أنسب إلى الدبلوماسية الماهرة الفضل في إشعال شرارة التحول نحو العودة إلى المشاركة، والتعاون، وبناء الثقة، فإن هذه المهارات لا تضمن إقامة علاقة صامدة قادرة على تحمل اضطرابات غير متوقعة. في عامنا هذا، كان بالون المراقبة الصيني ــ فمن يدري ماذا قد يأتي لاحقا؟ في هذا العصر الذي يديره زعماء غير مخضرمين ومقيدون سياسيا، ما زلت أعتقد أن حل النزاعات بين القوتين العظميين يتطلب أكثر من مجرد دبلوماسية شخصية. وتظل الحجة مُـقـنِـعة لصالح الطابع المؤسسي كمكمل لحل الصراع الدبلوماسي. ورغم أنها لم تحقق النجاح المنتظر في سان فرانسيسكو، فإن الأمانة العامة الصينية الأمريكية تظل خياري المفضل لتعزيز الأدوات اللازمة لنزع فتيل الصراعات وإصلاح العلاقات الثنائية. صحيح أن قمة سان فرانسيسكو تجاوزت المستوى المتواضع الذي تحقق في بالي. ولكن تظل تساؤلات عميقة بشأن ملامح الصراع الصيني الأمريكي قائمة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية التي حفزت هذا الصراع. الواقع أن هذه القضايا نالت قدرا ضئيلا إلى حد مدهش من الاهتمام في بيانات وتصريحات القمة التي دامت أربع ساعات. في نهاية المطاف، كان من الأسهل كثيرا على بايدن وشي قطف الثمار الدانية.
ستيفن س. روتش عضو هيئة التدريس في جامعة ييل ومؤلف كتاب «غير متوازن: الاعتماد المتبادل بين أمريكا والصين» والصراع العرضي: أمريكا والصين وصراع القوى. روايات كاذبة.
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قمة سان فرانسیسکو فی سان فرانسیسکو
إقرأ أيضاً:
مفاوضات لبنان وإسرائيل: قراءة في تطورات المشهد
خرج المبعوث الرئاسي الأمريكي عاموس هوكشتاين، يوم الأربعاء (20 تشرين الثاني/ نوفمبر)، "مبتسما" و"متفائلا" عقب اجتماع عقده مع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، المفاوض عن الدولة اللبنانية وحزب الله، في بيروت.
جاء هذا اللقاء بعد إحراز تقدم في مفاوضات وقف إطلاق النار بين حزب الله و"إسرائيل". وكان هوكشتاين قد عاد إلى بيروت إثر رد إيجابي من الطرف اللبناني على مسودة مقترحات أمريكية للتسوية قدمتها السفيرة الأمريكية في لبنان قبل أيام.
في اليوم التالي، توجّه هوكشتاين حاملا هذه الأجواء الإيجابية إلى "إسرائيل" لمناقشة تطورات الملف من الجانب الإسرائيلي، هناك التقى وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، حيث عقد معه مباحثات وصفتها وسائل الإعلام الإسرائيلية بـ"البنّاءة". ونقلت قناة "كان" العبرية عن مصادر أن "90 في المئة من بنود مسودة وقف إطلاق النار في لبنان تم التوافق عليها".
ومع ذلك، تبقى نقطتان عالقتان تحولان دون اكتمال الاتفاق، أولا، رفض لبنان أن تحتفظ "إسرائيل" بحرية التحرك في الأجواء والأراضي اللبنانية في حال الزعم بانتهك الجانب اللبناني الاتفاق، بينما يحاول هوكشتاين وفق تقارير إعلامية إدراج بند "حق الدفاع عن النفس" للطرفين كصيغة بديلة ليوافق عليها الجانب اللبناني؛ الذي يسعى كذلك للحصول على ضمانة أمريكية تحول دون بدء "إسرائيل" أي اعتداء على لبنان حال إبرام الاتفاق.
أما النقطة الثانية فتتعلق بآلية الرقابة على تنفيذ الاتفاق، حيث يختلف الطرفان بشأن عضوية الدول في فريق مراقبة تطبيقه. يرفض الجانب اللبناني وجود بريطانيا وألمانيا في الفريق، مفضلا دولا عربية مثل مصر، بينما تفضل "إسرائيل" اقتصار الفريق على الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، مع استبعاد أي دولة عربية.
لبنانيا، أكد أمين عام حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، أن فريقه يسعى إلى وقف العدوان وحفظ السيادة اللبنانية بشكل كامل، وأشار إلى أن المقاومة ستواصل القتال في الميدان بالتزامن مع متابعة المفاوضات، مؤكدا استعادة حزب الله عافيته بعد تعرضه لضربات قاسية.
هدفت "إسرائيل" من خلال هذه العمليات الى أن تضغط على حزب الله الى الحد الأقصى فاستعملت أقصى ما تمتلك في جعبتها كما ونوعا، وجل ما تريده أن يذعن لها حزب الله في المفاوضات بفعل قوة هذه الضربات وآثارها الواقعية والمعنوية. إلا أن حزب الله رفض الخضوع لهذه الضغوط، وأصر على مواصلة المعركة، ليعيد ترميم هيكله القيادي العسكري والسياسي
في المقابل، تسعى "إسرائيل" إلى ضمان عدم قدرة حزب الله على تنفيذ عمليات عسكرية ضدها، مع الحفاظ على حقها في الرد في حال حدوث أي انتهاك من الجانب اللبناني، وفق تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، ووزير الخارجية جدعون ساعر.
في ظل هذه التطورات، تثار تساؤلات بين المراقبين حول أسباب إحراز هذا التقدم في المفاوضات بعد فترة طويلة من القتال الشرس وانعدام أفق الحل الدبلوماسي، ومدى جدية وواقعية التوصل إلى اتفاق شامل في نهاية المطاف.
استراتيجية "إسرائيل" في الضغط على المقاومة
لفهم خلفيات هذا التقدم، لا بد من التطرق إلى الوقائع الميدانية التي رسمت معالم المرحلة الحالية. ففي أيلول/ سبتمبر الماضي، تمكنت "إسرائيل" من تنفيذ سلسلة عمليات أمنية نوعية ضد حزب الله في لبنان خلال فترة زمنية قصيرة. تضمنت هذه العمليات تحييد عدد كبير من مقاتلي الحزب ومناصريه، واستهداف البنية القيادية السياسية والعسكرية، بما في ذلك الأمين العام السيد حسن نصر الله. كما شملت الضربات قصف مواقع استراتيجية، من بينها مخازن أسلحة، ومؤسسات مالية كـ"القرض الحسن"، بالإضافة إلى طرق الإمداد مع سوريا.
هدفت "إسرائيل" من خلال هذه العمليات الى أن تضغط على حزب الله الى الحد الأقصى فاستعملت أقصى ما تمتلك في جعبتها كما ونوعا، وجل ما تريده أن يذعن لها حزب الله في المفاوضات بفعل قوة هذه الضربات وآثارها الواقعية والمعنوية. إلا أن حزب الله رفض الخضوع لهذه الضغوط، وأصر على مواصلة المعركة، ليعيد ترميم هيكله القيادي العسكري والسياسي ويكمل عملياته ضد "إسرائيل".
وفي ظل استنزاف معظم أوراق الضغط الإسرائيلية، لم يبق أمامها سوى خيارين للتصعيد: القيام بعملية برية واسعة أو استهداف المدن والمدنيين.
فيما يتعلق بالعملية البرية، لا يبدو أن "إسرائيل" تسعى إلى احتلال فعلي ودائم لأراضي الجنوب اللبناني. يلفت معظم المراقبين إلى أنه لو كانت "إسرائيل" تهدف إلى ذلك، لما استعجلت في تنفيذ عمليات تفجير الأجهزة اللاسلكية واغتيال القادة بهذا الشكل، بل كانت ستؤجل هذه العمليات لتستخدمها كتمهيد لعملية برية شاملة، مما كان سيؤدي إلى إرباك حزب الله بشكل كبير ويسهل عليها السيطرة على أراضٍ في الجنوب. لكن يبدو أن هدف "إسرائيل" الأساسي لم يكن الاحتلال المباشر، بل ممارسة أقصى درجات الضغط على حزب الله لإبعاده عن دعم جبهة غزة في المرحلة الأولى، ومن ثم إجباره على تقديم تنازلات كبيرة في المفاوضات، تنازلات قد تكون غير قابلة للتحقيق في الظروف العادية.
لتحقيق هذا الهدف، اعتمدت "إسرائيل" تكتيكات برية محدودة، شملت اقتحام قرى لبنانية وتدميرها، مع توثيق هذه العمليات ونشر مقاطع فيديو تظهر الدمار وجنودها في تلك المناطق. هذا التوثيق كان يهدف إلى زيادة الضغط النفسي والمعنوي، ليس فقط على حزب الله، بل أيضا على الرأي العام اللبناني، لإحداث شرخ داخلي يدفع الحزب إلى التراجع. ومما يثير الانتباه أن "إسرائيل" أظهرت استعدادا للتضحية ببعض عناصرها من أجل التقاط هذه الصور والفيديوهات التي تخدم الحرب الإعلامية والنفسية.
وبعد انتهاء المرحلة الأولى من العدوان البري، وصل المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين في زيارة سابقة لاستكشاف ما إذا كانت هذه الضغوط قد دفعت حزب الله إلى التراجع. لم تلمس "إسرائيل" أي مؤشرات على رضوخ الحزب، ما دفعها إلى بدء المرحلة الثانية من العدوان. في هذه المرحلة، لجأت إلى تكثيف القصف واستهداف قرى جديدة، في محاولة لمواصلة الضغط وتعزيز مكاسبها الميدانية والنفسية.
في هذه الظروف، راهنت "إسرائيل" على ممارسة أقصى درجات الضغط على حزب الله بهدف إضعافه وإجباره على التفاوض وفق شروط مواتية لها. ركزت استراتيجيتها على محورين رئيسيين: الأول، تنفيذ ضربات أمنية متلاحقة ومؤثرة تهدف إلى شل قدرات الحزب. والثاني، تأليب الشارع اللبناني عليه عبر تحميله مسؤولية الدمار الذي حل بلبنان نتيجة قرار فتح جبهة الإسناد في الثامن من أكتوبر 2023. كانت "إسرائيل" تأمل أن تثمر هذه الضغوط، في ظل تفوقها الميداني الظاهر، في دفع الحزب إلى تقديم تنازلات كبيرة على طاولة المفاوضات.
انقلاب الوضع على "إسرائيل" بعد حالة التفوق
لكن، ثمة عاملان حالا دون تحقق الغاية الإسرائيلية؛ أولا، قدرة حزب الله على النهوض مجددا. فرغم الضربات الأمنية القاسية التي تلقاها، أظهر حزب الله قدرة لافتة على استعادة زمام المبادرة. ومن أبرز دلائل هذا التعافي الأرقام التي تعبر عن الخسائر الكبيرة التي يكبدها للجيش الإسرائيلي، حيث قُتل له أكثر من 100، وجرح أكثر من 1000، ودمر الحزب عشرات دبابات الميركافا وآليات أخرى، وأسقط عدة مسيرات من نوع هرمز في الأجواء اللبنانية.
كما استطاع حزب الله أن يضع خططا جديدة لقصف يومي لمواقع في الداخل الفلسطيني المحتل، يتراوح مداه الجغرافي بين كريات شمونة وجنوب حيفا ويصل إلى ضواحي تل أبيب، يستهدف مواقع عسكرية وأمنية إسرائيلية تتنوع وتتجدد كل فترة، بصواريخ متنوعة ومسيّرات انقضاضية لم تجد "إسرائيل" السبيل إلى التعامل معها حتى اليوم، بالإضافة إلى قصف يومي لعشرات المستوطنات التي طُلب من سكانها إخلاؤها لأنها أصبحت تحت مرمى القصف اليومي لحزب الله.
متغيرات سياسية في المشهد. أولا، وصل ترامب إلى البيت الأبيض، وهناك غموض يلف مشروع ترامب القادم، وبالتالي صعوبة في توقع أولوياته في الصداقة والعداء والحرب والسلم. ثانيا، هناك تصعيد عسكري نوعي "خطير" بين روسيا وأوكرانيا
في المقابل، لم تستطع إسرائيل بعد تنفيذ العمليات الأمنية النوعية، واستنفاد بنك الأهداف في فترة قصيرة تحقيق أي إنجاز نوعي، عسكري أو أمني، ضد حزب الله، مما جعل يفقدها التفوق الميداني رويدا رويدا، حيث تهبط أسهمها وترتفع أسهم حزب الله تدريجيا في المقابل.
ثانيا، رغم الانقسام الحاد داخل لبنان بشأن التعامل مع الواقع الحالي، لم تحدث اضطرابات أمنية كبرى أو صراعات داخلية تُجبر حزب الله على تسريع التفاوض خشية فقدان السيطرة الداخلية. حاولت "إسرائيل" استغلال هذه النقطة عبر تكتيكات تهدف إلى خلق توتر داخلي لزيادة فرص حصول صراع داخلي لبناني ضد حزب الله، مثل استهداف مناطق مدنية في بيروت وأحيانا مناطق خارج نطاق الصراع المباشر، دون تحقيق أي مكاسب عسكرية أو أمنية حقيقية، لكن سعيا إلى زيادة الضغط الشعبي اللبناني ضد حزب الله.
في المقابل، رد حزب الله على هذه الاعتداءات باستهداف تل أبيب الكبرى، ما أكد مرة أخرى تعافيه الميداني ونجاحه في فرض قواعد اشتباك جديدة. هذا الرد لم يقتصر على الجانب العسكري، بل قطع الطريق أمام "إسرائيل" في محاولاتها لزيادة الضغط الشعبي اللبناني عليه، وأعاد تثبيت معادلة الردع التي تأثرت سابقا بفعل العمليات الأمنية الإسرائيلية.
إذن، من الناحية الميدانية، بدأت "إسرائيل" تفقد تفوقها تدريجيا ولم تعد تحقق إنجازات نوعية. يُلاحَظ أنها تجد صعوبة في تثبيت وجودها في القرى اللبنانية التي تدخلها، مكتفية بتدميرها واستغلال الفيديوهات المصورة كوسيلة للضغط النفسي والمعنوي على حزب الله. لكن هذه المحاولات لم تؤتِ ثمارها بشكل كبير داخل الساحة اللبنانية، خاصة مع وجود تناغم ملحوظ بين حزب الله والدولة اللبنانية، ممثلة برئيس مجلس النواب نبيه بري، ما يضفي شرعية إضافية على موقف الحزب.
في المقابل، ما زال حزب الله قادرا على فرض معادلات جديدة على الأرض، مثل استهداف تل أبيب الكبرى، ما يعكس قدرته على التعامل مع الوضع القائم. إضافة إلى ذلك، كلما تقدمت "إسرائيل" داخل الأراضي اللبنانية، ترتفع كلفة العدوان البري عليها، خاصة مع احتمال تنفيذ حزب الله عمليات نوعية تخشاها "إسرائيل"، مثل أسر الجنود، فمثل هذه العمليات كفيلة بإحداث تغيير جذري في مسار الصراع وإضعاف الموقف الإسرائيلي بشكل كبير.
تحولات السياسة الدولية وأثرها على الصراع في لبنان
وبعيدا عن الميدان، ثمة كذلك متغيرات سياسية في المشهد. أولا، وصل ترامب إلى البيت الأبيض، وهناك غموض يلف مشروع ترامب القادم، وبالتالي صعوبة في توقع أولوياته في الصداقة والعداء والحرب والسلم. ثانيا، هناك تصعيد عسكري نوعي "خطير" بين روسيا وأوكرانيا، بعد استعمال أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى لضرب أهداف داخل روسيا واستعمال صواريخ أمريكية متطورة سابقا، مقابل تهديدات روسية مرتفعة بعد إجراء تعديلات على عقيدتها النووية.
لم يعد الصراع محصورا في غزة وجنوب لبنان، بل صار صراعا استراتيجيا متعلقا بالمصالح الطاقوية والتجارية للدول الكبرى، وإيقاعه ليس منفصلا عن إيقاع الحروب الأخرى. لذلك، إن توقف الحرب في لبنان -لو حصل- قد لا يعني انتهاء الصراع نهائيا بين حزب الله و"إسرائيل" أو بين إيران وأمريكا، بل ربما انتهاء جولة من جولاته
وبالتالي، هناك غموض في عملية انتقال السلطة في أمريكا من الديمقراطيين إلى الجمهوريين، وفي برنامج الجمهوريين بعد استلامهم السلطة. فقد تكون التسوية في الشرق الأوسط مصلحة مشتركة لكل من الإدارتين، خاصة مع وجود أنباء عن تفويض ترامب لهوكشتاين، ومع تصعيد عسكري غربي ضد روسيا، ومع قناعة جمهورية راسخة بأولوية إيقاف الصعود الصيني الذي يشكل الخطر الأكبر على أمريكا حسب تصورهم. وقد تكون هدنة مؤقتة إلى أن يصل ترامب إلى السلطة، فتُعطي إنجازا لإدارة بايدن، ويُترك لترامب إعادة تعريف الصراع سياسيا وعسكريا حسب رؤيته، بعيدا عن إرهاصات تعامل إدارة بايدن مع الصراع على مدى الفترة السابقة.
على أية حال، ورغم عدم وضوح الرؤى على الصعيد السياسي مع وضوح الميداني، لا يمكن فصل انتقال السلطة من الديمقراطيين إلى الجمهوريين عن مسار الصراع في المنطقة، فقد تكون الحكاية تكتيكا أمريكيا للمناورة في إطار انتقال السلطة، أو قناعة إسرائيلية بعدم القدرة على تحقيق إنجازات حقيقية في لبنان بعد استنفاد كل أدوات الضغط والحرب.
إذا كانت الأولى، أي وجود ميل أمريكي نحو تسوية الوضع، ستكون المقاومة قد استغلت هذه المعطيات لتحويل الضغط على "إسرائيل"، خاصة نتنياهو، وبالتالي تخفف من الضغط اللبناني الداخلي لأن حزب الله ظهر هذه المرة كالطرف الذي يسعى إلى تسوية معقولة، وفي حال عرقلت المفاوضات ستكون "إسرائيل" هي الجهة المسؤولة قطعا؛ لأن هوكشتاين خرج مسرورا من لبنان ورآه الشعب اللبناني والعالم، فلم تعد المقاومة تتحمل أي مسؤولة إزاء استمرار العدوان على لبنان في عين الداخل اللبناني وحتى عند الأمريكي.
أما في حال كان رضوخا إسرائيليا لواقع الميدان في جنوب لبنان، فيجب التنبه جيدا إلى أن "إسرائيل"، وبعكس ما يعتقده الكثير من العرب، لا تستطيع أن تلعب خارج الملعب الأمريكي، وبأن الأخير هو الذي يضبط إيقاع الصراع وليس "إسرائيل"، لذلك عندما تريد أمريكا من "إسرائيل" أن توقف الحرب فإنها ستقف، وعندما تريد أن تؤجلها ستتأجل من جهة الإسرائيلي.
لم يعد الصراع محصورا في غزة وجنوب لبنان، بل صار صراعا استراتيجيا متعلقا بالمصالح الطاقوية والتجارية للدول الكبرى، وإيقاعه ليس منفصلا عن إيقاع الحروب الأخرى. لذلك، إن توقف الحرب في لبنان -لو حصل- قد لا يعني انتهاء الصراع نهائيا بين حزب الله و"إسرائيل" أو بين إيران وأمريكا، بل ربما انتهاء جولة من جولاته، وهكذا يبقى الوضع إلى أن تستطيع المقاومة إسقاط مشروع شرعنة وتطبيع الوجود الإسرائيلي في المنطقة، أو يستطيع الأمريكي والإسرائيلي إنهاء حالة المقاومة في المنطقة.