لماذا ينبغي أن يخاف الحكام العرب إذا انتصرت غزة؟!
تاريخ النشر: 20th, November 2023 GMT
عندما أعلن المدير السابق لمكتب الرئيس مبارك للمعلومات مصطفى الفقي، أن رئيس مصر القادم لا بد أن توافق عليه إسرائيل، كان ينبغي لأهل الحكم أن يقوموا بتوبيخه، لاعتباره شرط الخيانة فيمن يتولى حكم مصر ضمن مسوغات التعيين، لكن مر الإعلان مرور الكرام، لأن الفقي كان يؤدي دورا في مهمة "توريث الحكم"، فلا يعتقد المصريون أن خلافة مبارك من اختصاصهم، فالاختصاص الأصيل منعقد للخارج، وعقدة النكاح بيد إسرائيل، ليكون الإعلان، بطريقة الصدمة، دافعا لمن يقودون الحراك ضد التمديد والتوريث للانصراف بعيدا.
الأمر نفسه يسري على إعلان توفيق عكاشة أنه صاحب اقتراح طرق أبواب إسرائيل ليحصل الانقلاب العسكري على الشرعية الدولية، والحصول على موافقة البيت الأبيض على ما قام به؛ وذلك عندما وجدهم مجتمعين ويجلسون في "حيص بيص" كناية عن الحيرة، فكشف لهم المذكور "سر الخلطة السحرية"، فالطريق إلى قصر الاتحادية لا بد أن يمر عبر تل أبيب!
ولا يخفى على لبيب تهافت هذه السردية؛ ذلك بأن العلاقات المصرية الإسرائيلية انتقلت في عهد الرئيس محمد مرسي من الرئاسة الى قائد الجيش، وأن ملف سيناء كله والتنسيق الأمني بين البلدين كان من اختصاصه، وقد رشحت أنباء عن لقاءات جمعت بين الجنرال عبد الفتاح السيسي وقيادات أمنية إسرائيلية في هذه الفترة، فلم تكن إسرائيل بعيدة عن القوم، ولم يكونوا بحاجة إلى أن يقدح عكاشة زناد رأيه وينخل مخزون فكره ليصل الى هذا الاقتراح العبقري، لفك الحصار الدولي على الانقلاب العسكري، فيقول لهم: "الطريق من هنا"، وهنا هو الطريق المؤدي إلى الدولة الإسرائيلية!
ومع أن ما قاله عكاشة كان ينبغي أن يعاقب عليه، لأن المجالس أمانات، ولأن جلسة على هذا المستوى لا ينبغي أن يتم تسريب ما دار فيها، وليس له أن يرتب أنه فلتة العصر، بينما القوم بمن فيهم "كليم الله" ينتظرون اقتراحه بشغف بالغ، فيكون عكاشة هو "ألفة الجلسة"، و"المفكر الضرورة" الذي تفتق ذهنه عن المقترح، وهو يهتف: وجدتها.. وجدتها!
عندما يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقابلة مع "سي إن إن": إذا لم تنتصر في حرب غزة فإن التهديد سيطال المنطقة بأكملها"، فهو يعني ما يقول، وتسري عليه مقولة "صدقك وهو كذوب"!
ولم يُعنف مصطفى الفقي، كما لم يُعنف توفيق عكاشة، لأن ما قالاه مطلوبا، للإيعاز بأن هناك قوة قاهرة هي من تصطفي وتختار، ومن بيده عقدة الأمر في اختيار من يحكم مصر، وربما من يحكم العواصم العربية الأخرى، هي إسرائيل، عندئذ يترك الشعب الملك لأصحاب القسمة والنصيب!
فلا يخفى على لبيب أننا ومنذ سنوات بعيدة يستقوي أهل الحكم علينا بإسرائيل، فمن يملك جواز المرور إليها؟ وفي لحظة تماهي عكاشة مع رسالته، دعا السفير الإسرائيلي في القاهرة إلى منزله؛ يستقوي به في مواجهة أهل الحكم في معركته لرئاسة البرلمان، فكان لا بد من التحرك سريعا لتصل الرسالة بأن هذا "الاستقواء" ليس على المشاع، وأن الحاكم وحده هو صاحب "التوكيل" في المنطقة، ولهذا كان الرد عليه قويا فتم فصله من البرلمان، وإغلاق قناته، ومنعه من التقديم التلفزيوني، ولم يُبقوا له من قيمة، فحتى ادعاؤه بأنه حصل على الدكتوراة نسفوه، فلم تأخذهم به رحمة!
صدقك وهو كذوب:
وعندما يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقابلة مع "سي إن إن": إذا لم تنتصر في حرب غزة فإن التهديد سيطال المنطقة بأكملها"، فهو يعني ما يقول، وتسري عليه مقولة "صدقك وهو كذوب"!
فإسرائيل ليست مجرد مستوطنة غربية، أنشئت بالأساس في منطقتنا بالذات لتؤدي خدمات لوجستية للاستعمار القديم، وإن صارت بالنسبة للغرب مثل إله العجوة الذي صنعه صاحبه بيده ثم عبده قبل أن يتولى ويأكله، فهي مستوطنة تؤدي مهمة، وفي المقابل تبدو أنها صاحبة نفوذ على قصور الحكم في أمريكا والعواصم الغربية، نظرا للنفوذ الصهيوني الموالي لها في هذه العواصم!
وقد شقينا بإسرائيل في الشدة شقاءنا بها في الرخاء، وفي الحرب والسلام، فعندما كان "الحاكم الضرورة" يناصبها العداء، ويخوض ضدها حربا كلامية، والحال كذلك، فقد تنازل الشعب عن كثير من حقوقه من أجل بناء جيش قوي يواجه إسرائيل، وكُممت الأفواه تحت عنوان "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فلا أحد يتحدث عن صفقات التسليح، والبطون الجائعة أولى بما ينفق فيها، ولا أحد يمكنه أن يطالب بحريته لأن الحاكم في معركة مع إسرائيل، وعندما يهزم هزيمة نكراء، يكون الخروج الجماعي للشوارع يطالبونه بعدم التنحي، فهم لا يعرفون أحدا غيره، وبالتالي فليس هناك من سيأخذ لهم بالثأر في المرة القادمة إلا هو!
وهكذا تخلى الشعب عن كرامته مرتين؛ الأولى بالهزيمة، والثانية عندما جدد ثقته في القيادة المهزومة. والمجتمعات الحرة هي من تحاكم المهزوم لا أن تكرمه، لأن الإمساك فيه كان لتصور أنه قادر على أن يستجمع قواه وينتصر على هذا العدو الغاشم، فأي ضرر ألحقه وجود إسرائيل بالكرامة الوطنية؟!
ومنذ أن هرول الرئيس السادات إلى الكنيست، ووقع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، والأمر أخذ منحى آخر، فالحاكم هنا يستقوي بإسرائيل، وإن لم تظهر نظرية إن عزل النظام القائم واختيار الحاكم الجديد من اختصاص الكيان الصهيوني إلا في وقت لاحق!
ولم يخطئ نتنياهو -على كثرة أخطائه- وهو يؤكد أن هزيمة إسرائيل في غزة سيترتب عليها خطر يلحق بالمنطقة بأكملها، لأنه بهزيمة إسرائيل سيخسر كثير من حكام المنطقة جبهة للاستقواء بها على الشعوب المغلوب على أمرها، ولأنها ستكون هزيمة للجيش الذي لا يقهر (بحسب الدعاية الصهيونية والرسمية العربية)، على يد مقاومة ليست جيشا نظاميا، فسيترتب عليها الاستخفاف بالقدرة غير المحدودة للجيوش النظامية، وهي مصدر آخر من مصادر استقواء السلطة في كثير من العواصم العربية!
لم يخطئ نتنياهو -على كثرة أخطائه- وهو يؤكد أن هزيمة إسرائيل في غزة سيترتب عليها خطر يلحق بالمنطقة بأكملها، لأنه بهزيمة إسرائيل سيخسر كثير من حكام المنطقة جبهة للاستقواء بها على الشعوب المغلوب على أمرها، ولأنها ستكون هزيمة للجيش الذي لا يقهر (بحسب الدعاية الصهيونية والرسمية العربية)، على يد مقاومة ليست جيشا نظاميا، فسيترتب عليها الاستخفاف بالقدرة غير المحدودة للجيوش النظامية
إن المنطقة لم تتوقف عن التسليح المبالغ فيه للجيوش بعد السلام، وجانب من هذه الصفقات هي "عربون محبة"، وشراء لذمم مسؤولين في بلاد الفرنجة، ويوجد بين ظهرانينا من لا يزالون يعتقدون أن السلام ليس حقيقيا وأن على الجيوش أن تتسلح لمعركة قادمة، فدائما وجود إسرائيل يبرر هذا الإنفاق المبالغ فيه. وهذه التصورات هي حالة نفسية لعدم القدرة على استيعاب الواقع الأليم، فيكون التحليق في خيال مصنوع بيد "الحالم"؛ صناعة الكافر القديم لإلهه بيده ليعبده في الضراء ويأكله حين البائس!
هيبة الجيوش النظامية:
إن الهزيمة لجيش نظامي على يد مسلحين ستهز هيبة الجيوش النظامية في عيون الناشئة، وهذا مما يلحق الضرر بمكانة أنظمة تحكم باعتبارها جاءت بإرادة إسرائيلية، وبحماية من الجيوش، فمن يقدر على المواجهة؟!
ويدرك نتنياهو هذه الحقيقة، فجيشه لم يهزمه جيش نظامي من جيوش المنطقة هذه المرة، وإسرائيل ستفقد نفوذها الافتراضي الذي هو من صناعة المروجين للوهم، فماذا بقي لأنظمة الاستبداد في المنطقة من سبل حماية إذا أرادت الشعوب الحياة؟!
إن العسكر استولوا على الحكم بسبب النكبة في 1948، ويقول أحد المؤرخين في وصف ما جرى إنه بعد خيانة السلطة للجيوش بالأسلحة الفاسدة أيقن عبد الناصر أن الحرب ليست هنا "في الفالوجة"، ولكن هناك في "القاهرة". ليتم الانقلاب على الحكم لمواجهة إسرائيل، ويعلم الكافة كيف كانت المواجهة عندما وسد الأمر اليه!
إن حرب غزة لها ما بعدها، فقد صدق نتنياهو وهو كذوب!
twitter.com/selimazouz1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسرائيل غزة الاستبداد إسرائيل غزة المقاومة العالم العربي الاستبداد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المنطقة بأکملها هزیمة إسرائیل ما یقول کثیر من
إقرأ أيضاً:
فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (1) سليل الإرهاب
ابتداء من هذا العدد، تنشر بوابة «الأسبوع» فصولًا من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى» للكاتب الصحفي مصطفى بكري رئيس التحرير، والصادر عن دار كنوز للنشر والتوزيع. وفي الحلقة الأولى يرصد المؤلف تاريخ نتنياهو منذ الطفولة وعلاقته بوالده الذي لقنه الأفكار المتطرفة والمعادية للعرب والفلسطينيين، خاصة وأن جده كان من كبار دعاة الحركة الصهيونية. لقد رباه والده على كراهية أي يهودي يقبل بمصافحة العرب، وكان دائم الترديد على مسامعه «أن العربي إذا مد يده بالسلام، فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك».
الحلقة الأولى:-والده رباه على التطرف وكراهية العرب وجده من قادة الحركة الصهيونية
- كان يقول له: العرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم
- المفكر الصهيوني المتطرف «جابوتنسكى» كان مثله الأعلى
في الثالث والعشرين من أكتوبر لعام 1949، ولد بنيامين تسيون نتنياهو في مستشفى “أسونا” بتل أبيب، أي بعد إعلان ولادة دولة الكيان الصهيوني بعام وخمسة أشهر تقريبًا.
كان جد بنيامين خطيبًا مفوهًا.. ومن كبار دعاة الحركة الصهيونية.. وكان يمتلك قدرات هائلة لجذب المزيد من يهود العالم، خاصة اليهود الشرقيين إلى “أرض الميعاد” حسب الوصف الصهيوني، وقد عرف عنه كرهه الشديد للعرب، ومن المؤمنين بضرورة اختفائهم من فوق ظهر الأرض.
وكان “تسيون” يرى ألا يكتفى اليهود بإقامة دولتهم في فلسطين فحسب، بل يجب أن تمتد حدودها في كل الأراضي والمناطق المجاورة لـ “أرض إسرائيل” في فلسطين على حد تعبيره.
وقد طبّع الجد ميليكوفسكي أولاده التسعة، ومن بينهم “تسيون نتنياهو” والد بنيامين بشخصيته القوية والمؤثرة.. حتى أن “تسيون” كان من فرط تأثره بآراء والده.. يردد أمام أولاده بأن العرب.. “دنس.. وأن الكلاب أفضل منهم لو أقاموا فى البلدان المجاورة لنا”.
ومن أقواله كذلك “إنك إذا سرت فى الطريق مع كلب.. أفضل من أن تسير مع عربى”.. وكان يردد على مسامع أولاده بأنه لا مجال للتعامل مع العرب إلا بإبادتهم.. وأنه لا حلول وسط فى هذه المسألة.
ومنذ صغره تشرب “بنيامين” من والده “تسيون نتنياهو” حبه لزعماء الحركة الصهيونية بل وتمجيدهم، حيث كان الأب يتغنى بآباء الحركة.. بينما نجله “بنيامين” ينقل عنه هذه الأغانى ويحفظها عن ظهر قلب.. بل ويرددها أمام أصدقائه بين الحين والآخر.. مبديًا تفاخره بأن والده هو صاحب هذه الأغانى.
وكانت هناك علاقة تربط فى ذلك الوقت بين والد بنيامين و”زئيف جابوتنسكى” مؤسس الحركة التصحيحية المتطرفة، حيث شكلت تلك العلاقة إدراك وعقلية “بنيامين نتنياهو”.. .ذلك أنه كان معروفًا عن المتطرف الصهيونى “جابوتنسكى” ميوله العدوانية الواضحة ضد العرب.. وكرهه الشديد لهم.
لقد كان كل من تسيون وجابوتنسكى يؤمنان بالعنف المطلق مع العرب وحتميته.. فيما كان يسعى “حاييم دايزمان” إلى المرونة فى التعامل معهم.
وفى هذا الجو المشحون بالعداء للعرب.. ولد “بنيامين تسيون نتنياهو”، حيث رباه والده على كراهية أى يهودى يقبل مصافحة العرب.. وكان دائم الترديد على مسامعه ”أن العربى إذا مد يده إليك بالسلام.. فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك”.!!
هذه الأفكار التى آمن بها والد “بنيامين نتنياهو” هى التى دفعت المتطرف الصهيونى جابوتنسكى لأن يعينه رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” الصهيونية.. والتى من خلالها لمع اسمه وذاع صيته.. حيث تخصصت تلك الصحيفة فى مهاجمة كل يهودى أو مسئول يفكر ولو بشكل غير مباشر فى السلام مع العرب أو أن يجلس معهم على مائدة مفاوضات واحدة.
ومن الكلمات التى كان يرددها “تسيون” على مسامع ولده “بنيامين” قوله “إنك أفضل من أى عربى.. وإذا جلست فاجلس مع من هم نظراؤك.. فالعرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم”.. إلا أن الأكثر تأثيرًا فى عقل “بنيامين نتنياهو” كانت هى تلك الكتب الصغيرة التى ألفها والده وآخرون من خلال دار النشر الصغيرة التى أنشأها.. وهى كتب تدور فى مجملها حول “أسس الحركة الصهيونية” و “كيفية إقامة دولة إسرائيل” و “إسرائيل المستقبل والأمل” و”العرب إلى الهاوية” و “إسرائيل العظمى فى كل البلاد العربية”.
كان “تسيون” حريصًا على تلقين ابنه دروسًا يومية فى السياسة.. شارحًا له بالتفصيل كيفية تفكير “جابوتنسكى” القائد الملهم له.. والذى سيصبح أيضًا القائد الملهم لنجله “بنيامين”!!
لقد عرف جابوتنسكى بكثرة تنقلاته وسفرياته بالاضافة إلى علاقاته الوطيدة بعدد من المسئولين الأمريكيين، والترويج لمقولاته أينما ذهب، فاستطاع بذلك أن يضم إلى جانبه آلاف المتطرفين والذين أمنوا بمقواته
فى العام 1940، شغل “تسيون نتنياهو” منصب السكرتير الشخصى لجابوتنسكى، وبات ملازمًا له فى كل رحلاته وتحركاته.. وأتاح له ذلك الاطلاع على العديد من الأوراق السرية التى كان يتم الإعداد والتخطيط من خلالها لإقامة دولة إسرائيل، وقد ضمت هذه الأوراق وثائق فى غاية الأهمية احتفظ بها “تسيون” وحده بعد وفاة جابوتنسكى.. وكانت هذه الوثائق تحمل عبارة تقول: “إلى كل مخلص.. إلى كل وطنى.. إلى كل شريف فى هذا الكون.. إذا ما وقعت هذه الأوراق فى يدك.. عليك أن تكون أمينًا فى تنفيذ ما بها حتى ترضى الله.. فشعب الله المختار الذى شرد ونهبت ثرواته لابد أن يعود.. وعندما يعود لابد أن يكون سيد العالم.. ومع سيادة العالم لابد من إبادة العرب الأقذار”.
هذه الأوراق السرية لم يتح لأحد الإطلاع عليها سوى “تسيلاه سيجل” والدة “بنيامين نتنياهو”.. ثم شاء القدر أن تشكل تلك الأوراق رؤية “بنيامين” فى المستقبل، حتى أنه من كثرة قراءته لهذه الوثائق حفظها وكان دائم الترديد لها.
وقد كان والده حريصًا على ألا ينسى نجله “بنيامين” ما تحمله تلك الوثائق من أفكار ومعتقدات، حتى أنه كان يطلب منه ترديدها فى إطار حلقات استماع كان يعقدها بحضور بقية اخوته، لدرجة أن والدته “تسيلاه” كانت تشفق عليه من والده الذى كان دائم الإصرار على تلقينه كل دروس الصهيونية.
وكانت “تسيلاه” ذاتها صهيونية متطرفة.. فهى من أسرة ثرية تنتمى لرجل أعمال يهودى، لديه العديد من المشروعات المتعددة والمترامية الأطراف، سواء فى الولايات المتحدة أو إسرائيل.. حيث كان يخصص ريعًا سنويًا من هذه المشروعات، بالإضافة إلى مساهمات كبيرة من أجل تنشيط الحركة الصهيونية.
وكان لدى والد “تسيلاه” تطلع دائم بأن يسخر كل القوى الدعائية لصالح إسرائيل والحركة الصهيونية.. ولذا فقد كان يسعى للسيطرة على وسائل الإعلام المختلفة من أجل دعاية مؤيدة للصهيونية.
وحين اشتد عود “تسيلاه” وأصبحت زميلة لـ”تسيون” فى حركة جابوتنسكى، جمعهما كره مشترك لعائلة وايزمان.. ومن هنا تبرز طبيعة العداء الذى حمله “بنيامين” عن والده ووالدته لرئيس إسرائيل الأسبق عيزرا وايزمان.
كانت والدة “بنيامين” تعشق القانون.. ورأت أن دراستها له يمكن أن تفيد الحركة الصهيونية أكثر بكثير من دراستها لأى فرع من فروع العلم الأخرى، حيث رأت أن القانون سيعلمها المنطق وتفنيد الحجج المضادة التى يمكن استخدامها ضد إسرائيل، خاصة من جانب العرب فى حال إقامة دولة إسرائيل.. وكان ولعها بالقانون وسيلة لتحقيق حلم الصهيونية الكبرى وتنفيذ تعليمات “جابوتنسكى” فى أن دراسة القانون مفيدة لأسس الحركة.. وأنها ستعطيها قوة جديدة تضاف إلى قوة المفكرين للحركة.
كانت “تسيلاه” مؤمنة بأن “جابوتنسكى” على حق حين أدرك أن الخطابة وحدها ليست كافية لدعم أسس الحركة.. وأنه لابد من سفراء لهذه الحركة فى مختلف دول العالم وأن سفراء هذه الحركة لابد أن يكونوا على قدر كبير من العلم والفهم الكامل لمتطلبات الحركة فى العقود القادمة.
وكان جابوتنسكى حريصًا على توجيه تلاميذه إلى دراسة فروع العلم المختلفة.
وقد برز تفوق “تسيلاه سيجل” بشكل واضح لدى دراستها للقانون بالجامعة العبرية بالقدس.. وعرف عنها الصراحة والجدية فى عملها ودراستها.. ودفعتها دراستها للقانون إلى السفر إلى لندن، حيث انضمت هناك إلى الحركات الصهيونية الناشئة فى ذلك الوقت، وأبرزت اهتمامًا ملحوظًا بأنشطتها داخل تلك الحركات، حتى أنها أصبحت واحدة من القيادات المعروفة بتخطيطها الجيد من أجل إقامة دولة إسرائيل.. واستطاعت “تسيلاه” الارتباط فى ذلك الوقت بمن يعرفون بزعماء وآباء الحركة الصهيونية فى إنجلترا.. وتمكنت بفضل تلك الروابط الوثيقة من أن تسافر إلى العديد من البلدان الأوروبية.
فى ذلك الوقت.. كان “جابوتنسكى” المرتبط بآباء وزعماء هذه الحركة يعزز من وضعية “تسيلاه” ولأن “تسيون نتنياهو” كان رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” ويتابع أنشطة “تسيلاه” رأى أنه من المناسب الارتباط بهذه الفتاة التى تشاركه الفكر والحلم فى إقامة دولة إسرائيل.. وخصوصًا أن العديد من الصفات الأخرى ربطت بينهما.. وفى مقدمتها الكره الشديد للعرب وضرورة العمل على إزالتهم من الوجود.
ولذا.. حين التقى “تسيون” و “تسيلاه” كونا ثنائيًا مشتركًا.. وكانا يكرهان أى شخص يحمل جنسية أية دولة- حتى ولو كان يهوديًا- يتحدث عن العرب بلغة لا يرغبانها.
كل هذه المؤثرات النفسية المعقدة لكل من «تسيون وتسيلاه» ورثها عنهما فيما بعد ابنهما «بنيامين» الذى قدر له فيما بعد تولى رئاسة حكومة إسرائيل لأكثر من مرة.
ومع حدوث الزواج بين “تسيون وتسيلاه” استجابت الزوجة لمطالب زوجها وقررت التفرغ لمعاونته.. ومع وفاة “جابوتنسكى” كان همهما الأول هو كيفية العمل على تنفيذ وصاياه التى يحتفظ بها “تسيون” والذى رأى أن تنفيذها يمكن أن يتم من خلال طبع كتيبات ونشرها على جميع يهوديّ العالم حتى يتجمع اليهود حول الفكرة الصهيونية الأساسية وهى “إسرائيل العظمى”.
وبالفعل بدأت سلسلة كتب “تسيون” فى الظهور بفضل معاونة زوجته والتى تلقت بدورها دعمًا من والدها رجل الأعمال المعروف فى الولايات المتحدة، الذى أخذ على عاتقه نشر كتب “تسيون” بين يهود أمريكا.. ثم انتشرت الكتب فى العديد من الدول الأوروبية عبر اليهود الأمريكان.
وبدأ صيت “تسيون” ينتشر بين اليهود فى العالم.. غير أن والد “تسيلاه” لم يرق له ذوبان شخصية ابنته فى شخصية زوجها.
فى العام 1946 قرر “تسيون” أن يكون أبًا من آباء الصهيونية، رافضًا أن يكون مجرد داعٍ لها.. فنصحته “تسيلاه” بأن يحصل على درجة الدكتوراه باعتبار أن ذلك سوف يسهم فى وضعه العلمى بين صفوف اليهود.. وكانت ترى أن هذا الطموح يمكن أن يجعله على رأس دولة إسرائيل.
وبالفعل حقق “تسيون” طموحه، وحصل على درجة الدكتوراه من كلية “درونس” فى فيلادلفيا بالولايات المتحدة غير أن هذه الدرجة العلمية خلقت له العديد من المشاكل مع الزعامات اليهودية الموجودة فى الولايات المتحدة خصوصًا بعد شعورهم بأنه يسعى إلى تخطيهم فى طريقه للصعود إلى قمة سلم الدولة الوليدة.
فى ذلك الوقت ثار الكثير من الجدل بين القيادات اليهودية فى الولايات المتحدة، حيث كان البعض يرى أن التفاوض مع العرب يمكن أن يمثل إحدى وسائل إقامة دولة إسرائيل، إلا أن “تسيون” كان يرى عكس ذلك معتبرًا أن العنف هو الوسيلة الأساسية لإقامة الدولة.
وحين احتدم الخلاف بين الزعامات الصهيونية فى الولايات المتحدة قرر “تسيون نتنياهو” العودة إلى إسرائيل فى العام 1948وذلك بعد وقت قصير من قيامها على أرض فلسطين المحتلة.
ولم يكن “تسيون” على وفاق مع مسئولى الدولة الإسرائيلية الوليدة معتبرًا أنهم تنكروا لنضاله ودوره فى إقامة دولة إسرائيل.. حيث كان يرى أن كتبه وأبحاثه التى انتشرت فى العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة قد أسهمت فى إقامة هذه الدولة.. والحصول على تأييد الأوروبيين والأمريكان.. فى حين كان ساسة إسرائيل ينظرون إليه بازدراء لأنه كان أنانيًا ومحبًا لذاته.
ورغم رفض ساسة إسرائيل التعاون معه إلا أنه كان يسعى إلى مشاركة القيادات الإسرائيلية فى مناظراتهم وندواتهم حول مستقبل الدولة الإسرائيلية.. وكان يردد دائمًا أنه تلميذ لجابوتنسكى، وأنه من أكثر الذين تحملوا العبء الأكبر من أجل إقامة هذه الدولة.
ووسط هذه الأجواء جاء “بنيامين تسيون نتنياهو” إلى الدنيا فى عام 1949.. حيث شهد هذا العام صراعًا مريرًا ومعقدًا بين تسيون ومناحم بيجين الذى تولى فيما بعد رئاسة الوزارة الإسرائيلية وعقد اتفاقية كامب ديفيد مع الرئيس المصرى الراحل أنور السادات.
كان الصراع فى مجمله يدور حول الحركة التصحيحية التى أرسى قواعدها “جابوتنسكى”.. وكان مناحم بيجين يرى أنه أكثر قدرة من تسيون على السيطرة على مقاليد الأمور داخل الحركة المتطرفة.
هذا الصراع الذى نشأ بين تسيون ومناحم بيجين لم يكن ليختفى أبدًا عن ذاكرة الطفل “بنيامين” الذى شب على كراهية “بيجين” منذ صغره، حيث اعتبره السبب الأساسى وراء القضاء على مستقبل والده السياسى.
ومنذ ذلك الحين تملكت “بنيامين نتنياهو” رغبة جامحة فى كيفية الانتقام لوالده وإعادة الاعتبار إليه.. وكان يرى أن ذلك لن يتحقق إلا بوصوله إلى مقعد رئاسة الوزراء فى إسرائيل.
وبالرغم من انضمام “بنيامين نتنياهو” إلى ذات تكتل الليكود الذى أوصل “مناحم بيجين” إلى رئاسة الوزراء فى إسرائيل إلا أنه كان يعتبر أن ما أقدم عليه “بيجين” من توقيع معاهدة للصلح مع مصر بمثابة خطأ إستراتيجى لا يغتفر.. وكان يرى أن “بيجين” تسرع فى التوقيع على هذه المعاهدة.. بينما كان بإمكانه المماطلة لسنوات طويلة يحصل خلالها على السلام دون التفريط فى شبر واحد من الأرض التى احتلتها إسرائيل فى شبه جزيرة سيناء.
لقد شهد “بنيامين” كيف أن بيجين أزاح والده عن طريقه، وكان بيجين يردد دائمًا أن “تسيون نتنياهو” لم يحارب مع منظمة “أتسل” وهى المنظمة العسكرية الإسرائيلية “الوطنية” وأنه لم يقدم أى تضحيات.. ولذا رفض منحه أى منصب.
من جانبه قرر “تسيون” ألا يستسلم لأفكار “بيجين” والقيادات اليمنية الإسرائيلية وأخذ على عاتقه أن يكون زعيمًا لحركة “حيروت” إلا أن الحركة رفضته.. مما فسره بأن هناك مؤامرة على مستقبله السياسى.
لقد نصحه أحد أصدقائه بالتخفيف من أفكاره المتطرفة للغاية إلا أن زوجته “تسيلاه” رفضت أن يقدم تسيون أية تنازلات فى هذا الصدد.. وطالبته بالتمسك بموقفه.. وأن يترك السياسة ويلتحق بالسلك الأكاديمى فى الجامعة العبرية.
اقرأ أيضاً«نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. كتاب جديد لـ مصطفى بكري يكشف فيه بالوثائق استراتيجية الكيان الصهيوني للهيمنة على المنطقة
نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى (2)
مصطفى بكري عن كتابه «حلم إسرائيل الكبرى»: يكشف سيناريو ما هو متوقع