محمد مصطفى حابس: الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الـــ 61.. سجال الهدى والضلال بين الصليب والهلال في أرض الشهداء والابطال… وثيقة تاريخية تنشر لأول مرة حول تحويل كاتدرائية الجزائر إلى مسجد كتشاوى بعد الاستقلال
تاريخ النشر: 10th, July 2023 GMT
محمد مصطفى حابس بعد استحسان القراء للمرة الثانية مقالنا الذي نشرنا قطوفا منه في الذكرى الستين ثم الــ62 للاستقلال ، حول موضوع الوثيقة التاريخية التي تنشر لأول مرة حول تحويل كاتدرائيات الجزائر الى مساجد بعد الاستقلال، الامر الذي جيش أبواق الاستعمار في الغرب في شن حملة إعلامية مسعورة على الدولة الجزائرية الفتية في أول سنة من ميلادها أي عام 1963، ليكيل لهم – من جهته – بمكيالين العلامة الأمام محمود بوزوزو برد حاسم بلغتهم وفي عقر دارهم وعبر بعض وسائلهم التي تشجعت لنشر ردوده، وبالعربية عبر المنابر العربية منها خصوصا على صفحات مجلة “المسلمون” العريقة التي كانت تصدر عن المركز الاسلامي بجنيف ([1] )، كانت ردود الشيخ العلامة بوزوزو باللغتين ، باللسان العربي المبين وبفرنسية راقية تفوح بحجج تاريخية دامغة وبتعابير إنسانية تثلج صدور المنصفين حتى من بني جلدتهم في الغرب، تلك هي همم رجال باعوا لله أنفيهم، فالثورة المباركة كانت و لاتزال تتويجا لملحمة تاريخية كبرى في التاريخ الوطني والإسلامي والإنساني عامة، أنقذ فيها المجتمع الجزائري وجوده البشري والثقافي والحضاري من مصير أندلس ثانية، بل ومن مصير هنود حمر ثانية- على حد تعبير المفكر الجزائري الطيب برغوث ( [2] )-، مقدمة بذلك نموذجا فذا في الصمود والاستعصاء على الفناء، وفي المحافظة على الوجود الحضاري الذي هو الوجود الحقيقي، الذي بدونه لا يعني الوجود البيولوجي للبشر شيئا في منطق التاريخ والحضارة، وفلسفة الإستخلاف في الأرض.
أفكار الشيخ بوزوزو شبيهة بأفكار ابن خلدون والطيب برغوث : وقبل أن نشرع في سرد هذا الجزء الثاني من مقالنا، استوقفتني هذا الأسبوع بعض التعاليق المهمة و الجادة على مقالنا أنف الذكر، منها تعليق بقلم أستاذنا الدكتور عمر مناصرية، من جامعة المسيلة، الذي علق بقوله:” أفكار جميلة من الشيخ محمود بوزوزو الذي لم أسمع به من قبل وهو يشبه ابن خلدون والطيب برغوث، ففي الأفكار شبه جميل”. كما علق آخر مذكرا بقول الله تعالى: ﴿الَّذينَ أُخرِجوا مِن دِيارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلّا أَن يَقولوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَهُدِّمَت صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذكَرُ فيهَا اسمُ اللَّهِ كَثيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ﴾ [الحج:40 ]، أما الأخ محمد آيت سليمان من سويسرا، الذي عرف الشيخ بوزوز في نهاية تسعينات القرن الماضي، فعلق بقوله: ” الله أكبر.. الله أكبر.. الشيخ بوزوزو بمنزلة بن خلدون!! يا للخسارة بالنسبة لنا نحن الجزائريين في سويسرا، لما رحل عن دنيانا عرفنا حقيقة قيمة الشيخ ووزنه وفضله ليس على الجزائر قبل الاستقلال بل بعده و على الأمة قاطبة” !! وهناك تعاليق أخرى على الوثيقة و على العلامة محمود بوزوزو كتبت بالفرنسية يضيق المجال لذكرها، كما علق آخرون على مقال مشابه نشرته لنا بالفرنسية مجلة الشاب المسلم في عددها الأخير( [3] )، هذا الأسبوع، بعنوان:”شهادات المنصفين الغربيين على أساتذة الأمة وعلمائها: « الجزائر هي الإسلام!” ، كتب لنا أستاذنا الكبير الدكتور العربي كشاط من باريس، معلقا على النهج الأصيل للشيخ الزاهد الجليل (العلامة محمود بوزوزو)، رسالة بليغة، نقتطف منها، هذه السطور، بعد التحية والسلام..كتب يقول- حفظه الله-:” بعد مدة مديدة خيم عليها صمت ثقيل ألجأت إليه ليال حالكة السواد، تلتها أصابيح ولكن من غير إسفار! والآن فقط تنفس صبح رسالتك عن العدد الجديد من مجلة الشاب المسلم ..ألقيت نظرة عجلى على محتويات المجلة.. وقرأت مقالتك، تنبعث من كل كلمة منها أصداء ذكريات طيبات، تتخايل في ثناياها أسماء صحب كرام (يقصد المشايخ الذين عاصرهم وعمل معهم أمثال، كل من: الشيخ عبد الرحمان شيبان و د. أحمد عروة، د. بوعمران الشيخ، و الاستاذ عبد الوهاب حمودة) ، وتتخاطر في سماواتها نجوم هاديات.. رحم الله من سبقنا الى دار البقاء، وأسبغ على الباقين نعمة الثبات والوفاء..حسنا فعلت يا استاذ مصطفى بالكتابة عن الكاتب البليغ الاخ روجي دو باسكييه (سيدي عبد الكريم)( [4] ) وعن الصالح الزاهد شيخنا محمود بوزوزو..مختتما رسالته متأسفا بقوله” انا اخجل من تقصيري في حق هذه العائلات التي لا ينسى فضلها على المسلمين في هذه الديار..سلامي الى كل الاحبة.” كيف يعتدى العالم المسيحي على العالم الإسلامي ويتشكى منه في نفس الوقت ..؟ في هذا الجزء الثاني، الخاص بهذه الوثيقة التاريخية، نقلا عن مقال شيخنا العلامة محمود بوزوزو، أحب أن أتوقف عند بعض مفاصل ردوده عن الأبواق الفرنسية خاصة، أو المكتوبة بالفرنسية خاصة في رده على القسيس السويسري ” أبي كريطال”، الذي ذكرناه في الجزء الأول من هذا المقال، نقلا عن الجرية السويسرية ([5] )، حيث كتب الشيخ لهؤلاء القوم ، منبها الجميع بما فيهم القارئ العادي بقوله : ” يمكن الاطلاع على التفاصيل في مظانها، إذ ليس المراد هنا إعطاء بسطة في الموضوع إنما المراد التنبيه على قضية من أهم القضايا في العلاقات بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي تتجلى فيها المغالطة بأجلى مظهر في جميع صورها من ظلم وبهتان وتجنٍّ يشاهده من يلاحظ كيف أن العالم المسيحي يعتدى على العالم الإسلامي ويتشكى منه في نفس الوقت كأن الظالم هو المظلوم!..”، ثم رسم خطة لمقاله واضعا أرقامًا ومعالم وتوضيحات على بعض المواطن التي تستحق الملاحظة والتنبيه على أمور منها على سبيل المثال:”خوف الأوروبيين من مصيرهم، والمبالغة في تقدير عدد الأوروبيين، وإسقاط المسلمين وموقف الحكومات الفرنسية من التبشير، وعدوان المسلمين على المقابر المسيحية، والكفاح المسيحي الصحيح، وموقف رئيس الأساقفة الحالي دوفال، ومعنى الشجاعة الحقيقية”. 1)- خوف الأوربيين على مصيرهم: إنًّ خوف الأوروبيين لا داعي له سوى توقع العدوان من طرف الفرنسيين أنفسهم المنتمين إلى منظمة الجيش السري( OAS)، أو توقع الانتقام المعادي للمظلومين على أساس الانتصاف من الظالمين بسبب ما اقترفوه من الجرائم ضد الأهالي، متخوفين أن لا يميز هؤلاء بين المجرمين وغيرهم كما أن الفرنسيين لم يميزوا في إجرامهم بين من يعتبر – في عرفهم – مجرمًا ومن يعتبر بريئًا، ومع ذلك فإن الجزائريين لم ينتقموا لأنفسهم كما كان أعداؤهم يتوقعون ويتخوفون، ولو أنهم عاملوهم بالمثل لسالت أودية من الدماء في كل مكان، ولكنهم أظهروا من كرم النفس بقدر ما أظهر أعداؤهم من لؤم النفس أو أكثر. 2)- ملايين المهاجرين: إنَّ عدد الأوروبيين الذين كانوا في الجزائر لم يكن يجاوز مليون نسمة، هاجر بعضهم إلى أوروبا، وبقي منهم عدد كبير في الجزائر ينعمون بأمن لم يكونوا يتوقعونه، والله أعلم بما يضمرونه لنا، ومنهم من لا يزال طامعًا في رجعة أيام الاستعمار حالـمًا بعودة عهد قد قضت عليه العدالة الإلهية قضاء مبرمًا لا يقبل النقض إلى الأبد! 3)- الممارسون للشعائر الدينية: كان صاحب المقال أي القسيس أبي كريطال ([6]) يتوهم أن الجزائر لم يكن يقطنها قبل استقلالها سوى أوروبيين كاثوليكيين ونسي أن المسلمين هم أهل البلاد يجاوز عددهم عشرة ملايين ، بينما الأوروبيين لم يكن عددهم يزيد عن مليون نسمة كما ذكرنا، ولم يكونوا كلهم كاثوليكيين، ولم يكونوا كلهم يمارسون شعائر دينهم، وبعضهم أظهروا أنهم لا يعرفون من هذه الممارسة سوى المجازر والمذابح وانتهاك الحرمات وغير ذلك من أنواع الجرائم والموبقات التي جمعت أوصاف أشنع الوحشيات… وقد أسقط صاحب المقال من قائمة الممارسين لديهم جميع المسلمين بالرغم من تعلقهم بذلك كما يشهد به استرجاع هذا المسجد الذي كان الاستعمار الكاثوليكي حوّله كاتدرائية بما أبكى صاحب المقال وأفقده رشده… إلا أنَّ الحقد الصليبي يعمي البصيرة ويملي السخافات ويطمس على العيون فلا ترى حتى الواقع الملموس تحت أنوار الشمس في رابعة النهار!… 4) – خطأ فرنسا الرسمية: عندما يتحدث الكاتب عن «خطأ فرنسا الرسمية» ينسى خطأ فرنسا «شبه الرسمية» أي المسيحية الصليبية المتعصبة التي كانت ستارًا للاستعمار كما كان الاستعمار مطية لها. وينسى أنَّ الحكومة الإمبراطورية وما بعدها من الحكومات العلمانية لم تضطهد أحدًا من المبشرين المسيحيين ولم تتعرض بأي سوء ولا بأي أذى للدعوة المسيحية في الجزائر بينما لقيت الدعوة الإسلاميَّة منها من ضروب الاضطهاد وألوان المعاكسات ما لا يتصوره وبالعكس من ذلك فقد لقي التبشير المسيحي من المساعدات ما جعل في إمكانه أن يقوم بنشاط واسع النطاق في توفر الوسائل المادية والمعنوية وملائمة الظروف السياسية وبفضل الإمدادات «غير الرسمية» من طرف الحكومات «العلمانية»!… ولا أدل على ذلك من المساحات الواسعة من الأراضي التي منحت للمبشرين، والمباني الكبيرة التي بنوها لحركتهم، والحرية المطلقة لنشر دعوتهم… بينما الدعاة المسلمون كانوا مطاردين محرومين من هذه الحرية بواسطة القوانين الخاصة وبدون قوانين! سواء منهم من كان من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أو من ذوي الغيرة على دينهم ووطنهم. وتاريخ الاضطهاد الفرنسي للإسلام في الجزائر لم يكتب بعد، وهو اضطهاد لم يشهد مثله بعد الأندلس في أي مكان، يتراوح من العدوان على المساجد واغتصاب الأوقاف، ومضايقة اللغة العربية، إلى سجن الدعاة وإبعادهم وتدبير اغتيالات لتوريطهم وليسأل الباحث عن هذه الحقائق جمعية العلماء المسلمين الجزائريين… والمصيبة في هذا المقام هي رضى المسيحيين المعاصرين بهذا الظلم والطغيان الذي من شأنه أن يفتح الباب للشيوعية الإلحادية المادية المعادية لجميع الأديان!… وممن قالوا بوجوب محق الإسلام المؤرخ الفرنسي روني سيديو( [7] )، الذي يقول: «إنَّ مما لا شك فيه أن أحد الأخطاء الأولى للسياسة الأهلية هو السماح ببقاء الإسلام في الجزائر» في كتاب طبع سنة 1958 أي منذ عهد قريب (والمقال نشر عام 1963)!… وأما ما يقوله صاحب المقال عن الاضطهاد الذي أصاب الكاردينال لافيجري ، فالمعلوم هو العكس إذ لقي هذا الكاردينال من التشجيع ما لم يلقه أحد، بفضل مرونته واستعداده للتفاهم مع الحكومات حتى العلمانية لقصده تثبيت أقدام فرنسا باسم المسيحية. وقد قام بنشاط كبير في إفريقيا الشمالية وفي أوروبا حتى أسبغ عليه أحد المؤرخين لكنيسة فرنسا لقب «بطرس الراهب لحرب صليبية جديدة»( [8]). وقد كان بطرس الراهب – كما هو معلوم – أكبر داعية فرنسي في العالم المسيحي للحروب الصليبية الدامية، التي هي الآن هادئة غير أنها (لا تزال مستمرة إلى أيامنا)( [9]) عن طريق التبشير… إنما الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعد «خطأ رسميًا» نحو لافيجري هو عدم موافقة الحكومة على مشروعه الواسع الذي كان يتطلب نفقات باهظة إذ كان يرمي إلى كسب الجزائريين لفرنسا عن طريق المسيحية من باب سد حاجة المعوزين وكانوا كثيرين، وإيواء اليتامى وكانوا مضيعين، وعلاج المصابين بالوباء، وقد هلك منهم عشرات الآلاف في تلك الأيام… فما كان من الإمبراطور نابليون الثالث إلا أن “ذكره بأن أهداف رسالته هي تقوية المعنويات عند المائتين ألف مستعمر الكاثوليكيين بالجزائر” ( [10]) أي تثبيتهم حتى لا يفكروا في مغادرة المستعمرة كيما تظل ملكًا لفرنسا على الدوام. ولكن سرعان ما عدل نابليون الثالث موقفه بعد ما أقنعه لافيجري بأهمية مشروعه ومقاصده فمنحه بغيته من الحرية المطلقة ( [11]) في النشاط إذ تأكد لديه أنه يريد من وراء التبشير تثبيت أقدام الاستعمار ليس في الجزائر فحسب بل في القارة الإفريقية كلها، وقد بذل جهدًا كبيرًا لتحبيب فرنسا بتونس فجاءت معاهدة الحماية بعد مقامه بها، وعمل في سبيل تحبيب فرنسا لدى السوريين كذلك سعيًا في تثبيت مركز فرنسا في كل مكان إذ كان من أهدافه: «أن يحبب فرنسا للناس باسم المسيح»([12] )… وكل ما شوهد بعد ذلك من نظام التبشير وكثرة المبشرين في الجزائر إنما هو من عمل لافيجري، غير أنه لم ينجح في (غرس العقيدة الكاثوليكية) على حد تعبير الكاتب، بالرغم من مهارته الفائقة ومرونته النادرة لسوء نيته، وضلال عقيدته، لأن الله تعالى لا يبارك خدمة السياسة الاستعمارية باسم الدين إنما يبارك الأعمال الخالصة لوجهه الكريم ولسر من أسرار الإسلام في نفوس ذويه لم يفهمه ولن يفهمه المطموس على بصائرهم من المستعمرين والمسيحيين ومن شاكلهم من ذوي النعرات الغريبة والنزعات المبتدعة النابية عن الفطرة السليمة ودعاة الإلحاد والعلمانية، ومنكري آيات الله البينات في الآفاق وفي الأنفس!… 5)- فرية الاعتداء على المقابر: المعلوم عن المسلمين الجزائريين أنهم من أشد الناس استنكافًا عن الدخول إلى المقابر غير الإسلاميَّة، فكيف يتصور أن يعتدوا عليها أو يلمسوا ترابها أو حجرها؟… وهل يجهل الكاتب عدوان الفرنسيين على المقابر والمساجد التي لا يزال بعضها يحمل آثار قنابلهم في بعض المدن والقرى بإفريقيا الشمالية منذ عشرات السنين وأننا نحيل الكاتب لرؤية شواهد من ذلك على الكتب المحتفظة بالآثار في شأن هذه القضية، وبما أنَّ الكاتب قس سويسري فإننا ننبه إلى أنه كان في سويسرا أستاذ بكلية اللاهوت بجامعة جنيف معروف بعنايته بدراسة شؤون الإسلام اسمه أدوارد مونتي ألَّف كتابًا عنوانه «تقديس الأولياء في إفريقيا الشمالية» نشر فيه صورًا فوتوغرافية ( [13]) تشهد بصحة الحقائق التي لا يعلمها. ولولا ضيق نطاق المجلة لنشرنا منها ما يفحم المعاندين بمنظر آثار القنابل على القبور والمساجد… ثم إننا نذكر القس أنه لئن كنا نستنكر الاعتداء على القبور بالرغم من انقطاع الرجاء في سكانها، فكيف بنا عند الاعتداء على المرضى في المستشفيات مع دوام الرجاء فيهم، وبالأحرى فكيف بنا حال الاعتداء على الأحياء الذين هم محل كل الرجاء؟ مع أنَّ هذه الأقسام الثلاثة لم يسلم قسم واحد منها من عدوان المستعمرين الفرنسيين الذين لا يتردد صاحب المقال في الزعم بأنهم «كلهم كاثوليكيون قائمون بشعائر دينهم»! فإذا كان هذا العدوان من تعاليم المسيحية ففي استنكاره استنكار لها، وإذا كان الأمر بالعكس ففي الإغضاء عن العدوان حين يصدر عن المسيحيين خيانة لها واستهانة بها. ألا قبح الله النفاق! 6) الكفاح الصحيح: ما المراد بالكفاح الصحيح؟ فإذا كان المراد به رجعة الحكم الاستعماري فهو أضغاث أحلام… وإذا كان المراد به تنصير المسلمين فهو سخافة عقل مريض، إذ من أكبر الخرق الطمع حيث لا مطمع بعد قيام الدليل على استحالة ذلك «منذ 130 سنة» حسب تعبير القسم الحالم الواهم – كان خلالها الاستعمار كله وراء حركة التنصير يمدها بكل ما تريد ويعمل يدًا في يد مع رؤسائها، فكيف لها بالطمع بعد انقطاع يده عنها؟… وإذا كان المراد المحافظة على العقيدة الكاثوليكية عند ذويها فلا معنى لكلمة «كفاح» ما دام لا يهددها شيء في وسط الإسلام الذي من مبادئه (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة256]. والأوروبيون الذين اعتنقوا الإسلام في الجزائر على قلتهم مثل الحاج نصر الدين دينيه ومحمد الشريف جوكلاري إنما أقدموا على ذلك في حال ضعف المسلمين وعن طواعية واختيار، بهداية من الله: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ)[الأنعام125 ]. عجبًا لشأنكم مع الإسلام! ما أشد ضيق صدركم منه سواء كان أهله مستضعفين أو أحرارًا مستقلين! (كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام125]. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)[يونس 100]. صدق الله العظيم! ألا أن الكفاح الصحيح هو مكافحة الأوهام والخرافات العالقة بأذهانكم، ومكافحة النفاق والرياء والتدجيل الملازمة لكم، ومكافحة الظنون السيئة والجهل بالإسلام وأسراره، وعليكم بمحاسبة أنفسكم ومطالعة أقوال المفكرين الواقعيين من بني جلدتكم، كمن قال: «من المحتمل أن يكون الأوروبيون مستعمرين ماهرين، ولكن منذ زوال الإمبراطورية الرومانية فإن الشعوب التي كانت حاملة مشعل المدنية حقًا هي الشعوب الإسلاميَّة»( [14]). 7) – موقف الاستعمارييين من الكاردينال دوفال، ونعته بلقب «محمَّد دوفال» : إن رئيس الأساقفة الحالي ( أي عام 1963) في الجزائر برهن عن مرونة ومهارة لا نظير لها تذكران بما كان عليه الكاردينال لافيجري الآنف الذكر. فهو يتقي التصادم بالمسلمين وينصح بالتودد واكتساب القلوب معتبرًا هذا السلوك خير وسيلة للبقاء الفرنسي والتوسع المسيحي في القطر الجزائري. ولكن الاستعمارييين لم يفهموه واعتبروا هذا السلوك يؤدي إلى النتائج المعاكسة لما يرجوه رئيس الأساقفة، فقاوموه ولقبوه «محمَّد دوفال». وهو في الحقيقة ناصح لهم. وقد تجلى كل ما كان حذرهم منه من وخيم العواقب وعرضوا بالعلاقات بينهم وبين السكان المسلمين إلى الخطر المهدد بالمقاطعة… فموقف رئيس الأساقفة مفهوم إذ أن في ضمان رفاهية المجتمع المسيحي، وهو مستوحى من «المصلحة المشتركة» لا أكثر ولا أقل، وهي في ميدان الحياة اليومية والمعاملات الدائمة أمر مبني على الواقع الذي لا مفر منه. ومعناه أن تغيير الفرنسيين سلوكهم وتحسينه إزاء المسلمين إنما يعود بالفائدة لذويه. وقد قدر المسلمون موقف رئيس الأساقفة كل التقدير حاكمين بالظاهر «والله يتولى السرائر». 8) – «المجد للشجاعة البئيسة»! إنَّ الشجاعة البئيسة حقًا كانت شجاعة الجزائريين المسلمين الذين كانوا يتلقون الضربات القاسية من نوع يعجز خيال مثل صاحب المقال عن تصوره، وكانوا لا يستطيعون رد الفعل مثلما حدث في يوم 8 ماي 1945 حيث فتك الفرنسيون فتكًا ذريعًا بعشرات الآلاف من المسلمين الذين لم يكن لهم حول ولا قوة سوى رجائهم في الله وثقتهم في الفرج من عنده وأملهم في الانتصاف من الطغاة الظالمين الذين كانوا ينتهكون كل حرمة بكل وسيلة وفي كل مناسبة وفي غير مناسبة، دون وازع من دين ولا ضمير ولا قانون تحت أنظار القسس والأساقفة الذين لا ينبسون ببنت شفة لإيقاف الظلم والطغيان سوى إذا كان فيهم من يعلم أن هناك عدالة إلهية لا بد من ظهورها طال الزمان أو قصر، وأن من طبيعة الفتن أنها لا تصيب الذين ظلموا خاصة… كما أدرك ذلك رئيس الأساقفة بعاصمة الجزائر فاستوحى مواقفه من هذا الإدراك اتقاء للانتقام العادل، وتوطيدًا لمركزه في البلد، وحفظًا للمستقبل المسيحي به، غير أن التوحش الهستيري الفرنسي قد قضى قضاء مبرمًا على أمانيه في هذا المستقبل الذي لم يكن يهدده أي تعصب ديني من طرف المسلمين الجزائريين المتعلقين بالتسامح الإسلامي الذي لم يقدره المسيحيون حق قدره في أي مكان من بلاد الإسلام. فالمجد للشجاعة الإسلاميَّة البئيسة التي كللتها العدالة الإلهية بالنصر المبين! وبعد، فإنَّ مثل هذه الحالات التي أثارت هذا القس وغيره من أهل دينه فيها مجال واسع للعبرة عند ذوي الإيمان بالله وبحكمته العليا كسائر الأعمال الإيجابية والسلبية أيَا كان مصدرها، إذ كلها ذات أصول عريقة في العدالة الإلهية. وكل ما تحقق في الجزائر المجاهدة إنما هو استجابة ربانية لثورة الضمائر الطاهرة التي غذاها الإسلام بما وصلها الله وأوثق ارتباطها به حتى أصبحت لا تعرف للحياة والموت معنى سوى أنهما من حقوق الله ولا يطمئن لها عيش إلا إذا كانت بلادها دار إسلام. ولهذه الدار مظاهر بينة، ومعالم واضحة، أقامها المسلمون خلال العصور فيما بنوه من مساجد، وشيدوه من معاهد، وألفوه من كتب، ونشروه من تقاليد. وقد أصاب أكثر هذه المعالم ما قضت به طبيعة الغزو الجائر من الهدم والتشويه والتحويل وما أشبه ذلك… 9) – من طبيعة العدالة الإلهية ولطائف حكمة الله نصر بعد عسر: ومن طبيعة العدالة الإلهية أن تجعل حدًا لوحشية الغزاة، فيبقون على بعض هذه المعالم لأسباب ظاهرها حب الاستئثار، والتمتع بجمال الآثار، وباطنها إرادة الله قيام الحجة عليهم بالاغتصاب، وعلى أهلها بمآل الخروج عن سنن الله، وعلى ورثتهم بالذكرى التي تنعش الضمائر للإنابة إلى الله، والتفكير في أداء العهد الذي بينهم وبينه على حفظ الأمانة بإعلاء كلمة الله… ومن طبيعة هذه العدالة إرغام الغزاة على ترك المعالم التي اغتصبوها إلى جانب المعالم التي بنوها كي يضمنوا بقاءهم، وهم ممتنون بها آسفون على فراقها، غير شاعرين أنهم أقاموها بحكم العدل الإلهي، عوضًا عما هدموه من أمثالها مما هو دونها أو خير منها، فيورثها الله أهل الوطن الذين كانوا مستضعفين تعويضًا عن الحرمان الطويل الذي عانوه، وتسلية من العذاب الأليم الذي قاسوه، فيكون لهم الغنم غنمين: استرجاع الحقوق المغصوبة، وإرث الخيرات المجلوبة (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ *)[الدخان25-29]. وكل ذلك من مباركة الله للمطامح العميقة في قرار الضمائر الطاهرة المتعلقة به. ومن لطائف حكمة الله أن يجيء بتحقيق هذه المطامح في صورة نصر عام يشمل المجاهدين وغيرهم بيانًا لعدله في تعميم النصر مقابل تعميم الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة، فينعم المسلمون وغيرهم من أعدائهم وخصومهم بثمار النصر بصفة تامة أو نسبية من حيث لا يحتسبون… ولا تفتأ هذه المعاني أن تتجسم في صورة تصحح الوضع القائم في أذهان الغافلين والخصوم بإثبات المصدر الحقيقي والتفسير الصحيح للأحداث التي آتت أكلها بإذن ربها… وهكذا تتجلى العدالة الإلهية لتصحيح الأوضاع القائمة في الأرض وفي الأذهان كي تتجلى آيات الله في الآفاق وفي الأنفس حتى يتميز الحق عن الباطل في كل ما يعتقدونه وفي الواقع الذي يعيشونه… فتتضح لكل ذي وجهة معينة القبلة الصحيحة التي ارتضاها الله للشعوب المستنيرة بشمس الإسلام. جينيف / سويسرا
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
لجنة التنسيق اللبنانية - الكندية في ذكرى الاستقلال: على المعارضة الاتحاد وإطلاق ثورة جديدة
عبرت لجنة التنسيق اللبنانية الكندية عن اسفها بان "يمر عيد الاستقلال هذا العام في اجواء حزينة والتشاؤم سيد الموقف، ذلك أن المفاوضات الجارية تحت النار بين لبنان وإسرائيل تشوبها الكثير من المغالطات شكلًا ومضمونًا".
وإذ رأت ان "رئيس مجلس النواب نبيه بري يجري المفاوضات باسم لبنان مع المبعوث الأميركي آموس هوكستين ممثلا لحزب الله فقط"، حملته مسؤولية "منع انتخاب رئيسٍ للجمهورية الذي يفترض بحسب الدستور، أن يكون راعي أي مفاوضات". وأكدت أن "أي اتفاق لا يطبق القرار 1701 كاملاً، المتضمّن في نصوصه تطبيق القرارين 1559 و 1680، وحصر السّلاح بيد الدّولة، وتسليمه من قبل كلّ حامليه للجيش اللّبناني، هو اتّفاق قد يعطي إسرائيل السّلام على حدودها الشماليّة، ويُضْحي مشروع فتنة أهليّة شمال اللّيطاني".
وجاء في بيان اصدرته اللجنة اليوم في أوتاوا وبيروت في توقيت موحد:
"يمرّ عيد الاستقلال هذه السّنة ولبنان يرزح تحت الاحتلال، وثلث شعبه مُهجّر، ومدن وقرى الجنوب والبقاع مُهدّمة، لا بلّ بعضها ممسوح عن الخارطة، وأعداد الشهداء والمصابين إلى تصاعد، فالمناسبة الوطنيّة تمرّ حزينة، والتشاؤم سيِّد الموقف، وعليه، فإنَّ المفاوضات الجاريّة تحت النار بين لبنان وإسرائيل تشوبها الكثير من المغالطات، شكلًا ومضمونًا، ولا بدّ من تفنيدها".
وقال: "في المفاوضات، إنّ رئيس المجلس النّيابي، نبيه بري، والذي يجري المفاوضات بإسم لبنان مع المبعوث الأمريكي عاموس هوكستين، يمثّل حزب الله فقط في هذه المفاوضات، يقبل ما تقبله إيران، ويرفض ما ترفضه، وهو الذي أقفل المجلس النّيابي لمدّة سنتين بضغطٍ من الذّراع هذا لمنع انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، والذي يفترض، وبحسب الدّستور، أن يكون راعي أي مفاوضات، وأن تكون للحكومة اللّبنانيّة وحدها قرار الحرب والسّلم، كما حصل في حرب 2006 مع حكومة الرّئيس فؤاد السنيورة. إنَّ رفض الرّئيس بري حتّى فتح أبواب مجلس النوّاب لنقاش موضوع الحرب التي بدأها حزب الله في ٨ تشرين الأول سنة 2024، ورفضه إشراك نواب الأمّة بتفاصيل المفاوضات الجارية، إنما ينم عن إذعانٍ لإيران مهين للبنان وشعبه. إنَّ أيَّ اتفاقٍ لا يطبق القرار 1701 كاملاً، والمتضمّن في نصوصه تطبيق القرارين 1559 و 1680، وحصر السّلاح بيد الدّولة، وتسليمه من قبل كلّ حامليه للجيش اللّبناني، هو اتّفاق قد يعطي إسرائيل السّلام على حدودها الشماليّة، ويُضْحي مشروع فتنة أهليّة شمال اللّيطاني، فاللّبنانيّون سيقاومون أيَّ اتّفاق بين إيران وإسرائيل على حساب لبنان".
تابع: "نحن نعتبر أنّ أيّ اتفاقٍ لا يوقّع عليه رئيس جمهوريّةٍ منتخب، وحكومة لبنانيّة جديدة منبثقة عن مجلس النواب، هو اتّفاقٌ ملغىً قانونيًّا ودستوريًّا، ولبنان وشعبه في حَلٍّ منه. ندعو أطياف المعارضة اللّبنانية كافّةً، أحزابها، جمعيّاتها السّياسيّة والمدنيّة، شخصيّاتها السّياسيّة والفكريّة والإعلاميّة، وهي معارضة على امتداد الطّوائف، إلى الوحدة، وإلى إطلاق ثورة استقلالٍ جديدة، شبيهة بانتفاضة اللّبنانيّين سنة 2005، مستفيدين من روح تلك الثورة، وعاملين على تلافي أخطاء الماضي".
اضاف: "في اليوم التّالي، ندعو المجتمع الدّولي كي يعمل على رفع يد إيران عن لبنان فيصبح استقلالنا ناجزاً. إنَّ إيران، كونها وراء كلّ قرارات حزب الله الذي فتح الحرب دون الرجوع للدّولة اللّبنانيّة، هي المسؤولة عن إعادة الإعمار وتعويض الخسائر البشريّة والماديّة، ونحن هنا نطالب كندا، بالتعاون مع أصدقائها في العالم، بدءًا بالولايات المتحدة، وانتهاءً باليابان والاتّحاد الأوروبي، كي تُحتسب إعادة الإعمار والتّعويضات للبنان واللّبنانيّين من العقوبات المفروضة على النّظام الإيراني".
ختم: "نحن إذ نتطلّع إلى استقلال ناجز، مؤمنون بأن اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، قادرون على بناء وطن سلام يحرسه جيشه الباسل فقط، مؤمنٍ بثقافة الحياة، جديرٍ بحريته المُمَيزة، عزيزٍ ببناته وأبنائه، وبانتمائه لعالمٍ عربيٍّ جديدٍ ومُتطوِّر، ومُستعيدٍ لدورهِ التّاريخي في العالم".