عزيز باكوش صدر للزميل محمد مزيوقا عمل روائي موسوم بعنوان “حدثنا الكبش فقال” طبعة 2023   والإصدار المومأ إليه جاء في 152 صفحة من القطع المتوسط يعتبر باكورة الإنتاج والأول في الريبيرتوار الإبداعي الأدبي لدى الكاتب الأستاذ والمربي الذي خبر دهاليز السياسة وأحابيل السياسيين وتشرب العمل النقابي منذ يفاعة أظافره.

لقد انخرط مبكرا في التيار السياسي التقدمي الحداثي، وتبنى الفكر الاشتراكي منهجا لحلحلة قضايا مجتمعه. كما ساهم بضمير يقظ، ونزاهة صرفة في تدبير الشأن الاجتماعي كمستشار اتحادي في محطات واستحقاقات انتخابية فارقة بالحاضرة التازية. ومحمد مزيوقا إلى كل ذلك، ناشط إعلامي ومراسل نقابي ومناضل سياسي في صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بتازة. انغمس كليا في دنيا الناس، وسكن قضاياهم المجتمعية. تراه معبئا بشكل مضاعف وعلى نحو دائم للدفاع عن ضحايا المجتمع، ومناصرة المحرومين والوقوف إلى جانب المنبوذين والمتضررين من أبناء محيطه الصغير والكبير.  لقد تبنى حتى النخاع عقيدة المواطنة بصفاء ذهن   وعزيمة لا تفل. ظل ولا يزال يترافع بقوة ضد الفساد والمفسدين والمندسين والمتزلفين. يقاوم الظلم الاجتماعي بكل أشكاله تارة بالتحسيس والتوعية وتارة أخرى بالفضح والتشهير، منافحا ضد المركب الانتهازي المصالحي في مدينته. تشهد بذلك عشرات المقالات المنشورة على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي منذ بداية الثمانينيات. ومحمد مزيوقا علاوة على ذلك كله هو ناشط تواصلي فذ لا يخاف في الجهر بالحق لومة لائم. وله دينامية مشهودة ومتابعون كثر على مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما الفايسبوك وله لازمة ظريفة ينهي بها تدويناته ” بون جوغني”.  للوهلة الأولى، يتضح أن أحداث ووقائع هذا المنجز الأدبي حدثنا الكبش فقال «تدور في حظيرة حيوانات وسط قرية هادئة الطباع. كما أن السارد فيها يستند على إرث ثقافي زاخر، يتسم بالغنى والتنوع وعلى جانب عظيم من الاطلاع والمعرفة بالتراث. من هنا لذة المتعة والقراءة الهادئة على لسان الكبش. ” غدا سيأخذنا الأقرع إلى السوق …. أنت مذبوح لا محالة. وقد أرى لحمك معروضا في أحد محلات الجزارة قبل مغادرتنا للسوق رفق مالكنا الجديد.” أمي …! لماذا يذبحوننا؟ هل العشب لا يكفيهم؟” والسؤال، لماذا يلجأ الكاتب إلى السرد على لسان الحيوان؟ لا سيما إذا كان من طينة مزيوقا مشهود له بالنضال والتصدي في أشد المراحل السياسية حساسية بالوطن بما في ذلك سنوات الرصاص، أخطرها على الإطلاق ؟   الجواب ببساطة هو أن القص أو الحكي على ألسنة الطير والحيوان، عند مزيوقا   حياة ونبض مجتمع، متعة وإفادة، أصالة وانتماء تعبير عن هوية محددة الملامح. فضلا عن كون السرد على لسان الحيوان أو الطير جنس أدبي له تاريخ عريق ضارب في القدم. عرفته أجناس وخلدت به وعبره مواقف وأفعال ظلت خالدة مدى الدهر. والكاتب إنما أراد أن يؤكد انتماءه لذاته وتصالحه مع هويته وانتمائه بعيدا عن تصحر الانتماء للحداثة والمدنية الزائفة. ومزيوقا هنا عندما ينسب الأفعال والأقوال إلى الكبش، ليس بسبب الخوف من الحاكم على غرار «كليلة ودمنة” الهندي، أو ابن المقفع   أو حي بن يقظان.  وإنما يرتدي قناعا واقيا، وحاميا يحيل إلى مرموز ما. والأمر هنا ليس بهذه البساطة، فقد تنطوي القصص والحكايات التي تروى على لسان الحيوان الطير على حفز اجتماعي نبيل. ورسم أهداف أخلاقية سامية، والسعي الجاد نحو بلوغ غايات وتقويم مسلكيات ورصد رشيد لسيكولوجيا المجتمع عبر التوعية بتربية ذات مضامين اجتماعية سياسية واقتصادية هادفة.  في الصفحة الأولى نقرأ للكاتب وهو يتحدث بلسان كبش ««يقولون بأن الذين ولدوا في الخلاء غالبا ما يتميزون بالطبع المشاكس والبحث عن المتاعب، وخصوصا أبناء جنسي المطالبون بالاعتماد على أنفسهم منذ اللحظات الأولى لخروجهم من بطون أمهاتهم. لكنني أعتقد بأنني لم أكن كذلك على الإطلاق، فبعد أن وضعتني أمي في منتصف ربوة تغطيها أحراش تدل على أن الغابة قد مرت من هناك، حملتني العنزة الآدمية بين ذراعيها إلى حظيرة بدائية السياج وأمي تتبعها بلهفة خالية من القلق بحكم تجاربها المتعددة في إنجاب الخرفان كما أن ثقتها في صديقتها كانت مطلقة، وفي ركن قذرة أحجاره، أكملت والدتي لحس جسمي مما علق به منها، بينما انخرطت الفتاة الكاعب في صياح لا يخلو من مرح طفولي أمي …! أمي…! لقد وضعت الحمراء حملها أخيرا! “ وإذا كان تأثير “كليلة ودمنة” بالغ الأهمية في الأدب العربي والعالمي يوم كان اللجوء إلى القصص على ألسنة الحيوان تنكري وقائي، ولون من ألوان التعبير الرمزي عن قضايا الواقع المعيشي الجائر.  يلجأ إليها الكاتب في محاولة للتخفي وراء الرمز لمواجهة عسف الحاكم وظلمه ” فإن كتاب “حدثنا الكبش فقال” اختار الحديث على لسان الكبش سبيلا ممتعا ولذيذا، آمنا وسالكا للكشف عن هوية محددة الملامح وإبراز الحكمة من حياتها في بساطة العيش، عبر النقد الموضوعي العميق لتجليات الأقوال والأفعال  وتموقع الممارسات وظلالها أو ضلالها في واقعها بلا مساحيق.” لماذا يذبحوننا؟ هل العشب لا يكفيهم؟” وهي حكمة من تدبير العقلاء في السياسة وأخلاق المجتمع. ذلك أن السرد والحكي وإعلان ما يجيش به الصدر وسط دوامة مجتمع طاحونة، في قالب ممتع فني وجميل لا يتقنه سوى من حنكته الأيام ولوحته شمس السياسة ونصبته النقابة من أصحاب النظرة المتوازنة في تدبير الغايات عبر التفاوض وتذويب الخلافات. على أن سقف طموح الكاتب هنا يتجاوز إدهاش المتلقي إلى إمتاعه بالفطنة وتمكينه من آليات الحماية والتنكر الحميم. فالوحش يظل وحشا، والحيوان حيوانا، لكن الحديث معه والاستئناس بحركاته داخل السرك يصبح عملا مفيدا ومتعة حقيقية. وفي تقديمها لهذا العمل الروائي المميز اعتبرت الدكتورة فتيحة عبد الله رئيسة الشبكة الوطنية للقراءة والكتابة ” حكاية كبش رواية استعارية على لسان حمل صار كبشا فزعيما ثم ذبيحا، منذ ولادته إلى حين ذبحه. مسار حياة حافل من الأحداث والمشاعر في حظيرة البؤس كما يسميها، في أسرة بمدشر وسط الجبال يعاني كل أفرادها من العوز والجهل وسوء المعاملة من الأب “الاقرع “ وترجع الدكتورة فتيحة عبد الله اختيار الروائي عالم الحيوان ليسرد على لسان الكبش الكثير من المقارنات والمآخذات على عالم الإنسان”   بألقاب مألوفة ” العنزة الآدمية البنت الراعية والحيزبون (الأم القاسية) والأقرع (الأب المفلس المقامر..) والشيخ (الطيب) والكهل المتواطئ المنافق… وقد تضمنت الرواية كثيرا من المشاعر والمواقف التي تعرفها حيوانات الحظيرة المطابقة لما لدى الإنسان تماما مع نوع من التماثل على الإنسان المنافق والأناني والدي يعاني نتيجة قلة عقله.” ثمة عاطفة محورية لا تغيب عن الروائي محمد مزيوقا ثمة كم يتدفق من مشاعر الإعجاب والأنس والزعامة «في موازاة واتساق مجتمعي مع ممارسات الإنسان في السياسة وطلب العلم وتشغيل الأطفال، والتحكم الذكوري والحياة البئيسة في البادية…” وقد عمل الروائي على تحليل كثير من المشاعر الدفينة لدى الحيوان كما لدى الانسان كذئيبة الذئاب، ووفاء الكلاب، وبطء وسبات السلحفاة، وتناطح الأكباش إثباتا للزعامة، وحنان الأمهات والنساء عامة والحنين إلى الأم البعيدة والتعلق بها مدى الحياة.  وتخلص رئيسة الشبكة في تقديمها المكثف البليغ ” أن الروائي يوظف الخيال ليقول حياة الإنسان على لسان الحيوان من باب التغريب والتعجيب على عادة السرد الإنساني بهدف خلق المفارقة وتشويق المتلقي، مع ظلال واقعية مبطنة يستثمر فيها الروائي تجربته وخبرته بالمعيش اليومي لرعاة البادية بكثير من التفاصيل والتعاطف الضمني. إنها رواية واقع وان تدثرت بلسان كبش في حظيرة قذرة لأسرة فقيرة” ساهم مزيوقا في تربية وتكوين الأجيال على مدى أربعة عقود. لكن عند بلوغه سن التقاعد، لم يكن ذلك نهاية علاقته بمجتمعه وقطيعة مع محيطه الصغير والكبير. بل تعززت واتسعت قاعدة صداقاته المجتمعية وتفاعله مع متابعيه على نحو ملحوظ. وقال قبل سنتين بعد تأكد إصابته بكورونا “فيالق الإمبراطور ك وفيد19 تغزو هيكلي المتهالك. وكتائب الجيش الأبيض تأمرني بملازمة المنزل. معذرة لمن التزمت معه لأنني سأخلف مضطرا. نلتقي بعد الحجر إن كان في العمر بقية” ونقتطف هذه الفقرة من الصفحة 13 من الرواية «كنت أحاول الوقوف على قوائمي الفتية، عندما لاحت مخلوقة تشبه التي حملتني من مكان ولادتي، لكنها أضخم منها حجما؛ وبعد أن تفحصتني بعيون يبدو منهما بريق شاحب، أشاحت بوجهها عني ثم توجهت نحو باب الحظيرة وهي تقول: مثيلاتها يلدن اثنين أو ثلاثة في بداية الربيع حتى يستفيد صغارهن من عشب صحي يساعدهم على النمو، بينما تتأخر صاحبتنا دائما في الإنجاب، وغالبا ما تأتينا بواحد لا يقل عنها بشاعة. سأطلب من والدك بيعها في أقرب الآجال، فهذا المسخ الهزيل الذي لا يختلف عن أطفال فقراء البشر المنتشرين في كل بلدان الدنيا “ في الأدب العالمي يطلق البعض على فن الحكايات التي ترد على ألسنة الطير والحيوان اسم الخرافات وفي حديث آخر الأساطير. وهي باقتضاب شديد كلام مكذوب وظريف على جانب كبير من الاستملاح وقد نجد   هذه “الخرافات والأساطير على شكل ”   نثري أوشعري .  وترجعه الكثير من المصادر التاريخية الى أصوله الهندية والإغريقية أوالفرعونية. وقد عرف العرب الحكاية على لسان الحيوان معرفة تامة منذ العصر الجاهلي. ويزخر الشعر الجاهلي بجبال من هذه الحكايات والخرافات المستظرفة ولعل اهتمام الأدب العربي بهذا النوع من الفن يجد تبريره في أمرين الأول الخوف من الحاكم، الأمر الثاني اتخاذه العبرة والموعظة الحسنة سبيلا. وعلى سبيل الختم ” لقد انتهى كل شيء أيها العجوز! غدا سيأخذنا الأقرع إلى السوق …. أنت مذبوح لا محالة. وقد أرى لحمك معروضا في أحد محلات الجزارة قبل مغادرتنا للسوق رفق مالكنا الجديد. أمي …! لماذا يذبحوننا؟ هل العشب لا يكفيهم؟”

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

حبيبتي غزة.. هكذا تغلّب الروائي يسري الغول على مآسي القتل والمجاعة

غزة- "لماذا لم تنزح إلى الجنوب؟ لم أنزح لأنني سأشعر بالخيانة إن تركت المخيم، أغيري موجود وأنا الذي أنزح؟ هل دور النخبة أن تهرب أول الناس؟ أم على النخبة تعزيز الصمود؟ المخيم هو عمقي الإستراتيجي يا صديقي".

هذا جزء من حوار بين يسري الغول وصديقه القاص الفلسطيني زياد خداش، في حين الحرب في أوجها مستعرة على شمال قطاع غزة.

وبعد التجربة القاسية والنزوح المتكرر من مخيم الشاطئ وإليه على مدار 15 شهرا سألته الجزيرة نت: ألم تشعر بالندم أنك لم تنزح جنوبا وعايشت أهوال الحرب في الشمال؟ يرد الغول مبتسما وبلا تردد "لماذا أنزح؟ إذا كان خشية الموت يجب ألا يموت الفلسطيني قبل أن يكون ندا"، مستلهما رده من قول مأثور للأديب الشهيد غسان كنفاني.

الغول كاتب وقاص فلسطيني ينحدر من أسرة لاجئة أجبرت على هجرة بلدتها في فلسطين التاريخية إبان النكبة في العام 1948، وسكنت مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، وكان له موقف صلب من النزوح جنوبا، وحمل على كتفيه مبادئه وأسرته ونزح بها مرارا من المخيم وإليه، رافضا النزوح عن الشمال، واختار "صراع الإرادة" مع محتل أراد تكرار النكبة وإفراغ الشمال من أهله.

نالت الحرب من يسري الغول فخسر الكثير من أفراد عائلته وأصدقائه ومنزله ومكتبته (الجزيرة) مواجهة الموت

نشر خداش حواره مع الغول في جريدة الأيام المحلية بالذكرى السنوية الأولى للحرب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويقول فيه "تربكني الحوارات مع أدباء غزة، أفكر في السؤال ألف مرة قبل أن أكتبه، وأتخيل الكاتب وهو يقفل الهاتف في وجهي شاتما أو ساخرا، إذ ما جدوى أن تسأل كاتبا يزاحم طابورا طويلا على رغيف خبز: هل تفكر في مكتبتك مثلا؟ أو هل تتوقع تغيرا في بنية النص؟".

إعلان

ويضيف "لكن في المقابل حين أتذكر أني أحاور كاتبا غزيا أتشجع وأمضي في أسئلتي، فالغزي واقعي إلى درجة الألم، وهو يحب أن أتعامل معه بشكل طبيعي بعيدا عن الحذر والخجل، ولديه القدرة على الإجابة عن أنواع الأسئلة حتى تلك الغبية".

يسري عضو في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، وليس كاتبا عاديا بوصف خداش الحاصل على جوائز أدبية عدة، وعنه يقول هو "سارد خطير ظهرت الحرب بهيئتها الجحيمية في آخر رواياته "ملابس تنجو بأعجوبة".

وفي هذه الرواية -التي كتبها قبل الحرب- يقول الغول للجزيرة نت إن فكرتها تعود إلى ما بعد حرب 2014، وفيها يستشرف الحرب التالية وتفاصيل كثيرة وقعت بالفعل خلال حرب الإبادة التي أعقبت عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

رواية "ملابس تنجو بأعجوبة" استشرف فيها الغول الكثير من التفاصيل المؤلمة والقاسية لحرب الإبادة الاسرائيلية على غزة (الجزيرة)

مرت بيسري تجارب قاسية مريرة جعلته يساوي بين "الموت والحياة"، وعن حياة صنعتها الحرب في غزة يقول "الحياة في غزة عبارة عن طابور طويل، تستيقظ لتقف في طابور من أجل تعبئة المياه الصحية -وهي بالمناسبة لا تصلح للاستخدام الحيواني- ثم تلبس بعد غسل وجهك للتوجه نحو المخبز، للوقوف في طابور أطول، وبعد ساعتين تعود لتتناول الإفطار".

ويضيف "ثم على عجل تخرج لاستلام مساعدة (طرد غذائي) وطابور جديد تحت صهد الشمس، ثم تعود منهكا لبيتك، فيخبرك أحدهم أن البئر ستعمل وعليك الوقوف في طابور جديد وحمل غالونات المياه برفقة الأطفال، بأجسادهم الغضة الطرية، ومع كل هذا أنت بانتظار طابور الراتب وطابور العلاج الصحي وطابور شحن الهاتف، وأخشى أن يأتي وقت لنصطف فيه طابورا لأجل دفن الموتى (..)، وبعد كل هذا العناء تعود لتنام في خيمة".

لقد اكتوى الغول بالحرب وناله من جحيمها نصيب وافر، هل فقدت أصدقاء في الحرب؟ يجيب يسري "يا صديقي، فقدت المئات منهم، أنا أصاحب أي شخص، أصاحب أعمدة الإنارة والشوارع والأشجار، هؤلاء أيضا أصدقاء فقدتهم (كتّاب وجيران وأقارب)، استشهد من عائلتي أكثر من 220 شهيد، ومن جيراني ربما 17 شهيدا، ومن زملائي ربما 20 شهيدا، وربما أكثر، وحبيبي الكاتب نور الدين حجاج طلبت منه أن يكتب وصيته، أرسلها إليّ ثم استشهد بعدها بأيام، فقدنا كل شيء، نحن أصلا فقدنا أنفسنا".

الغول كان مصدر أمل وتفاؤل بالنسبة لجيرانه كبارا وصغارا في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة (الجزيرة) مواقف من خوف ودم

ويصف الغول الجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق الصامدين في شمال القطاع بأنها بـ"حفلات شواء"، وفي واحدة من هذه الحفلات التي كان جنود الاحتلال يتلذذون بها بعذابات الأبرياء العزل، ويقول "يأخذون البعض ويقتلونهم أمام عيون زوجاتهم وأطفالهم، والشواهد كثيرة، كما جرى مع ابنة خالي هبة عاشور الغول (سالم ديب) التي قُتل زوجها وطفلتها أمام عينيها، حين قاموا بتعذيبهم بأعقاب البنادق، وقد أطلق الجنود يومها الرصاص على العائلة كلها".

إعلان

ويتابع "ولأن هبة تخاف على ابنتها الصغيرة بكت وقالت للجندي "حرام عليكم، لسه صغيرة"، فضحك الجندي بِغِلّ وقال بعربية مكسرة "راخ أريخك منها" (أي سأريحك منها)، ثم أطلق النار على رأس الطفلة التي لم تبلغ من عمرها 5 سنوات بعد".

وفي ليلة كان الجوع فيها يعبث بيسري كما تعبث الريح بالورق، وكانت أياما عصيبة اضطر كغيره لأكل أعلاف الحيوانات، يقول "طرقوا الباب في الليل، كانت الثالثة فجرا، وصوت القذائف لا يتوقف، القصف في كل مكان بمدينة غزة، لم أكن نائما، ولم أكن خائفا، لقد اعتدنا الموت وبتنا بانتظاره مذ جاءت الحرب، قلت بصوت جهوري خشن: مَن بالباب؟ لم يرد الطارق، أو ربما همس ببعض الكلمات".

يسري الغول رفض النزوح جنوبا وعايش أهوال الحرب الاسرائيلية صامدا في شمال قطاع غزة (الجزيرة)

 

ويتابع "فتحت الباب رغم توجسي من قوات إسرائيلية مستعربة قد تحاول إحداث فجوة أمنية في الليلة الأولى من رمضان (الأول بعد اندلاع الحرب)، لكني فوجئت بشبان يافعين بوجوه نضرة ظهرت قسماتهم من خلال "الكشاف" الذي أحمله".

وأضاف "طلبوا مني إطفاء الإنارة بأدب جم، في حين أعطاني أحدهم 3 علب من اللحم "لانشون" صغيرة الحجم، وقال "سامحونا ع تقصيرنا، هذا ما نستطيع أن نقدمه لكم، ثم انصرفوا يطرقون أبواب بيوت الجيران بيتا بيتا، يحملون السلاح والطعام، بعصب خضراء وسمراء على أكتافهم اليمنى".

ويضيف الغول "ليلتها -ويشهد الله- لم يكن عندنا سوى رغيفين وحفنة زعتر كانت سحورنا إلى جانب تلك العلب، وقد أفطرنا يومها بعض الأعشاب "عشبة اللسان" ببهجة لا توصف.. أيام لا تنسى.. حفظ الله رجال العصبة السمراء والخضراء وكل الرؤوس التي ترفع اسم فلسطين عاليا في السماء".

"شهادات على جدران حبيبتي غزة" تجارب عايش يسري الغول تفاصيلها بنفسه في شمال قطاع غزة (الجزيرة) حبيبتي غزة

في إحدى كتاباته تحت النيران يقول الغول "ما عدت قادرا على الكتابة، أستيقظ وقد شغلني الألم عن كل شيء، العظام كأنها نخرت، والجسد تكلس عاجزا عن إيجاد حلول لكل الأزمات المتراكمة، كما أن فرصة شحن اللابتوب ضئيلة، بالإضافة إلى عدم وجود مكان هادئ تكتب فيه، أو طاولة تجلس لتوثق عليها انكساراتك".

إعلان

ويتابع "حتى المساء يأتي بالبرد والعطش والعتمة، ضغط رهيب يفوق الكلام والصور، أين وكيف يمكن أن توثق الدمار والقصص؟ أماكن تكتظ بالقتلى، ثم تلبس لتخرج بعد كل هذا التفكير إلى الشارع، لعلك تصطدم بمركبة تعبئ المياه الحلوة، كي تصنع كأسا من الشاي على الحطب، وتنسى أنك كنت تفكر بالكتابة أو الحديث عن الحياة.. تنشغل بالنار عن الجحيم، لتصير كوميديا إلهية بنكهة غزة".

لكن هذا الروائي الصامد يأبى الاستسلام لليأس ويعشق تحدي الألم والقيود، ويستخدم مهاراته في الإقناع وتعزيز صمود الناس والجيران لمقاومة النزوح، وقد كتب بحبر الموت والألم 3 كتب وعشرات القصص والمقالات، والكثير منها ترجم إلى لغات عدة حول العالم.

الروائي يسري الغول لعب دورا مهما في تعزيز صمود من حوله وتشجيعهم على مقاومة النزوح والتهجير من شمال غزة (الجزيرة)

واحد من هذه الكتب عنونه بـ"شهادات على جدران حبيبتي غزة" وصدر في عمّان، وفيه معايشة واقعية من الغول، وتجارب حية كان هو نفسه جزءا منها أو شاهدا عليها، كرحلته في البحث عن زوجته وقد فرقهما التيه في واحدة من رحلات النزوح القسرية.

وله أيضا شهادة "الطريق إلى المعمداني" حيث يرقد والده مصابا مبتور الساق، ومغامرته تحت القصف وسيره في طرق وعرة مدمرة ومن فوقه "طائرات تتربص بالضحية التالية كحيوانات مفترسة" ليصل إلى مكتبه بحثا عن مذكراته الشخصية.

ويقول الغول إنه لم يحتج في هذه الشهادات إلى الخيال، فالواقع كان أشد بؤسا من الخيال بفعل احتلال ارتكب كل الموبقات والمحرمات.

مقالات مشابهة

  • البخيتي: حضور السفير السعودي اجتماع واشنطن يكشف عن مخطط عسكري يستهدف اليمن لصالح “إسرائيل”
  • محمد إمام يعلّق على إشارة “العتاولة 2”: إحساس لطيف!
  • “صلاح يحتفظ بالصدارة”.. ترتيب الحذاء الذهبي 2025
  • السوداني يبحث مع شركة “باور تشاينا” الصينية معالجة الأزمة الكهربائية في العراق
  • صادي يزور محمد معوش بمستشفى نفيسة حمود “بارني” سابقا
  • مفتي مصر السابق يجيب على سؤال طفلة: “لماذا أغلب أهل النار من النساء؟” (فيديو)
  • بعد رسالة نانسي عجرم “تعالى نعيش”.. محمد صلاح يرد (صورة)
  • حبيبتي غزة.. هكذا تغلّب الروائي يسري الغول على مآسي القتل والمجاعة
  • تحذير جديد من انتشار ظاهرة “لسان التدخين الإلكتروني”
  • مرايا الوحي.. حكايات المحاضرات الرمضانية للسيد القائد “المحاضرة الأولى”