بحور العلم واسعة، جملة تصنف في علم اللغة العربية أنها جملة بلاغية جمالها التشبيه بين العلم والبحر، ولكن في رأيي عيبها عدم تحري الصدق والشفافية، نعم... فالعلم أوسع من أي بحر وأروع من أي سحر وأعمق من كل ما ضربت به الأرض من جذور لا يعلمها إلا رحم الكون، والله يعلم ما لا نعلم، لذا قال وقوله الحق ما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
نذهب للمدارس صغارا لنتعلم أساسيات العلم، نتدرج السلم التعليمي درجة وراء درجة ولا ننزع عن العلم إلا العطر المحمل في قشرته، نستكمل ونتخصص، نمضي ونتثقف، ولكن هيهات أن نصل للب الثمرة، فالمعلومة هي غواية المؤمن قادرة أن تسرقه هويناً هوينا، تلقيه في غياهب الفتنة والشغف، تأخذه إلا عوالم لا يعلم المسكين أنها بلا سقف، لا تعرف الحدود ولا تتصف بالجمود ولا تؤمن بالسدود.
فهي سلسلة متعاقبة، كلما أدركت منها حلقة تعتقد أنها تعيدك للوراء حلقتين، وكل خطوة للأمام يلزمها عودة عشرات الخطوات للخلف، كوتر السهم كلما ارتد للوراء أصاب هدفه بدهاء، والعلم متشعب فهناك ملايين الفروع من فروع الفروع للموضوعات البحثية، الشديدة التخصصية.
وهذا الثراء والتعددية قد يكون عذراً مُجملاً لجهلنا ببعض الموضوعات، وضعف إلمامنا بالعديد من المجالات، وليس فقط لتنوعها الشديد ولكن أيضا لمحدودية استيعابنا وما يتحكم فينا من ميولنا وأهوائنا، لذا من المقبول أن نعرف عن كل شيء بعض شيء، وليس من المذموم أن نجهل عن شيء أي شيء.
ولكن حديثي هنا عن الشيء وليس هذا العلم الذي لا يماثله شيء، فكيف نغفل ما يجب ان نعلم، فإذا لم نعلم عن أنفسنا ونتعلم عن ذاتنا ونتعرف على الأصل في كل أمورنا، فيا ويلنا مما أوقعنا فيه جهلنا!
علم الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان هذا العلم الذي يهتم بدراسة أصل الحياة والقائم عليها والسر في استمرارها والسبب في تهالكها، وربما أفعاله هي الدافع لفنائها.. أنه الإنسان.
واسم العلم ينقسم لشقين (الأنثرو) وهو الإنسان و(لوجيا) وهي دراسة، وكعادة غالبية أسماء العلوم فالاسم لاتيني، لكن العلم بذاته ليس بعلم منذ الأزل كسائر العلوم الأساسية والطبيعية القديمة، فبعضها عمره من عمر الأرض، فالعلم بشكله الحالي لم يظهر إلا من قرن من الزمان على طاولة الطب لدراسة تشريح الإنسان ومساعدته على التخلص من الأمراض التي لازمته على مر الزمان.
وفيما يبدو أن الإنسان انشغل بمعرفة كل ما يحيط به فلم يعد لديه متسع من الوقت والجهد ليدرس نفسه، ويبحث سلوكياته بدقة وعلاقاته مع محيطه بطريقة حقة، وماضيه بصورة مستحقة وتأثيرات ما صنعه من حضارة على كل ذلك، أكتفي بالعلوم الأخرى التي قدمت بالطبع ابحاثا جليلة في علوم الاجتماع والنفس والفلسفة، ولكن يظل علم الإنسان أو الأنثروبيولوحيا هو علم ذو طبيعة خاصة، لأنه يدرس الإنسان دراسة شمولية، لذا له قدرة على بحث وتحليل ما لم تقدمه أفرع العلم الأخرى من أبحاث تدرس الإنسان ولكن من زوايا محددة وفي إطار من قوانينها المُحدِدة. تنقسم فروع علم الإنثروبولوجيا إلى ثلاث تخصصات أساسية وهي الإنثروبولوجيا البيولوجية والاجتماعية والثقافية، وتستند في دراستها إلى عاملين الموضوعية أي الدراسة بتجرد من أفكار الحب والكراهية، والنسبية التي تفهمت أن الإنسان يختلف بحسب الزمان والمكان، بل الشخص نفسه يتغير من زمان لزمان ومن مكان لأخر.
ويقوم أيضا هذا العلم على تفسير الظواهر بحسب رؤية الباحث الشخصية ليصل إلى نظرية، مثل رؤية كارل ماركس للمجتمعات القائمة على فكرة الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية، وهناك من تبني عكسها وهي النظرية الليبرالية.
تتعدد التوجهات الفكرية لعلماء الإنثروبولوجيا بين التوجهات النفسية والوظيفية، وهناك التوجهات الأكثر تفسيرية، حيث حاول البعض تفسير النظام الإنساني بالتوجه النشوئي وهو البحث عن كيفية نشأة النظام، بينما اتجه البعض للاتجاه التطوري الذي ربط التغيير في النظام الإنساني بالدين وفكرته عن تكوين العائلة سواء بالتعددية أو الفردية.
وربما من أشهر التقسيمات الموجودة في هذا الاتجاه من علم الإنسان هو مروره بثلاث مراحل متتالية من الوحشية والبربرية والحضارة، بينما قسم أخرين المجتمعات الإنسانية لخضوعها تتابعيا لسطوة السحر ثم الدين فالعلم.
وربما من أجمل اتجاهات علماء الإنثروبولوجيا الفكرية هو الاتجاه الانتشاري، الذي يرجع نقاط التشابه بين البشر نتيجة الاحتكاك الناتج في بداية الأمر من الغارات البدائية ومرورا بالحروب الاستعمارية وحتى التجارة والهجرة.
وكما يؤكد هذا الاتجاه بمدارسه الثلاث الأمريكية والإنجليزية والألمانية، أن مصر هي أصل الدنيا ومنها انتشرت الحضارة لكل الدنيا، وجاء ذلك جليا في كتاب التواريخ لهيرودوت الذي سجل فيه من خلال تسعة فصول شهادته عن 50 شعبا التقى بهم خلال رحلاته، والذي وصف فيه مصر أنها هبة النيل الفريدة في جوها وطبيعتها ونيلها الذي ليس كمثله نهر في العالم أجمع، لذا هي مختلفة في عاداتها وجامعة في سننها ومتفردة في إبداع حضاراتها وأسبقيتها في كل مناحي البناء والعلم والعمارة.
وبتطبيق مفاهيم هذا العلم سنجد أن الحضارة المصرية القديمة أول من عرفت علم الإنسان، الذي أسس لحياة سرها الخلود ليوم أن ينتهي الوجود، ليعرفه العالم بعد ذلك بألاف السنوات حيث لم يأخذ علم الإنثروبولوجيا طابعاً أكاديمياً إلا في منتصف القرن التاسع عشر، وذلك في ظل ثلاث متغيرات انعكست على الحياة الإنسانية يمكن تحديدها في الثورة الفرنسية والصناعية والعلمية، التي أحدثت ثورة في البشرية، كتلك التي أحدثها أجدادنا وقاموا بتوثيقها على جدران المعابد من طريقة صنع الخبز وتجهيز الأعراس مروراً بكل ما يمر بحياة الإنسان وتطرق له الأجراس وحتى كيفية إدارة الجنائز والعناية بالعجائز،
وهذا جذوة علم الإنسان أن تكون تفاصيله البسيطة قبل العظيمة متاحة لفك شفرته المعقدة.
أطلق عليه البعض علم الاستعمار، وبرأيي هو العلم الذي يجعل الإنسانية أكثر تكيفاً واستمرار، حيث أن المستعمر كان يقرأ ما يكتبه المستشرق عن البلاد التي يحتلها، فيعرف كيف يغازل شعبها تارة وكيف يستغل نقاط ضعفها ويضعف نقاط قوتها، على سبيل السرد لا الحصر كما فعلت انجلترا مع الهند والحملة الفرنسية في مصر ولكن لأنها مصر زوجنا مينو قائد الحملة الثالث لزبيدة وأعلن الرجل أسلامه وجمع رجاله وأعدناه أدراجه بعد ثلاث سنوات فقط من الاحتلال الفرنسي.
نعيش ونتعلم، ويعيش المعلم ولا يتعلم، جملتان مصريتان صميمتان قد يبدو عليهم التناقض للوهلة الأولى، لكن بعد تدبرهما ستجد اتساقهما، فالعلم والحياة متلازمتان لمن أراد الحياة، ومن يبتعد عن سبل العلم فهو يعيش دون أن يحيا، والجميل بكل عِلم أو في درب من دروب العلم أن مصر كانت أول العالمين وباكورة المعلمين، وهذا ميراث لو تعلمون عظيم، يفرض علينا أمانة الحفاظ عليه والعمل الجاد للاستزادة منه، فكما ترك لنا الأجداد واجباً علينا أن نترك للأحفاد المزيد من التركات التي تحمل البصمة المصرية ذات الهوية الجامعة للأعمدة السبعة الراسخ بعضها في حياة الإنسان أينما كان، وجميعها نسيج من الشخصية المصرية على وجه التحديد وهي جلية في تفاصيلها دون الحاجة للتفنيد.
وإن كانت مصريتي تصبغ كلماتي بالعشق والافتتان الذي يدعوني للإيمان بإن علم الإنسان ابتدعه جدي المصري المهندس والعالم والطبيب والفنان، فذلك من حقي أليست حضارته تحير العالم حتى الان!
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: علم الإنسان هذا العلم
إقرأ أيضاً:
منى أحمد تكتب: تحديات الرئيس الـ47 للولايات المتحدة
جاءت قرارات الساعات الأولى لتولي سيد البيت الأبيض ، لتؤكد عزمه تنفيذ الوعود الاِنتخابية التى قطعها، منها المثير للجدل والمتعلق بملف الهجرة والجنسية وحقوق المواطنة ، زيادة التعريفة الجمركية مقابل الإعفاءات الضريبية ، بالإضافة إلي تعليق المساعدات الخارجية لمراجعتها والاِنسحاب من بعض الاِتفاقيات والمنظمات الدولية.
وحمل خطاب التنصيب رغبة حثيثة من الرئيس دونالد ترامب في طرح نفسه كصانع للسلام وموحد العالم ، لكن هل ينجح حقا فى تسوية الصراعات الموجودة على الساحة العالمية.
يأتى إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية ليمثل التحدى الأكبر لتلك الرغبة، و التي يريد من خلالها أن تكون إرثا له ،وهو من أصعب الملفات الشائكة بالنظر إلى الوضع الراهن فى ساحة المعركة، ونظرا لتشابكها مع المصالح الأوروبية فهل يمتلك ترامب مفاتيح الحل فى هذا النزاع المعقد.
قد يرى ترامب أنه نجح فيما فشل فيه سابقه بالتوصل إلى اِتفاق تهدئة ووقف لإطلاق النار فى غزة ، لكنه فى الوقت نفسه لا يضمن استمراريته بإعترافه خلال حفل تنصيبه ، وتناقض يشكل ثانى أكبر تحدى يواجه الصورة الذهنية التى يحاول ترسيخها كصانع للسلام.
مسار القضية الفلسطينية ثانى أكبر تحدى يواجه المنطقة العربية ، فخلال ولاية ترامب السابقة ،اِتخذت إدارته قرارات سياسية داعمة بشدة لإسرائيل ، كان أبزرها نقل السفارة الأمريكية للقدس و الإعتراف بها كعاصمة لإسرائيل فى تحد صارخ لحقوق الشعب الفلسطيني ، وهو ما آثار موجة اِستِنكار عربية.
ولم يكتف الجالس علي المكتب البيضاوي بهذا بل اعترفت إدارته بالوجود الإسرائيلي على مرتفعات الجولان السورية، وهو ما ينقلنا للحديث عن الوضع السورى ، و رغم تجاهل ترامب للأحداث الأخيرة بسوريا يثار تساؤل هام ، حول إمكانية اِتِّخاذ قرارات نافذة بشأن سوريا الجديدة ، خاصة بعد تصنيف إدارته السابقة لهيئة تحرير الشام التى ينتمى إليها أحمد الشرع كجماعة إرهابية ،وتقاطعات تجيب عليها الأيام القادمة.
إيران واحدة من أكبر التحديات الكبرى التى تواجه واشنطن فى مجال السياسة الخارجية ، حيث شهدت الفترة الرئاسية السابقة لترامب توترات أفضت إلى اِنسحابه من الاِتفاق النووى خمسة- واحد, و فرض عقوبات اِقتصادية صارمة وهو ما ألقى بظلاله القاتمة على الاِقتصاد الإيراني، وهو ما تخشاه إيران حال استمرار سياسات ترامب المتشددة فهل يميل للتصعيد أم للتهدئة فى ظل متغيرات دولية وإِقليمية.
ومع ذكر إيران لابد من الحديث عن حلفائها، و الذين تعرضوا لهزائم سياسية وميدانية فى سوريا ولبنان والعراق جراء الأحداث الأخيرة ، ولم يتبقى سوى التهديد الحوثى فهل تستمر الإدارة الأمريكية الجديدة في توجيه ضربات عسكرية لتدمير بنيته التحتية وصد هجماته التى تهدد الملاحة البحرية وإسرائيل.
نقطة التقاطع فى المصالح الأمريكية الأوروبية أحد أهم الملفات التى تواجه ترامب، وتعود للطرح مرة أخرى وفى مقدمتها مستقبل حلف الناتو ، معاهدة الدفاع المشترك والإنفاق العسكرى فى ظل خلافات سابقة بين واشطن والحلفاء الأوروبيين خلال فترة الرئاسة الأولى لترامب.
وتشكل بكين تحدى أخر لترامب على خلفية الحرب التجارية وصراع النفوذ، فالتحدى الأبرز للهيمنة الأمريكية عالميا هو المنافس الصيني اللدود ،لذلك وعد ترامب بزيادة التعريفة الجمركية على المنتجات الصينية ، واِتخاذ عقوبات تجارية لكن هل يستطيع أن يكبح جماح التنين الصيني سياسيا و اِقتصاديا.
علاقات الإدارة الأمريكية سواء بجيرانها أوبحلفائها أومن خلال إستراتيجياتها فى التعاطى مع العديد من القضايا متوقعا لها أن تشهد الكثير من المفاجات التى ستحملها السنوات الأربع القادمة ، فى ظل شخصية مثيرة بتصريحاتها وقراراتها ولا يمكن التنبؤ بأفعالها.