غزة الجريحة بين جرائم الحرب والإبادة الجماعية
تاريخ النشر: 19th, November 2023 GMT
"كسور في قاعدة الجمجمة، وكسور متعددة وتفتيت للعظام، وإصابات في الهياكل الحيوية وفقدان الأطراف وجروح عميقة، وشلل رباعي ونصفي، وتمزق رئوي وفقدان الأنسجة وحروق وصدمات نفسية، وجثث أطفال محترقة جزئيًا وبالكامل".. هذا بعض ما سجلته التقارير الطبية التي وَثَّقَت حالات ضحايا القصف المتكرر للمدارس والمستشفيات ومراكز إيواء النازحين والمناطق المُكتظة بالمدنيين الأبرياء في غزة، بعد السابع من أكتوبر 2023، وجميعها جرائم تؤكد أن قوات الاحتلال الإسرائيلي تنفذ، عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، جرائم "تدمير كُلّي وجزئي" لقطاع غزة لتفريغه من أبنائه، بداية من قتل أكبر عدد من الأطفال والنساء والعمل على تهجير مئات اﻵلاف إلى الدول المجاورة، ثم إخضاع من يتبقى منهم لسلطة الأمر الواقع.
وتُعرّف الجمعية العامة للأمم المتحدة "الإبادة الجماعية" في المادة الثانية من "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمُعاقبة عليها" بأنها الأفعال "المُرتكبة بقصد التدمير الكُلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية"، ومنها: "قتل أعضاء من الجماعة، وإلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم بأعضاء من الجماعة، وإخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، وفرض تدابير تهدف إلى الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، ونقل أطفال من الجماعة عنوة، إلى جماعة أُخرى"، وتنص المادة الثالثة من الاتفاقية على "معاقبة مرتكب الجريمة والمتآمر والمُحرض المباشر والعلني على محاولة ارتكاب أو الاشتراك في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية"، وينتقل العدوان على غزة الجريحة، بخطوات وقفزات يومية متسارعة من جرائم المجازر والهجمات البربرية المتعمدة ضد المدنيين إلى جرائم الإبادة الجماعية المُمنهجة في غزة دون رادع.
وتقدم شهادات الأطباء في مستشفيات غزة والتقارير الطبية عن المصابين وحالات الوفاة توثيقًا لجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، بعد أن فرض حصارًا خانقًا على المستشفيات واقتحم عددًا منها وقصف الآخر بقنابل خارقة للحصون وصواريخ مدمرة، وتعمد تدمير مخازن الأدوية والبنية التحتية للمستشفيات والمراكز الطبية، كما استهدف سيارات الإسعاف بالقصف المتكرر، ولم يترك منفذا لإنقاذ الأطفال والحالات الحرجة إلا وأغلقه، ومنع الفرق الطبية من نقل الموتى إلى المدافن، ودفع بعض المستشفيات إلى حفر مقابر جماعية لمنع انتشار الأوبئة بعد تحلل مئات الجثث.
ولم يجد الأطباء مفرًا من بتر أطراف بعض المصابين دون تخدير كامل، والمفاضلة بين حالات من المصابين لإنقاذ حياة الحالات الحرجة التي تصارع الموت أولًا، ثم الانتقال إلى إنقاذ حالات أخرى تصارع الألم ويمكن أن تبقى على قيد الحياة لبضعة أيام، وقد تعايش الأطفال المصابون بالسرطان مع آلامهم بلا علاج أو أدوية ضرورية لمدة تزيد على الأربعة أسابيع في مستشفيات غزة التي تعاني من نقص كامل في كافة الأدوية والمستلزمات الطبية، ولجأت الفرق الطبية إلى وضع كل 3 حالات في حضانة واحدة لإنقاذ البقية الباقية من الأطفال حديثي الولادة، ولم يجد الأطباء مفرًا من علاج العشرات على الأرض في طرقات العيادات بما هو متاح من أدوية ومستلزمات طبية، كما حدث في مجمع الشفاء الطبي الذي تحول إلى "منطقة موت" كما ورد في تعريف وفد منظمة الصحة العالمية الذي شاهد المأساة رأي العين في زيارة قصيرة يوم السبت الثامن عشر من نوفمبر 2023م.
وقد أكدت وزارة الخارجية الفلسطينية أن إسرائيل تستخدم قنابل الفوسفور الأبيض المُحرم دوليًا في قصف مناطق مكتظة بالسكان في قطاع غزة، وأصدرت منظمات حقوقية دولية بيانات تؤكد أن إسرائيل استخدمت قنابل الفسفور في قصف المدنيين الأبرياء في غزة، كما استخدمته في قصف البلدات الحدودية اللبنانية.
وقالت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها عن "الفوسفور الأبيض" إنه "مادة كيميائية صلبة شمعية مائلة للصفرة أو عديمة اللون، ويشتعل فورًا عند تعرضه للأكسجين، وتستخدمه الجيوش لإضاءة ساحات القتال وتوليد ستار كثيف من الدخان، وباعتباره مادة حارقة يكون من الصعب جدًا إطفاؤه، ويلتصق بالأسطح مثل الجلد والملابس، ويتسبب في حروق عميقة ويخترق العظام، ويشتعل من جديد بعد العلاج الأولي"، وذكر التقرير أن الفوسفور الأبيض يلحق أضرارًا قاتلة بالعينين والجهاز التنفسي، ويمكن أن تشمل التأثيرات المتأخرة اضطرابات القلب والأوعية والانهيار القلبي الوعائي، بالإضافة إلى تلف الكُلَى والكبد وانخفاض مستوى الوعي والغيبوبة، وقد تحدث الوفاة بسبب الصدمة أو الفشل الكبدي أو الكُلَوي أو تلف الجهاز العصبي المركزي أو عضلة القلب".
ولا يزال الاحتلال الإسرائيلي مستمرًا في جرائمه البربرية ويهدد بالمزيد والمزيد من الجرائم شرقًا وجنوبًا، وتعجز آلاف الكلمات عن وصف جرائم العدوان الغاشم على غزة، ويجب الاستمرار في توثيقها وإعداد ملف متكامل يتم تقديمه إلى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، ولعل التعجيل بهذه الخطوة يؤدي إلى وقف إطلاق النار وإنقاذ ما تبقى من المقهورين في غزة الجريحة.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: الإبادة الجماعیة فی غزة
إقرأ أيضاً:
فيلم الفتاة حاملة الإبرة : صورة أطفال ونساء الحرب في دراما بالأبيض والأسود
في السينما الواقعية شاهدنا استمرارية ملفتة للنظر في تقديم قصص وشخصيات تحمل الكثير من عناصر الجذب والتأثير في جمهور المشاهدين، استمرارية قائمة على سرد هو اقرب الى المعاناة الإنسانية وحيث تحتشد عوامل موضوعية شتى لتقدم لنا شخصيات محاصرة بأزماتها او بواقعها الذي لا يخلو من صعوبات وتعقيدات.
هذه الخلاصة درجت عليها أفلام غادرت الى حد كبير كثيرا من مرويات الفانطازيا والقصص الغرائبية او الخيالية او الميلودرامية واتجهت الى ما هو اقرب الى الواقع واكثر تعبيرا عنه وتكاملا معه ومن ذلك وقائع الحروب والصراعات والتحولات الجذرية التي تشهدها المجتمعات.
هذه المقدمات نجدها تنطبق الى حد كبير على هذا الفيلم للمخرج السويدي ماغنوس فون هورن الذي يقدم لنا فيلما حديثا مشبعا بكثير من العناصر الأكثر واقعية والشخصيات المحاطة بقوى وتوازنات اجتماعية خانقة ولا فكاك منها.
ها نحن في العام 1921 وتكون الحرب العالمية الأولى قد نشبت وبدت انعكاساتها واضحة على حياة المجتمعات الأوروبية ومنها الدنمارك حيث يسيطر الفقر على عامة الناس وتعيس طبقة هشة من العاملين على الهامش ومن بينهم كارولين – الممثلة فيك كارمن سون، التي تعمل في أحد مصانع الخياطة وسط حشد من النسوة الفقيرات، وهناك تحظى بعطف مالك المصنع لتتطور العلاقة بينهما الى الزواج الذي سرعان ما ترفضه الام المتغطرسة لأسباب تتعلق بالفوارق الطبقية التي كانت سائدة آنذاك بين الفقراء والاغنياء.
ها نحن مع اليوميات الأكثر واقعية التي تعيشها كارولين سواء يومياتها في العمل في مصنع الخياطة او سكنها البائس في غرفة لا تتمكن من دفع ثم استئجارها وصولا الى طردها من العمل ولقائها بالصدفة مع داغمار – الممثلة تريني دايرهولم التي تبدو اكثر إنسانية وتعاطفا مع ازمة كارولين ومساندة لها لاسيما في اشد الأوقات حراجة وقتامة في حياتها عندما تكون في مرحلة الوضع ثم فجأة ظهور الزوج الذي كانت الحرب قد ابتلعته واختفى ليظهر فجأة وهو مشوه الوجه.
يستخدم المخرج ببراعة جماليات الأبيض والأسود ليقدم لنا صورة ذلك الواقع القاتم، وهنا يحسد حركات الكاميرا والاضاءة والمونتاج لكي يمضي قدما في استكشاف ذلك العالم المغلق والحزين الذي تعيشه كارولين قليلة الكلام ولكن كثيرة التعبير والايحاء.
وفي هذا الصدد تقول الناقدة السينمائية هانا والش في موقع مس فليكس، " إن هذا الفيلم هو ليس فيلم رعب بالمعنى السائد؛ إنه دراسة شخصية مقنعة تغازل نوع الرعب حتى النهاية، لا ترى أيًا من عمليات القتل بالتفصيل ولكن هنالك ما يكفي لتشعر بالصدمة والاضطراب. القصة قاتمة ومرعبة وتصاحبها موسيقى تصويرية متقنة وذات دلالة في كثير من الأحيان".
اما الناقد روري ويلدينغ في موقع ايبتي كوميكس فيقول" ان العالم الذي يقدمه فيلم الفتاة ذات الإبرة هو عالم قاسٍ، وحيث بقي عنصر الرعب متسيدا وربما ساهم في ترك بعض المشاهدين في حالة من الصدمة، مع مشاهد العنف المنزلي والأسوأ من ذلك، إساءة معاملة الأطفال.
على الرغم من مدى قتامة الفيلم، الا أن ما يلفت النظر هو اداء كارولين، التي قدمت أداءً متعدد الأوجه بشكل غير عادي ، من خلال مرورها بمراحل مختلفة من الإرادة القوية والضعف والقلق المدمر للذات".
يتميز الفيلم بمسارات سردية متداخلة تبدو للوهلة الأولى وفي القسم الأول من الفيلم على انها شديدة البساطة واقرب الى اليوميات المعتادة التي لا جديد فيها الا النمو المتصاعد للدراما الذي سوف يفتح امامنا مسارات سردية متعددة لعل من ابرزها هو ذلك المرتبط بشخصية داغمار، المرأة الإيجابية التي لا تتردد في تقديم يد المساعدة لكارولين، لكن ما هو غير متوقع ان ينقلب البناء الدرامي جذريا ويتحول من كارولين الى داغمار او الى جعلهما ركنا تلك الدراما الفيلمية.
داغمار التي تستقبل النسوة المأزومات من حوامل او مرضعات وتساعدهن من خلال المقهى الذي تديره تلفت نظر كارولين فتتساءل يا ترى اين ذهبت بطفلتها وباقي الأطفال المنحدرين من عائلات فقيرة لا تستطيع اطعامهم ورعايتهم، بينما دغمار هي التي تسهل الحاق أولئك الأطفال بعائلات ثرية تقوم بعملية التبني.
لكن لم يخطر على البال قط ان داغمار هي ليست الا قاتلة متسلسلة معروفة تاريخيا في الدنمارك في تلك الحقبة وبذلك سوف ننتقل في تسليط الضوء على ازمة كاترين والى ما تفعله داغمار وما تخبؤه وما تقترفه من جرائم مغطاة بخديعة المساعدة لأشد الفئات والشرائح فقرا وهشاشة.
يحفل الفيلم بجانب وجداني وحسي وهو الذي يرتبط بمسألة الاحساس بالامومة ذلك الذي يؤطر حياة اغلب الشخصيات النسائية التي ظهرت في الفيلم سواء الشخصيات الرئيسية او الثانوية، فمن يتخلصن من اطفالهن يؤلمهن ذلك القرار القاسي ويعشن لحظات تسليم الأطفال واستلامهم بما تحمله من قسوة وكل ذلك في اطار دائرة نسائية ركناها الثنائي داغمار / كارولين.
واذا امعنا البحث والتحليل في تلكما الشخصيتين فسوف نجد ان لقاءهما وتواصلهما يحما في ثناياه طباعا مختلفة كليا ونزعات اكثر ذاتية ترتبط بكل منهما وذلك من خلال مسارين سرديين لم تظهر نتائجهما الا بعد افتضاح جرائم داغمار ومن ثم عودة كارولين الى زوجها الجندي العائد من الحرب بوجه مشوّه وذات محطمة.
في المقابل وفيما يتعلق بشخصية داغمار، فإن الملاحظ هو عدم منحها وقتًا كافيًا على الشاشة حتى نتمكن من فهم دوافعها الحقيقية، لأن القصة تُروى غالبا من وجهة نظر كارولين، لهذا سوف لا نعرف الكثير عن فكرة وشخصية القاتل المتسلسل الذي تجسده داغمار باستثناء مشهد المحاكمة القصير الذي ظهر في قرب نهاية الفيلم.
واما اذا انتقلنا الى الجانب الموازي، وهو المتعلق بالنسوة اللائي يحتشدن في مصنع الخياطة او هنّ أمهات عاجزات عن اطعام ورعاية اطفالهن فإننا امام مجتمع كامل يعيش تداعيات وازمات لا حدود لها وليس الثنائي داغمار / كارولين وحتى والدة جوركن صاحبة المصنع، لسن الا عينات ونماذج من ازمة مستحكمة جرى تجسيدها دراميا على وقع الحرمان وشظف العيش والمستقبل المجهول فضلا عن إحساس بالضياع واللاجدوى وانعدام الامل في المستقبل مع ان كل ذلك بدا مختلفا بالنسبة لكارولين الصابرة والصامتة والمصممة على المضي الى النهايات كيفما كانت.
....
سيناريو إخراج / ماغنوس فون هورن
تمثيل/ فيك كارمن سون – كارولين، تريني دايرهولم – داغمار، يواكيم فيلستراب – جوركن، بيسر زيكيري – بيتر
مدير التصوير/ مايكل ديميك
موسيقى / فريدريك هوفميير
انتاج/ الدنمارك، السويد، بولونيا
التقييم/ آي أم دي بي 8 من 10، روتين توماتو 93 من 100، ميتاكريتيك 82 من 100