لا شك أن الخوض في عالم الجريمة والتحري كان من الموضوعات التي اهتمت بها السينما منذ بواكيرها وخاصة عندما تمتزج الجريمة بمزيد من الغموض والخرافات وهو جانب آخر جعل عملية التحري في حد ذاتها أكثر متعة وطرافة.

وعلى هذا اتسعت مساحة التشويق والترقب التي تشكل ركنا أساسيا من بين اهتمامات جمهور السينما وتفاعله مع الأحداث التي تقدمها السينما من خلال العديد من الأفلام التي تندرج في إطار الميلودراما أو تلك التي تحقق ذلك المزيج المدهش الذي أشرنا إليه.

وأما إذا انتقلنا إلى نطاق الأدب فإن من بين ألمع الأسماء التي برعت في تقديم هذه التوليفة المدهشة ما بين التحري والجريمة والرعب والفانتازيا هي الكاتبة الإنجليزية ذائعة الصيت "أجاثا كريستي" التي تجاوز عدد الأفلام والمسلسلات المأخوذة عن رواياتها المائتي عمل وما يزال المخرجون وكتّاب السيناريو يستمدون من غزارة إنتاجها.

في هذا الفيلم يعيد المخرج والممثل الإنجليزي -الأيرلندي كينيث براناج إنتاج رواية أجاثا كريستي التي حملت عنوان حفلة الهالوين ولكن بتصرف وهنا سوف يعود بنا هذا المخرج والممثل البارع إلى شخصية التحري ذائعة الصيت هيركول بوارو وهو هنا يؤدي هذا الدور كما فعل في فيلمين سابقين أخرجهما وهما جريمة في قطار الشرق السريع 2017 وفيلم جريمة على النيل 2022.

تشكل شخصية التحري البلجيكي بوارو ركنا مهما في العديد من روايات كريستي بل إنه صار علامة فارقة في مسار منجزها الغزير فضلا عن الشخصية النمطية التي جسدها المخرج براناغ كما جسدها قبله قرابة 25 ممثلا وقدمتها الكاتبة أجاثا كريستي في 33 رواية من رواياتها ابتداء من العام 1920 وحتى العام 1957.

يجسد براناغ المخرج شخصية بوارو التحرّي الذي اختار أن يتقاعد وأن يقيم في مدينة البندقية الإيطالية محاطا بمزيد من الاهتمام حتى تدعوه الكاتبة أريدان أوليفيه – تقوم بالدور الممثلة تينا فاي، وهي شخصية متكررة أيضا في أعمال أجاثا كريستي، تدعو بوارو لحضور جلسة تحضير أرواح كجزء من عملها في كتابة قصص الرعب والفانتازيا، وبالطبع أن دعوة كهذه لا تنسجم مع طبيعة بوارو الذي لا يهتم مطلقا بالخرافات والافتراضات بقدر بحثه عن الأدلة القطعية والمادية الملموسة.

والقصة برمتها تتعلق بوفاة فتاة شابة على أساس أنها أقدمت على الانتحار لأسباب نفسية ولهذا تريد الأم المفجوعة كيلي -تقوم بالدور الممثلة كيلي ريلي- أن تحاور ابنتها وتتأكد فيما إذا كانت تلك الابنة قد قتلت من طرف خطيبها أم أنها انتحرت فعلا؛ لأن لديها شكوكا في سلوك خطيب الفتاة ولهذا يتم جلب وسيطة روحانية هي الممرضة جويس رينولدز -تقوم بالدور الممثلة ميشيل يواه- وبذلك تكتمل شخصيات تحضير الأرواح الرئيسية بمن فيهم مدبرة المنزل والشاهدة على موت الفتاة فضلا عن خطيبها ومرافق التحري بوارو.

تمزج شخصية بوارو في هذه الدراما المتميزة بين المكر والدهاء من جهة والمراوغة واستدراج الآخرين من جهة أخرى والأمر كله مرتبط بذكاء الشخصية ولهذا تبدو منطلقات بوارو في رفض الخرافات وإنكار عملية تحضير الأرواح برمتها مستغربة للوهلة الأولى لاسيما مع التحولات المذهلة التي تطرأ على الوسيطة الروحانية جويس والتي سوف تكون نهايتها مشابهة لنهاية الفتاة التي قامت بجلسة تحضير الأرواح من أجلها وذلك لغرض التأكيد بأن من يخوض في هذا الموضوع سوف تكون نتيجته الموت.

يؤسس المخرج مشاهده الافتتاحية على صورة مدينة فينسيا الإيطالية في أحد صباحاتها التي تعود إلى العام 1947، لقطات متميزة ومشبعة بالعناصر الجمالية للزوارق وهي تشق المياه فيما يجتمع الناس أمام الأفران لشراء الخبز في الصباح حتى إذا بدأ بوارو يومه لاحقه الباحثون عن الحقيقة، فهم ينتظرونه باستمرار أمام بيته لطلب العون منه لفك لغز قضية تتعلق بموت أحد أقاربهم، لكن بوارو المتقاعد لم يعد مهتما بمهمة التحرّي حتى تزوره بحسب موعد مسبق الكاتبة أريدان أوليفيه التي ذاع صيتها وتريد من بوارو أن ينظم إليها في ليلة الهالوين لحضور جلسة أرواح مؤكدة أنها اختبرت عشرات الروحانيين لكنها لم تجد أكثر براعة من الوسيطة الروحانية جويس رينولدز التي كانت خرجت توا من السجن على خلفية تعاطي السحر.

على وفق هذه الأرضية سوف يدخل بوارو تلك الدائرة حذرا من جهة ومتيقنا من قدراته في استكشاف أمر ذلك الملجأ القديم للأيتام الذي يقال إنه مسكون بأرواح تتعذب وإن بإمكان الوسيطة الروحانية أن تتواصل مع أولئك الضحايا، كل ذلك يجري على خلفية الاحتفال بعيد جميع القديسين وهو الهالوين بازيائه الغرائبية وصراخ الأطفال وابتهاجهم ثم الانتقال إلى عرض لمسرح خيال الظل في تمهيد بصري ملفت للنظر لما هو قادم من أحداث.

هذا التمهيد البصري جمع فيه المخرج مجموعة من العناصر والمدخلات التعبيرية المهمة فقد حشّد الأطفال الذين هم ثيمة أساسية في مغامرة بوارو الجديدة، ثم مهّد من جهة أخرى لثيمة الرعب والترقب التي قدمها ما يشبه الحكواتي في خيال الظل ثم جعل بوارو محورا لكل ذلك التدفق التعبيري الذي يسبق الانتقال للقضية الأهم وهي تحضير الأرواح والتي لا قناعة لبوارو بها من منطلق أنه يعدها مفبركة وتم إعدادها مسبقا ومجرد عملية خداع.

أما إذا انتقلنا إلى المساحة الدرامية الأكثر أهمية، فإن بوارو هو الشاهد على حالة الترقب التي تعيشها تلك المؤلفة ذائعة الصيت إريادن أوليفر التي تريد أن تكمل روايتها المبنية على هذا الحدث الذي سوف تشهده ليلة الهالوين وهي التي أعدته بقناعة كاملة وعلى أساس الثقة المطلقة بالوسيطة الروحانية جويس، وكل ذلك النسيج السردي تم بناؤه وفق تدفق صوري قوامه التدرج في متعة الاكتشاف.

يستخدم المخرج ذلك القصر الأقرب إلى المتحف الكبير بإضاءته الخافتة وممراته التي تضاء بالمشاعل والشموع وتخفي حجراته ما تخفي من أسرار وعلى افتراض أن المكان برمته مسكون بالأرواح وأن تلك الأرواح وانتشار الأشباح سوف تنشط مع الليل وبهذا رسخ دعامات أفلام الرعب التي تنتمي لهذا النوع ومنحنا أرضية كافية لقبول الحبكات الثانوية المتتابعة ومنها مثلا اكتشاف وجود شخصين متخفيين يؤديان أصوات الضحايا وهي أول خدعة يشكل اكتشافها من طرف بوارو صدمة للجميع.

وبلكنته الفرنسية يمضي بوارو في صراعه مع الخرافة والخداع البصري فيما تؤدي الوسيطة الروحية دورها على أكمل وجه فهي إذ تتقمص وتتلبس الشخصية المستهدفة فإنها ترينا تحولات مذهلة في تغيير وانحباس الصوت وجحوظ العينين وما إلى ذلك وكان تواصلها مع روح الضحية كافيا لإقناع الجميع بنجاح المهمة وانتهاء العرض لكن المسألة بالنسبة لبوارو سوف تبدأ من هنا لغرض تبديد مساحة الخرافة ولهذا سرعان ما يتم إلقاء الوسيطة الروحانية من أعلى القصر وإذا بها جثة هامدة.

تصبح الشخصية الدرامية الرئيسية هنا ممثلة في التحري بوارو مستهدفة تماما ولهذا فإنه سوف يغوص في شخصية الأم المخادعة التي كانت تسقي الجميع الشاي المهدئ الذي هو في الحقيقة نوع من السم البطيء الذي قضت بواسطته على ضحاياها.

قدم المخرج براناغ في هذا الفيلم مستوى أدائيا وإخراجيا معبرا وجديرا بالأهمية لجهة المعالجة التي تمزج السخرية بالفانتازيا بالكوميديا السوداء بالرعب والجريمة لترسخ مساره الإخراجي الغزير الممتد لعقود كانت حصيلته أكثر من سبعين عملا ما بين فيلم سينمائي ومسلسل تنقل فيها بين الإخراج والتمثيل والإنتاج وحاصدا الأوسكار في إحدى دوراتها وجوائز مهمة أخرى.

....

إخراج/ كينيث براناغ

سيناريو/ مايكل غرين

عن رواية حفلة الهالوين للكاتبة أجاثا كرستي.

تمثيل/ كينيث براناغ، بيلي ريلي، تينا فاي، ميشيل يواه

انتاج 2023

التقييم / 75% روتين توماتو، 6.6 من عشرة موقع آي إم دي بي، 4.5 من 5 موقع روجر أيبيرت، 4 من 5 الغارديان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من جهة

إقرأ أيضاً:

ضبط 16 طن دقيق مدعم قبل بيعها فى السوق السوداء

واصل قطاع الأمن العام والإدارة العامة لشرطة التموين والتجارة بالتنسيق مع مديريات الأمن، حملاتها التموينية المكبرة لضبط الجرائم التموينية أسفرت عن ضبط عدد من القضايا فى مجال المخابز السياحية الحرة والمدعمة خلال 24 ساعة ضُبط خلالها حوالى (16) طن دقيق (أبيض، بلدى مدعم).

جاء ذلك استمراراً لجهود أجهزة وزارة الداخلية لحماية جمهور المستهلكين وإحكام الرقابة على الأسواق والتصدى لمحاولات التلاعب بأسعار الخبز والبيع بأزيد من السعر المقرر وعدم الإعلان عن الأسعار.
 







مقالات مشابهة

  • فطين عبدالوهاب.. رائد سينما الكوميديا في عصرها الذهبي
  • ضبط 16 طن دقيق مدعم قبل بيعها في السوق السوداء
  • في ذكرى ميلاده.. محطات بارزة في حياة فطين عبد الوهاب مخرج الكوميديا الأول
  • ضبط 16 طن دقيق مدعم قبل بيعها فى السوق السوداء
  • خاص| مغيث صقر: شخصية "أبو نواس" تجسد الانتهازية في فيلم "سلمى"
  • عمرو سعد: نفسي أجسّد شخصية الشعراوي .. والفيلم دا مقرّب لقلبي| خاص
  • الورشة يناقش دور الكوميديا في الإعلانات وأثرها على الجماهير
  • ليلى مراد.. قيثارة الغناء التي تركت بصمتها في السينما ورحلت في صمت
  • سيارة تويوتا فورتشنر 2025: مزيج من الفخامة والقوة لعشاق الدفع الرباعي
  • لعنة "تاريخية" تلاحق قصراً في البندقية