ترجمة: أحمد شافعي

في الثامن عشر من أكتوبر استقلت من الخارجية الأمريكية لأنني لم أستطع دعم إمداد أمريكا بالسلاح في صراع غزة، وأنا على علم بأن هذا السلاح سوف يستعمل في قتل آلاف المدنيين. ولم أر أي نية لإعادة تقييم السياسة بعيدة المدى التي لا تفضي إلى سلام بل إنها قوَّضت كلا من استقرار المنطقة والأمن الإسرائيلي.

كيف للمساعدة العسكرية لإسرائيل أن تقوض الأمن الإسرائيلي؟ ذلك سؤال صارعته على مدى سنين كثيرة في مكتب الشئون السياسية العسكرية بالخارجية الأمريكية وفي عملي الأسبق مستشارا لمنسق الأمن الأمريكي حيث عملت في أرجاء الضفة الغربية. وفي سياق عملي ذلك ترددت كثيرا بين رام الله والقدس لترويج خطة طريق السلام التي اعتقدت إدارة جورج دبليو بوش بحق أنها سوف تفضي أخيرا إلى حل الدولتين.

تمدّ الولايات المتحدة حاليا إسرائيل بما لا يقل عن 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية السنوية، وهي المساعدة الأضخم لأي بلد سنويا، باستثناء أوكرانيا حديثا. ترجع مستويات المساعدة العليا هذه إلى قرابة سبعينيات القرن الماضي وتعكس اتفاقا أمريكيا قديما مع إسرائيل يتعلق بالأمن من أجل السلام، وهي فكرة مفادها أن ازدياد إحساس إسرائيل بالأمن، يجعلها أقدر على تقديم المزيد من التنازلات للفلسطينيين. ومنذ أواسط التسعينيات، كانت الولايات المتحدة أيضا راعيا أساسيا لقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية القائمة في رام الله، فتوفر لها التدريب والمعدات بناء على رأي يرى أنه فيما ينهض الفلسطينيون، يمكن أن يتنحى الإسرائيليون.

وفي كلتا الحالتين كان منطق المساعدات الأمنية الأمريكية منطقا معيبا على نحو قاتل.

فعلى الجانب الإسرائيلي، لم توفر الضمانات الأمنية الأمريكية العمياء سبيلا للسلام. بل وفرت لإسرائيل طمأنينة إلى أن بوسعها أن تمعن في جهود تدميرية من قبيل توسيع المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية دونما عواقب مهما تكن. وفي الوقت نفسه، أصبحت إسرائيل رائدة عالمية في صادرات الأسلحة تباهي بأحد أكثر جيوش العالم تطورا تكنولوجيا. فأنشأت جميع هذه العوامل إحساسا لدى صناع السياسية الإسرائيليين بأن بوسعهم إلى الأبد احتواء القضية الفلسطينية ـ ماديا وسياسيا.

ولا يظهر هذا أوضح مما ظهر في الجهود الأخيرة، التي بذلت بدفع من الولايات المتحدة، في ظل إدارة الرئيس ترامب أولا ثم في ظل إدارة الرئيس بايدن، من أجل تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي. ففي حين أن هذا التطبيع كان واجبا ـ من أوجه كثيرة ـ منذ أمد بعيد، فقد قام على افتراض أن الحوافز الاقتصادية ـ والمصلحة الأمنية الإقليمية المشتركة الممثلة في ردع النفوذ الإيراني الخبيث ـ يمكن أن أن تدمج إسرائيل، برغم الاحتلال غير المحدود وما عداه، في العالم العربي.

وقد تحطم هذا الافتراض ـ بصورة مقصودة من جانب حماس على الأرجح ـ بصراع غزة الذي سرعان ما أعاد القضية الفلسطينية إلى المسرح العالمي. وبقدر ما ترغب الولايات المتحدة وإسرائيل والقادة العرب في تأطير الأمن تأطيرا نفعيا، أي في علاقة بين دولة ودولة، فإن الشعوب العربية لم تزل عميقة الاهتمام بمصير الفلسطينيين. وفي حين يستمر تصاعد وفيات المدنيين في غزة والضفة الغربية، يتضح أن أي شكل من أشكال التطبيع بين السعودية وإسرائيل لا يتضمن تقدما جوهريا على مسار الحل السياسي للقضية الفلسطينية سيكون صعب التحقيق.

لم تتجاهل المساعدة العسكرية الأمريكية لإسرائيل في السنوات الأخيرة السياق السياسي الإقليمي وحسب، ولكنها تجاهلت أيضا إطار العمل الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة في مراعاة اعتبارات حقوق الإنسان في كل مكان آخر تقدم له مثل هذه المساعدات. إذ انه محظور على الولايات المتحدة ـ بموجب قانون ليهي Leahy ـ أن تقدم مساعدة أمنية لأي كيان متهم اتهامات جادة بارتكاب أي انتهاكات ضخمة لحقوق الإنسان. وخلافا لبلاد أخرى تتلقى المساعدات، ويجري التحقق من سلامة سجلها في هذا الصدد قبل تلقي المساعدات، فإن الأمر في حالة إسرائيل يجري معكوسا: إذ تقدَّم المساعدة، ثم تنتظر الولايات المتحدة ورود تقارير الانتهاكات، وتقيم جديتها من خلال عملية معروفة بالمنتدي الإسرائيلي لفحص ليهي وتتضمن استشارة من حكومة إسرائيل.

ولم يتوصل المنتدى ـ حتى تاريخه ـ إلى إجماع على أن أي قوة أو وحدة أمنية إسرائيلية قد ارتكبت انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان، برغم النتائج التي تتوصل إليها منظمات حقوق إنسان دولية وتشير إلى عكس ذلك. وهذا يعارض قيم الولايات المتحدة (وقوانينها في ما يرى البعض)، فضلا عن أن عجز الولايات المتحدة عن محاسبة إسرائيل على هذه الانتهاكات قد يوفر لإسرائيل إحساسا بالحصانة، ويزيد من احتمالية الانتهاكات الضخمة لحقوق الإنسان (بما في ذلك ما يرتكبه المستوطنون ضد مدنيين فلسطينيين) ويزيد من تبديد الثقة بين إسرائيل والفلسطينيين على أهميتها لتحقيق أي شكل من أشكال السلام الدائم.

في الوقت نفسه، نرى أن الجهود التي تبذل بقيادة أمريكية لتعزيز السلطة الفلسطينية من خلال قواتها الأمنية لم تفض هي الأخرى إلى شيء، برغم حسن النوايا. فقد كان الغرض من هذا المشروع ـ الناجم مباشرة عن مذكرة واي ريفر سنة 1998 وخريطة طريق السلام لعام 2003 ـ أن يتيح لإسرائيل شريكا أمنيا يمكنها أن تثق فيه. وفي السنوات الأخيرة تركزت الجهود حصريا على السلطة الفلسطينية.

من خلال عملي مع السلطة على الأرض، رأيت كيف أن التركيز الأساسي لجهود الولايات المتحدة انصب على أن تثبت للجيش الإسرائيلي إمكانية الثقة في نظرائه الفلسطينيين وقدرتهم على تولي مهمة تأمين إسرائيل. فكان يجري إمداد مسؤولي مخابرات فلسطينيين بمعلومات إسرائيلية عن أهداف، وينتظر من قوات فلسطينية أن تتولى مهام كان يقوم بها الجيش الإسرائيلي من قبل وهي مهام اعتقال هذه الأهداف. ولم يقوض هذا من دعم الفلسطينيين للسلطة وحسب، لكنه فشل في إقناع الإسرائيليين إذ رأوا في رفض المحاكم الفلسطينية (الصحيح) لاعتقال فلسطينيين دونما اتباع للإجراءات السليمة دليلا على خلل النظام.

وأسوأ من ذلك، في عامي 2008 و2009، عندما أثارت عملية (الرصاص المصبوب) التي شنتها إسرائيل، فأسفرت عن مقتل أكثر من 1300 فلسطيني في غزة، احتجاجات في الضفة الغربية، كانت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية هي التي وقفت جسديا بين المتظاهرين وقوات الجيش الإسرائيلي. ومن شرفتي في رام الله، رأيت ذلك دليلا على النجاح وأبلغت واشنطن به في حينه. ولكنني أرى بأثر رجعي أن ذلك ربما كان بمثابة ناقوس خطر. وبغض النظر عن ذلك، لا يبدو حتى الآن أن السلطة حازت على ثقة إسرائيل، ففي الأسبوع الماضي، استبعد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بشكل لا لبس فيه فكرة السماح للسلطة بالسيطرة على غزة بعد الحرب.

لو أن الولايات المتحدة عازمة على الاستمرار في استخدام المساعدات العسكرية والأمنية أداةً لمشاركتها في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني (وهناك حجج قوية تعارض ذلك)، فعليها أن تدخل تغييرا كبيرا على نهجها. ومن طرق ذلك ببساطة أن تطبق القوانين والسياسات التي تطبقها على كل دولة أخرى في العالم: فلا جدوى لامتلاك نفوذ يمكن أن يضغط على إسرائيل لوقف الإجراءات التي تقوض السلام إذا رفضنا حتى التفكير في استخدام هذا النفوذ. بوسع الولايات المتحدة أيضا أن تبدأ ربط مساعداتها العسكرية لإسرائيل (كما تفعل مع العديد من الدول الأخرى) بشروط سياسية معينة يمكن التحقق منها. وفي حالة إسرائيل، قد تشمل هذه الإجراءات وقف أو تفكيك البنية الأساسية لمستوطنات الضفة الغربية.

والشيء الآخر الذي قد تفعله الولايات المتحدة هو النظر في إعادة تأطير مساعدتها الأمنية للجانب الفلسطيني تعزيزا لشرعية السلطة الفلسطينية، بدلا من تقويضها ـ وهي مهمة أكثر حيوية وأكثر صعوبة في السياق الحالي. والقيام بذلك يتطلب هيكلة المساعدة بطريقة تمكِّن المجتمع الفلسطيني من السيطرة على قواته الأمنية. كما يقتضي أيضا الاعتراف بالدولة الفلسطينية. لكن هذا كله لا يمكن تحقيقه كاملا إلا بموافقة الإسرائيليين أو استعدادهم على الأقل لتنحية مطالبهم الأمنية، وهو أمر مستبعد ما بقيت الولايات المتحدة لا تستفيد من ورقة مساعدتها العسكرية لإسرائيل.

لقد استقلت من وظيفتي لأنني لا أعتقد أنه ينبغي تقديم الأسلحة الأمريكية ونحن نعلم أنها على الأرجح ستؤدي - بتعبير السياسة التوجيهية لإدارة بايدن نفسه - أو تفاقِم من خطر انتهاك حقوق الإنسان، وإلحاق أضرار واسعة النطاق بالمدنيين، فضلا عن خطر الموت.

وهذا هو الحال بشكل كبير في ما يتعلق بالذخائر التي تنهمر حاليا على قطاع غزة ـ وكثير منها أمريكي.

ولكن هذا أيضا هو الحال على نطاق أوسع وسيظل كذلك ما دامت الولايات المتحدة تتبع نهجا تجاه إسرائيل يتعامى عن عواقب تلك المساعدة، التي تتيح استمرار انتهاكات حقوق الفلسطينيين في جميع أنحاء غزة والضفة الغربية ولا تثمر ـ على المدى الطويل ـ أي شيء لإمداد إسرائيل بأمن وسلام دائمين يستحقهما جميع المدنيين.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العسکریة لإسرائیل الولایات المتحدة الضفة الغربیة حقوق الإنسان

إقرأ أيضاً:

باحث: الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل حال دخولها في جبهة صراع جديدة (فيديو)

قال محمد العالم كاتب وباحث سياسي، إنّ الولايات المتحدة الأمريكية ستدعم إسرائيل إذا دخلت في جبهة صراع جديدة بلبنان أو أي جبهة أخرى. 

الأمم المتحدة: نحو 1.9 مليون شخص نزحوا في قطاع غزة إعلام إسرائيلي: حماس متمسكة ببند أساسي يمنع إقرار التهدئة في غزة المرشح دونالد ترامب

وأضاف العالم، في مداخلة عبر قناة «القاهرة الإخبارية»: «هذا الأمر اتضح جليا من المناظرة الأخيرة بين جو بايدن والمرشح دونالد ترامب، فقد قال بايدن إن الدعم كامل ولا يوجد أي خلاف في وجهات النظر في هذا الأمر». 

وتابع الكاتب والباحث السياسي: «الولايات المتحدة الأمريكية ستنتظر أن يتحرك الداخل الإسرائيلي بنفسه، وإذا ما استمرت إسرائيل على النهج الحالي، فإن الحكومات الأمريكية بغض النظر عمن يترأسها ستدعم إسرائيل بقوة، لأن العلاقة بينهما استراتيجية».

 اضطهاد اليهود في الشرق الأوسط 

وأكد، أن هناك تصدير صورة مزيفة للشعب الأمريكي عن اضطهاد اليهود في الشرق الأوسط وأحقيتهم بأراضي معينة، وكل هذه الأمور أعادت تشكيل فكر الشعب الأمريكي وتعاطفه مع اليهود، رغم وجود مظاهرات وحركات أخرى أوضحت الصورة الحقيقية عن هذا الأمر، إلا أن عصب الاقتصاد الأمريكي يتحكم فيه اللوبي اليهودي. 
 

مقالات مشابهة

  • إسرائيل تخسر دعم الولايات المتحدة
  • الكنيسة المشيخية الأمريكية تنهي دعمها المالي لـإسرائيل.. تعرف عليها
  • خبير يكشف حقيقة ستارمر: معتدل كالمحافظين وسيذهب وراء الولايات المتحدة أينما ذهبت
  • موجات الحر تهدّد الملايين في الولايات المتحدة الأمريكية
  • بالفيديو.. باحث: الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل إذا دخلت في جبهة صراع جديدة
  • باحث: الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل حال دخولها في جبهة صراع جديدة (فيديو)
  • زيلينسكي يشكر الولايات المتحدة على حزمة المساعدات العسكرية الجديدة
  • باحث: الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل إذا دخلت في جبهة صراع جديدة
  • ‏نتنياهو: الولايات المتحدة تدرك أن إسرائيل يجب أن تفوز بهذه الحرب
  • نتنياهو يشكر أمريكا على دعمها لإسرائيل.. ويؤكد: أتمنى لكم عيد استقلال سعيد