التعبئة.. محنة حتى يخفت أوارها
تاريخ النشر: 19th, November 2023 GMT
في هذه المناقشة لا أذهب إلى البعد العسكري لمفهوم التعبئة، وهي حسب تعريف - (https://www.google.com/search): «تحويل القوات المسلحة الوطنية إلى حالة الحرب أو شبه الحرب وإعادة بناء اقتصاد الدولة ومؤسساتها وقدراتها ومواردها المادية والبشرية وقوانينها لتوفير حاجات حرب طويلة الأمد وتحقيق أهدافها، وخصوصا مبدأ حشد القوى» -انتهى النص- وإنما تذهب المناقشة هنا إلى أن التعبئة تكلفتها المعنوية كبيرة، وهي بقدر ما تتحملها الجموع يتحملها الفرد حتى في أصغر اهتماماته اليومية، واشتغالاته الخاصة، سواء التي يتشارك بها مع الآخرين من حوله، أو تلك الخاصة جدا، فمفهوم التعبئة يتوغل في كل مناحي حيواتنا اليومية، وبنسب متفاوتة، فهي محنة بكل امتياز؛ معرضون بحمولتها القاسية؛ في أي وقت، وليس منحة يتمناها أي أحد، وفي أي وقت، هي منازلة بين كر وفر، وخير وشر، قد نعيشها في لحظات ضيقة لمجمل الظروف التي نعيشها، وتكون بذلك من أقسى المواقف في حياتنا، وقد نمتحن بها في أوقاتنا الرخية، وامتحانها هنا يكون في كيفية التوفيق، والاستعداد الجيد، وبأساليب محكمة، لتكون نتائج التعبئة تسر، ولا تضر، وبقدر المفهوم العسكري أعلاه، إلا أن تعبئة يمكن أن تقاس على كثير من أنشطتنا؛ كما جاء الشرح أعلاه؛ فهناك تعريف آخر لنفس المصدر، والخاص بالتعبئة الاجتماعية؛ فقد عرفت منظمة اليونسيف التعبئة الاجتماعية - وفق النص التالي: «عملية تجمع بين طائفة واسعة من الشركاء والحلفاء العمليين لتحديد الحاجة إلى نشر الوعي والطلب من أجل هدف إنمائي محدد.
يروج لمصطلح الـ«تعبئة» غالبا؛ في الأحداث الكبيرة التي تحل بالأمة، ولذلك هي تأخذ منحى سياسيا -في الغالب- أكثر منه اجتماعيا، ولكن في واقعه هو منحى اجتماعي بامتياز، ذلك أن مجموعة التفاعلات التي تحدث -منخرطة- فيه منطلقا من اهتمامات الأفراد بما هو حاصل، أو بما هو مرتقب حصوله، ولذلك؛ ووفق هذه الرؤية؛ أن التعبئة ليس شرط التفاعل لها أو فيها؛ منطلقا من الالتحام بالحدث مباشرة، ولكن قد يكون مسافرا عبر جغرافية الأرض، حيث يكون الحدث في جغرافيا بعيدة، ولكن التفاعل لها في جغرافيات بعيدة؛ بعد الجغرافيا، والظروف الاجتماعية، والأنظمة السياسية، والثقافة المعرفية، ولكن لأنها اجتماعية بامتياز، فإن الضمير الإنساني هو الذي يجسر المسافات بين الأبعاد الجغرافية والاجتماعية ليكون الحدث الأهم عند الجميع على امتداد البعدين: (الجغرافيا/ المجتمع) وهذا أمر معاش، وملموس مع كل الأحداث الجسيمة التي تعيشها الإنسانية في كل مراحل التاريخ، وتأتي وسائل التواصل الاجتماعي اليوم لتعزز هذا الشعور التفاعلي العام بين أفراد المجتمعات الإنسانية من أدناها جغرافيا، إلى أقصاها جغرافيا، هذا مع التسليم أن البعد الاجتماعي؛ هو بعد متواصل، ومتماسك، وملتحم مع بعضه، حيث يشعرك هذا الأمر أو هذه الصورة أن المحن هي قاسم مشترك بين جميع أفراد المجتمعات، وأن لا فواصل بينهم في كل ما هو سيء، وكل ما يمكن أن يضرب التقارب الاجتماعي لدى الإنسانية كافة، ولا يخرج «استثناء» من هذه القاعدة؛ إلا الأنظمة السياسية، والتي لها حساباتها الخاصة، وتقديراتها في التعامل مع الأحداث، وهي التي تتداخل فيها الكثير من حسابات الربح والخسارة، بغض النظر عما تؤول إليه مجمل نتائج الأحداث الجسيمة؛ القريبة منها أو البعيدة، فالكل - وفق تقييمات الأنظمة السياسية - يجب أن يستفيد مما يحدث، سواء بصورة مباشرة؛ لحظة تفاعلات الأحداث؛ أو فيما تسفر عنه من نتائج بعد ذلك، فلكل حدث نتائج كثيرة من الدروس والعبر.
عند مستوى هذا الطرح فقط؛ يمكن النظر في العلاقة بين التعبئة الاجتماعية، والاحتقان الاجتماعي، وأيهما يبدأ أولا؟ وهل من يتبنى الأول، يتبنى الثاني في نفس الوقت؛ أم أن هناك فريقين: أحدهما يتبنى الأول؛ والآخر يتبنى الثاني؟ ولماذا؛ أصلا؛ يتكون احتقان اجتماعي؛ إذا كانت «التعبئة الاجتماعية» واضحة الأهداف والمقاصد - وفق تعريف منظمة اليونيسيف أعلاه -؟ والسؤال الذي يلزمنا طرحه في هذا الجانب؛ أيضا: في ظل التعبئة بمفهومها الواسع؛ ما هي الضرورة لأن يتكون احتقان من الأساس؟ ولإيضاح الصورة أكثر يمكن الاقتراب من ما يشير إليه كلا المصطلحين؛ فالتعبئة تذهب إلى معنى الاستعداد المبكر لأمر ما؛ ويشترط هذا الأمر أن يكون ضخما، وشاملا، ويحتاج إلى كثير من تكاتف كل القوى الفاعلة، مع تراجع المركزية، ولأن التعبئة لها مقاصد وغايات؛ فإنها -في المقابل- توجه إلى كل من هذه المقاصد والغايات بوسائلها الخاصة، فالتعبئة التجارية لها أدواتها الخاصة، والتعبئة الاجتماعية لها أدواتها الخاصة، والتعبئة العسكرية لها أدواتها الخاصة، وفي كثير من أنواع التعبئة يبقى الهدف هو المواجهة، والاستعداد لأمر ما، والتقليل من الخسائر المتوقعة في حالة حدوث هذا الأمر أو ذاك، وفق تقييم أصحاب القرار، والمعنيين، والخبراء في ذات الأمر، أما ما يشير إليه مصطلح الاحتقان؛ فهو شعور داخلي به من الغليان، والحنق، وقد تتداخله المهانة والذل، وفيه لا يشترط أن تكون هناك حالة عمومية، فقد يتحقق عند شخص أو مجموعة من الأشخاص، لم يصلوا إلى مبتغاهم الذي يريدون، فتحدث عندهم انكسارات معنوية؛ بعد المبالغة في الحالة المعنوية، ولذلك تنشأ نزعة صدامية تجاه من حرمهم الذي يودون تحقيقه، وفق الحمولة من المكاسب التي روجت لها التعبئة عند نشأتها الأولى (طور الاستعداد)، والاحتقان ليس شرطا أن يوظف على الواقع بصورة مباشرة، ففي الغالب؛ يظل حبيس صاحبه إلى أجل ما، ولا يلزم أن يكون هناك موعد زمني لتوظيفه على الواقع، كما هو الحال في التعبئة، وكلاهما يشتركان في حاضنتهما الاجتماعية، وإن نظر في بعض المواقف إلى أن التعبئة لها مقاصد إيجابية، فإن الاحتقان ليس له مقصد محدد بأدوات محددة، وإنما يتموضع في حاضنة الاجتماعية بصورة دائمة؛ حيث يتبناه الأفراد، أو مجموعة من الأفراد، أو فئات بعينها، وبالتالي فمن الممكن أن يتماهى مع مرور الزمن؛ سواء تحقق ما يريده هؤلاء الناس مما ذهبت إليه التعبئة، أو لم يتحقق، فالأمر متعلق بمشاعر غير راضية عن واقع ما، وبالتالي فهذه المشاعر محكوم عليها بالعودة إلى ما كانت عليه قبل بروز أسباب الاحتقان، فالإنسان قد يشتاط غضبا في موقف ما؛ لحدوث أمر لم يتوقعه، ومن ثم لا يلبث أن يعود بعد فترة، سواء زال سبب الغضب، أو لم يزل، ولعل هذه من الرحمة الإلهية بالإنسان، ألا يكون حبيس مشاعره القلقة، بصورة مستمرة، ومما تلزم الإشارة إليه في هذا الجانب أيضا أنه يمكن أن تتحقق المركزية النسبية في التعبئة؛ حيث لا بد من تحقق نقطة ارتكاز للانطلاق منها، والعودة إليها في أي شأن من شؤون السيناريوهات المتوقعة في مسيرة تنفيذ التعبئة، أما الاحتقان؛ ولأنه يتموضع حول فرديته أكثر، فإن المركزية فيه لا تتحقق، إلا في ظروف ضيقة، عندما تكون هناك ظاهرة عامة من الشعور بعدم الرضا، ويبدأ هذا الشعور يتضح على الواقع من خلال سلوكيات الأفراد غير المنضبطة، ويفترض؛ أن تتجلى الحكمة هنا؛ خاصة إذا كان شعور الاحتقان ناتجا عن عدم تحقيق ما ذهبت إليه التعبئة، أن تكون هناك حاضنة رسمية قادرة على امتصاص مستويات الاحتقان التي حدثت، بوسائل تشعر المحتقن، أو مجموعة من المحتقنين، أنهم محل اهتمام، وتقدير، وأن مجمل الأخطاء التي قد ترافق التعبئة يمكن تداركها، وتصحيحها.
تبقى (محنة التعبئة) في الكم الهائل من الجهد المعنوي «حالة الاستنفار» وما يماثله من جهد مادي متعدد الجوانب، وهذه المحنة تبقى حتى زوال أسباب التعبئة، وتعود المياه إلى مجاريها قبل حالة التعبئة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مجموعة من
إقرأ أيضاً:
المسؤولية الاجتماعية في ظل التحديات المعيشية
أفلح بن عبدالله الصقري
يعيش بعض المواطنين حياة وظروفا اجتماعية وإنسانية صعبة في ظل ما يواجهونه من صعوبات معيشية، فهم بين مطرقة توفير العيش الكريم لهم ولأسرهم وبين سندان الضرائب وارتفاع تكاليف الحياة.
هناك مواطنون رواتبهم الشهرية ضعيفة تجبرهم الظروف إلى القروض من المصارف والبنوك وشركات التمويل المختلفة لولا حاجتهم وذلك لتوفير الحياة الكريمة من بناء منزل العمر وزواج وتوفير مستلزمات الأبناء لتكوين أسرة مستقرة استقرارًا اجتماعيًا في ظل وطن يحميهم من كل ما هو يضج مضاجعهم، فهم أبناء هذا الوطن الذي -والحمد لله- منّ الله عليه بخيرات وفيرة وثروات كثيرة وسلطان عادل ومؤسسات تكفل الأمن والأمان للجميع فيطمئن بأنه مُحاط بالأمن والأمان والاستقرار فيزدهر وعلى ضوئه يخدم نفسه عن حاجة السؤال ومنها يبني وطنه ومجتمعه.
وهنا بصدد الحديث عما يواجهه بعض المواطنين من ظروف تؤدي بهم إلى عواقب لا يُحمد عقباها مما يؤدي إلى الفِراق بينه وبين أُسرته وزوجته وتشتت الأبناء وانهيار جدار الأسرة بسبب الظروف المالية والاقتصادية التي يمر بها ربُ الأسرة والذي جُل همه أن يعيش حياة كريمة ومستقرة وراتبا شهريا معقولا يضمن له العيش الكريم دون منغصات مقابل ألا يكون ضحية شكاوى الجهات والمؤسسات التي اقترض منها مطالباً هذه المؤسسات بعدم الاستعجال في رفع قضية تطالبه فيها بعدم سداد المستحقات في حالة تعسره عن السداد وإمهاله وقتاً كافياً لتجميع شتاته، إلّا أن تلك الجهات لا تستجيب لمطالبات هذا المواطن والذي تكالبت عليه الديون؛ مما أدى به إلى السجون.
عليه.. نقول للجهات المعنية كيف لمواطن مسجون خلف القضبان أن يستطيع توفير وتسديد أموال هذه الجهات وهو خلف القضبان ولا يملك الوسيلة التي يستطيع من خلالها سداد ما عليه؟
هنا نطالب كافة الجهات المعنية في الدولة بالرفق قدر المُستطاع، وإمهال هذا المواطن، وإعطاؤه فرصة لإعادة ترتيب حياته والحصول على عمل جديد يستطيع من خلاله سداد مستحقاته المالية المترتبة عليه ولو بالأقساط الشهرية، وعدم التضييق عليه ومراقبته واستدعائه من قبل القضاء ومحاربته من كل جهة، وتسوية أوضاعه المالية لدى تلك الجهات.
إنّ مراعاة المواطنين المتدنية رواتبهم وذوي الدخل المحدود في الجوانب المالية خصوصاً في شهور رمضان والأعياد وأيام العودة للمدارس يتحتم علينا جميعاً أن نتكاتف ونطالب الجهات المعنية والجمعيات الخيرية وبرامج فك كُربة بصرف مساعدة مالية للمواطنين المتعسرين في كل من شهر رمضان والعيدين، وهذا مطلب الكثير من شرائح المجتمع، وليس العفو السامي عن بعض السجناء ببعيد؛ فجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- يتابع ما يحدث للمواطن ويراعي جلالته ظروف بعض المواطنين المتعسرين والمحبوسين فيصدر عفوه السامي سنوياً وفي المناسبات عن بعض النزلاء مُراعاة لظروفهم وأحوالهم المعيشية وانتظار وشوق أهلهم لهم بعد غياب سنوات خلف القضبان، كما على البنوك والمصارف مراعاة هذه الفئة من المواطنين وذلك بالخيارات المتاحة مثل (تأجيل القسط الشهري) في أيام المناسبات كشهر رمضان المبارك والمناسبات الدينية مثل عيد الفطر وعيد الأضحى.
وعليه.. يجب أن تكون المسؤولية والأدوار مشتركة في هذا الجانب بين كل من الحكومة ممثلة في: وزارة التنمية الاجتماعية، وصندوق الحماية الاجتماعية، والقطاع الخاص (الشركات الكبيرة) المسؤولية الاجتماعية، وهناك كذلك الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخيرية، بهذا يتحقق العدل وتتحقق المساواة الاجتماعية كل في مجال اختصاصه وصلاحياته؛ مما يُعزز استقرار المجتمع ويكفل العيش الكريم للمواطنين المتعسرين.