عطفًا على ما جاء في الحلقة السابقة، يبقى المسدَّس في حوزة الشَّريف حتَّى عشيَّة الهجوم على الحامية التُّركيَّة في العَقَبَة، حيث يَقتل عضو في التَّحالف القبليِّ الذي يشكِّل الجيش العربيَّ-وهو حارثيٌّ- فرداً من قبيلة الحويطات، فيستشعر لورَنس أنَّ الوضع صار حرِجًا وهشَّا، إذ أنَّ جريمة القتل ذات الطابع القبليِّ تهدِّد «الوحدة العربيَّة» التي يصوِّره الفيلم مقاتلًا لأجلها.

ولأن «لا قبيلة» ينتمي إليها، كما يقول، فهو في حِلٍّ من أيِّ ولاء محدَّد، وبالتالي «لا أحد سيُساء إليه» كما يردف، يعلِن لورَنس أنَّه سينفِّذ مطلب العرف القبليِّ القاضي بإعدام القاتل فورًا وفي نفس مكان وقوع الجريمة. وبعد تفوِّهه بهذا الإعلان يمشي لورَنس إلى الشَّريف علي فيأخذ منه المسدَّس الذي هو في الأصل مسدَّسه، ثم أصبح ملكًا لِطَفس، وصار الآن ملكًا للشَّريف، ويفرغ رصاصاته بصورةٍ حاسمة في رأس القاتل الذي هو جاسم، أي نفس الرَّجل الذي كان لورَنس قد أنقذه من الموت في صحراء النُّفود القائظة.

إن ما فعله لورنَس هنا بوضوح شديد هو استعادة الرَّمز ، ولكنَّها استعادة مؤقَّتة فحسب؛ إذ أنَّ لورَنس يبدو بعد تنفيذ الإعدام مرتجفًا، مرعوبًا، ويمشي بصورة متيبِّسة محدِّقًا في المسدِّس بنظرة ملأى بالتَّنَصُّل وعدم التَّصديق، فيطوِّح به ليسقط على الأرض ويهرع حشد من العرب للتصارع عليه. إن نظرة لورَنس المرعوبة تُحِلُّ الرغبة في الاشمئزاز الذَّاتيِّ، وتعرّي السَّاديَّ فيه بالتَّعبير عن الرَّابط بين العنف والَّلذة (يعترف لورَنس للجنرال أللنبي أنه «استمتع» بقتل جاسم)، كما أنَّ نظرة لورَنس المرعوبة تشي بفزعه من إعادة اكتشاف حسٍّ معيَّن بالهويَّة كان مفقودًا أو أنَّه كان قد تخلَّى عنه. وإعادة الاكتشاف هذه لا تزال مرتبطة بأفعال وتجليَّات علاقته بالشَّريف علي.

زواجٌ رمزيٌّ

إن أفعال الجَنْدَر والرَّغبة ذات الطَّابع المِثليِّ الأكثر أهميَّة، التي ترسم خط التَّوكيد في العلاقة بين لورَنس والشَّريف علي، تقع خلال الزَّحف إلى العَقَبَة حيث يغدو الانجذاب المتبادَل بينهما صريحًا أكثر، وذلك قبل قضيَّة إعدام جاسم؛ ففي رحلة قطع صحراء النُّفود يتخلى لورَنس عن قُبَّعَتِه العسكريَّة (لا يُعيد وضعها على رأسه إلا في لقاءاته اللاحقة القليلة بالضُّباط البريطانيِّين) ويستبدلها بغطاء الرأس البدويِّ (الحطَّة والعقال). وبالتالي فإنَّه يظهر بصفته نصف إنجليزيٍّ (بزيِّه العسكريِّ) ونصف عربي (بالحطَّة والعقال). وهذا التَّوليف في ملابس لورَنس يحيلنا إلى الاتِّخاذ التَّدرُّجيّ لصورةٍ ذاتيَّة، وهي صورة مهجَّنة، وهذا التَّهجين يشير أيضًا إلى عملية اكتساب رغبات جديدة.

كان لورَنس قد نجح في إنقاذ جاسم بأعجوبة من موت محقَّق في الصحراء، لكن المفارقة هي أنَّ ذلك الفعل الرجوليَّ الجليَّ إنَّما يُعَمِّدُ الانجذاب ذا الطَّابع المثليِّ بين لورَنس والشَّريف علي؛ إي أنَّ الفعل «الرُّجوليَّ» بِحَقٍّ يغدو اشتراطًا مُتَطَلَّبًا مُسبَقًا للأيروسيَّة ذات الطَّابع الجنسيِّ المثليِّ، فعلامة على تثمين عملية الإنقاذ التي نفّذها لورَنس بشجاعةٍ، والإعجاب بها، يُقَدِّم الشَّريف الماء من قربته شخصيًَّا ليشرب منها لورَنس الظامئ والمنهَك. وفي المقابل فإن لورَنس يرفض دعوات شيوخ القبائل منحهم شرف الاستراحة على سجَّاداتهم، ويؤثر المضي إلى سجَّادة الشَّريف ليستريح عليها. ومن المثير للاهتمام حقًا في هذا المشهد «الرُّجوليِّ» بالكامل أنَّ لورَنس يبدأ في فكِّ أزرار زيِّه العسكريِّ، وهو رمز للذُّكوريَّة العسكريَّة، للمرَّة الأولى والأخيرة طوال الفيلم قبل أن يخرَّ مستلقيًا على بطنه فوق سجَّادة الشَّريف. وبعد أن يستيقظ ليلًا يتبادل حديثًا حميمًا مع الشَّريف علي حول الهويَّة، حيث يبوح له لورَنس أن أمَّه لم تتزوج أباه، فيقترح الشَّريف أنَّ لورَنس، وبسببٍ من ذلك، حرٌّ في اختيار اسمه؛ بل إنَّه يقترح عليه اسم «إلأورَنس». وطريقة الشَّريف في عرض ذلك الاسم تشير إلى تصميم ومطالبة ضمنيَّة («إلأورنس هو الاسم الأفضل») وليس مجرَّد اقتراح قابل للنِّقاش والتَّفاوض، فلا يكون أمام لورَنس من خيار سوى قبول الاسم الجديد.

إن ما يطرحه علينا هذا في سياق التَّسمية وما تَحْمِلُهُ ضمن معطيات الدَّور الجَنْدَرِي أنَّ الشَّريف يملك الحقَّ الشَّرعيَّ/ السُّلطة القانونيَّة والوضع الاجتماعيَّ لفرض إرادته على لورَنس كما زوج على زوجة. بكلمات أخرى فإنَّ الشَّريف «يصبح غربيًّا» في حقيقة أنًّه أصبح رمزيَّا زوجًا عليه أن يعطي زوجـته اسمًا وفقًا للتَّقاليد الغربيَّة. أمَّا لورَنس، وقد جعله تذكُّر عدم شرعيَّته المُحْرِج حزينًا، فإنه يوقف تواصل العيون مع الشَّريف، ويدير له ظهره لاستئناف النَّوم، فيغطِّيه الشَّريف بحنوٍّ، ويلقي ثيابه العسكريَّة - وهي رمزُ «الرُّجولة»- في النَّار لدهشة الغلامين فَرَج وداود.

هذا المشهد الَّليليُّ (بكل معاني الكلمة) يقترح علينا أنَّ لورَنس قد شُرْعِنَ (من «الشَّرعيَّة») في الصَّحراء من خلال زواج رمزيٍّ وقبول فعليٍّ، فعلى عكس السِّير إدوَرد تشابمَن Sir Edward Chapman الذي لم يتزوَّج أمَّ لورَنس، وبالتالي فإنه قد «لوَّث سمعتها» بالمعايير الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة البدويَّة، فإن الشَّريف علي «يتزوَّج» لورَنس ويسبغ عليه اسمًا.

والمشهد النَّهاريُّ اللاحق يقدِّم لنا تعليقاً موسَّعًا عما حدث في الليلة الفائتة؛ فالشَّريف علي الذي يرتدي دومًا ثيابًا قاتمة الألوان، يضع بنفسه الَّلمسات الأخيرة على ثياب لورَنس الجديدة، وهي زيٌّ عربي يرتديه أشراف بني وجه (كما يقول الفيلم)، والذي يصفه لورنس بأنه «رائع جدًا». وتلتقط شُحْطْ هذه اللحظة في الفيلم لتشير إلى أن «الصَّورة الشَّهيرة المبثوثة كثيرًا في الصَّحافة والأشرطة السينمائيَّة الوثائقيَّة للورَنس العرب مرتديًا ثوبًا عربيًّا فضفاضًا قد أسهمت جزئيَّا في إلهام أفلام من قبيل «الشيخ» و«ابن الشيخ» اللذين يرتبط وقوعهما الموقع الحسن ثنائي الجنسانيَّة في التركيب الخبيء للرجل الغربي بوصفه «أنثويًّا». وهي تشرح ذلك بالقول «إن النظرة «الأنثويَّة» المُشَفَّرة... تُراوِحُ في محيط الفضاء الآمن للَّشرق من خلال التَّجسيد «الواقعي» للآخر. إن لورَنس الذي يسرده ديفِد لين، وعلى الرغم من ارتباطه الكلاسيكي بقواعد الذَّكَريَّة البطوليَّة، فهو مُصَوَّرٌ أيضًا في ضوء مِثْليِّ الأيروسيَّة؛ فعندما تقبله القبيلة العربيَّة فإنه يرتدي ثيابًا بيضاء بالكامل هي «كندورة»، و«حطَّة»، ومعطف، و«بِشْتْ» ، وهو، في نقطة ما من السَّرد السِّينمائي يركب جَمَلًا ويتحرك بصورة رهيفة، كما لو أنه، من الناحية العمليَّة، مأسور مثل عروس. وحين يُشْهِرُ خنجرًا من غمده فإنه ينقل الدَّلالة المُجَنْدَرَة للرَّمز القضيبي باستخدامه مرآة ينظر فيها إلى صورته «الأنثويَّة» و«الشَّرقيَّة» المُكْتَسَبَة حديثًا في الصحراء العربيَّة. وبصورة أكثر عموميَّة فإن العلاقة بين لورَنس والشريف علي تتغيَّر بالتَّدرُّج من كونها علاقة ابتدأت أصلًا بكونها تنافسًا ذكريَّا إلى انجذاب أيروسيٍّ مُضَمَّن يكون فيه الشَّريف علي متَّصلاً بتخيُّلات بصريَّة أنثويَّة، يُلخِّصها على أكمل ما يُرام المشهد الذي نرى فيه الشَّريف علي في لقطة مُقَرَّبة بعينين مغرورقتين بالدموع، متساوقًا في ذلك بعواطفه مع عواطف لورَنس المُعَذَّب... إن المعنى المخبوء لتداخل النَّظرة العرقيَّة ومثليَّة الأيروسيَّة في «لورَنس العرب» يشكِّلُ جزءًا من تاريخ طويل للسرديَّات الكولونياليَّة (54).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ه العسکری ریف علی

إقرأ أيضاً:

محمد الأشمر.. من هو الثائر السوري الذي تحدى الفرنسيين؟

في قلب النضال السوري ضد الاستعمار الفرنسي، برز اسم محمد الأشمر الذي يصادف اليوم ذكرى وفاته كأحد أهم قادة المقاومة الذين رفضوا الخضوع للاحتلال، وساهموا في إشعال جذوة الثورة السورية الكبرى (1925-1927). لم يكن الأشمر مجرد مقاتل حمل السلاح، بل كان رمزًا للعزيمة والنضال في وجه القوى الاستعمارية، وشخصية محورية في الكفاح من أجل استقلال سوريا. فمن هو محمد الأشمر؟ وكيف أصبح أحد أبرز رموز المقاومة في التاريخ السوري؟

النشأة والتكوين

وُلد محمد الأشمر في دمشق في أواخر القرن التاسع عشر، ونشأ في بيئة وطنية مشبعة بروح المقاومة. تأثر منذ صغره بحالة الغليان السياسي التي كانت تشهدها سوريا تحت الاحتلال الفرنسي، وشهد بنفسه القمع الذي تعرض له أبناء بلده، مما دفعه إلى الانخراط مبكرًا في صفوف المقاومة.

دوره في الثورة السورية الكبرى

مع اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة سلطان باشا الأطرش، كان محمد الأشمر من أوائل الذين التحقوا بصفوف الثوار. تميز بشجاعته وقدرته على قيادة المعارك، حيث خاض مواجهات شرسة ضد القوات الفرنسية، خاصة في دمشق وغوطتها، وتمكن من تحقيق انتصارات مهمة ضد المحتل.

لم يكن الأشمر مجرد مقاتل، بل كان منظمًا بارعًا، إذ ساهم في تسليح الثوار وتدريبهم على أساليب القتال، كما عمل على توحيد الصفوف بين مختلف الفصائل المقاومة لضمان استمرار الثورة.

معاركه ضد الفرنسيين

اشتهر الأشمر بدوره في معركة الغوطة، حيث قاد مجموعة من الثوار في مواجهة القوات الفرنسية المدججة بالسلاح. ورغم قلة العتاد، تمكنوا من تكبيد العدو خسائر فادحة. كما لعب دورًا بارزًا في الدفاع عن دمشق أثناء قصفها من قبل القوات الفرنسية، وأصبح اسمه مرتبطًا بالصمود والمقاومة.

ما بعد الثورة: استمرار النضال

بعد تراجع الثورة السورية الكبرى، لم يتوقف الأشمر عن النضال، بل واصل مقاومته بطرق مختلفة، حيث شارك في دعم الثوار في مناطق أخرى، وساهم في الحركات الوطنية التي كانت تسعى لطرد الاستعمار. كما لم يقتصر نشاطه على سوريا، بل امتد إلى فلسطين، حيث دعم الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 ضد الاحتلال البريطاني والصهيوني.

رغم مرور عقود على رحيله، لا يزال محمد الأشمر يُذكر كواحد من أعظم أبطال المقاومة السورية. كان نموذجًا للثائر الذي لم يتخلَ عن قضيته، وبقي صامدًا حتى النهاية. اليوم، يُعد اسمه جزءًا من تاريخ النضال العربي ضد الاستعمار، ورمزًا للشجاعة والتضحية من أجل الوطن

مقالات مشابهة

  • بوتين: يجب اختيار السلام الذي يضمن أمن روسيا
  • بوتين: روسيا يجب أن تختار السلام الذي يضمن أمنها
  • ما الذي يدل عليه لون الدخان الناتج من الاحتراق بالسيارات ؟
  • ما الذي يميز شهر رمضان لدى مسلمي إثيوبيا؟
  • "الإنسان الذري" لنيل د. لورنس
  • ما الذي يجعل القطايف مقرمشة؟‎
  • العراق يتلقى دعوة للمشاركة في أكسبو 2027 الذي ستنظمه صربيا
  • محمد الأشمر.. من هو الثائر السوري الذي تحدى الفرنسيين؟
  • الدور المصري الذي لا غنى عنه
  • أوكرانيا والدرس الذي على العرب تعلمه قبل فوات الأوان