عطفًا على ما جاء في الحلقة السابقة، يبقى المسدَّس في حوزة الشَّريف حتَّى عشيَّة الهجوم على الحامية التُّركيَّة في العَقَبَة، حيث يَقتل عضو في التَّحالف القبليِّ الذي يشكِّل الجيش العربيَّ-وهو حارثيٌّ- فرداً من قبيلة الحويطات، فيستشعر لورَنس أنَّ الوضع صار حرِجًا وهشَّا، إذ أنَّ جريمة القتل ذات الطابع القبليِّ تهدِّد «الوحدة العربيَّة» التي يصوِّره الفيلم مقاتلًا لأجلها.

ولأن «لا قبيلة» ينتمي إليها، كما يقول، فهو في حِلٍّ من أيِّ ولاء محدَّد، وبالتالي «لا أحد سيُساء إليه» كما يردف، يعلِن لورَنس أنَّه سينفِّذ مطلب العرف القبليِّ القاضي بإعدام القاتل فورًا وفي نفس مكان وقوع الجريمة. وبعد تفوِّهه بهذا الإعلان يمشي لورَنس إلى الشَّريف علي فيأخذ منه المسدَّس الذي هو في الأصل مسدَّسه، ثم أصبح ملكًا لِطَفس، وصار الآن ملكًا للشَّريف، ويفرغ رصاصاته بصورةٍ حاسمة في رأس القاتل الذي هو جاسم، أي نفس الرَّجل الذي كان لورَنس قد أنقذه من الموت في صحراء النُّفود القائظة.

إن ما فعله لورنَس هنا بوضوح شديد هو استعادة الرَّمز ، ولكنَّها استعادة مؤقَّتة فحسب؛ إذ أنَّ لورَنس يبدو بعد تنفيذ الإعدام مرتجفًا، مرعوبًا، ويمشي بصورة متيبِّسة محدِّقًا في المسدِّس بنظرة ملأى بالتَّنَصُّل وعدم التَّصديق، فيطوِّح به ليسقط على الأرض ويهرع حشد من العرب للتصارع عليه. إن نظرة لورَنس المرعوبة تُحِلُّ الرغبة في الاشمئزاز الذَّاتيِّ، وتعرّي السَّاديَّ فيه بالتَّعبير عن الرَّابط بين العنف والَّلذة (يعترف لورَنس للجنرال أللنبي أنه «استمتع» بقتل جاسم)، كما أنَّ نظرة لورَنس المرعوبة تشي بفزعه من إعادة اكتشاف حسٍّ معيَّن بالهويَّة كان مفقودًا أو أنَّه كان قد تخلَّى عنه. وإعادة الاكتشاف هذه لا تزال مرتبطة بأفعال وتجليَّات علاقته بالشَّريف علي.

زواجٌ رمزيٌّ

إن أفعال الجَنْدَر والرَّغبة ذات الطَّابع المِثليِّ الأكثر أهميَّة، التي ترسم خط التَّوكيد في العلاقة بين لورَنس والشَّريف علي، تقع خلال الزَّحف إلى العَقَبَة حيث يغدو الانجذاب المتبادَل بينهما صريحًا أكثر، وذلك قبل قضيَّة إعدام جاسم؛ ففي رحلة قطع صحراء النُّفود يتخلى لورَنس عن قُبَّعَتِه العسكريَّة (لا يُعيد وضعها على رأسه إلا في لقاءاته اللاحقة القليلة بالضُّباط البريطانيِّين) ويستبدلها بغطاء الرأس البدويِّ (الحطَّة والعقال). وبالتالي فإنَّه يظهر بصفته نصف إنجليزيٍّ (بزيِّه العسكريِّ) ونصف عربي (بالحطَّة والعقال). وهذا التَّوليف في ملابس لورَنس يحيلنا إلى الاتِّخاذ التَّدرُّجيّ لصورةٍ ذاتيَّة، وهي صورة مهجَّنة، وهذا التَّهجين يشير أيضًا إلى عملية اكتساب رغبات جديدة.

كان لورَنس قد نجح في إنقاذ جاسم بأعجوبة من موت محقَّق في الصحراء، لكن المفارقة هي أنَّ ذلك الفعل الرجوليَّ الجليَّ إنَّما يُعَمِّدُ الانجذاب ذا الطَّابع المثليِّ بين لورَنس والشَّريف علي؛ إي أنَّ الفعل «الرُّجوليَّ» بِحَقٍّ يغدو اشتراطًا مُتَطَلَّبًا مُسبَقًا للأيروسيَّة ذات الطَّابع الجنسيِّ المثليِّ، فعلامة على تثمين عملية الإنقاذ التي نفّذها لورَنس بشجاعةٍ، والإعجاب بها، يُقَدِّم الشَّريف الماء من قربته شخصيًَّا ليشرب منها لورَنس الظامئ والمنهَك. وفي المقابل فإن لورَنس يرفض دعوات شيوخ القبائل منحهم شرف الاستراحة على سجَّاداتهم، ويؤثر المضي إلى سجَّادة الشَّريف ليستريح عليها. ومن المثير للاهتمام حقًا في هذا المشهد «الرُّجوليِّ» بالكامل أنَّ لورَنس يبدأ في فكِّ أزرار زيِّه العسكريِّ، وهو رمز للذُّكوريَّة العسكريَّة، للمرَّة الأولى والأخيرة طوال الفيلم قبل أن يخرَّ مستلقيًا على بطنه فوق سجَّادة الشَّريف. وبعد أن يستيقظ ليلًا يتبادل حديثًا حميمًا مع الشَّريف علي حول الهويَّة، حيث يبوح له لورَنس أن أمَّه لم تتزوج أباه، فيقترح الشَّريف أنَّ لورَنس، وبسببٍ من ذلك، حرٌّ في اختيار اسمه؛ بل إنَّه يقترح عليه اسم «إلأورَنس». وطريقة الشَّريف في عرض ذلك الاسم تشير إلى تصميم ومطالبة ضمنيَّة («إلأورنس هو الاسم الأفضل») وليس مجرَّد اقتراح قابل للنِّقاش والتَّفاوض، فلا يكون أمام لورَنس من خيار سوى قبول الاسم الجديد.

إن ما يطرحه علينا هذا في سياق التَّسمية وما تَحْمِلُهُ ضمن معطيات الدَّور الجَنْدَرِي أنَّ الشَّريف يملك الحقَّ الشَّرعيَّ/ السُّلطة القانونيَّة والوضع الاجتماعيَّ لفرض إرادته على لورَنس كما زوج على زوجة. بكلمات أخرى فإنَّ الشَّريف «يصبح غربيًّا» في حقيقة أنًّه أصبح رمزيَّا زوجًا عليه أن يعطي زوجـته اسمًا وفقًا للتَّقاليد الغربيَّة. أمَّا لورَنس، وقد جعله تذكُّر عدم شرعيَّته المُحْرِج حزينًا، فإنه يوقف تواصل العيون مع الشَّريف، ويدير له ظهره لاستئناف النَّوم، فيغطِّيه الشَّريف بحنوٍّ، ويلقي ثيابه العسكريَّة - وهي رمزُ «الرُّجولة»- في النَّار لدهشة الغلامين فَرَج وداود.

هذا المشهد الَّليليُّ (بكل معاني الكلمة) يقترح علينا أنَّ لورَنس قد شُرْعِنَ (من «الشَّرعيَّة») في الصَّحراء من خلال زواج رمزيٍّ وقبول فعليٍّ، فعلى عكس السِّير إدوَرد تشابمَن Sir Edward Chapman الذي لم يتزوَّج أمَّ لورَنس، وبالتالي فإنه قد «لوَّث سمعتها» بالمعايير الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة البدويَّة، فإن الشَّريف علي «يتزوَّج» لورَنس ويسبغ عليه اسمًا.

والمشهد النَّهاريُّ اللاحق يقدِّم لنا تعليقاً موسَّعًا عما حدث في الليلة الفائتة؛ فالشَّريف علي الذي يرتدي دومًا ثيابًا قاتمة الألوان، يضع بنفسه الَّلمسات الأخيرة على ثياب لورَنس الجديدة، وهي زيٌّ عربي يرتديه أشراف بني وجه (كما يقول الفيلم)، والذي يصفه لورنس بأنه «رائع جدًا». وتلتقط شُحْطْ هذه اللحظة في الفيلم لتشير إلى أن «الصَّورة الشَّهيرة المبثوثة كثيرًا في الصَّحافة والأشرطة السينمائيَّة الوثائقيَّة للورَنس العرب مرتديًا ثوبًا عربيًّا فضفاضًا قد أسهمت جزئيَّا في إلهام أفلام من قبيل «الشيخ» و«ابن الشيخ» اللذين يرتبط وقوعهما الموقع الحسن ثنائي الجنسانيَّة في التركيب الخبيء للرجل الغربي بوصفه «أنثويًّا». وهي تشرح ذلك بالقول «إن النظرة «الأنثويَّة» المُشَفَّرة... تُراوِحُ في محيط الفضاء الآمن للَّشرق من خلال التَّجسيد «الواقعي» للآخر. إن لورَنس الذي يسرده ديفِد لين، وعلى الرغم من ارتباطه الكلاسيكي بقواعد الذَّكَريَّة البطوليَّة، فهو مُصَوَّرٌ أيضًا في ضوء مِثْليِّ الأيروسيَّة؛ فعندما تقبله القبيلة العربيَّة فإنه يرتدي ثيابًا بيضاء بالكامل هي «كندورة»، و«حطَّة»، ومعطف، و«بِشْتْ» ، وهو، في نقطة ما من السَّرد السِّينمائي يركب جَمَلًا ويتحرك بصورة رهيفة، كما لو أنه، من الناحية العمليَّة، مأسور مثل عروس. وحين يُشْهِرُ خنجرًا من غمده فإنه ينقل الدَّلالة المُجَنْدَرَة للرَّمز القضيبي باستخدامه مرآة ينظر فيها إلى صورته «الأنثويَّة» و«الشَّرقيَّة» المُكْتَسَبَة حديثًا في الصحراء العربيَّة. وبصورة أكثر عموميَّة فإن العلاقة بين لورَنس والشريف علي تتغيَّر بالتَّدرُّج من كونها علاقة ابتدأت أصلًا بكونها تنافسًا ذكريَّا إلى انجذاب أيروسيٍّ مُضَمَّن يكون فيه الشَّريف علي متَّصلاً بتخيُّلات بصريَّة أنثويَّة، يُلخِّصها على أكمل ما يُرام المشهد الذي نرى فيه الشَّريف علي في لقطة مُقَرَّبة بعينين مغرورقتين بالدموع، متساوقًا في ذلك بعواطفه مع عواطف لورَنس المُعَذَّب... إن المعنى المخبوء لتداخل النَّظرة العرقيَّة ومثليَّة الأيروسيَّة في «لورَنس العرب» يشكِّلُ جزءًا من تاريخ طويل للسرديَّات الكولونياليَّة (54).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ه العسکری ریف علی

إقرأ أيضاً:

في اليمن السعيد.. ما الذي قد يعطّل حياة 70 في المئة من اليمنيين؟

عصر كل يوم، يقصد اليمني محمد قائد صالح ناصر منطقة جبلية في قرية الأجواد.

 

من ذلك المكان فقط يستطيع التواصل مع العالم، إذ أنه المكان الوحيد تقريباً الذي يمكنه فيه الاتصال بشبكة الهاتف، غير المتوفرة في قريته القريبة في محافظة لحج.

 

رداءة شبكة الهاتف ليست مشكلة محمد الوحيدة، فبعد أن نسقتُ معه موعداً هاتفياً، في الوقت الذي يقصد فيه ذلك الموقع الجبليّ، تحدثت معه عن مشاكل أخرى يعاني منها السكان في المنطقة.

 

أخبرني ناصر أنّه خسر نحو ثلثي أراضيه الزراعيّة بسبب السيول التي ضربت المنطقة خلال العامين الماضيين.

 

ويعاني اليمن إجمالاً من تداعيات تغير المناخ التي تشهدها المنطقة أكثر من الدول العربية الأخرى، وفقاً لما جاء في تقرير مؤشر المخاطر العالمي 2022، الصادر عن "تحالف المساعدة" المكوّن من منظمات إغاثية ألمانية.

 

وكشف التقرير أنّ اليمن يأتي في المرتبة الثانية بعد الصومال، ضمن قائمة الدول العربية الأكثر عرضة للآثار السلبية الناتجة عن تغير المناخ.

 

وكما تقول دينا صالح، وهي مديرة إقليميّة مع صندوق إيفاد التابع للأمم المتحدة، فإن التركيز على تأثير تغيّر المناخ على قطاع الزراعة وتضرره في اليمن مهم جداً، إذ أن "70 في المئة من اليمنيين يعملون في الزراعة، لذا عندما يحدث أي خلل في هذا القطاع، فهذا يعني أن 70 في المئة من السكان سيعانون".

 

اليمن "السعيد"

 

منذ العصور القديمة لُقّب البلد بـ"اليمن السعيد"، وهناك من يذهب إلى أن أصل التسمية تعود لما كانت تمتاز به الأرض هناك من خصوبة وتنوع منتجاتها الزراعية، كالبنّ واللبان، كما كان يُشار إلى سد مأرب على أنه أهم مصدر للري والازدهار الزراعي - ما جعل الحياة في اليمن أكثر استقراراً مقارنةً بمناطق أخرى.

 

كما يُقال أن كلمة "اليمن" تحمل دلالات لغوية إيجابية، فهي تشير إلى اليُمن (البركة) في تلك الأرض.

 

عام 2010، زرتُ مدينة السائلة التاريخية في صنعاء القديمة (ويظهر جانب من المدينة في الصورة)، وأخبرني من معي أن الطريق التي كنا نسلكها بالسيارة، قد تغمرها المياه أحيانا حتى أن منسوب الماء قد يتجاوز ارتفاع السيارات.

 

لكن البلد الذي يعتمد جزء كبير من سكانه على الزراعة للعيش، فقد مساحات زراعية واسعة، إذ قال وزير المياه والبيئة اليمني، خلال مؤتمر قمة المناخ في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إنّ اليمن خسر في عام واحد 30 في المئة من أراضيه الزراعية.

 

ويعود ذلك لسببين أساسيين متناقضين: السيول التي تجرف التربة خلال موسم الأمطار، والجفاف في الموسم الحار.

 

تحدثنا إلى أربعة مزارعين يمينيين، وكرر جميعهم ثلاث أسباب تهدد مزارعهم: السيول، الجفاف، وآفات المحاصيل.

 

المزارعة اليمنية أروى علي أحمد نابت، إحدى مزارعات منطقة الخداد، في محافظة لحج، جنوب شرق العاصمة، وتعيل عائلة من تسعة أفراد بعد وفاة والدها.

 

في محافظة لحج، غالباً ما تكون النساء مسؤولات عن إعالة عوائلهن، وتقول أروى إنّ النساء علّمن بناتهن في الكليات، لكن شهاداتهن عُلّقت على جدران المنازل، إذ لا توجد وظائف حكومية، فتوجهن للعمل في المزارع بعد أن أصبح ذلك خيارهن الوحيد.

 

لكن حيث تعيش وتعمل أروى، بدأ المزارعون بالشعور باليأس بسبب تكرر السيول التي دمرت المزارع خلال السنوات الأخيرة.

 

يقول تقرير لمجموعة البنك الدولي صدر عام 2023 إنّ اليمن سيشهد المزيد من ارتفاع منسوب مياه البحر وارتفاع حرارة سطح المياه، وأنّ تداعيات هذه التغيرات ستصحب معها المزيد من الفيضانات والسيول والجفاف.

 

وتعلّق أروى على ذلك: "أغلب الناس يعيشون على الزراعة، يجب إحياؤها من جديد، لا بديل عن الزراعة، إن انتهت .. انتهينا نحن معها".

 

وتقول أروى أنّ معظم الأراضي الزراعية في لحج تحولت إلى مساحات للسكن وبناء المصانع، فيما ضرب أخرى الجفاف وتحولت إلى صحراء، موضحة أنه "لا يمكن إلا لمن يعيش قرب مصادر الماء الاستمرار في الزراعة" في الوقت الحالي.

 

وهنا تذكر أروى مشكلة أخرى يعاني منها المزارعون في لحج، وهي توفير المياه خلال فترة الجفاف، إذ تتهم أروى جهة - لم تسمّها - بالمسؤولية عن توزيع المياه بشكل غير عادل، و"لمن يملك المال حصراً" كما تقول.

 

توضح أروى أن قطع المياه عن المزارعين، أو تقليل مصادرها دفعت العديد إلى بيع أراضهم، بينما يقف البعض الآخر متفرجاً على أرضه التي تدمرت ولم يستطع إصلاحها أو حتى بيعها.

 

وأضافت أروى أنّ المزارعين الصغار اضطروا للعمل عند أصحاب المزارع الكبيرة لتوفير قوت يومهم، إذ يدفع أصحاب المزارع الكبيرة رواتب "سبعة آلاف ريال للرجل"، بينما تحصل النساء "على خمسة آلاف ريال" وتشير إلى أن العمل في تلك المزارع مرهق ومتعب، لكنه ضروري "من أجل تأمين لقمة العيش".

 

كان راتب المزارعات في السابق ثلاثة آلاف ريال (ما يعادل 12 دولار أمريكي) لكل يوم عمل، وتمّ رفعه لاحقاً إلى خمسة آلاف ريال، لكنه لا يزال أدنى من راتب يوم عمل للمزارع الرجل، ومع ذلك اضطرت العديد من النساء إلى العمل كمزارعات في المزارع الكبيرة مقابل "أجر يومي"، بينما "ذهب الشباب للمشاركة في القتال" كما تقول أروى.

 

القات

 

استطاع محمد ناصر زراعة القات فيما تبقى من أرضه التي تضررت جراء السيول أكثر من مرة، لكنه يقول إنه وسط الظروف الحالية في اليمن، لا يستطيع زراعة أو إصلاح الجزء الآخر.

 

ويشتكي ناصر عن خطر آخر يهدد محصوله إلى جانب السيول في الوقت الحالي، وهو خطر الآفات التي تضرب المحاصيل.

 

ويقول محمد إنّ الآفة دمرت محاصيل القات التي يعتمد عليها غالبية المحاصيل لتأمين مصاريفهم، إذ يشكّل القات غالبية المحاصيل، بالإضافة إلى بعض الحبوب الأخرى.

 

ويوضح محمد أنّ هناك تشجيعاً لاستبدال محاصيل القات بزراعة محاصيل أخرى، لكنّ الكوارث الأخيرة ومشاكل القطاع الزراعي تحول دون ذلك وجعلت "الناس على باب الله"، وحتى أن بعض المزارعين أصبحوا يبحثون عن فرصة عمل يومي في أي مجال آخر، و"بعضهم يذهب للقتال أو للعمل في مصانع المشتقات النفطية الخليجية".

 

غلاء المعيشة والبطالة، وكيس الدقيق الذي أصبح يعادل ثلاثين دولاراً - بحسب محمد ناصر – كلها مشاكل ضيّقت الخناق على اليمنيين، لا سيما المزارعين منهم، وتضاف إلى قائمة سبق ذكرها من مشكلات مناخية أصبحت تهدد مصادر رزقهم كل عام.

 

ويشتكي محمد من أنّ الصندوق الدولي خصّ أشخاصاً دون آخرين بالتعويضات، موضحاً أنّ المزارعين اعتمدوا على أنفسهم بما وجدوه من أدوات لمواجهة الطقس المتطرف الذي بات يهدد اليمن، وقاموا بإنشاء حواجز بدائية ضدّ السيول.

 

الزراعة والأمن الغذائي في اليمن

 

في اليمن السعيد أيضاً، ذكر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي العام الماضي، أنّ أكثر من 24 مليون شخص – 83 في المئة من السكان – يعانون من انعدام الأمن الغذائي في البلاد، إضافة إلى أن أكثر من نصف الأطفال بحاجة إلى علاج سوء تغذية حاد.

 

وأطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي العام الماضي مع منظمات دولية أخرى، مشروع تمكين البنية التحتية الزراعية في محافظة تعز كنوع من الدعم الدولي لليمنيين.

 

لكنّ المزارع خالد عبد الغني يقول إنه لا يوجد أي نوع من الدعم، سواءً من "الدولة، أو المنظمات، أو من فاعلي الخير".

 

يعيل خالد عائلة من سبعة أفراد، ويقول: "ليس لدينا سوى الزراعة لنعيش، لكن بعد الأضرار التي لحقت بالقطاع، لا نستطيع اليوم حتى تأمين قوتنا منها".

 

يتجول عبد الغني بين أشجار مزرعته كاشفاً عن ثمارها التي أُصيبت ببعض الآفات، ويكرّر الحديث ذاته حول السيول والآفات، ويوضح أن "حشرة المنّ التي تغزو الثمار، تتسلل إلى جوف الأرض وتتسبب في جعل الترابة أكثر صلابة".

 

تقع أرض خالد في منطقة متطرفة مناخياً، ففي الشتاء تسبب غزارة الأمطار في سيول جارفة، بينما تعاني في المواسم الأخرى من الجفاف الشديد.

 

يقول خالد إنّ السيول وحبات البرد تأتي في موسم الأمطار، وتجرف بعضاً من التربة وتترك الأرض قاسية وغير قابلة للزراعة، فيقوم المزارعون بترميم أراضيهم بأيديهم و"بما توفر لنا من إمكانيات"، ثم يأتي فصل الصيف فيضربها الجفاف خاصة وأن الآبار التي تنتشر في المنطقة دون جدوى، بسبب عدم وجود مضخات لتشغيلها.

 

هذا الحال فاقم أزمة اليمن، إذ تقول دينا صالح، المديرة في إيفاد، إن الصراعات الداخلية والصدمات الناتجة عن عوامل خارجية مثل وباء كورونا، والحرب في أوكرانيا، "أثرت بشكل عميق" على القطاع الزراعي، ما زاد الضغط على صغار المزارعين في اليمن.

 

وتوضّح دينا أن المساعدات التي قُدّمت لليمنيين "ليست كافية وغير مستدامة"، مشيرة إلى أنه "عندما تضيف تأثير تغير المناخ، ونقص البنية التحتية المناسبة، والقدرة المحدودة للحكومة على تغيير أي من ذلك في أي وقت قريب، تدرك أن الزراعة في اليمن تحتاج إلى المزيد من الاستثمار".

 

حال منى أحمد قاسم في تعز ليس أفضل من حال بقية المزارعين الذين تحدثنا إليهم، فوضع نساء اليمن العاملات في الزراعة يزداد صعوبة مع حمل مسؤولية المنزل والعائلة، وأجور أقل من العاملين الذكور.

 

أنشأ زوج منى محمية زراعية، وعملا فيها سوياً أربع سنوات، حتى اجتاحت المنطقة عاصفة قوية قضت على ما فيها.

 

توفي زوجها، فوجدت نفسها وحيدة في أرض بحاجة إلى إصلاح، وما زاد الأمر سوءاً، تعرّض ابنها الشاب - الذي كان يعمل في المزرعة أيضاً - لحادث تسبب في عجزه، وهو يبلغ من العمر الآن 23 عاماً.

 

ولا تزال منى تزرع بعض الحبوب في أجزاء من الأرض التي تحتاج الكثير من العمل حتى تعود للاستفادة منها بشكل كامل.

 

كان وضعها جيداً قبل ثلاث سنوات حين ضربت العاصفة المنطقة، لكنّها حالياً، بالكاد يمكنها سدّ احتياجات أبناءها الأساسية، وتعاني منى مثل غيرها.

 

وفي ظل ما يعانيه المزارعون في اليمن، وقّعت 11 دولة على بيان يحذّر من تداعيات تغير المناخ على السلام والأمن في اليمن، في وقت يستمر فيه الانقسام السياسي في البلاد.

 

وأطلقت الحكومة اليمنية البرنامج الوطني لتمويل المناخ بين عامي 2025 و2030 بهدف تعزيز قدرة البلاد على التكيّف مع تحديات التغير المناخي.

 

ومع استمرار التداعيات المتوقعة لتغيرات المناخ وأثر الحروب والصراعات، يظل اليمن عرضة لمزيد من الكوارث التي قد تزيد من تدهور اقتصاده المتضرر أصلاً، وليس من الواضح حتى الآن كيف وأين سيطبق ذلك البرنامج الوطني لتمويل المناخ.


مقالات مشابهة

  • صاروخ روسي وراء تحطم الطائرة الأذربيجانية.. ما الذي حدث؟
  • ما هو مقدار الشوكولا الذي يقتلك إن أكلته؟
  • سعد الدين حسن .. الكاتب الذي حادثه الوزير على تليفون المقهى
  • في اليمن السعيد.. ما الذي قد يعطّل حياة 70 في المئة من اليمنيين؟
  • أردوغان يستقبل جنبلاط في أنقرة.. ما الحديث الذي دار بينهما؟
  • ○ من الذي خدع حميدتي ؟
  • ما الذي يكشفه طعن نجيب محفوظ عن السلطة في مصر ؟
  • صخر الشارخ.. قصة العربي الذي جعل الحواسيب تتحدث بالعربية
  • حلم بوتين الذي تحول إلى كابوس
  • من هو كمال عدوان الذي سُمي مستشفى غزة باسمه؟