الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «12»
تاريخ النشر: 19th, November 2023 GMT
عطفًا على ما جاء في الحلقة السابقة، يبقى المسدَّس في حوزة الشَّريف حتَّى عشيَّة الهجوم على الحامية التُّركيَّة في العَقَبَة، حيث يَقتل عضو في التَّحالف القبليِّ الذي يشكِّل الجيش العربيَّ-وهو حارثيٌّ- فرداً من قبيلة الحويطات، فيستشعر لورَنس أنَّ الوضع صار حرِجًا وهشَّا، إذ أنَّ جريمة القتل ذات الطابع القبليِّ تهدِّد «الوحدة العربيَّة» التي يصوِّره الفيلم مقاتلًا لأجلها.
إن ما فعله لورنَس هنا بوضوح شديد هو استعادة الرَّمز ، ولكنَّها استعادة مؤقَّتة فحسب؛ إذ أنَّ لورَنس يبدو بعد تنفيذ الإعدام مرتجفًا، مرعوبًا، ويمشي بصورة متيبِّسة محدِّقًا في المسدِّس بنظرة ملأى بالتَّنَصُّل وعدم التَّصديق، فيطوِّح به ليسقط على الأرض ويهرع حشد من العرب للتصارع عليه. إن نظرة لورَنس المرعوبة تُحِلُّ الرغبة في الاشمئزاز الذَّاتيِّ، وتعرّي السَّاديَّ فيه بالتَّعبير عن الرَّابط بين العنف والَّلذة (يعترف لورَنس للجنرال أللنبي أنه «استمتع» بقتل جاسم)، كما أنَّ نظرة لورَنس المرعوبة تشي بفزعه من إعادة اكتشاف حسٍّ معيَّن بالهويَّة كان مفقودًا أو أنَّه كان قد تخلَّى عنه. وإعادة الاكتشاف هذه لا تزال مرتبطة بأفعال وتجليَّات علاقته بالشَّريف علي.
زواجٌ رمزيٌّ
إن أفعال الجَنْدَر والرَّغبة ذات الطَّابع المِثليِّ الأكثر أهميَّة، التي ترسم خط التَّوكيد في العلاقة بين لورَنس والشَّريف علي، تقع خلال الزَّحف إلى العَقَبَة حيث يغدو الانجذاب المتبادَل بينهما صريحًا أكثر، وذلك قبل قضيَّة إعدام جاسم؛ ففي رحلة قطع صحراء النُّفود يتخلى لورَنس عن قُبَّعَتِه العسكريَّة (لا يُعيد وضعها على رأسه إلا في لقاءاته اللاحقة القليلة بالضُّباط البريطانيِّين) ويستبدلها بغطاء الرأس البدويِّ (الحطَّة والعقال). وبالتالي فإنَّه يظهر بصفته نصف إنجليزيٍّ (بزيِّه العسكريِّ) ونصف عربي (بالحطَّة والعقال). وهذا التَّوليف في ملابس لورَنس يحيلنا إلى الاتِّخاذ التَّدرُّجيّ لصورةٍ ذاتيَّة، وهي صورة مهجَّنة، وهذا التَّهجين يشير أيضًا إلى عملية اكتساب رغبات جديدة.
كان لورَنس قد نجح في إنقاذ جاسم بأعجوبة من موت محقَّق في الصحراء، لكن المفارقة هي أنَّ ذلك الفعل الرجوليَّ الجليَّ إنَّما يُعَمِّدُ الانجذاب ذا الطَّابع المثليِّ بين لورَنس والشَّريف علي؛ إي أنَّ الفعل «الرُّجوليَّ» بِحَقٍّ يغدو اشتراطًا مُتَطَلَّبًا مُسبَقًا للأيروسيَّة ذات الطَّابع الجنسيِّ المثليِّ، فعلامة على تثمين عملية الإنقاذ التي نفّذها لورَنس بشجاعةٍ، والإعجاب بها، يُقَدِّم الشَّريف الماء من قربته شخصيًَّا ليشرب منها لورَنس الظامئ والمنهَك. وفي المقابل فإن لورَنس يرفض دعوات شيوخ القبائل منحهم شرف الاستراحة على سجَّاداتهم، ويؤثر المضي إلى سجَّادة الشَّريف ليستريح عليها. ومن المثير للاهتمام حقًا في هذا المشهد «الرُّجوليِّ» بالكامل أنَّ لورَنس يبدأ في فكِّ أزرار زيِّه العسكريِّ، وهو رمز للذُّكوريَّة العسكريَّة، للمرَّة الأولى والأخيرة طوال الفيلم قبل أن يخرَّ مستلقيًا على بطنه فوق سجَّادة الشَّريف. وبعد أن يستيقظ ليلًا يتبادل حديثًا حميمًا مع الشَّريف علي حول الهويَّة، حيث يبوح له لورَنس أن أمَّه لم تتزوج أباه، فيقترح الشَّريف أنَّ لورَنس، وبسببٍ من ذلك، حرٌّ في اختيار اسمه؛ بل إنَّه يقترح عليه اسم «إلأورَنس». وطريقة الشَّريف في عرض ذلك الاسم تشير إلى تصميم ومطالبة ضمنيَّة («إلأورنس هو الاسم الأفضل») وليس مجرَّد اقتراح قابل للنِّقاش والتَّفاوض، فلا يكون أمام لورَنس من خيار سوى قبول الاسم الجديد.
إن ما يطرحه علينا هذا في سياق التَّسمية وما تَحْمِلُهُ ضمن معطيات الدَّور الجَنْدَرِي أنَّ الشَّريف يملك الحقَّ الشَّرعيَّ/ السُّلطة القانونيَّة والوضع الاجتماعيَّ لفرض إرادته على لورَنس كما زوج على زوجة. بكلمات أخرى فإنَّ الشَّريف «يصبح غربيًّا» في حقيقة أنًّه أصبح رمزيَّا زوجًا عليه أن يعطي زوجـته اسمًا وفقًا للتَّقاليد الغربيَّة. أمَّا لورَنس، وقد جعله تذكُّر عدم شرعيَّته المُحْرِج حزينًا، فإنه يوقف تواصل العيون مع الشَّريف، ويدير له ظهره لاستئناف النَّوم، فيغطِّيه الشَّريف بحنوٍّ، ويلقي ثيابه العسكريَّة - وهي رمزُ «الرُّجولة»- في النَّار لدهشة الغلامين فَرَج وداود.
هذا المشهد الَّليليُّ (بكل معاني الكلمة) يقترح علينا أنَّ لورَنس قد شُرْعِنَ (من «الشَّرعيَّة») في الصَّحراء من خلال زواج رمزيٍّ وقبول فعليٍّ، فعلى عكس السِّير إدوَرد تشابمَن Sir Edward Chapman الذي لم يتزوَّج أمَّ لورَنس، وبالتالي فإنه قد «لوَّث سمعتها» بالمعايير الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة البدويَّة، فإن الشَّريف علي «يتزوَّج» لورَنس ويسبغ عليه اسمًا.
والمشهد النَّهاريُّ اللاحق يقدِّم لنا تعليقاً موسَّعًا عما حدث في الليلة الفائتة؛ فالشَّريف علي الذي يرتدي دومًا ثيابًا قاتمة الألوان، يضع بنفسه الَّلمسات الأخيرة على ثياب لورَنس الجديدة، وهي زيٌّ عربي يرتديه أشراف بني وجه (كما يقول الفيلم)، والذي يصفه لورنس بأنه «رائع جدًا». وتلتقط شُحْطْ هذه اللحظة في الفيلم لتشير إلى أن «الصَّورة الشَّهيرة المبثوثة كثيرًا في الصَّحافة والأشرطة السينمائيَّة الوثائقيَّة للورَنس العرب مرتديًا ثوبًا عربيًّا فضفاضًا قد أسهمت جزئيَّا في إلهام أفلام من قبيل «الشيخ» و«ابن الشيخ» اللذين يرتبط وقوعهما الموقع الحسن ثنائي الجنسانيَّة في التركيب الخبيء للرجل الغربي بوصفه «أنثويًّا». وهي تشرح ذلك بالقول «إن النظرة «الأنثويَّة» المُشَفَّرة... تُراوِحُ في محيط الفضاء الآمن للَّشرق من خلال التَّجسيد «الواقعي» للآخر. إن لورَنس الذي يسرده ديفِد لين، وعلى الرغم من ارتباطه الكلاسيكي بقواعد الذَّكَريَّة البطوليَّة، فهو مُصَوَّرٌ أيضًا في ضوء مِثْليِّ الأيروسيَّة؛ فعندما تقبله القبيلة العربيَّة فإنه يرتدي ثيابًا بيضاء بالكامل هي «كندورة»، و«حطَّة»، ومعطف، و«بِشْتْ» ، وهو، في نقطة ما من السَّرد السِّينمائي يركب جَمَلًا ويتحرك بصورة رهيفة، كما لو أنه، من الناحية العمليَّة، مأسور مثل عروس. وحين يُشْهِرُ خنجرًا من غمده فإنه ينقل الدَّلالة المُجَنْدَرَة للرَّمز القضيبي باستخدامه مرآة ينظر فيها إلى صورته «الأنثويَّة» و«الشَّرقيَّة» المُكْتَسَبَة حديثًا في الصحراء العربيَّة. وبصورة أكثر عموميَّة فإن العلاقة بين لورَنس والشريف علي تتغيَّر بالتَّدرُّج من كونها علاقة ابتدأت أصلًا بكونها تنافسًا ذكريَّا إلى انجذاب أيروسيٍّ مُضَمَّن يكون فيه الشَّريف علي متَّصلاً بتخيُّلات بصريَّة أنثويَّة، يُلخِّصها على أكمل ما يُرام المشهد الذي نرى فيه الشَّريف علي في لقطة مُقَرَّبة بعينين مغرورقتين بالدموع، متساوقًا في ذلك بعواطفه مع عواطف لورَنس المُعَذَّب... إن المعنى المخبوء لتداخل النَّظرة العرقيَّة ومثليَّة الأيروسيَّة في «لورَنس العرب» يشكِّلُ جزءًا من تاريخ طويل للسرديَّات الكولونياليَّة (54).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ه العسکری ریف علی
إقرأ أيضاً:
الخيل فى رحاب البادية
قد لاح فى الأفق كالطود العظيم وصهيلٌ الخيل قد ران ورجع الصدى قد بان أبرق فى السماء ليكشف خبرًا قد أتى أو عنوانا للخير فى الخيل ابتدئ وقسما عزيزا فى الورى قال تعالى" وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا".
أقسم الله بخيله وصهيلها وغبارها وقدح حوافرها المار من الحجر يذكر العرب ويخاطبهم بما يجلونه ويعتزون به وآخر ما يضحون به فتاريخ العرب وبطولاتهم وأيامهم المجيدة ارتبط بالخيل وقال عنترة:
إِن كُنتِ جاهِلَةً بِما لَم تَعلَمى
هَلّا سَأَلتِ الخَيلَ يا اِبنَةَ مالِكٍ
وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقودة فى نواصيها الخيل إلى يوم القيامة" وفى الخيل عزة وشموخ فهى تحزن ولا تبوح وتتألم ولا تنكسر فهى العزيزة الأبية وفى الخيل تتجلى عناوين كثيرة كالحرية والشجاعة والقوة والشموخ والعزة والإباء فهى وسيلة للنقل والصيد والحرب والعدة والعتاد وقال تعالى "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا أستطعتم من قوة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ"، والخيل من الخيلاء وهو الافتخار والاعتزاز والعزة والكرامة والبسالة وأندرها الخيل العربى فهى رمز للقوة والجمال والقدرة والسؤدد ولشكلها الفريد دلائل، فالعينان الواسعتان تعبر عن الذكاء والفطنة وبرقبة مقوسة وظهر قصير وأرجل قوية وعضلات بارزة وتتسم بالرشاقة والسرعة وقدرتها على المناورة بسهولة، وأول حصان عربى اسمه «زاد الراكب»، وهناك ارتباط بين الخيل والفارس وكرامة الفرس الأصيل ركوبها ولا ندرى أيهما يسبق الآخر وقال الشاعر:
ياسائس الخيل قم للخيل وانحرها ما حاجة الخيل والفرسان قد ماتوا
وفى جميع الأحوال يتأثر الفارس بجواده وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل» وهذه اطلالة بسيطة فى رحاب الخيل.
وتبقى شعبة أدب البادية منارة جديدة للأدب السردى والشفهى والحكائى من شعر ونثر وأمثال وحكم وغيرها من المظان الأدبية الرفيعة، والفضل كل الفضل للدكتور علاء عبدالهادى رئيس النقابة العامة لاتحاد الكتاب بمصر والأمين العام للاتحاد العام للادباء والكتاب العرب الذى برؤيته الثاقبة انشئ شعبة ادب البادية مما يسهم فى التنوع الثقافى ويحافظ على الهوية المصرية بكل مكوناتها حيث أن بيئة البادية لها خصوصية وتراث فريد من الأدب الشفهى يحمل قيما تتوارثها الأجيال ولا ننسى الكاتب الفنان الأستاذ«أبوالفتوح البرعصى» الذى أسس هذه الشعبة ولا يكل ولا يمل من البحث عن الكنوز المخفية فى تراث البادية ولا يألوا جهدا فى ذلك مسترشدا بما قاله امادو: «عند وفاة عجوز افريقية يختفى متحف» وفى المؤتمر الثانى الذى انعقد هذا الأسبوع بعنوان «الخيل فى أدب وتراث البادية» والذى جمع كوكبة من الكتاب والباحثين الذين تناولوا الخيل فى أدب البادية من كل الزوايا فلهم كل التحية على هذه الإضافة القيمة لهذا الموضوع المهم فرئيس المؤتمر الشيخ «الطحاوى سعودى» وهو عراب الخيل وقد سرد فى بحثه عناصر جديدة تثرى هذا الدراسة بأسلوب رشيق ومعلومات مؤثقة وهو ابن الشرقية حيث الحصان شعار لها كما تحدث الدكتور «هانى السيسى» عن أنساب الخيل فى التراث العربى بتعمق وتحدث الشاعر الكبير والباحث الاريب قدورة العجنى حديث ماتع عن الخيل فى شعر الهلالية والسير الشعبية لأبناء الصحراء الغربية والشاعرة والكاتبة «أحلام أبونوارة» تناولت ببحث قيم عن الأمثال والحكم ومرادها ومراميها فى الخيل عند أهل البادية والكاتب الكبير «عبدالستار حتيته» كتب بحثا قيما عن الخيل فى التراث البدوى وقد نشر لهذا المؤتمر أبحاثه بعنوان «الخيل فى أدب وتراث البادية» وهو إضافة مهمة لكتب التراث الشعبى البدوى.