د. يوسف بن حمد البلوشي
yousufh@omaninvestgateway.com
يمثل التطور الفكري للشعوب سرَ النجاح وأساسَ صناعة المُستقبل للأمم، ولا مناص من تغيير منهجيات التفكير والتحليل بتغيير المشكلات للوصول لحلول ذات صبغة شمولية، وخاصة ونحن نعيش في عالم سريع التغيُّر، تتنوع وتتعقد أزماته على كل الأصعدة.
وإن كانت الدول تعيش في نفس الزمان إلّا أنها تعيش في عصور فكرية مختلفة، وهذا ما يُفسِّر تقدم وازدهار بعض الأمم وسكون أمم أخرى.
القيادة عملية تهدف إلى إثارة اهتمام الآخرين وإطلاق طاقاتهم الكامنة وتوجيهها نحو الهدف المرغوب. وهناك العديد من أنواع القيادات يمكن تقسيمها بشكل عام الى ثلاثة أنواع؛ هي: القيادات المؤسسية، والقيادات الفكرية، والقيادات السياسية.
ولضيق المساحة، سنركز في حديثنا عن أهمية القيادات الفكرية، لدورها الفاعل في التأثير على القيادات المؤسسية، وكذلك السياسية.
القيادات الفكرية هي التي تفتح العقول وتعمل على تغيير المفاهيم والقناعات الراسخة القديمة باخرى تتوافق مع مرحلة جديدة، وتؤمِّن أدوات جديدة لصناعة مستقبل جديد. وهي كذلك من تنشر الوعي الكافي في المجتمعات وتغرس وتُعزِّز ثقافات معينة مثل: الاستثمار، والعمل الحر، وكذلك تدفع نحو مسارات جديدة لتفعيل أدوار القطاع الخاص والافراد في العملية التنموية، وبهذا تستطيع تقليل وكبح المقاومة لدى أفراد المجتمع ورجال الاعمال ضد إحداث التغيير.
بصفة عامة.. القيادة الفكرية هي المسؤولة عن صناعة الثقافة السائدة في المجتمع، من مواقف وسلوكيات وقناعات تتبناها غالبية أفراد المجتمع؛ وكذلك هوية هذا المجتمع وأبرز مؤشرات وممكنات توجهاته ومستقبله التنموي. ولتقريب الفكرة أتطرقُ الى مثالٍ في الجانب الاقتصادي، ففي سبعينيات القرن الماضي، كانت سنغافورة بلدًا شحيح الموارد، لكن الحكومة السنغافورية استعانت بقيادات فكرية فذّة من بينهم "ألفين توفلر"، التي استطاعت التأثير وإقناع القيادة السياسية بأن استقطاب الاستثمار الأجنبي هو البديل الأنسب للنهوض بسنغافورة، مع ضرورة الأخذ بالأسباب التي تؤدي لاستقطاب لاعبين مهمين في قطاعات استراتيجية، وإدخال التعديلات الضرورية في السياسات والمُمَارسات ومنح حوافز للشركات العالمية الرائدة، في وقت كانت غالبية الدول ترى في الاستثمار الأجنبي أنه وجهة أخرى للاستعمار.
لكن في المقابل، تأصلت ثقافة تُقدِّر التعليم والابتكار؛ الأمر الذي ساهم في بناء قوة عاملة ذات مهارات عالية ومُتعلمة ومجهزة جيدًا للتكيُّف مع الصناعات والتقنيات الجديدة، كما نفَّذت الحكومة سياسات تشجع ريادة الأعمال والابتكار، مما ساهم في تطوير صناعات وشركات جديدة. وفعلًا انتهجت سنغافورة هذا المسار وارتقت سلم التنمية على عكس بعض الأمم التي كانت ترى في الاستثمار الأجنبي شرًا مُطلقًا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من المجتمعات تُعاني من شُحٍّ في إيجاد قيادات فكرية قادرة على تغيير السياسات والقناعات القديمة؛ بما يتناسب مع احتياجات العصر الجديد. لذلك نؤكد دائمًا أن القيادات الفكرية هي المعنية بصناعة الأفكار وبناء الأيديولوجيات وترسيخ الثقافات في المجتمعات، وإذا ما أرادنا تغيير أوضاع الاقتصاد، فعلينا العمل على تغيير الأفكار والسياسات التقليدية المرتبطة به، وإيجاد أفكار جديدة وتأطيرها بشكل مناسب؛ لتستطيع القيادات السياسية والمؤسسية الاستفادة منها، وإلّا سنظلُ ندورُ في ذات الدوائر في ظل أفكار قديمة بمُسمَّيات جديدة.
ومن بين الأفكار التي تبنتها الدول الصاعدة تمكين شركات القطاع الخاص وتركيز الحكومات على وضع الأطر المناسبة وتهيئة بيئة الأعمال. واحتاجت في سبيل ذلك إلى فكر جديد يؤمن بإفساح المجال لشركات القطاع الخاص؛ لتلعب الدور الأهم في النهوض بالاقتصاد، والإيمان بهذا التوجه يستوجب وجود قيادات فكرية تستطيعُ تغيير المفاهيم وإقناع القيادات المؤسسية والسياسية بالتوجهات الجديدة في مختلف الأصعدة، وهناك حاجة ملحة للانتقال من عصر الفكر القديم إلى عصر الفكر الجديد. فما كان مُحرَّمًا بالأمس، قد يصبح هو المرغوب في المرحلة المُقبلة.
ونؤكد مُجددًا أن تعزيز قدرات القطاع الخاص بحاجة لفكر جديد يؤمن بأدوات جديدة لتحريك الاقتصاد ونقله الى مستوى جديد، يعمل على إزالة الحواجز والتعامل مع المشاكل الحقيقية التي تواجه جميع عوامل الإنتاج، والتي تشمل رأس المال والقوى العاملة ومؤسسات الأعمال، وتعزيز القدرة الاستيعابية للاقتصاد. وفي نفس الوقت تغيير الفكر السائد حول محدودية كفاءة القطاع الخاص وثقافة ممارسة الأعمال التجارية وإيجاد ظروف مواتية لنهوضه.
ويرى الكثيرون أن الطريق نحو إحداث تغيير في الاقتصاد العُماني ينطلق من خلال تغيير الفكر والثقافة السائدة أولًا ويحتاج إلى الدفع باتجاه السلوكيات والسياسات المطلوبة.
وقبل الختام نقول إن عُمان تمُر بمرحلة مُثلى للتغيير والارتقاء بالنموذج التنموي القائم، والذي أدى دوره بنجاح في الحقبة المنصرمة، وبات التغيير حتميًا نحو نمط ونسق جديد يعمل على تعظيم الاستفادة من الجاهزية الكبيرة للبنية الأساسية والبشرية والموارد الطبيعية للسلطنة، والامر يحتاج الى فكر جديد؛ إذ إن السياسات القديمة لن تُفيد في تحقيق التحول المنشود، وهذا لن يتأتى دون تغيير للعديد من الثقافات والقناعات الراسخة والتي تحتاج الى قيادات فكرية فاعلة في المرحلة المقبلة.
ونُضيف أن إيجاد اوعية ومراكز بحثية لاحتضان أصحاب الفكر، أمرٌ غاية في الأهمية، فهذه المراكز تُساهم في فَهْمِ التفاعلات الإقليمية والدولية، وتستشرفُ المستقبل وتستقرئ تأثير التغيرات الجيوسياسية والجيواقتصادية المختلفة على الوضع المحلي، وترفد صناع القرار بتحليلات شاملة ومُعمَّقة حول القضايا المختلفة، وتقدم التوصيات للتعامل معها.
ولا يفوتنا أن نُذكِّر كذلك بالدور المهم للإعلام في الارتقاء وتوصيل الأفكار المرغوبة بأدوات وأساليب ذكية؛ فلا يُمكن تحقيق النجاح بسياسات وأفكار قديمة، وُجدت في وضع ومعطيات معينة، أن تنجح في وضع ومعطيات ومقاربات جديدة، خاصة ونحن نعيش في عالم سريع التغير تتنوع وتتعقد أزماته وتتجاوز المحلي إلى الاقليمي والعالمي، وكذلك تتجاوز الأصعدة الآقتصادية الى الاجتماعية والسياسية.
ونختمُ في هذا السياق باقتباسٍ مُنير من الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- في افتتاح مجلس عمان قبل أيام: "إننا إذْ ننظرُ إلى المؤسساتِ التعليميةِ، والمراكزِ البحثيةِ والمعرفيةِ بجميعِ مستوياتِها، على أنها أساسُ بنائِنا العلميِّ والمعرفيِّ، ومستندُ تقدِمِنا التقنيِّ والصِّناعي؛ لَنُؤَكِّدُ على استمرارِ نهجِنا الداعي إلى تمكينِ هذا القطاع".
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
التأطير العقدي للعمل.. ضمان التوافق بين الفكر والسلوك في الإسلام
العقيدة الإسلامية هي حقيقة ثابتة وشاملة تُحدد علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبالآخرين، وبالكون من حوله. فعاليتها تكمن في تحويل الإيمان إلى قوة دافعة للإصلاح والتنمية، مما يجعلها الأساس المتين لبناء الفرد والمجتمع.
الكاتب والمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد النجار وهو أحد المفكرين والباحثين في مجال الفقه والفكر الإسلامي المعاصر، الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يواصل في هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، البحث في مدلول العقيدة الإسلامية ومفرداتها.
ب ـ التأطير العقدي للعمل
إذا كان الفكر هو أصل العمل فإن التأطير العقدي للفكر لا يُغني عن التأطير العقدي للعمل أيضا، ذلك أن العمل إذا لم يكن موجّهاً توجيها عقديا مباشراً فإنه قد يطرأ عليه انقطاع عن مفاهيم العقيدة حتى وإن كان الفكر الذي هو امتداد له مبنيا ً بناءً عقدياً، فما أيسر ما ينحرف السلوك العملي عن الصورة الذهنية الحاصلة بالفكر حتى وإن كانت صورة مؤطرة تأطيرا عقدياً. ولعلّ هذا هو أحد معاني الحديث النبوي الذي فيه تعوّذ من علم لا ينفع ، فهو تعوّذ من صورة ذهنية قد تكون صحيحة في ذاتها مبنية على مقتضيات عقدية، ولكن العمل التطبيقي عند حاملها لا يجري على حسبها، بل يجري منحرفا عنها، مقطوع الصلة بموجّهها العقدي فلا يكون له نفع.
دوران العمل على مقاصد الشريعة كرابط بينه وبين العقيدة يقتضي أن تُلحظ في الأعمال كلها مآلاتها من المصلحة أو المفسدة، فتبنى بحسب تلك المآلات، وتتعدّل وتتكيّف بحسبها أيضا..وربّما كان الخلل الأفدح الذي يصيب المسلمين منذ زمن هو انقطاع الأعمال عن موجهاتها العقدية، أكثر مما هو انقطاع أفكارهم عنها. ولو تأمّلت التقريرات الفكرية المحدّدة لنظام السياسة الشرعية على سبيل المثال لألفيتها جارية منذ بداية نشوئها قواعد علمية على أصل العقيدة: عدالة وشورى وتحكيما للشريعة، وتكافلا اجتماعيا، وهي تقريرات يقرّها الجميع حاكماً ومحكوماً، وتجري بها أفكارهم في إذعان، كما تنطق بها ألسنتهم وأقلامهم في تحمّل واعتراف، ولكن العمل الذي جرى عليه واقع الحكم بعد الخلافة الراشدة انقطع في الغالب عن الأصول العقدية، فخالف الصورة الفكرية المبنية على تلك الأحوال، فإذا هو الظلم والاستبداد على نحو ما هو معلوم. وتقاس على ذلك أوضاع كثيرة في حياة المسلمين.
ولا ينصلح هذا الخلل إلا بتعدية التوجيه العقدي إلى العمل أيضا بعد تعديته إلى الفكر. وإنما تكون هذه التعدية بحضور المعاني العقدية حضورا دائما في ضمير المسلم حال مباشرته العمل، سواء كان عملا تعبّديا بالمعنى الخاص، أو عملا تعميريا عاماً، وأن يجعل من ذلك الحضور مادّة في إنجاز حركاته العملية الجزئية، وفي ترتيب تلك الحركات أعمالاً متكاملة، فإذا المصلّي بذلك يصوغ حركات صلاته وهيئته العامّة فيها من استحضار ربّه خضوعا ومذلّة وخوفاً ورجاء، وإذا بالمزارع يصدر في فلحه وبذره عن استحضاره لعقيدة الخلافة في الأرض والتعمير فيها كمهمّة خلقه الله من أجلها.
ولو ارتفعنا بهذا الأمر في التأطير العقدي للعمل من حالة العمل الفردي إلى حال العمل الجماعي الذي تقوم به الأمّة بإشراف وترتيب من نوابها في مستوياتهم المختلفة لتحقيق المصالح العامّة، لو ارتفعنا بذلك ما وجدنا الأمر مختلفا، فالأعمال العامّة التي تقوم بها الأمّة هي أيضا ينبغي أن تصدر عن مبادئ العقيدة، وأن تتوجّه بوجهتها، بعد أن يكون الفكر الذي سبق تلك الأعمال قد صدر عن تلك المبادئ وتوجّه بوجهتها، وبعد أن يكون الفكر الذي سبق تلك الأعمال قد صدر عن تلك المبادئ وتوجّه بوجهتها.
من عناصر الرشاد في الاعتقاد إذن أن تصبح العقيدة التي يتحملها المسلمون خلفية مرجعية وحيدة وشاملة، منها يصدرون بدءاً ومعاداً في التفكير كله لتحصيل صور الرؤى والأفكار والحقائق، وفي التطبيق العلمي السلوكي لتلك الصور والرؤى، واعتقاد لا يكون له هذا الدور التوجيهي الشامل الملزم هو اعتقاد مختل لا يأتي بثمار ولا يحرّك إلى خير وإن كان في ذاته جاريا على وجه الحقّ في مدلوله وفي مفرداته على الصورة التي بيناها سابقا.وربما عبّر عن هذا المعنى من التأطير العقدي للعمل بتعبير جريان الأعمال على مقتضى مقاصد الشريعة، ذلك أن المقاصد وإن تفرعّت فروعا إلا أنها تعود في مجملها إلى المقصد الأعلى وهو تحقيق خير الإنسان وصلاحه بالتزام أوامر الله ونواهيه، وهو حقيقة عقدية كلية، فيكون جريان الأعمال على تحقيق مقاصد الشريعة تعبيرا عن الصلة بين العمل وبين العقيدة، ولذلك فإننا نعتبر علم مقاصد الشريعة علما واصلا بين علم العقيدة من جهة، وبين علم الفقه الذي يضبط الأعمال من جهة أخرى. ومن مظاهر الخلل المتمثل في ضعف الصلة بين العقيدة والعمل في واقع الأمة الإسلامية ما يلقاه هذا العلم الجليل من زهادة فيه، وتهميش له ضمن الثقافة العامة للمسلمين، وذلك ما يدعو في نفس الوقت إلى إحيائه والاهتمام به في نطاق الترشيد العقدي الذي نحن بصدد البحث فيه كعامل من عوامل الدفع إلى التحضّر.
ودوران العمل على مقاصد الشريعة كرابط بينه وبين العقيدة يقتضي أن تُلحظ في الأعمال كلها مآلاتها من المصلحة أو المفسدة، فتبنى بحسب تلك المآلات، وتتعدّل وتتكيّف بحسبها أيضا، ذلك أن العمل له صلة بالواقع الإنساني والبيئي الذي لا يضبطه منطق مطّرد صارم كصرامة المنطق الذي يحكم الأفكار، ولذلك فإن الأعمال ربما أجريت على صورة قُدّر أنها تحقّق مقصد الشريعة فتكون موصولة إذن بمقتضيات العقيدة، ولكن يتبيّن خلال الإنجاز أو بعده لملابسات واقعية لم يضبطها التقدير أنها آلت إلى مآل لم يتحقق فيه المقصد، فانقطعت صلتها إذن بالمعتقد، وحينئذ فإنها ينبغي أن تعدّل على ما فيه تحقيق مقصدها لترتبط من جديد بموجّهها العقدي، وذلك على نحو ما يكون في بناء مصنّع يُقدّر أنّه يوفر الخير للناس ويحقّق التعمير في الأرض، ولكن يتبين في أثناء العمل فيه أنه يسبّب من التلوّث البيئي ما فيه فساد كبير، فيعدّل إذن بحسب ما فيه حفظ للبيئة الكونية وخير للإنسان.
وهكذا يكون المقصد وهو معنى عقدي كما ذكرنا المؤثر الدائم الذي تتجه باتّجاهه الأعمال، وتتكيف بحسبه كل مناشط المسلم، وهذا ضرب من الترشيد بالغ الدقة، ولكن لا مناص من أن يأخذ اليوم طريقه كعنصر في الإصلاح يدفع إلى النهضة، وإلا بقيت أعمال المسلمين تسير على غير هدى من العقيدة فلا يكون لها أثر إيجابي في النهضة المنشودة.
إن من عناصر الرشاد في الاعتقاد إذن أن تصبح العقيدة التي يتحملها المسلمون خلفية مرجعية وحيدة وشاملة، منها يصدرون بدءاً ومعاداً في التفكير كله لتحصيل صور الرؤى والأفكار والحقائق، وفي التطبيق العلمي السلوكي لتلك الصور والرؤى، واعتقاد لا يكون له هذا الدور التوجيهي الشامل الملزم هو اعتقاد مختل لا يأتي بثمار ولا يحرّك إلى خير وإن كان في ذاته جاريا على وجه الحقّ في مدلوله وفي مفرداته على الصورة التي بيناها سابقا.