جريدة الرؤية العمانية:
2024-07-07@07:08:33 GMT

الناصح الزائف

تاريخ النشر: 19th, November 2023 GMT

الناصح الزائف

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

يتعيَّن علينا قبل الاقتراب من مُزدلف تعمّد ثني تكاتف الإرادة الشعبية العامة أن نصطنع حبكًا ذهنيًا يحكِّم ماسنتطرق له من حيث القدرة على تخيل معايشة الحدث ووضع المرء نفسه في الموقف الذي عايشه الآخر، وهو ليس بالأمر الممكن عمليًا وإن حاول جاهدًا معايشة تلك التجربة فلن تكون إلا محاكاة لا تفسر علائق النفس الداخلية ولا تُمكِّن من فهم كل المشاعر المصاحبة -السابقة واللاحقة- لمن خبر التجربة على أرض الواقع حدثًا وفعلًا.

وقد يحاول آخر الخروج من واقعه من خلال التركيز الذهني العميق لتقمص الظروف ومحاولة الولوج إلى عالم قاسٍ لم يختبره قط وربما ينجح في حدودٍ بسيطة من حيث غلبة التأثر الجسدي والعضوي عليه ظاهريًا لكن ستبقى كلها في إطار المحاولات التي قد تتخللها بعض العواطف المعتمدة على القدرة التخيلية وهي متفاوتة من شخصٍ لآخر وماتلبث أن تنتهي فور انتهاء استحضار تلك التجربة.

لكل إنسان تجاربه الخاصة بين المفرح منها والمُحزن والحلو والمُر ولا يُقدِّر مستوى وقعها على النفس إلا من مرَّ بنفس التجربة، كفقد عزيز أو خوض تجربة أوشكت أن تودي بصاحبها إلى الهلاك كما أنَّ هناك تجارب كثيرة تطبع في الذاكرة الإنسانية دمغة لا تُمحى كحمل أول مولود مثلًا أو مشاهدة البحر لأول مرة أو الكعبة المشرفة وغيرها من أمثال هذه التنبيهات العاطفية، ولكن هل يحق لي الحديث عن تجربة شخص بعيد لا أعرفه وتحليلها بقصد تبسيطها وأنا لم أختبرها من قبل لأخلص أخيرًا بإلقاء اللائمة عليه وربما التكذيب في بعض الجوانب باعتبار النتائج المترتبة عليها ثم تفكيكها تدريجيًا للتقليل من أهميتها أو عدم ضرورتها؟ بالطبع لا يحق لي ذلك إطلاقًا.

معظم الناس مروا بتجربة سعيدة وحزينة والكثير منهم عايش حمل مولوده الأول وشاهد البحر والكعبة المشرفة، والقليل منهم من خاض تجربة الاقتراب من الموت، ولكن كم عدد الناس الذين شاهدوا المسجد الأقصى المبارك وصلوا فيه؟! وكم عدد الذين عايشوا ظلم وقهر الاحتلال واختبروا تجارب الموت يوميًا؟! كم عدد الذين كانوا أطفالًا لم يحملهم آباؤهم ونشأوا في ضنك دون أن يتسنى لهم شراء لعبة واحدة؟! كم من النَّاس حول العالم الذين قضوا عشرات السنين في سجون المحتل الغاصب ظلمًا ليخرج بعد ذبول زهرة شبابه؟! كم عدد الصبيان والفتيات الذين يقضي آباؤهم وأمهاتهم في المعتقلات الصهيونية الجائرة دون أية تهمة؟!

كيف يسمح شخص بتنصيب نفسه على المنابر ليتحدث عن تجارب أولئك الناس وهو لم يعايش جزءًا من الألف منها، ثم يُلقي باللوم على من أخذ على عاتقه الدفاع عنهم وانتزاع حقوقهم المغصوبة بالوقوف ندًا في وجه قوى الكبر والبطر، ومن هو الأحمق الذي يلوم المقاوم المشحون بالحزن والألم صاحب الأرض والعرض في كفاحه النبيل لاستحقاق حريته؟!

خلال ربع قرن أو يزيد من الاحتلال الهولندي لأندونيسيا والإنجليزي للهند ومصر والفرنسي للجزائر وتونس والإيطالي لليبيا والصومال قام الكتاب الغربيون بتأليف أكثر من 50 ألف كتاب يدور معظمها حول محاولات تزييف الوعي العام للشعوب وتبسيطه واعتباره استعمارا وليس استخرابا واستهداما وتطفلا، فأين هو اليوم ذلك الاستعمار المزعوم؟! غير موجود باستثناء فلسطين وهانحن اليوم نرى تزييف الوعي من خلال تزوير الحقائق إعلاميًا وقلبها من كبار القادة الغربيين لتصب في مصلحة المحتل الصهيوني المتلحف بجلباب اليهودية الفضفاض وذلك لإضفاء مسحةٍ شرعية على وجوده وجرائمه.

لقد سلمنا بكل ذلك وتحرر العالم من فقاعة نظرية المؤامرة وإنعكاس ألوانها المريب بعد أن سقط القناع الغربي الكالح وبلغنا مبلغ اليقين مع ما نسمع ونشاهد، ولكن ما بال بعض المسلمين العرب قد وقعوا في شراك المفتريات وحبائل الإفتآت ومجاهرة الناس بالطعن في حقيقة الجهاد وخطر ما بعده وما هو آتٍ؟!

هذه الأصوات المرفهة التي انبرت مؤخرًا لتشكك في صنائع المقاومة الفلسطينية ليست كثيرة؛ بل قليلة منزورة ولا هي ممن عرف عنها عظيم علم وعلو هِمَم وفيض تصنيف وتأليفٍ كثيف وهي شذوذات تنعق خارج السرب إرجافًا وتخذيلًا، وحتى إني أشكك في قناعتها الشخصية بما تقوله، ونعلم أن رجالات المقاومة في سموها لا تعيرها بالًا ولا تقيم لها وزنًا، وشتان بين مسابح الأسماك ومسالك الأفلاك، ولكنها -الأصوات- تحاول إدخال وعي النَّاس في الشكوك من خلال استخدام عامل تكافؤ قوة الردع من الناحية العسكرية والإدارية وهي بلا شك مقومات أصيلة في الجانب المادي المعايش والملموس ولابد من توفرها في الشكل المنطقي العام وهذه عقيدة عسكرية صلبة تستقيم دائمًا في حالة التوازن العقلاني والواقعي إذا ما أستبعدنا الأخذ بالأسباب وإعداد العدة بحسب الاستطاعة والتوكل على الله، ولكن إذا دخلت هذه الثلاثية مع المقومات السابقة في عقيدة القتال فإن الموازين ستختلف وعامل قوة الردع المكافئة بشكل كامل سيتغير وهذا ما أثبتته كل الحروب التاريخية بين المسلمين وأعدائهم.

ينقسم القادحون المتكيفون على الأرائك قليلو الخبرة بتجارب الحروب والمعارك إلى عدة أقسام ولسنا هنا بصدد فرز المؤدلج منهم ولا العقلاني المنطقي أو الشاعري العاطفي أو دون ذلك من مُحرِضٍ مُستعمَل ومرتزَقٍ مُقتات، إلا أنهم يتفقون جميعًا بأنهم لايعون تمامًا المعنى الإيماني الغزير لحقيقة الجهاد والنضال مهما ظهروا بمظهر الدين والعلم والمعرفة على منابر المساجد والإعلام وقد وقفوا بين جزلتين، فالأولى نزعت إلى المبادئ الدنيوية ذات العدة والعتاد والعدد لنيل المراد والثانية ركنت إلى اللعب على وتر العاطفة وموت الأبرياء وتحقيق النصر المجاني على طاولة المفاوضات دون تضحيات ألا أن ثمن الحرية باهظ لا يمكن للعاطفي تحمل كلفته.

إن تزييف وعي العامة من خلال محاولات تمويه منطقية قد تنطلي على بعض العقول وإحباط المعنويات بكسر إرادة التحدي من أناس لا خبرة لهم في معايشة تجارب إنسانية قاسية لهو من أخطر الأمور في مرحلة حاسمة تتطلب اصطفاف الجميع في خندق مقاومة التحرير الفلسطينية "الآن" وإن لم تحقق أهدافها فربما لن يكون بعد اليوم الآن "لمن ألقى السمع وهو شهيد".

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

هيباتيا

قصة بقلم : كلثوم الجوراني ..

أغمضت عيني مستسلمة للرحيل ، الرحيل الابدي إلى عالم مجهول ولكنها تتشبث بجسدي ، نعم انها روحي النقية المتعبة تتوغل كجذور شجرة في تربة طينية تمسك بجسدي لا تريد الخروج منه لم اعد ارى شيئا واثقلت سمعي الضربات التي تلقيتها قبل قليل على رأسي كانت الضربات موجعة جداً ثم أصبحت أقل وجعا وذلك لأنني ضربت حتى تخدر جسمي من شدة الضرب أشعر بالعصي تتخبط على جنبي وظهري ، اصوات القاتلين المرعبة أصبحت همهمات لأن سمعي قد ثقل ووجوههم القفرة الكالحة لم اعد اراها لأنني لم اعد أبصر من شدة ضربهم لي .
لحظات عصيبة كنت انتزع روحي انتزاعا ، ولكنها كانت عنيدة تريد البقاء رغم كل ما حدث لجسدي ، واخيرا تحررت روحي حتى أصبح ضربهم في جسدي كضربة سيف في ماء ، قبل ذلك ارسل لي بعض الكهنة ينذرونني بالموت ولكن تهديدهم ووعيدهم لم يكن يخيفني ، انا التي أدركت الحقيقة وكشفت زيف ادعائهم وترهاتهم وفضحت عقائدهم الخرفة ، يكفي أن كروشهم ملئى بأرغفة تصنعها ايادي الجياع ، قرع اجراسهم يوقظ الحماقة وتغفو لسماعه العقول ، تحت جلابيبهم جيش من الشياطين ، كل ترنيمة منهم تدعو للبلاهة والتفاهة كانوا كورود الجوري الاحمر لا يرى الناس إلا زهوهم أما أنا فأعرف أن في اغصانهم الشوك ، لا الوم مقتهم لي فأنا كنت أسير عكس مسير القطيع الذي يتبعهم .
كنت أحرض الناس بدعوتي إياهم للتعقل والتفكر ، مواعظي كانت توقظ العقول من غفلتها حتى أبصر بعض الناس ما يخفيه الكهنة تحت جلابيبهم فجن جنون الكهنة .
زندقوني وسفهوا ما اقول وساروا بين الناس يتهمونني بشتى التهم وهم يعلمون علم اليقين من أنا ، انا أول امرأة رسمت مواقع الإجرام السماوية وانا من اخترعت مقياس ثقل السائل النوعي وصنعت اسطرلاباً لي مساهمات في الكثير من العلوم انا الفيلسوفة ومستشارة البلاط الملكي اتهم بالكفر والزندقة ، اقتنع بعض قطيعهم بأنني كافرة وبعضهم احتار بأمري ولم يقتنع ببرائتي وحكمتي إلا القليل والقليل جدا ، أصبحوا المؤمنون بحكمتي منبوذين في المجتمع يتهمونهم بالكفر والإلحاد حتى عوائلهم أصبحت تشمئز منهم ولكنهم ابصروا الحقيقة والعودة إلى الخرافة شيء مستحيل ، زاد حنق الكهنة وحقدهم فقرروا الانتقام مني وتحشدوا لإطفاء ثورة عقلي ولا يكون ذلك إلا بقتلي
فأجتمعوا في طريقي معترضين إياي بعصيهم وأسلحتهم، نادوا عليّ فلم اعر لندائهم اي انتباه فبادرني أحدهم بضربة موجعة اسقطتني أرضا وحينما راى باقي الكهنة أن الناس وقفوا متفرجين لا احد يجرؤ على الدفاع عني تشجعوا ليضربونني بأجمعهم ضربا مبرحاً حتى طحنت عصيهم اضلعي واحشائي ، كنت أنظر إلى الناس الذين وقفوا متفرجين وبينهم من آمن بحكمتي وبصحة ما اقول ولكنهم قلة مستضعفة كانوا يخفون وجوههم خشية أن تفضحهم الدموع ، قبل أن يغشى عليّ سمعت هضل المتجمهرين وعبارات من هنا وهناك
تستحق ذلك ، اضربوها فهي كافرة ، خلصوا الناس من شر أفكارها ،يجب أن تموت هذه الأفعى ، وبينها كلام ضعيف لو أنهم نفوها لبلاد أخرى ، لو أنهم سجنوها ، كل ما اسمعه لا فائدة منه هو مجرد ثرثرة لا اكثر .
انتهى العرض وايقن القتلة من مفارقة هيباتيا للحياة وتركوها مضرجة بدمائها على قارعة الطريق انفض الجمع وذهب كل لشأنه وحمل اثنان من الكهنة جثتها ليطمروها في حفرة قد اعدت مسبقا لطمرها ، كانت تلك الليلة ليلة استثنائية لقد أيقظ قتلها العقول وها هي هيباتيا توقظ العقول مرة أخرى ، لقد ازداد حقد الناس على الكهنة وتمرد بعض الضعفاء عليهم حتى ظاهرهم بعض تجار البلدة ووجهائها
منظر المرأة المستضعفة بين جمع من الرجال الأقوياء وهم يوسعونها ضرباً حتى الموت اثار اشمئزاز المجتمع من هولاء الكهنة وفضح دجلهم وزيف ادعائهم بأنهم فضلاء متسامحون .
قيل بعد موت الفيلسوفة هيباتيا أصبحت قصة نضالها ملهمة حتى تناول أحدهم ريشته فرسم لوحة وكانت من اروع اللوحات وابهظها ثمناً علقت في أحد المتاحف ، وقيل إن الكثير من النساء أصبحن يتداولن أقوالها وكتابتها ويستلهمن من علمها الكثير ، قيل إن شجرة كبيرة قد نبتت فوق قبر هيباتيا ، شجرة كبيرة متشابكة الأغصان يلعب الصبية تحت ظلها وما أن ينتزعون شيئا من لحائها حتى يسيل سائل احمر يشبه الدم فيصبغون جباههم به يعتقدون أنها دماء هيباتيا وأنها دماء مقدسة تزيد قوتهم وشجاعتهم ، وقيل إن أحد النجوم التي نراها هو في الحقيقة هيباتيا إذ حلقت روحها في السماء فسلكت دربها لمواقع الإجرام السماوية التي رسمتها مسبقا.

كلثوم الجوراني

مقالات مشابهة

  • الهواتف قبل النوم.. تؤدي للأرق وخلل في هرمونات الجسم
  • عم اللاعب أحمد رفعت: كنا على أمل أن تتحسن حالته
  • السنغال.. ثلاث منظمات غير حكومية تطالب الحكومة للتحرك بعد غرق قارب مهاجرين
  • هيباتيا
  • مصر بتتغير .. ولكن
  • إيران.. بدء عملية الاقتراع في جولة الإعادة بانتخابات الرئاسة بين جليلي وبزشكيان
  • إبراهيم نور الدين يكشف حلًا لأزمة مستحقات الحكام
  • بركات: الأهلي فاتح على الرابع في الدوري
  • محافظ القاهرة: هدفنا خدمة الناس وسنشارك المواطن في اتخاذ القرار
  • إطلاق سراح مدير «الشفاء».. وتبادل الاتهامات!!