جريدة الرؤية العمانية:
2025-01-10@20:42:17 GMT

متى يزول الألم عن غزة وفلسطين؟

تاريخ النشر: 19th, November 2023 GMT

متى يزول الألم عن غزة وفلسطين؟

 

حمد الحضرمي **

 

سوف أبدأ من حيث ما انتهيت منه في السطر الأخير من مقالي السابق والذي كان سؤالًا استفهاميًا: فمن السبب... في كل ما جرى ويجري لكم أيها العرب! والإجابة على السؤال الكبير يحتاج إلى كتاب، ولكن سوف اختصر الإجابة بكلمات موجزة، توضح السبب، وتضع الحل، من وجهة نظر. فقد شخص وحلل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وضع الأمة الإسلامية التي هي اليوم عليه من الضعف والهوان منذ أكثر من 14 قرنًا؛ حيث قال في الحديث "يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حبُ الدنيا، وكراهية الموت".

وهذه هي الحقيقة، فقد أصاب الأمة الإسلامية الوهن، وهاهي اليوم تعيش في حال يرثى له من الضعف والهوان، وتداعيت عليها سائر الأمم، وتم الاعتداء عليها، وسرقة ثرواتها، ونهبت خيراتها، وكثرت كبواتها، وزادت غفلاتها، فأصبحت تعيش أسوأ حالاتها، لأنها ابتعدت عن كتاب ربها وسنة نبيها، وابتعدت عن الجهاد والذي كان في بداية تشريعه الدفاع عن النفس، قال تعالى "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة: 190) ثم شرع الله الجهاد لقتال العدو الكافر من أجل التمكين للعقيدة من الانتشار دون عقبات، ومن أجل صرف الفتنة عن الناس ليتمكنوا من اختيار الدين الحق بإرادة حرة، قال تعالى "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ" (الأنفال: 39).

وقد سجل التاريخ بأن المقاتلون المسلمون قد التزموا بالضوابط والمبادئ والقيم والأخلاق في الحروب مع الأعداء، ولم يذكر بأن المجاهدين المسلمين الأبطال قد قاموا بارتكاب جرائم حرب، كقتل المدنيين والأطفال والنساء وحرق الجثث القتلى وهدم المنازل على أهلها، وإنما كانوا يقاتلون بعدل ورحمة وحق لتكون كلمة الله هي العليا، واليوم الصهاينة المحتلين أصحاب القلوب السوداء، قد داسوا بأقدامهم القذرة كل المبادئ والقيم والأخلاق في الحروب، وفعلوا بأهلنا في غزة وفلسطين كل ما هو محرم ومجرم وفق نصوص القوانين والمواثيق والأعراف الدولية. 

إن الحرب الإجرامية التي يشنها العدو الصهيوني على غزة الفلسطينية منذ أكثر من أربعين يوم، والتي قضت على الأخضر واليابس، وقتلت الآلاف من المسلمين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، وعذبت الأحياء ومثلت بجثث الأموات من الشهداء، وهجرت وشردت العوائل من بيوتهم وأرضيهم. والله إنه لأمر تتفطر منه الأكباد، وتدمي له القلوب، وتذرف له العيون، ولكن رغم كل ما يحدث، فإن هذه الحرب الظالمة قد ايقضت نفوس المسلمين وأصحاب الضمائر الحية من البشر في أنحاء العالم، وأصبحت قضية فلسطين المحتلة حاضرة في أذهان وعقول الملايين من الناس، المسلم منهم أو غير المسلم.

 

وتظل قلوب المسلمين في كل بقاع العالم معلقة بالمسجد الأقصى والقدس والأراضي الفلسطينية، وتحزن الأمة بأسرها وتتألم عندما ترى أرض فلسطين ما زالت رهن الاحتلال البغيض، وترى تطاول وتكبر وطغيان الصهاينة المحتلين، واجرامهم بحق إخواننا وأهلنا في غزة وفلسطين. إن المسلمين تمر عليهم حاليًا أصعب لحظات في حياتهم، لحظات كلها آلام وأحزان ونكسات ونكبات، ولا بد للأمة الإسلامية من الصحوة واليقظة، والنهوض من هذه الغفلة وهذا السبات، وإنها لفرصة سانحة للمسلمين يجب عليهم استثمارها، في العودة إلى الله وتجميع شتات العرب والمسلمين، وتوحيد صفوفهم، وتشجيع وتحفيز الشباب واستغلال طاقاتهم، ليكون لهم دورًا إيجابيًا يساهم كل شخص منهم قدر إمكانياته واستطاعته في المساعدة بتحرير أرض فلسطين من أيدي الصهاينة المعتدين، وبإذن الله سيزول الألم وتعود فلسطين عزيزة آمنة مطمئنة إلى حوزة المسلمين والعرب.

اعلموا يا أمة الإسلام أن فلسطين لن تعود إليكم بكلمات نقولها أو مقالات نكتبها، وإنما ستعود بالتخطيط والعمل المثمر، والجد والاجتهاد المتواصل، لأن الله لا ينصر إلا من ينصره، مصداقًا لقوله تعالى "وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ" (الحج: 40) وقول الله تعالى "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد: 7).. ولذا علينا البحث عن الوسائل التي بها ننصر الله حتى ينصرنا الله على الأعداء نصرًا مبينًا.

إنَّ أرض فلسطين غالية على الأمة الإسلامية وتحريرها من العدو المحتل المغتصب واجب علينا جميعًا، ولتكون البداية باستخدام سلاح المقاطعة، بموجب ما قاله سماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام سلطنة عُمان في فتواه، وينادي به بعض العلماء والدعاة الصالحين، على أن المقاطعة واجب على عموم الأمة، وذلك لما للمقاطعة من تأثير فعال على العدو وحلفائه.

وهنا لا ننسى أن نوجه الشكر والثناء والتقدير والعرفان للشعب العماني الأصيل ولكافة الشعوب العربية والإسلامية على تفعيل سلاح المقاطعة بكل تفاعل وإخلاص وأمانة، وسيكون لهذه المقاطعة تأثير عظيم على العدو الصهيوني المحتل وشركائه وأنصاره. كما أن الإعلام بمختلف أشكاله وأنواعه ووسائله وقنواته سلاحًا مهمًا لما له من تأثير بالغ الأهمية، لأن الملايين من القراء والمستمعين والمشاهدين يتابعون كل ما يجري من أحداث ووقائع في كل بقاع الدنيا، عبر وسائل الإعلام المختلفة.

والأمر يتطلب بأن تتحلى هذه الوسائل الإعلامية العربية والإسلامية بالعلم والثقافة والمعرفة لنشر القضية الفلسطينية بكل وضوح وشفافية، والرد على الوسائل الإعلامية الغربية المعادية بالمنطق والحكمة والبلاغة، واختيار المفردات الصحيحة والعبارات السليمة والكلمات المعبرة التي تكشف حقيقة العدو الصهيوني المحتل وتفضح الجرائم والمجازر التي يرتكبها الصهاينة بحق إخواننا وأهلنا في غزة وفلسطين، وعلى الإعلام والإعلاميين كذلك شحذ الهمم والطاقات لنصرة غزة وفلسطين، ورفع الروح المعنوية للمجاهدين المرابطين الموحدين الأحرار الأبطال في أرض المعركة.

وعليكم يا أهل غزة وفلسطين الصبر وتحمل الصعاب لأن الدفاع عن أرض فلسطين واجب، ولا يجوز التنازل عن شبر من أرضها بأي حال من الأحوال، لأنها الأرض التي بارك الله عز وجل فيها للعالمين، وفيها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أكتافها يرابط المجاهدون الصادقون إلى يوم القيامة، وهي أرض المحشر والمنشر، وهي التي في سبيلها بذلت دماءُ غالية من صحابة رسول الله ومن التابعين والصالحين، وعلى أراضيها وقعت معارك خالدة لا تنسى من الذاكرة لتحريرها، مثل معركة حطين وعين جالوت.

واعلموا يا إخوة الإيمان والعقيدة بأن دماء الشهداء منكم لن تذهب سدى، لأنها دماء زكية طاهرة قد سالت في سبيل الله وموعدها الجنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث "من قُتل دون ماله فهو شهيد".

طوبى لكم يا أهل غزة وفلسطين بالجهاد في سبيل الله، وطوبا لكم بالكرامة والعزة للدفاع عن أرضكم وعرضكم وكرامتكم، وطوبا للشهداء منهم بالجنة، وبمشيئة الله سيزول الألم وتعود فلسطين والقدس والمسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين والعرب.

** محامٍ ومستشار قانوني

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

سوريا الثورة وفلسطين.. الأسس والمحاذير

في بداية الانتصار العظيم والاستراتيجي للثورة السورية يوم 8 كانون الأول / ديسمبر 2024 انتشرت بسرعة مقولة "فرحانين، ولكن ..." وكانت تشمل طيفا واسعا ومتناقضا من المتبنين لها، وكانت فلسطين في أغلب الحالات من المسببات الرئيسية للتحفظ سواء ممن كانوا يعتقدون خطأ (أو يوهمون أنفسهم بذلك بكل وعي) بأن سوريا كانت حليفا للفلسطينيين أو ممن فاجأهم حجم الصمت الذي بادلت بها الإدارة الجديدة لسوريا الهجمة غير المسبوقة من جيش الكيان المحتل على مقدرات سوريا العسكرية وحتى أراضيها.

كنت من الرافضين قطعا لهذا التحفظ في البداية لأن حجم الزلزال الاستراتيجي الذي خلفه انتصار الثورة السورية كان حدثا على قدر من العظمة والهيبة والمفاجأة ما يجعل من هذا التحفظ عملية تفريغ خاطئة لشحنات أيديولوجية خاطئة على انتصار يضاهي، وقد يفوت في حجمه، زلزال السابع من أكتوبر في غزة.

فمثل هذا التحفظ غير المفهوم في الأيام الأولى لهذا النصر العظيم يفرغ هذا الانتصار العظيم والاستراتيجي للشعب السوري من معانيه وزخمه الروحي والعاطفي لأمة طال بها زمن القهر تحت نير الاستعمار الغاشم والاستبداد القاتل، وذلك بغض النظر عن الزاوية التي نقارب منها الصمت الذي كان في وقتها غريبا (والذي هو الآن أكثر من محير) للقيادة الجديدة تجاه الاعتداءات المتواصلة للآلة الحربية الصهيونية على الأراضي والسيادة السورية.

كان ما تم فقط من إخلاء السجون وتحرير الآلاف من السجناء (وبينهم عدد مهم من الفلسطينيين ومن العرب الذي سجنوا من اجل دعمهم لقضية فلسطين) يكفي لجعل هذا الانتصار كاملا بكل المقاييس.

كما لا يخفى على أحد أن النظام البعثي الأسدي لم يكن يوما حليفا حقيقيا لفلسطين وأهلها، وإنما كان حليفا موضوعيا للهيمنة الصهيونية التي سلمها مرتفعات الجولان على طبق من ذهب ودون إطلاق رصاصة واحدة، ولم يناكفها بأية رصاصة طوال أكثر من خمسين سنة من حكمه. كما أن رفضه للمشاركة في معركة طوفان الأقصى بالرغم من الإصرار الإيراني على ذلك هو الذي يفسر إلى حد بعيد سهولة نفض إيران يدها من هذا النظام بمجرد ظهور العلامات الأولى على تهاويه في زمن قياسي.

كان ما تم فقط من إخلاء السجون وتحرير الآلاف من السجناء (وبينهم عدد مهم من الفلسطينيين ومن العرب الذي سجنوا من اجل دعمهم لقضية فلسطين) يكفي لجعل هذا الانتصار كاملا بكل المقاييس. بل إن السخافة بلغت بهذا النظام الديكتاتوري العائلي الطائفي أن اختار اسم فلسطين لواحد من أبشع أفرعه الأمنية التي كانت مختصة بملاحقة الفلسطينيين والتنكيل بهم وبمن ساندهم من العرب، علما وأن "احتضانه" المؤقت لقيادة حماس كان تبعا لأوامر إيران وليس قرارا سياديا لحكم آل الأسد. ولتأكيد المؤكد كانت مجازر مخيم اليرموك بعد ثورة 2011 أكبر شاهد على حقيقة معاداة النظام البعثي الأسدي لفلسطين وقضيتها فقتل منهم الآلاف وشرد البقية مع إخوانهم من السوريين في سوريا وخارجها.

بل إن النظام البعثي الأسدي كان هو المقتل الذي ضرب منه محور المقاومة وفي مقدمتها حزب الله وإيران الذين كان مكشوفين للآلة الحربية والاستخباراتية الصهيونية في سوريا وتلقيا منها ضربات موجعة، علما وأن هذه الضربات لم تستهدف مسؤولين من النظام وإنما قيادات وكوادر ومقدرات المحور.

إذا توضحت لنا هذه المقدمات المهمة، فلا بد من التنصيص على مقدمة أخرى محورية وهي أن تحديات الوضع الجديد في سوريا هي على أقدار كبيرة جدا من التعقيد والتشابك التي لا تسمح بفسحة لإطلاق الخلاصات السهلة أو النظرية أو المغامرة برسم سيناريوهات مستقبلية دقيقة.

فعملية تثبيت الانتصار وتحديد الأولويات والعمل عليها والبحث في أفضل السبل لتنزيلها لن تكون سهلة بالمرة في ظل مركب فريد من التحديات والتدخلات (سياسات الابتزاز الاستعماري الغربي باستعمال سلاح العقوبات وفزاعات الأقلية والمسخ الثقافي عبر القضايا الجاهزة حول المرأة والحريات الشخصية، تحديات الإرهاب الداخلي المتمثل في تنظيم الدولة والانفصالية الكردية ذات الأجندة الخارجية وحتى الصهيونية المعلومة للجميع، الاستفزازات العسكرية الصهيونية، الانشطار الداخلي على خلفيات طائفية ودينية وعرقية وحتى جهوية ومصلحية في ظل غياب كامل لأية تجربة سياسية في التعايش والتداول، الوضع الاقتصادي الكارثي، تحديات عودة أكثر من 11 مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، الخ).

وعليه، فإن مطالبة القيادة الجديدة لسوريا بموقف "حربي" من الاعتداءات الإسرائيلية المتعاظمة يعد قفزا عن الواقع المعقد الذي رسمنا بعض ملامحه آنفا والحال أنها لا تزال تعاني من متابعة فلول النظام المسلحين الذين يمكن توظيفهم بسهولة من قبل عديد الجهات التي لا يساعدها أن يتحول الزلزال السوري بإسقاط النظام البعثي الأسدي إلى قصة نجاح تملك سوريا كل مقوماته البشرية والجغرافية والاستراتيجية.

إلا أن ذلك لا يمنع من استخلاص مفاده أن الموقف الذي عبرت عنه القيادة الجديدة لسوريا بشأن الاستفزازات الصهيونية هو أحد أكبر نقاط ضعفها، بالنظر إلى أن آداءها في بقية الملفات الأخرى يعد بمقاييس موضوعية (الزمن، الظروف المعقدة، الخ) يعد مفاجأة إيجابية جدا وتعبيرا عن نضج كبير في مقاربة الانتصار العظيم بعقل هادئ ورصين وهو ما اعترف به الصديق قبل العدو.

فكما إنه لم يكن مطلوبا من الحكومة الانتقالية في سوريا ولا قيادتها العسكرية أن تستجيب بشكل غير محسوب للاستفزازات الإسرائيلية (التي تهدف إلى إرباك المشهد السوري الجديد واستغلال فرص من قبل المحتل الذي غرق في عجزه عن استغلال انتصاراته التكتيكية وفشل في تحقيق أي انتصار استراتيجي منذ بداية طوفان الأقصى)، ولكن كان لا مفر من التعبير عن موقف سياسي قوي ومباشر ضد هذه العربدة الصهيونية، وخاصة وضع الفاعلين الدوليين أمام مسؤولياتهم، والخروج إلى الناس (الشعب السوري أولا ثم بقية شعوب الأمة وأحرار العالم) والرد على سفاهات نتنياهو وعربدة جيشه المجرم.

فاستمرار هذه العربدة إلى حد الآن مع التزام القيادة الجديدة (التي لا تعوزها الكفاءة السياسية ولا الخطابية الاتصالية) بصمت غريب جعلت نفوس ملايين الأحرار من سوريا وخارجها تنقبض ولا تطيق أحيانا الاستمرار في متابعة أخبار سوريا وهي تطالعنا ببلوغ هذه الاستفزازات حدا مقززا عبر التوغلات التي التهمت مساحات واسعة والضربات الجوية التي لا تكاد تنقطع وإطلاق الرصاص على المواطنين السوريين في البلدات الحدودية والاستهداف الجوي الواسع والمركز لمقدرات الشعب السوري العسكرية وحتى البحثية والعلمية.

ذلك أن المقاربة الشاملة المتوازنة التي لا تعيد إنتاج التناقضات الوهمية التي يؤسس عليها المستبدون خذلانهم لقضية فلسطين هي التي تفرض على حكام دمشق الجدد أن يكون لهم موقف أوضح وأقوى. فضرورات الاستقرار وتصفية التركة الأسدية وإعادة الحياة لبلد كان شبه ميت وإعادة رسم العلاقات العربية والدولية لسوريا لا يبرر كل هذا الصمت وهذا القبول بما يفعله الصهاينة دون رادع.

بل إني من الذين يعتبرون أن القيادة الجديدة لسوريا لها ورقة رابحة كبرى أمام المجتمع السياسي الدولي بكل ما يكتنفه من نفاق وازدواجيات لا تحصى ولا تعد، وهي تحذيرهم بأن مصلحة الجميع (وهو ما يقر به الجميع بدون استثناء وما قد يكون بالرغم من كل شيء حقيقة من الصعب القفز عليها) في سوريا جديدة مستقرة لا يمكن أن يترافق مع هذا الكم من العدوان الجارف من قبل الآلة الحربية الصهيونية.

كما إنني أعتقد جازما أن هذا الموقف القوي الواضح هو أحد أكبر انتظارات شعبنا الذي يذبح في غزة وعموم فلسطين، مما سيشعرهم بأن سوريا التي قد لا يسمح لها وضعها الجديد بأن تكون فاعلا مباشرا في الأحداث تقدم لهم ضمانات بانها ستكون بشعبها المحرر وديمقراطيتها الحقة (التي لا تؤسس على محاصصات مناطقية ولا طائفية ولا عرقية ولا على دروس الغرب المعادي في ممارسته لأسس الحرية والديمقراطية وسيادة الشعوب واحترام الخصوصيات الثقافية والتاريخية لهذه الشعوب) سندا حقيقيا على المستوى الاستراتيجي للحق الفلسطيني في التحرر والتحرير والعودة.

لقد أخطأ النظامان البعثيان (الصدامي والأسدي) وقبلهما النظام الناصري خطأ قاتلا في الاستبداد بشعوبهما بحجة المقاومة ونصرة فلسطين، ولا يجب أن يخطئ الحكام الجدد لدمشق في أن يتصوروا أن سلامتهم تمر عبر مهادنة الكيان المحتل وداعميه بشكل مخل وعبر التنازلات التي قد لا تتوفر بعد ذلك الفرصة للتراجع عنها. فهذا الصمت المتواصل إلا من بعض التصريحات اليتيمة هنا وهناك وعموما خلف الأبواب المؤصدة هو خطأ استراتيجي فادح على أكثر من صعيد سيزيد من عربدة الصهاينة ومن طمع داعميهم في إلحاق سوريا الجديدة المسالمة (أكثر من اللازم) بقطار التطبيع أو على الأقل الصمت والخذلان.

فأما من أرادت القيادة الجديدة تحييده بهذا الصمت، فإنه سيزداد طمعا في مزيد ابتزازها في هذا الملف وغيره وصولا إلى تحييدها موضوعيا عن هموم أمتها وفي مقدمتها الظلم التاريخي غير المسبوق الذي جعل من غزة أرضا لأكبر مقتلة وحشية في التاريخ.

كما أن هذا الصمت يخدم الدعاية السخيفة للمؤامرة الصهيو ـ أمريكية التي أسقطت النظام "الممانع" لبشار الأسد، بالرغم من الحجج الدامغة على كونه وأبيه خائنان من الصنف الأول لفلسطين وقضيتها وشعبها.

وأخيرا، فإن هذا الصمت قد يؤسس لا قدر الله لفشل التأسيس الجديد لدولة منخرطة في هموم أمتها بحجة إرضاء الجميع، وهو الأمر الذي حكم على الانتقالات الثورية في تونس ومصر على وجه الخصوص بالفشل الذريع لأن من تريد إرضاءه سيظل يتعامل معك بشعار (لو خرجت من جلدك لما عرفتك) إلى أن يتمكن من تدجينك تماما وصولا إلى الانقلاب عليك عند أول فرصة سانحة.

إن هذا التأسيس المنشود لن ينجح إذا كانت غايته القصوى تأسيس تجربة قطرية معزولة عن القضايا الكبرى والمصيرية لأمتنا العربية والإسلامية.

لقد أخطأ النظامان البعثيان (الصدامي والأسدي) وقبلهما النظام الناصري خطأ قاتلا في الاستبداد بشعوبهما بحجة المقاومة ونصرة فلسطين، ولا يجب أن يخطئ الحكام الجدد لدمشق في أن يتصوروا أن سلامتهم تمر عبر مهادنة الكيان المحتل وداعميه بشكل مخل وعبر التنازلات التي قد لا تتوفر بعد ذلك الفرصة للتراجع عنها.

فالشعوب الحرة حقا (ضمن مفهوم المواطنة الحقيقية التي لا تعترف بالمحاصصات أيا كانت) والديمقراطية بحق هي المعول عليها حقا في أن تنصر فلسطين وقضيتها، وعلى هذا تعقد كل الآمال في أن تكون الثورة السورية هي الفقرة الأولى في هذا التأسيس التحرري الحقيقي الذي لا تعفيه ضرورات معالجة الواقع القريب بكل صعوباته وتحدياته المعقدة من ترك البوصلة موجهة نحو القضايا الكبرى والحاسمة وفي مقدمتها وعلى راسها فلسطين.

*كاتب وسياسي تونسي مقيم في جينيف

مقالات مشابهة

  • دعاء يوم الجمعة للأحباب.. أفضل الأدعية المكتوبة التي يمكن ترديدها
  • السيد القائد: العدو الإسرائيلي انتقل من حصار غزة إلى نهب المساعدات التي تصل إليها
  • السيد القائد: هناك نشاط إعلامي دعائي سيء من البعض في فلسطين وبعض الأنظمة العربية ضد من يقف بوجه العدو الإسرائيلي
  • نحن مع سوريا و فلسطين … نحن مع الله و رجال الله
  • السيد القائد: جرائم الإبادة التي أرتكبها العدو الإسرائيلي في غزة بلغت أكثر من 4 آلاف مجزرة منها 30 مجزرة هذا الأسبوع
  • سوريا الثورة وفلسطين.. الأسس والمحاذير
  • كاساس: يجب الفوز على الكويت وفلسطين من الدقيقة الأولى للتأهل لكأس العالم
  • البيضاء.. وقفة بمديرية العرش تضامنًا مع فلسطين وإعلان النفير لمواجهة العدو الأمريكي
  • سيلين حيدر: من غيبوبة العدو إلى انتصار الإرادة... كيف هو وضعها الصحي الآن؟
  • علماء المسلمين يطالبون الأمة بالتحرك العاجل لنجدة الفلسطينيين في غزة