سعاد خليل بيتر هاندكة هو من المؤلفين الالمان المعاصرين وهو نمساوي الأصل ولد في جريفين عام 1942 وهو كاتب ومترجم وكاتب مسرحي وكاتب مقالات وشاعر ومراسل وكاتب سيناريو ومخرج نمساوي ولكنه عاش في المانيا ولا يعرف شيئا سوي الكتابة، من رواياته ” الزنابير 1966 ، والبائع المتجول 1967 ، ولوم النفس 1966 ، وتنبؤ 1966 ، صيحات النجدة 1967 وكاسبار 1968وغيرها تحصل علي جائزة نوبل للآداب عام 2019.
هذه معلومات مختصرة ومعروفة لمن يبحث عن بعض التفاصيل في حياة كاتبنا وهي موجودة في كل وسائل الاتصالات. ولكن ما نريد ان نكتب عنه في هذا المقال هو مسرحه الذي يعتبر مذهبا يتسم بالجرأة البالغة التي ليم يسبقه اليها اخر، فهو يختصر المسرح اختصارا شديدا ويحدده في دائرة صغيرة . علي سبيل المثال في مسرحيته “صيحات النجدة ” التي يقدم فيها شخصين او اكثر ” لايريد لهما ان يقوما بالتمثل بل بالكلام وخداع لجمهور بعبارات مأخوذة برمتها من الحياة اليومية ترمي الي الوصول الي كلمة النجدة ، . اذن فهاندكة يجرد المسرح من المسرح ، يجرده من التمثيل ، ويحصره في دائرة الكلام ويتميز الكلام لديه حيث يستعمل الأنواع غير المتكلفة : السب واللو والاعتراف والتبرير والسؤال والتتنبؤ . يقول الدكتور مصطفي ماهر عنه في مقالة انه يجعل الأشخاص يسبون الجمهور لان الجمهور يدخل المسرح ويتوقع ان يشاهد مسرحا: ويتكون العمل المسرحي في هذه الحالة من التوتر بين الأشخاص والجمهور ، وهو في مرة اخري يجرد اللغة من محسناتها ، محيلا الاستعارة والكناية الي حقيقة : ومن هنا نتحول بعض العبارات البسيطة المالوفة في اللغة ، اذ ينطق بها الشخص الي لوم للذات وتأثيم للنفس . والعبارات التي كون منها مسرحية ” صيحات النجدة عبارات بسيطة ومألوفة جمعها هاندكة من الجرائد والاعلانات واللافتات واقوال الناس، ورصها الواحدة بد الأخرى بدون تحويل او تعديل ، ولكنه تحمل بلا شك اذا تمعن المرء فيها ما يدعو الانسان الي التماس النجدة او الي الصياح : النجدة : ورتبها فجعل الطويلة أولا والقصيرة بعد ذلك حتي انتهي في النهاية الي كلمات قصيرة ، وقد صدر هاندكة مسرحية ” صيحات النجدة ” بمقدمة هذا نصها : من الممكن ان يشترك في تأدية هذه القطعة الكلامية من الأشخاص أي عدد، وان كان من الضروري الا يقل عددهم عن اثنين من الممكن ان يكونوا من الرجال ومن الممكن أيضا ان يكونوا من النساء ومهمة هؤلاء الأشخاص المتكلمين هي ان يبينوا الطريق الممت فوق الجمل الكثيرة والالفاظ الكثيرة أي الكلمة المطلوبة وهي كلمة ( النجدة ). انهم يعبرون امام المستمعين صوتيا عن الحاجة الي النجدة محررين في ذلك من موقف واقعي معين ، وهم لا ينطقون بالكلمات والجمل معبرة عن معاناها المألوف ، بل معبرة عن معني البحث عن النجدة . والأشخاص المتكلمون اذ يبحثون عن النجدة يحتاجون الي النجدة ، وهم عندما يجدون في النهاية كلمة النجدة ، لا تكون بهم عند ذلك حاجة الي النجدة ، وهم قبل ان يجدوا كلمة النجدة ، يتكلمون عن النجدة ، فاذا وجودوها فهم لا يقولون الا النجدة ، دون ان تكون بهم حاجة اليها ليقولوها ، انهم عندما يستطيعون الهتاف بالنجدة ، لا تكون بهم آنذاك حاجة الي الهتاف بالنجدة : انهم يحسون بارتياح اذا يستطيعون الهتاف بالنجدة فقد فقدت كلمة النجدة معناها . والمتكلمون اذ يبحثون عن كلمة النجدة يقعون المرة تلو المرة علي مقربة من معني الكلمة المطلوبة . او على الأقل علي مقربة من صوتها: وتتغير حسب درجة الاقتراب نبرة الإجابة ب (لا) التي تتبع كل محاولة، ويؤدي هذا الي اشتداد التوتر الشكلي لعملية التكلم. واهمها لتشبه في مسارها الرسم البياني الصوتي الذي يمثل ضجيج مباراة من مباريات كرة القدم فكلما اقترب النجوم من مرمي الفريق الاخر زاد ضجيج الجماهير، ولكن هذا الضجيج يتلاشى عندما تفشل المحاولة او تهبك ، ويعود الي الازدياد من جديد ، وهكذا دواليك الي ان يتم العثور علي كلمة ، النجدة ) في الهجمة الأخيرة : وهنا تسيطر البهجة الغريزة علي المتكلمين ويغمرهم نور الشمس . والمشاهدون والمستمعون يتبينوا بعد قليل ما يسعي اليه المتكلمون ، وعندما يريدون ان يصيحوا في المتكلمين ، كما يصيح الأولاد عند مشاهدة تمثيلية من تمثيليات العرائس ، بما يسعي اليه هؤلاء المتكلمين ، الا وهي كلمة النجدة فان المتكلمين ، مثلهم مثل الممثلين الذين يهددهم التمساح في مسرح العرائس ، لا يفهمون لمقصود، بل يفهمون صيحات النجدة علي انها صيحات نجدة واقعية لا تزعج المتكلمين لا اثناء اللعب . وعندما يجد المتكلمون في النهاية كلمة النجدة فان هذه الكلمة تتحول الي صيحة انتصار عظيمة تتكرر وتتكرر وتتكرر الي ان يضطرب معناها كل الاضطراب، ثم يتحول النطق بكلمة النجدة الي تهليل يليق بكلمة النجدة ، وعندما يصبح هذا التهليل شيئا يكاد يكون من المحال احتماله ، يتوقف انشاد الجماهير ويكرر احد المتكلمين بمفرده كلمة النجدة علي نحو لا يتجرد من البهجة ولا يتجرد في الوقت نفسه من الحاجة الي النجدة ، ثم تنطق كلمة النجدة هكذا مرة واحدة . ومن الممكن ان يشرب المتكلمون في هذه الاثناء من حين لأخر كوكاكولا. مؤلفات بيتر هاندكه نجدها تختلف علي كتابات الاخرين في الأسلوب وطريقة الطرح وخصوصا في مسرحية صيحات النجدة التي سأنقل لكم نصها في هذا المقال : ونحن في الختام، اذ نفكر فيكم مرة اخري ، نهيب بكم وندعوكم الي ان تشاركونا في البحث عن الطرق المؤدية الي التفاهم المتبادل والمعرفة المعمقة والقلب الكبير والحياة الأخوية في المجتمع البشري الذي يحيط به التوتر حقيقة من كل ناحية : لا بعد حادث الاغتيال مباشرة جردت السلطات كل ما لديها من وسائل لإلقاء الضوء علي الجريمة: لا ، وضع رئيس الدول باسم الجميع باقة من الزهور : لا ، انخفضت نسبة البطالة من جديد : لا، ظهرت الشقوق في الجليد في بعض المواضع : لا ، المدرس وبخ التلميذ : لا ، تحركت منطقة الضغط المرتفع الي الشرق : لا ، عبر مثل من الأمثل ة القديمة عن شيء : لا ، طرا في الفترة الأخيرة شيء من السوء علي حالة المريض الموصول بالكلية الصناعية : لا ، قاد القائد القوات الباسلة الي النصر : لا، تم تعقيم المعدات العلاجية : لا . كانت الملكة ترتدي قبعة جديدة : لا ، هدم مجهول بعض شواهد القبور : لا ، أصيب الممثل علي خشبة المسرح اثناء العرض بنوبة اغماء : لا ، كانت الشفاه المبتلة هي سبب الضرب التي افضت الي الموت : لا ، وسدوا الرفات في سكون تام مقره الأخير : لا ، كان العمال فيما مضي يسكنون في ظروف لا تليق بكرامة الانسان : لا ، وتصافح الشعبان : لا ، امكن حتي الان التعرف علي جثة واحدة : لا ، لم تظهر الجريدة امس : لا ، تقدم القمر امام الشمس : لا ، سار العاهل علي رجليه : لا . عربات الدرجة الاولي في الجزء الامامي من القطار: لا ، اذا طبخ عيش الغراب قلت سميته : لا ، الاسرة هي الخلية الاولي للدولة : لا ، تظهر الجريدة في حجم مضاعف بمناسبة خاصة : لا ، يستطيع كل انسان اليوم ان يأكل حتي يشبع: لا ، القطارات لا تصل الا الي الحدود : لا ، حتي اكثر رجال الشرطة عبوسا يلينون عندما يرون الملكة : لا ، البنت تجمل المائدة بوردة : لا ، نظرا للارتفاع المستمر في الاجور نرانا مضطرين لرفع السلع بنسبة طفيفة : لا . الملك يصمت: لا. نتكلم الإنجليزية: لا. اخت الفلاح في الغابة: لا . السكينة والشكوة والمقص والنور أشياء لا تناسب الأطفال الصغار: لا . القنبلة تأتي من الشرق : لا . ما كان حقا ينبغي ان يظل كذلك : لا، المكان عندنا مكيف الهواء: لا . الاب يعمل في الحقل: لا. من لا يريد ان يسمع عليه ان يحس: لا. الإفطار ضمن الايجار: لا . انهم ينزلون منطقة ممنوعة: لا ، نشكركم علي الزيارة : لا. الطلبات المكتوبة بخط لا يقرأ تعاد الي أصحابها: لا ، تناول المشروبات الكحولية باعتدال لا يضر : لا ن هل سددت رسوم الإذاعة : لا . الشرطة تامرك بان تظل في الخارج: لا . مكتب لبحث عن لمفقودين التابع للصليب الأحمر يبحث عن الأشخاص المدنيين الاتية أسماؤهم : لا . لمن يعثر علي الفاعل مكافاة كبيرة : لا. الصف الأخير يترك خاليا: لا ، الجميع ينتظرون صفارة الختام : لا . الشكاوي التي تصل بعد الموعد لا يلتفت اليها : لا . لا ترفع صوت المذياع والمسجل والحاكي فوق الدرجة المناسبة للحجرات : لا . اتبعني ان تلفت الأنظار اليك : لا . نتمنى لك رحلة سعيدة : لا . من يسرق ليأكل يعاقب بالإعدام : لا. ارني يديك : لا ، اللون الأخضر يبيح العينين : لا . الملك يحب الإصلاح : لا . اعطني بطاقك الشخصية: لا. سيطلق الرصاص علي من يتواجد في ا لشوارع بعد مغيب الشمس: لا . الاستمرار في السير علي مسئوليتك: لا، عليك بالتدفئة: لا ، اقطع من هنا : لا . اشطب ما لا ينطبق عليك : لا ، العملات التي لا تصل الي خزينة الجهاز تنزل من الفتحة السفلية : لا ؟ الركوب من الخلف : لا . لا تتناول شيئا من الطعام لمدة ساعتين : لا ، عليك ان تبرز التذكرة حتي اذ لم يطب ذلك اليك ، لا . اكسر الزجاج: لا ، استعمل مدخل الخدم : لا . اقراء تعليمات الاستخدام بدقة : لا؟ نملا الاستمارة بحروف كبيرة واضحة وبعناية : لا . اخفض راسك: لا ؟ امسك الأولاد في يديك : لا . احتفظ بورقة الحساب : لا ، ا در المفتاح مرتين : لا ، لا تفقد عقلك : لا ، لا تتحرك : لا ، لا تعط الغريق ماء ، لا . لا تزال البقع بلعابك: لا ، جهز البطاقة الشخصي ة في يديك : لا ، تقدم : لا . لا تطبق: لا . اكحت نعل الحذاء: لا ، عليك ان تغير في هه المحطة : لا . افسح مكانا: لا . اربط فوق مكان العضة: لا ، انتظر حتي يزداد التركيز : لا اشتر الان : لا ، ارفع ذراعك : لا ، قلب : لا ، انتظر حتي تأتي الحرارة : لا . \ق الجرس مرة واحدة : لا . اقفل الأبواب: لا . يحجب عن ضوء الشمس: لا. باسم الجمهورية: لا. في جزء من طبعة امس : لا . فترة استراحة ا لهر من الثانية. لا . مضمونة ستة اشهر : لا ، الباب الأول علي اليسار : لا . اختبر تأثير الفزع عليك : لا . حفظ المعاطف بلا مقابل: لا . ممنوع الصيد من مارس الي سبتمبر : لا . فصيلة الدم زيرو : لا . مطلوب صبي : لا . موقع مشمس : لا . حكم عليه بالإعدام غيابيا: لا . المقاييس خمسة وتسعون ستون – ثمانية وثمانون: لا . قبل وبعد العلاج : لا . ماء غير صالح للشرب: لا؟ للمشتركين في صناديق التامين الصحي جميعا : لا . الشركة علي خمسة الاف متر : لا . بنا علي رغبات الكثيرين : لاز ليس في أيام السبت : لا . قتيل مجهول: لا الشباك مقفل مؤقتا : لا . ملعقتان او ثلاث ملاعق يوميا : لا . خطر وشيك : لا ، ليست هناك عربة اكل : لا . من كتالوجنا : لا . الأسبوع الثاني والخمسون: لا . احذر الطلاء: لا . مفتوح طوال اليوم : لا؟ لا جريدة إخبارية نظرا لطول الفيلم : لا ؟ طبعة خاصة : لا ؟ غير السكن الي مان غير معروف : لا . في أيام العمل فقط : لا . ضد نوبات الاختناق: لا رصيف رقم واحد : لا : المتسلم غير معروف هنا : لا . أوقات بدء العمل الجديدة : لا . مساكن التمليك : لا . خطر افتعال الغموض : لا . ضد الحشرات والهوام: لا ، لا نعود للحرب ابدا : لا . ديوان للنساء والأطفال : لا . في الجولة العاشرة : لا . المتطوعون يتقدمون: لا . في حالة الخطر: لا . الي طريق السيارات : لا . الصابون والمنشفة في الجهاز الاوتوماتيكي : لا. هناك اضراب في هذا المصنع: لا. السلام : لا ، والأطفال في الحولة العاشرة : لا . المتطوعون يتقدمون : لا . في حالة الحرية من اجل : لا . عقاب بالسجن مدي الحياة يزيد شدة بالرقاد علي الواح صلبه مرة كل شهر وبالحبس في زنزانة مظلمة يوم ذكري الحريمة كل عام : لا . اطفي النور : لا . ادخل : لا ؟ اخفض صوتك .: لا . شكرا : لا ؟ رد بغاية الطاعة : لا ، ارفع راسك : لا ، الي الجميع : لا ، اسمك : لا ، من اليوم : لا . التالي : لا . انتبه : لا . بعدك : لا ، المهنة : ابدا : لا . للأسف : لا . الي الدش : لا . مطلوب : لا . الي اجل غير مسمي : لا . اشنقوه : لا . هات : لا . اقفل الباب : لا . اخلع ملابسك : لا . من الان فورا : لا . يسقط : لا . استمر : لا ؟ قدم : لا . ارجع . يسوع : لا . برافوا : لا . ارفع يديك : لا . اقفل عينيك : لا ، دخلن : : لا . الي الركن : لا . بست : لا . اه ها : لا . اجلس الي الركن : لا . بست : لا . اجلس : لا . ضع يديك علي المنضدة : لا . الي الحائط: لا . لا تقل ولكن : لا . لا تقدم ولا تأخر: لا. نعم : لا. لا تقل فيما بعد :لا. رقد : لا. لا تمسك : لا . امسك : لا ، نار : لا ، اغرق : لا ، اه : لا ، اخ: لا ، لا : لا. هاللو : لا ، مقدس : لا . مقدس مقدس مقدس : لا . الي هنا: لا . اقفل فمك: لا. حار : لا ، هواء : لا ، ارفع : لا ، ما: لا، اهرب: لا. خطر علي الحياة : لا . لا تعد الي ذلك ابدا : لا . خطر الموت : لا. انذار : : لا . احمر : لا . سلام : لا . الي اعلا : لا . الي هناك : لا ، لا ، لا ، النجدة ؟ نعم النجدة ؟ نعم النجدة ؟ نعم النجدة النجدة النجدة .. هذا النص الذي يثير المتلقي حتي يطلب النجدة فهو عبر فيه بكل الكلمات وكلها تلاقي بالنفس ما احوجنا الي هذه النصوص في الأسلوب والطرح لتقديم مسرح يخدم ويطرح قضايا المجتمع ويقدم الجديد والأفضل
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
البروفيسور محمد إبراهيم خليل: عالمٌ مُلهمٌ، ورجلُ دولةٍ خالدُ الذكرى
البروفيسور محمد إبراهيم خليل: عالمٌ مُلهمٌ، ورجلُ دولةٍ خالدُ الذكرى
بقلم: نصر الدين عبد الباري*
نصر الدين عبد الباريفي هذه الأيام، يخيّمُ على السودان وفي أوساطِ السودانيين حزنٌ عميق، نابعٌ من فقدان عدد لا يُحصى من الأرواحِ، والمعاناةِ المستمرة، التي تثقل كاهلَ الأمة السودانية. ويزدادُ هذا الحزنُ وطأةً عندما يفقد المرءُ إنساناً عرفه عن قربٍ أو كان به من المعجبين.
في العاشر من ديسمبر 2024، شعرتُ بوطأة هذا الحزن، حينما تلقيتُ نبأ وفاة البروفيسور محمد إبراهيم خليل، أحد القامات البارزة في الحياة الأكاديمية والسياسية والعامة في السودان.
بدأتْ معرفتي بالبروفيسور خليل إبَّان سنتي الأولى كطالبٍ في كلية القانون بجامعة الخرطوم، حيثُ كان اسمه وإرثه بارزين كعَلَم من أعلام القانون، وتعمَّقتْ معرفتي به بعد سنواتٍ، حينما حظيتُ بشرفِ تأليفِ كتابٍ بالاشتراك معه.
كطالبٍ جديد، كانت معرفتي بتاريخِ كلية القانونِ محدودة، رغم أنني كنتُ على درايةٍ بالماضي المتميِّز لجامعة الخرطوم. وبسبب حرصي على التَعَلُّم، تعمَّقتُ في تاريخ الكلية، حيث تبيَّنتْ لي المساهمات الاستثنائية، التي قدمها أساتذتُها وخريجوها في التطور الاجتماعي والسياسي والدستوري في السودان. من بين هؤلاء، كان اسم البروفيسور خليل بارزاً، ليس فقط لتميُّزِه كأول عميد سوداني لكلية القانون، حيثُ خلف خريج أوكسفورد البروفيسور إلكانا تينينباوم—آخر عميد غير سوداني للكلية—وإنما كذلك لدورِه المؤثر في تشكيلِ الحوكمةِ السياسية والتاريخ الدستوري للسودان. لقد كانت سيرتُه الذاتية، المعروضة بشكل بارز خلال أيام حفلات التخرج في الكلية، مع السِّيَر الذاتية للعمداء السابقين الآخرين، تبرز رحلتَه المتميِّزة كعالمِ ورجلِ دولة وسياسي، وتلهم الطلابَ والزوَّارَ والمحامين الطموحين على حدٍ سواء.
لقد كان من بين الأكاديميين الرواد، الذين بدأوا الانخراط في العملِ السياسي والخدمةِ العامة، وهو المسارُ الذي تبعه فيه فيما بعد العديدُ من عمداء وأساتذة كلية القانون بجامعةِ الخرطوم، الذين تبوأوا منصب وزير العدل، أو النائب العام، أو رئيس القضاء، أو تولوا مناصب حكومية رفيعة أخرى.
وُلد البروفيسور خليل في حي المسالمة بمدينة أم درمان عام 1920، وكانت حياتُه تجسيداً للتميُّز الأكاديمي والمهني. إذ بدأ مسيرتَه الأكاديمية بدراسةِ العلوم وأكملها، وعمل مدرساً، قبل أن يتحول إلى دراسةِ القانون بجامعةِ الخرطوم في سنِ الثلاثين. حصل على درجة البكالوريوس في القوانين، ثم تابع دراسته ليحصل على درجة الماجستير من جامعة لندن. وامتدتْ مسيرتُه المهنية بين العملِ الأكاديمي والخدمةِ العامة والممارسةِ القانونية على المستويين المحلي والدولي.
التحق البروفيسور خليل بنقابةِ المحامين السودانيين في عام 1954، ومارس القانون أمام المحكمة العليا ومحكمة الاستئناف، حيث تخصص في القضايا المدنية والتجارية. وفي عام 1958، انضم إلى مكتب النائب العام (وزارة العدل)، كمستشارٍ قانونيٍ أول، ثم ترقَّى ليصبح نائباً للنائب العام، ويلعب دوراً محورياً في تحويلِ ديوانِ النائب العام من مؤسسةٍ ناشئة إلى ديوانٍ قويٍ يتمتع بالكفاءة والفعالية، حيث أشرف على صياغة التشريعات وتسوية النزاعات، التي شملت قضايا معقدة تخص شركات سودانية ودولية. كما كرّس جهودَه لتدريبِ وتأهيلِ جيلٍ جديدٍ من القانونيين السودانيين، مما أسهم في تعزيزِ الكفاءةِ القانونية على المستوى الوطني.
كانت مساهماتُه الأكاديمية ذات أثرٍ بالغٍ وأهميةٍ استثنائية؛ إذ شغل منصب أول عميد سوداني لكليةِ القانون بجامعة الخرطوم، ولعب دوراً كبيراً في إرساءِ أسسِ التعليم القانوني الحديثِ في السودان. وقبل توليه منصب العميد، قام بتدريس قانونِ الشركات في جامعةِ الخرطوم بالتزامن مع عمله في وزارةِ العدل، مما عزّز ارتباطه العميق بتطويرِ التعليمِ القانوني والممارسة العملية.
بدأ البروفيسور خليل انخراطه الفعلي في السياسة السودانية بعد ثورة أكتوبر 1964، التي دشنت التجربة الديمقراطية الثانية في السودان (1964–1969). وتجدَّد نشاطُه السياسي خلال التجربةِ الديمقراطية الثالثة (1985–1989). وخلال هاتين الفترتين الديمقراطيتين، شغل عدةَ مناصب رفيعة، حيثُ عمل وزيراً للحكم المحلي، ووزيراً للعدل، ووزيراً للخارجية، ورئيساً للبرلمان. وقد استقال لاحقاً من منصبه كرئيس للبرلمان وانتقل إلى الولايات المتحدة ليستقر بمدينة كولومبيا بولاية ماريلاند، ويعيش فيها حتى وفاته. لم يكن البروفيسور خليل مدفوعاً في انخراطه في العملِ العام بالرغبةِ في السلطة أو الميلِ إلى اتخاذِ السياسةِ مهنةً؛ بل كان انخراطُه في السياسة نابعاً من إيمانه العميق بخدمةِ السودان والمساهمةِ في بناءِ مؤسساته القانونية والسياسية.
امتدت المسيرةُ المهنية للبروفيسور خليل إلى ما وراء حدود السودان، إذ شغل بين عامي 1971 و1976 منصب عميد ورئيس مجلس الدراسات القانونية الإسلامية في جامعةِ أحمدو بيلو بنيجيريا، وقام بتدريسِ القانون الدستوري والتجاري والجنائي، وكان مصدر إلهام لعددٍ كبيرٍ من طلابِ الدراسات العليا.
وفي الفترة من 1976 إلى 1985، عمل مستشاراً قانونياً لصندوق التنمية العربي الكويتي، ولعب دوراً رئيساً في التفاوضِ وصياغةِ عقود القروض التنموية في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. علاوة على ذلك، سخّر خبرتَه القانونية في حلِ النزاعات التحكيمية، مما أسهم في تحقيقِ حلولٍ منصفة للدول المقترِضة وضمان عدالة العمليات التنموية.
في الولايات المتحدة، تولى البروفيسور خليل أدواراً متميِّزة، تمثلت في عملِه زميلاً باحثاً في مركز وودرو ويلسون الدولي للعلماء، وزميلاً غير مقيم في معهدِ الشرق الأوسط، وزميلاً في معهد الولايات المتحدة للسلام، مما عزَّز مكانتَه كأحد الأكاديميين البارزين في المجالات القانونية والسياسية على الساحة الدولية.
علاوة على ذلك، شغل البروفيسور خليل بين عامي 1990 و1991 منصب مستشارٍ خاص لمركز تسوية نزاعات الاستثمار الدولي (ICSID). خلال تلك الفترة، أجرى دراسة شاملة لأكثر من 300 معاهدة استثمار ثنائية بين الدول الصناعية والدول النامية، مما أثمر عن إعداد تقريره الذي نُشر كوثيقةٍ رسميةٍ للبنكِ الدولي، ليكون مرجعاً مهماً في مجال الاستثمار الدولي.
كان البروفيسور خليل باحثاً غزير الإنتاج. وتناولت أعمالُه مجالات متنوعة شملت القانون الدستوري، وحل النزاعات، والتفاعل بين الدين والحداثة. ومن أبرز مساهماته في هذا السياق، بحثه “النظام القانوني في السودان”، الذي نُشر عام 1971 في مجلة القانون الدولي المقارن ربع السنوية، التي تصدرها جامعة كامبريدج. كما قدم فصلاً مهماً عن تجربة السودان الدستورية وتأثير الأسلمة على الديمقراطية ووحدة البلاد، ضمن كتابٍ عن التجارب الدستورية الأفريقية نُشر من قِبل معهد الولايات المتحدة للسلام، حرره الدكتور فرانسيس دينق، وهو كذلك خريجٌ متميِّزٌ من كلية القانون، عُيِّن معيداً بها، وأصبح لاحقاً وزير دولة بوزارة الخارجية، ثم تولى مناصب دولية رفيعة بمنظمة الأمم المتحدة.
لقد وثّق البروفيسور خليل رؤاه حول الحرب الأهلية في السودان في كتابه “الحرب الأهلية في السودان: عملية السلام قبل وبعد اتفاقِ ماشاكوس”، الذي شارك في تأليفه مع الدكتور فرانسيس دينق. بالإضافة إلى ذلك، تناول البروفيسور خليل في مقال نُشر عام 2000 في مجلة جامعة أكسفورد لاقتصاديات أفريقيا، حل النزاعات في أفريقيا، مما يعكس التزامه العميق بمعالجة القضايا المعقدة التي تواجه القارة الأفريقية.
امتدت أبحاث البروفيسور خليل إلى ما وراءِ القارة الأفريقية، لتبرز منظوراً عالمياً تجاه القضايا القانونية والاقتصادية. وقد شملت أعماله مُسَوَّدة اتفاقية الاستثمار متعددة الأطراف لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، التي أعدها لصالح لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا في عام 1998، بالإضافة إلى دراسته حول معاملةِ الاستثمار الأجنبي في المعاهدات الثنائية للاستثمار (ICSID، 1992)، والتي تُرجمتْ لاحقاً إلى اللغة اليابانية.
في مراحلٍ من مسيرتِه الأكاديمية، ركَّز البروفيسور خليل على إصلاح القانون في نيجيريا ودور المؤسسات الإسلامية، ونشر مقالات بارزة منها “والي المظالم أو الأمبودسمان الإسلامي” (1976) و“إصلاح القانون الجنائي في نيجيريا” (1975). ومن خلال منشوراته المتنوعة، مثل مقاله “الإسلام وتحديات الحداثة”، الذي نشرته مجلة جامعة جورجتاون للشؤون الدولية عام 2004، ترك البروفيسور خليل إرثاً فكرياً مستداماً، يعكس الجهود التي بذلها من أجل التنمية الاجتماعية وتحقيق العدالة وتعزيز الحوار والتفاهم بين الثقافات.
شملت المساهمات الأكاديمية الواسعة للبروفيسور خليل كذلك أعمالاً متميِّزة حول الأنظمة القانونية والسياسية في السودان، بالإضافة إلى قضايا أوسع تتعلق بالقانون والحداثة. ومن بين هذه الأعمال ورقته البحثية “النظام القانوني في السودان ومشكلات الإصلاح القانوني،” التي قُدّمتْ في الأصلِ في الذكرى الخامسة والعشرين لوفاة الأستاذ محمد أحمد محجوب، وهو خريجٌ آخر متميِّزٌ من كليةِ القانون بجامعة الخرطوم، شغل مناصب بارزة في السودان، حيث عمل أولاً كوزير للخارجية ثم كرئيس للوزراء. وتُبيِّن أعمال البروفيسور خليل حول النظام القانوني السوداني والقانون والحداثة مدى انخراطه في تاريخ القانون السوداني ورؤيته لإصلاحِه. بالإضافة إلى ذلك، تناولت ورقةٌ بحثية أخرى من أوراقه وهي”خيارٌ بين التعايش في بلد واحد وجوار ودي،” التي قُدمت في الجلسة التشاورية الرابعة، التي نظّمها معهد النهضة الأفريقية ومؤسسة العلاقات الدولية في إيست ساسكس، التوازنَ الدقيقِ بين الوحدة والانفصال السلمي في سياق المشهد السياسي المعقد في السودان.
إلى جانب ذلك، تناولت أبحاث البروفيسور خليل تحديات قانونية دولية معقدة، كما يتضح في ورقته البحثية “الأنظمة القانونية في الدول الإسلامية المعاصرة: منهجية التفسير وتحديات الحداثة.” وقد قدّم هذه الورقة في مائدة مستديرة أقامتها المنظمة الدولية لتطوير القانون في روما عام 2002، حول دور القانون في تطوير أفغانستان. عكست هذه الورقة، غير المنشورة، مساعيه الفكرية لسبر أغوار التقاطعات أو التفاعلات بين الشريعة الإسلامية ومتطلبات الحوكمة الحديثة.
تشكل هذه الدراسة، إلى جانب إسهاماته المنشورة الأخرى، جزءاً من الإرث الفكري الثري للبروفيسور خليل، الذي تميَّز بقدرته الفريدة على معالجة القضايا الوطنية والدولية بأسلوب يجمع بين العمق والوضوح وبُعد النظر.
لقد تشرفتُ بالعمل عن كَثَبٍ مع البروفيسور خليل عندما تشاركنا في تأليف كتاب “دستور السودان المستقبلي: تطلعات ورؤى” في العام 2012. كان التعاون معه تجربة تعلم عميقة ومميَّزة، أتاحتْ لي فرصةَ التعرّف على جوانبِ شخصيته الفريدة—تواضعه الجم، وانفتاحه على الأفكار الجديدة، وقدرته الاستثنائية على الاستماع بانتباهٍ واهتمام. وعلى الرغم من معرفته وخبرته الواسعة، ظل البروفيسور خليل نموذجاً لطالبِ علمٍ مدى الحياة، يقدّر آراء الآخرين ويحترمها، ويحاول التعلم منها.
حتى في سنواته الأخيرة، حافظ على علاقاته مع الجميع، مقدماً النصائح بحكمة، ومحترماً الأعراف الاجتماعية، ومؤدياً لواجباته الشخصية بتفانٍ. وأذكر هنا أنه عندما تم تعييني وزيراً للعدل في عام 2019، اتصل بي هاتفياً بكل تواضع ليشاركني حكمته ونصائحه. وعندما توفيت والدتي، رحمها الله، في يناير 2020، لم يتوانَ عن تقديم واجبِ العزاء، في لفتة إنسانية عكست دماثة أخلاقه ونبل قيمه.
حافظ البروفيسور خليل، بشكل مدهش، على نشاطه الفكري حتى بعد عامِه المئة. ففي سن 101، أصدر آخر أعماله الرئيسية “لماذا انفصل جنوب السودان” (2021)، وهو كتابٌ باللغة الإنجليزية، تناول فيه بشكلٍ نقدي العواملَ التاريخية والسياسية والقانونية، التي أدت إلى انفصال جنوب السودان. ويعكس هذا العملُ التزامه الذي لم ينقطع بالبحث والدراسة، حتى في سنواته الأخيرة، وعزمه على تحليل أبرز التحديات التي واجهت السودان، ومعالجتها أو استقاء الدروس والعِبَر منها.
يتجلى إرث البروفيسور خليل كذلك في المؤسسات التي أسسها والأجيال التي أشرف على توجيهها. فمن خلال مكتبه القانوني “مكتب البروفيسور محمد إبراهيم خليل وشركائه: مكتب قانون الأعمال والاستثمار”، واصل تقديم خبراتِه القانونية بعد عودته لحين إلى السودان، مساهماً لعدة سنواتٍ في تطويرِ قطاعِ القانونِ والاستثمار، وترك بصمةً دائمة في هذا المجال.
لقد ألهمتْ نزاهتُه الثابتة وتفانيه في العمل والعدالة كلَ من عرفه أو تعامل معه. ولسوف تبقى إسهاماتُه الفكرية ومُثلُه الأخلاقية شعلةً مضيئةً ومصدرَ إلهامٍ للفكر القانوني والسياسي السوداني لأجيالٍ عديدةٍ قادمة.
سوف تبقى ذكرى البروفيسور خليل خالدة لإسهاماته الفكرية العظيمة في مجال القانون، ودوره البارز في ترسيخِ الحوكمةِ الديمقراطية، وإرشاده لأجيالٍ من الممارسين القانونيين والأكاديميين، وتواضعه، ودماثة خلقه، ونبله.
إن رحيله يمثل خاتمة حياة استثنائية حافلة بالعطاءِ، لكن أثرَه سيبقى حياً وخالداً من خلال إرثه الفكري، والمؤسسات التي بناها أو ساهم في إقامتها، والحيوات التي أثر فيها. ولأولئك الذين حظوا بشرفِ التعلمِ منه أو العملِ معه، فإن أعظم وأسمى تكريمٍ لإرثه يتمثلُ في الاقتداءِ بصفاتِه النبيلة والسَيرِ على خطاه.
لقد كان البروفيسور خليل مثالاً للعالمِ المبدع، والسياسي النزيه الملتزِم بالمبادئ، ورجلِ الدولةِ البصيرِ، ذي الرؤية الثاقبة. فلترقد روحُه الطاهرة في سلامٍ سرمدي.
* نصر الدين عبد الباري (ماجستير القوانين، جامعة هارفارد؛ دكتوراه القوانين، جامعة جورجتاون) زميلٌ رفيع ببرنامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي وبالمجموعة الدولية للقانون والسياسات العامة (PILPG). عمل سابقاً محاضراً في جامعة الخرطوم وشغل منصب وزير العدل في السودان. هذا المقالُ الرثائي هو ترجمةٌ للنسخة الإنجليزيّة الأصلية، التي سوف تُنشر لاحقاً.
الوسومالبروفيسور محمد إبراهيم خليل السودان جامعة الخرطوم كلية القانون ماريلاند نصر الدين عبد الباري نقابة المحامين السودانيين نيجيريا هارفارد وزير العدل