على الرغم من أن الأذرع الإعلامية الإسرائيلية لطالما كانت تتهكم على فكرة النبوءات الدينية حول بقاء إسرائيل وعمرها- سواء تلك التي يطرحها بعض المتديّنين اليهود أو التي يطرحها بعض أفراد ودعاة التيارات الإسلامية- فإن المفارقة اليوم تكمن في أن فكرة التخوف على بقاء إسرائيل نفسها لم تغادر عقلية المنظومة الإسرائيلية بأي شكل.

لعلنا لا نكاد نجد دولة في العالم تعيش هوس البقاء والخوف من مدى إمكانية استمرار وجودها في المستقبل مثل إسرائيل. فحتى التيار العلماني واللاديني في إسرائيل يتملكه الهوس بفكرة بقاء إسرائيل واستمرارها، وإن لم يكن ذلك مستندًا إلى النصوص الدينية، حيث استعاض هذا التيار عن هذه النصوص بالوقائع التاريخية لتكون مصدر جدلية بقاء إسرائيل وعمرها الافتراضي، وهذا ما بدأ يظهر بوضوح في السنوات الأخيرة في تصريحات قادة إسرائيل ومفكريها من غير المهتمين بنبوءات التيارات الدينية ونصوصها، وبات يعرف اليوم باسم "لعنة العقد الثامن".

ترجع فكرة "لعنة العقد الثامن" إلى رواية يكاد يتفق عليها المؤرخون الذين يتناولون تاريخ الوجود اليهودي السياسي في فلسطين، وهي أن اليهود عمومًا أقاموا لأنفسهم في فلسطين على مدار التاريخ القديم كيانين سياسيين مستقلين، وكلا الكيانين تهاوى وآل إلى السقوط في العقد الثامن من عمره.

يشير المؤرخون الإسرائيليون في هذه الجدلية إلى مملكة داود التي يرجعونها إلى حوالي عام 1000 ق.م، والتي استمرت أقل من ثمانين سنةً تحت حكم الملِكين: داود وسليمان (حيث لا يعتقد اليهود بنبوتهما)، ومع وفاة الملك سليمان في بداية العقد الثامن من حياة هذه المملكة بدأت بوادر الانقسام والتشظي تغلب عليها، ما أدى إلى انقسامها إلى مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها نابلس، ومملكة يهودا في الجنوب وعاصمتها القدس، وما لبثت كلتا المملكتين الضعيفتين أن سقطتا لاحقًا على يد الآشوريين ثم البابليين.

أما الكيان الثاني فقام باسم "مملكة الحشمونائيم" حوالي عام 140 ق.م خلال فترة الحكم اليوناني لفلسطين، نتيجةً لثورة يهودا المكابي، ولكن هذه المملكة دخلت في العقد الثامن من عمرها كذلك في طور الفوضى التي أدت إلى سقوطها. ولم يقم لليهود أي كيان مستقل سياسيًا في فلسطين على مدار التاريخ غير هذين الكيانين، حتى قيام دولة إسرائيل الحالية عام 1948، والتي احتفلت هذا العام بمرور 75 عامًا على قيامها؛ أي أنها الآن في منتصف عقدها الثامن. وهو ما يثير مخاوف الساسة في إسرائيل من أن تكون هناك علاقة وثيقة بين العقد الثامن وسقوط أي كيان سياسي يهودي على مر التاريخ.

من المفارقات في هذا الموضوع أن لعنة العقد الثامن عرفتها شعوب أخرى، من الاتحاد السوفييتي الذي سقط في عقده الثامن، إلى الجمهورية الفرنسية الثالثة التي سقطت تحت الاحتلال الألماني في عقدها الثامن أيضًا، إلى غير ذلك من الأمثلة.

يُرجع المؤرخون ذلك إلى أن العقد الثامن في العادة يكون مرحلةً حساسةً في تاريخ أي دولة تبعًا لكونه مرحلة ذروة حياة الجيل الثالث الذي لا يأخذ فكرة إمكانية انهيار مشروع الدولة على محمل الجد كالجيلين اللذين سبقاه، ويلتفت أكثر بالتالي لتناول المشاكل الداخلية وتعميقها بما يؤدي لاحقًا لإضعاف الدولة كليًا؛ بسبب تفسخ المجتمع وتمحوره حول مشاكله الداخلية.

وهذا في الحقيقة ما يعاظم تخوف الساسة والمفكرين الإسرائيليين من أن تلحق بإسرائيل هذه "اللعنة" مرة أخرى. خاصةً أن شكل السقوط للكيانين اليهوديين في فلسطين في التاريخ القديم كان مرتبطًا بالدرجة الأولى بالتفسخ والانقسام المجتمعي، وهو بالضبط ما تشهده إسرائيل منذ أكثر من ثلاث سنوات. فإسرائيل ما زالت منذ سنوات تمر بانقسام اجتماعي حاد، لكن هذا الانقسام بدأ يتعمق ويأخذ طابع التفسخ مع تطورات حيثيات ما بات يعرف باسم "الانقلاب القضائي" على يد حكومة نتنياهو اليمينية قبل معركة "طوفان الأقصى".

الغريب هنا أن معركة "طوفان الأقصى"، وعلى عكس المتوقع، لم تسهم في توحيد المجتمع الإسرائيلي بقدر ما زادت في انقسامه. فقد تحولت المظاهرات في الشوارع من الاحتجاج على خطة الإصلاح القضائي إلى الاحتجاج على فشل حكومة نتنياهو في إدارة معركة "طوفان الأقصى"، وفشلها في التعامل- خصوصًا- مع ملف الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين في غزة. فإسرائيل دخلت هذه المعركة منذ أكثر من شهر وهي في حالة انقسام غير مسبوق، وساهمت المعركة في تعميق هذا الانقسام، وفشلت جهود نتنياهو في توحيد الأطياف السياسية خلف قيادته بحجة الحرب، بل إن دخول بيني غانتس في حكومة الطوارئ التي شكلها نتنياهو لم يساهم في أكثر من جعلِ الخلافات الداخلية الإسرائيلية تبدو أوضح على شاشات التلفزة العالمية.

شيء آخر يلفت النظر في هذه الزاوية، وهو أن غبار المعركة لم يمنع من استمرار، بل زيادة تداول موضوع لعنة العقد الثامن على الملأ في وسائل الإعلام لدى الإسرائيليين في هذا الوقت الحساس.

فرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك لا ينفك يذكِّر بهذه اللعنة من حين لآخر وسط المعركة اليوم، وما زالت بعض المواقع وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية تتناول هذه القضية بمزيد من الخوف والشك في نتائج هذه الحرب التي فاجأت إسرائيل وجعلتها لأول مرة في موقع متلقي الضربة الأولى، لا من يختار ميدان المعركة ولا حتى من يديرها ويحدد نهايتها، وهو أمر يجعل المراقب الإسرائيلي العادي يشعر بمزيد من الضغط والتخوف من أن تكون فكرة "لعنة العقد الثامن" حقيقة، وأنه حاليًا يشهد تحققها.

ما يزيد الأمر سوءًا ربط بعض التيارات الدينية المتشددة والمعارضة لقيام إسرائيل ذلك بنصوص دينية يمكن أن يفهم منها التخوف على مستقبل إسرائيل من منطق نبوءات دينية أيضًا!

في الوقت نفسه، دخلت الفصائل الفلسطينية المعركة التي بادرت بها متسلحةً بفكرة لعنة العقد الثامن نفسها التي تخشاها إسرائيل، يضاف إليها سيل من النبوءات التي طرحها بعض الدعاة حول مستقبل إسرائيل من منطلقات دينية، كما في حالة الشيخ بسام جرار، أو من منطلق استشفافات تاريخية، كما في حالة مؤسس حركة حماس وزعيمها الروحي الشيخ أحمد ياسين.

وبغض النظر عن منطلقات وصحة أو خطأ التصورات التي أنتجت هذه النبوءات والرؤية المستقبلية، فإن ترديدها بكثرة- في الوقت نفسه الذي يردد فيه الإسرائيليون نبوءتهم التاريخية الخاصة المسماة "لعنة العقد الثامن"- كفيل بقلب المعادلات على الأرض وإحداث تأثير كبير على الروح المعنوية للطرفين: الإسرائيلي والفلسطيني، خاصة عندما يتعلق الأمر بمواجهة مباشرة على الأرض خلال الحرب البرية، وهو أمر يفهم خطورته مؤرخو الحروب ودارسوها.

في تسعينيات القرن الماضي، أذكر أني شاهدت محاضرة مسجلة بالفيديو للكاتب العراقي محمد أحمد الراشد، تناول فيها قصة حول جارتهم اليهودية العراقية عام 1948، حيث ذكر أن جارتهم جاءت لبيتهم وهي تبكي بسبب قيام دولة إسرائيل، وقالت لوالدة الراشد: إن هذه الدولة ستدوم 76 سنة! تذكرت هذه القصة جيدًا، حيث سمعتها مرة أخرى في محاضرة مسجلة بالفيديو أيضًا للداعية الفلسطيني بسام جرار نقلًا عن محمد الراشد، وجعلها جرار منطلقًا لنبوءته المشهورة حول عام 2022، بعد أن حوَّل رقم 76 إلى 74 سنة.

في لقاء للشيخ أحمد ياسين في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة قال: إنه يرى من خلال الاستشفافات التاريخية والقرآنية أن إسرائيل لن ترى السنة الثمانين، وأعطاها حتى عام 2027. واليوم، يأتي إيهود باراك وبنيامين نتنياهو ونفتالي بينيت -وكلهم شغلوا منصب رئيس وزراء إسرائيل – ليقولوا: إن أمام إسرائيل تحدّيًا كبيرًا يتمثل في مدى إمكانية وصولها إلى سن الثمانين عامًا، ليتساوقوا- من حيث علموا أم لم يعلموا- مع ما طرحه الراشد وجرار وياسين. ولك أن تتخيل أثر كل هذه الأطروحات المتشابهة على نفسية كل من الجندي الإسرائيلي والمقاتل الفلسطيني في ميدان القتال البري وجهًا لوجه في غزة.

إن من الثابت أن فكرة النبوءات- مهما كان أصلها- مسألة جذابة للشعوب وحامية لأصحابها، فإن كانت النبوءة صحيحة فلابد أن تتحقق، وإن لم تتحقق فإنها ليست نبوءة. وبغض النظر عن طبيعة تلك النبوءات: سواء تلك القائمة على النصوص المقدسة، أم على شخصيات كنوستراداموس، أم على نظرة عامة للتاريخ وقوانينه وطريقة سيره، فإن الجامع بينها هو تمسك الشعوب بها ورغبة بعضهم في تحقيقها، وخوف بعضهم من حتميتها إلى درجة الشلل والعجز أمامها، والذي يؤدي في النهاية إلى تحويلها إلى حقيقة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: لعنة العقد الثامن بقاء إسرائیل إسرائیل من فی فلسطین

إقرأ أيضاً:

بحوث الصحراء يشارك في البرنامج التدريبي الثامن حول نظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية

تحت رعاية وزير الزراعة واستصلاح الأراضي اعلاء فاروق وتوجيهات الدكتور حسام شوقي رئيس مركز بحوث الصحراء شاركت الدكتورة غادة حجازي_ نائب رئيس المركز للبحوث والدراسات في البرنامج التدريبي الثامن رفيع المستوى حول نظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية (GIAHS) والمقام بالتعاون بين وزارة الزراعة والشؤون الريفية الصينية (MARA) ومركز التعاون الدولي بالصين (CICOS) والمكتب الرئيسي لمنظمة الفاو  وذلك في إطار استمرار التعاون بين منظمة الأغذية والزراعة الفاو ومركز بحوث الصحراء .

الزراعة: ضبط 214 عبوة مبيدات مجهولة المصدر بالنوبارية

فرصة لتبادل الخبرات
وهدف البرنامج إلى جمع ممثلين من دول GIAHS وتوفير فرصة لتبادل الخبرات حول إدارة الأنظمة الزراعية التراثية، والحوكمة، والحفاظ على التراث والتنمية المستدامة له، والرصد والتقييم، من خلال مشاركة الدروس المستفادة في الدول التي تم تعيينها كنماذج GIAHS وزيارة المواقع المعتمدة في الصين. 
وشاركت الدكتورة غادة بعرض تقديمي عن واحة سيوة كنظام تم تعيينه من خلال GIAHS عام 2016 كتراث زراعي هام عالميًا في مصر.

انفوجراف.. أنشطة وجهود مديريات الزراعة والطب البيطري خلال أسبوع


واعتمد البرنامج التدريبي على عقدين من الزمن من الخبرة الناجحة في حفظ الأنظمة الزراعية التراثية، ودعمه العلمي، وتجارب دول GIAHS في جميع المناطق حول العالم، وتمت مشاركة حوالي 18 مشاركًا من مواقع GIAHS في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.

 

مقالات مشابهة

  • جامعة كفرالشيخ تحتل المركز الثامن محليا في تصنيف التايمز
  • قرعة دور الثمانية ونصف نهائي دوري الأمم الأوروبية
  • جامعة كفر الشيخ تحصد المركز الثامن محليا في أول إصدار للتخصصات البينية
  • لعنة الكهرباء تحصد الضحية الـ 32 خلال 2024 في ديالى
  • التليفزيون والهاتف إلى زوال.. خبير إعلامي: المستقبل يتجه لزراعة العدسات في العيون
  • المغرب يتقدم إلى المركز الثامن في مؤشر أداء تغير المناخ 2025
  • لعنة "تاريخية" تلاحق قصراً في البندقية
  • هذه هي المخططات الخفية التي تُدبّرها إسرائيل لتركيا
  • بحوث الصحراء يشارك في البرنامج التدريبي الثامن حول نظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية
  • بحوث الصحراء يشارك في البرنامج التدريبي الثامن حول نظم التراث الزراعي