كيف يواجه الرجال الأمراض النفسية؟
تاريخ النشر: 19th, November 2023 GMT
غالباً ما يشعر الرجل بأنه مرهق، أو مثقل بالأعباء، أو منسحق من الضغوط المتراكمة، أو معذب من انكسارات لم يتجاوزها بعد. وفي حقيقة الأمر يعاني الكثير من الرجال في أنحاء متفرقة من العالم من مشكلات نفسية، لكنهم يتجاهلونها، ولا يطلبون المساعدة، كما يؤكد خبراء بمناسبة اليوم العالمي للرجل، الموافق 19 نوفمبر (تشرين الثاني).
وتقول آن-ماريا مولر-لايمكولر، العضوة في مجلس إدارة المؤسسة الألمانية لصحة الرجال: "بالنسبة لكثير من الناس، لا تتوافق الأمراض - وخاصة الأمراض النفسية - مع النموذج الكلاسيكي للذكورية"، موضحة أن التوجه نحو معايير الذكورية التقليدية، "أي أن تكون قوياً وناجحاً، وأن تحل المشكلات بمفردك، وأن تكون مثابراً ولا تظهر مشاعرك"، يكون أكثر وضوحاً بين الرجال الأكبر سناً منه بين الأصغر سناً، مشيرة إلى أن هذا الموقف يمكن أن يكون "مضراً جداً للذات".
توضح أستاذة الطب النفسي الاجتماعي في جامعة ميونخ أن العديد من الرجال لديهم قدرة محدودة للغاية على الولوج إلى عالمهم المشاعري بسبب تنشئتهم الاجتماعية، وقالت: "إنهم يقمعون مشكلاتهم النفسية ويقللون من شأنها"، موضحة أنه غالباً ما يُساء فهم الاكتئاب على وجه الخصوص باعتباره تعبيراً عن الضعف والفشل الشخصي، مشيرة إلى أن البعض يحاول تعويض ذلك عبر "استراتيجيات ذكورية"، وقالت: "وبالتالي المزيد من العدوان والغضب، والمزيد من الكحول، والمزيد من الانسحاب الاجتماعي، والمزيد من العمل، والمزيد من الرياضة، والمزيد من سلوك المخاطرة، والهروب إلى العالم الافتراضي".
الأمراض النفسية ليست نادرة كما يعتقد البعض
يصاب واحد من بين كل أربعة بالغين في ألمانيا بمرض نفسي خلال عام واحد - بمعدل حوالي واحدة من بين كل ثلاث نساء وواحد من كل كل أربعة إلى خمسة رجال - بحسب بيانات أنيته كيرستينج من عيادة الطب النفسي الجسدي في مستشفى جامعة لايبتسيج. تقول كيرستينج: "الرجال أكثر عرضة للمعاناة من تعاطي المواد، أي إدمان أو إساءة تعاطي الكحول والمخدرات"، مشيرة في المقابل إلى أن تشخيص إصابتهم بالاكتئاب تقل بمقدار النصف تقريباً مقارنة بالنساء، عازية ذلك إلى إغفال إمكانية إصابة الرجال بالاكتئاب أحياناً.
تفترض مولر-لايمكولر أن هناك عدداً كبيراً من حالات الإصابة بالاكتئاب بين الرجال ولكنها ليست مرصودة أو مشخصة، موضحة أن الاكتئاب غير المرصود يمكن أن يكون له عواقب وخيمة، مثل: عدم القدرة على العمل، والتدهور الاجتماعي، والعزلة، واضطرابات الخوف، والسكري، والسكتة الدماغية، وزيادة عامة في معدل الوفيات، وأشارت قائلة: "معدل الانتحار بين الرجال أعلى بثلاثة أضعاف على الأقل من معدل الانتحار بين النساء".
الوظيفة.. مسؤولة عن الاضطرابات؟
بوجه عام تطرأ الاضطرابات النفسية بغض النظر عن طبيعة المهنة، حسبما يقول الخبراء. ومع ذلك تشير مولر-لايمكولر إلى مجموعات مهنية تنطوي على خطورة، حيث تكون فيها نسبة الرجال الذين يعانون من اضطرابات نفسية أكثر من عموم المجتمع، مثل: الجيش، وخدمات الإنقاذ، والشرطة.
توضح مولر-لايمكولر أنه يمكن أن تكون الأعباء الوظيفية هنا بالغة وتسبب صدمات، لكن المعايير التقليدية للذكورية تكون مهيمنة هنا أيضاً إلى حد ما. ومن الاضطرابات الأكثر شيوعاً في هذه المجالات اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب. وأوضحت الخبيرة أن الرجال مثقلون بأعباء الضغوطات المهنية أكثر من النساء بوجه عام.
أشارت كريستينج، التي ترأس قسم صحة المرأة والرجل في الاتحاد الألماني للأطباء النفسيين، إلى أن التصورات النمطية عن الذكورية لا تقف وحدها في طريق الرجال، حيث تتفوق النساء هنا عن الرجال في تمكنهن من التعرف على الأعراض وتسميتها. تقول كريستينج: "نرى اختلافات واضحة بين الجنسين في استخدام النظام الصحي. يستخدم الرجال عروض المساعدة بشكل أقل بكثير"، موضحة أن نسبة الأشخاص الذين يتلقون علاجاً بين من يعانون من مشكلات نفسية ضئيلة بوجه عام، وتتزايد ضآلة بين الرجال مقارنة بالنساء.
من ناحية أخرى يشير عالم النفس زباستيان ياكوبي إلى أن نقص الأماكن المتاحة للعلاج يمثل مشكلة أيضاً. يقول الخبير في تقديم المشورة للشركات بشأن السلامة المهنية: "أي شخص يحتاج إلى علاج نفسي يكون في وضع حياتي ضعيف ولا يمكنه الانتظار لعدة أشهر للحصول على مكان للعلاج"، موضحاً في الوقت نفسه أن وجود عدد قليل نسبياً من المعالجين الذكور ليس له تأثير هنا في ندرة تردد الرجال على عيادات العلاج النفسي.
في العقود الأخيرة فقدت العبارة التقليدية "الرجل لا يعرف الألم" معناها خاصة بين الشباب، حسبما يقول ياكوبي، مضيفاً أن "الانتباه والتأمل والبحث عن المساعدة وقبولها تعتبر مهارات صحية مهمة"، موضحاً أن نسبة كبيرة من الرجال بحاجة إلى تطوير مثل هذه المهارات لديهم.
وبحسب ياكوبي، فإنه حتى في مجتمع حديث يتمتع بتكافؤ فرص وحقوق ومسؤوليات للرجال والنساء، هناك العديد من الرجال الذين يفرضون على أنفسهم متطلبات مرهقة، مثل القيام بدور عائل الأسرة. في الوقت نفسه يرى ياكوبي اتجاها نحو إزالة الوصمة عن الأمراض النفسية، حيث يتم إيلاء المزيد من الاهتمام للعوامل النفسية، ذلك إلى جانب تحسن التشخيص، وتزايد الوعي بشكل كبير بين العاملين في المهن الطبية.
ما الذي يمكن أن تقدمه العروض الرقمية؟
يقول ياكوبي إنه عندما يلجأ الرجال - الذين يخشون الوصمة ولا يطلبون المساعدة - إلى تطبيقات الصحة العقلية، "فهذا يعتبر أمراً جيداً، فهو أفضل من لا شيء"، موضحاً أن المزايا من وجهة نظرهم يمكن أن تكون: عرض مُيسَّر يضمن المجهولية، وسهولة التبديل بين العديد من التطبيقات، ولكن: "من المغالطة الاعتقاد بأن مثل هذه العروض الرقمية يمكن أن تحل محل العلاج الشخصي الحقيقي مع معالج أو معالجة نفسية".
المصدر: أخبارنا
كلمات دلالية: الأمراض النفسیة بین الرجال والمزید من من الرجال یمکن أن أن تکون إلى أن
إقرأ أيضاً:
الصحة النفسية والرفاه الاجتماعي
لا يمكن فهم الرفاه الاجتماعي بعيدا عن الصحة النفسية، بوصفها أحد معززات هذا الرفاه؛ إذ تُسهم إيجابيا في تنمية قدرات الأفراد اجتماعيا واقتصاديا، وتساعدهم في إدراك المجتمع الذي يعيشون فيه وفهمه بما يمكِّنهم من التفاعل معه بشكل إيجابي، ويستطيعون بالتالي فهم أهمية دورهم في تنميته من ناحية، وتعزيز إمكانات العمل المشترك القائم على مفاهيم المواطنة الإيجابية.
إن الصحة النفسية اليوم تُعد من بين تلك المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها رفاهية المجتمعات، فلن يصل المجتمع إلى تحقيق أهدافه ما لم يكن أفراده أصحاء ليس بدنيا وحسب بل أيضا نفسيا وعاطفيا وذهنيا. إنها المعادلة الرئيسة التي تتخذ أبعادا اجتماعية واقتصادية ذات أهمية قصوى، خاصة في ظل المتغيرات الحالية التي تمثِّل مشتتات ذهنية ونفسية تقود المجتمعات إلى طرق مظلمة ما لم تكن واعية ذهنيا ونفسيا، ومدركة للمخاطر التي باتت تشكِّل تحديات على مستوى التنمية.
ولهذا فإن خبراء الطب النفسي يوصون بأهمية تعويد الأطفال والناشئة بشكل خاص على (التكيُّف)، وتدريبهم (على التعامل مع تحديات الحياة اليومية بشكل فاعل)؛ بحيث ينشأون في بيئة صحية تؤهلهم على المرونة والمواءمة والتصالح والتسامح، وغيرها من القيم التي تؤصِّل إمكاناتهم وقدراتهم على التكيُّف ومعالجة المشكلات بأسلوب أكثر إيجابية، وتعوِّدهم على السلوكيات التي تنم عن أخلاق مجتمعهم وقيمه السمحة.
ولعل هذا التكيُّف يتطلَّب القدرة على الممارسة المُثلى للعديد من العادات التي تقتضي تحقيق تلك الأهداف، ومن بين تلك الممارسات يأتي (التأمُّل)، باعتباره أحد أبرز أدوات العناية الذاتية، التي تعزِّز الصحة النفسية؛ فهو من الممارسات العامة المعروفة على مستوى المجتمعات، والتي دعت إليها الأمم عبر الحضارات، بل حضَّت عليه الأديان، ومن بينها الدين الإسلامي الذي يأمرنا بالتأمل في خلق الله والتفكُّر في ملكوته، عبر إعمال العقل وإطلاقه بحكمة وعمق.
إن التأمل باعتباره أداة مهمة يقتضي التفكُّر وتركيز الانتباه بقدرة الله سبحانه في خلقه، وبكل ما حولنا، وبما حبانا الله إياه من نِعم تقتضي الشكر، فإنه أيضا قوة داخلية وشعور بالرضا والسلام والمحبة؛ لما له من أهمية - بحسب العديد من الأدبيات - في (خفض التوتر، وتحسين التركيز والتوازن العاطفي وتخفيف القلق والاكتئاب وتحسين جودة النوم). إنه أداة تدعم تحسين الصحة البدنية عموما.
ولذلك فإن العالم يحتفل في الواحد والعشرين من ديسمبر من كل عام بـ (اليوم العالمي للتَّأمُل)، الذي يهدف - حسب اليونسكو - إلى (زيادة الوعي بالتأمل وفوائده، واستذكار حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية)، الأمر الذي يدفع العالم إلى تعزيز تلك الأهمية ودعم أفراده إلى العناية بفكرة التأمل نفسها؛ كونها قائمة على إعمال الفكر والتعَّمق في الذات وما حولنا من متغيرات بل وما يحصل في العالم من تحديات تستوجب إعمال العقل والتفكُّر؛ فكل ما حول الإنسان من نِعم وما يمُّر فيه من محن إنما تحتاج منه التأمُّل والوقوف الحكيم، لا التسرُّع والاندفاع وجلد الذات، بما قد لا يضر بالنفس وحسب بل أيضا يصيبها بالكثير من الأمراض النفسية، التي تجعله مكبلا، غير قادر على المضي في حياته، وعاجز عن إسعاد نفسه وأهله، بل قد يصل إلى إيذاء نفسه وإيذاء من حوله.
أما التأمُّل باعتباره ممارسة فإنه يمثِّل القدرة على التصالح مع الذات وفهمها وفق محددات اجتماعية تعزِّز الصحة النفسية، وتدعم تحقيق الرفاه؛ فكلما تمتع أفراد المجتمع بالصحة النفسية، كانت قدرتهم على العمل والعطاء والإقبال على الحياة أكبر، ولهذا فإن التأمُّل والوعي به يقوم على توجهات المجتمع في العناية بالصحة النفسية، وبناء عالم أكثر مرونة وإيجابية وخدمة للسلام والمحبة.
ولأن الرياضات عموما بأنواعها وأشكالها تقدِّم ضمن مجموعة من الأدوات التي تساعد أفراد المجتمع على التغلُّب على الكثير من الإرهاصات النفسية والجسدية التي تحدث في كثير من الأحيان دونما قصد، سواء خلال العمل و التعامل مع الناس أو حتى من ضغوطات الحياة عموما، فإن الرياضات الروحية المختصَّة بالجانب النفسي تقدِّم نفسها باعتبارها خيارا مناسبا للتعمُّق وإعمال الفكر والشعور بالهدوء والسكينة.
إن الصحة النفسية اليوم تغدو أكثر أهمية بالعناية والرعاية من قِبل المجتمعات، لما تمثِّله من مركزية في علاقتها بالتنمية وتحقيق الرفاه المجتمعي، وهي لا تتعلَّق بالتغذية الصحية وممارسة الرياضة عموما، بل أيضا بما ينتجه ذلك من أفكار ومشاعر وسلوك، قد يظهر ضمن تلك العلاقات المتشابكة خاصة في ظل التطورات التقنية التي تجعل الناشئة والشباب بشكل خاص، ينساقون وراء العديد من المغريات والتحديات في عالم افتراضي واسع لا يمكن ضبطه، سوى بإمكاناتهم على تأمُّل كل ما يتابعونه، أو يشاهدونه ويسمعونه، أو يقرأونه، ويتفكَّرون فيه وفق ضوابط قيم المجتمع ومحدداته.
إضافة إلى ذلك فإن حاجة المجتمعات اليوم إلى المرونة والتفاؤل كبيرة؛ فهذه المرونة تمكِّنهم من تخطي العديد من التحديات وتدفعهم إلى حل مشكلاتهم وتحدياتهم وفق رؤية أكثر إيجابية، ولهذا فإن تحقيق الصحة النفسية القائمة على التأمُّل والتفكُّر والعلاقات الإيجابية من خلال الأقران وتحفيز الصحة البدنية، والوعي بقيمة الصحة وعلاقتها بالرفاه الاجتماعي والصحة العاطفية، سيجعل أفراد المجتمعات أكثر قدرة على تخطي الضغوطات وفق مرونة نابعة من تلك العلاقة التي تأسسَّت على السلام الداخلي.
ولهذا فإن عُمان اعتنت عناية فائقة بالصحة النفسية، وبالوعي المجتمعي بأهميتها وقدرتها وإمكاناتها؛ وقد تزايد اليوم هذا الوعي الذي يظهر ليس من خلال الزيارات لمراكز الطب النفسي وحسب، بل أيضا بعناية المؤسسات الحكومية والخاصة والمدنية بالصحة النفسية لموظفيها وتهيئة البيئة الصحية المناسبة لهم، إضافة إلى عناية المؤسسات التعليمية والأكاديمية بهذا القطاع الصحي، التي تقدِّم برامج متخصصة للأطفال والناشئة والشباب، تهدف إلى التوعية وتقديم الدعم النفسي المناسب للطلاب في كافة مراحلهم التعليمية.
إن هذا الوعي المؤسسي ينعكس بدوره على الأفراد من خلال عنايتهم بأنماط الحياة الصحية المختلفة، سواء عن طريق ممارسة الرياضات البدنية أو الروحية، أو الالتزام بالتغذية الصحية، أو حتى عن طريق اختيار البيئة الصحية والأصحاب الإيجابين، وغير ذلك من الممارسات التي تنم عن وعي بأهمية الصحة النفسية وعلاقتها بالتطوير الذاتي النابع من محبة الذات والإيمان بقدراتها وبالتالي تحقيق الرفاه الاجتماعي من ناحية، والتنمية والمواطنة الإيجابية النابعة من عطائه ومشاركته الفاعلة في بناء مجتمعه ووطنه من ناحية أخرى.
ولذلك فإن العناية بالصحة النفسية عموما وبفكرة التأمُّل في حياتنا وما حولنا بشكل خاص، تتطلَّب منا الإيمان بأهميتها وقدرتها على تغيير أنماط ممارساتنا اليومية، للشعور بالسلام الداخلي وحُب الحياة والإقبال على العمل وفتح آفاق جديدة رحبة تتسِّع للجميع، فالحياة جميلة إذا نظرنا بعين الرضا والمحبة وتقبُّل أنفسنا والآخر بتسامح وتفاهم ينم عن أخلاقنا وقيمنا المجتمعية الأصيلة.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة