محمد باهي على إيقاع الرصد “البيبليوغرافي” للبيئة الثقافية والتنشئة الاجتماعية ،وتحت وطأة النزوع اللاإرادي لاستحضار المجال الجغرافي ،الذي كان الموطن الأصلي للمنشأ ،وشاهد عيان على البوادر الأولى للطفولة بشغبها ومغامراتها وعنفوانها ،أجد نفسي في حالة انجذاب لأزمنة وأمكنة كان لها الوقع والأثر الأكبر ،في تشكيل شخصية استمدت مقوماتها من طبيعة الأرياف والقرى ذات الارتباط الوطيد بالثقافة الزراعية ،في زمن كانت هي السند والخزان الأساس لتوفير الأمن الغذائي بمنسوب عال وكميات وفيرة ،وفي ظرفية كانت المراكز الحضرية على قلتها جد محدودة ،فيما يمتد أرخبيل البوادي في شتى الاتجاهات، مشكلا مشتلا حقيقيا للمحاصيل الزراعية بتعدد أشكالها وأصنافها، وملاذا آمنا للمستخدمين والباحثين عن فرص للشغل، النازحين من مناطق كانت تعيش القحط والجفاف وتوالي صنوف المجاعات والأوبئة.
في ظل هذه “المونوغرافيا “المتعددة الجوانب للقرى من خلفية ثقافية وتراثية ،ومن منطلق زاوية النظر التاريخية ،وتحت طائلة الوقع النكوصي ،أستحضر زمن الطفولة فيشدني الحنين إلى خبز أمي الذي كانت تطهوه على نار هادئة بالتنور ،وقهوة الصباحات الباكرة التي كانت تعدها بنكهة أعشاب تملأ أركان البيت بروائح عطرة ، ووجبة الفطور التي كانت تضم الزبدة والزيتون والخبز والقهوة، على إيقاع الدروس الدينية للعلامة الشيخ المكي الناصري رحمة الله عليه ،التي كانت تصدح بها أبواق المذياع ،الذي كان يحتل حيزا مكانيا ضمن زاوية مهمة من أركان البيت، كنا نتأبط محافظنا العتيقة التي تحمل آثارا واضحة بفعل توالي عمليات الرتق والترقيع ، نواجه في زمن الصبا أصنافا وضروبا من معاناة بعد المسافة الفاصلة بين القرى والمدارس ، وكانت الحصص الدراسية فرصا للتخفيف من ضغط المعاناة ،حيث نتلقى دروسا نستلهم من محتوياتها عبرا وحكما بليغة المعاني والدلالات رغم بساطتها ، في زمن كان الورق والقلم الوسيلة الوحيدة للتوثيق والتدوين وحفظ الذاكرة ،إذ لم يكن من المتوفر لا منصات للتواصل الاجتماعي ولا أجهزة “السمارت فون ” ولا تطبيقات “أنستغرام” أو”الواتساب” وماشابه ذلك ،عكس ذلك كانت الأسواق تعج بباعة الكتب والمجلات ،وكان الكتاب المنهل الوحيد لولوج مختلف الحقول المعرفية ،والدراسة والتحصيل. ويتضاعف منسوب الحنين إلى الأزمنة والأمكنة التي اتخذت لها حيزا مكانيا في الذاكرة الجماعية ،فيشدني الحنين إلى الحقول اليانعة وملأى السنابل الشامخة ،إلى أغصان الزيتون المتدلية والكروم والمشمش ذات القطوف الدانية ،إلى أصناف طيور السنونو ،الحسون،الدوري،السمان،القنبرة ،ومثيلاتها التي لم يعد لها أثر في وقتنا الحاضر، إلا من بعض الطيور المهجنة التي تقبع في أقفاص خلف حدائق المترفين وعلية القوم . أحن إلى روائح البيادر في الخلاء والأحراش التي كانت تعج بأكوام محاصيل القمح والشعير والدرة ،إلى قفشات وقهقهات الأهالي وهم يديرون عمليات الدرس التقليدي بواسطة الدواب ، إلى عمليات الغدو والرواح لقطعان المواشي يحرسها الرعاة ،إلى الأصيل حيث تقترب الشمس من المغيب مشكلة لوحة فنية ،تمتزج فيها الحمرة بالزرقة مانحة فرصة عابرة ،تذكر بالرحيل في انتظار إشراقة الصباح ،إلى أجواء المرح العارمة التي كانت تسود القرى رغم بساطة العيش. أحن إلى الأعراس وحفلات الزفاف ،التي كانت تقام بقرانا المتناثرة في الخلاء ،حيث كنا نقصدها ونحن صبية دون سابق استضافة ،رغبة في الاستمتاع “بسمفونيات” الطرب الشعبي على إيقاع الكمان والبندير “والطعريجة” ،وتحايل الشيخات من خلال أدائهن لفنون العيطة ،بإيقاعات يطبعها التغني بأريحية الكرم ورغد العيش والسخاء والجود، لاستمالة المزارعين الذين انتهوا للتو من محاصيل زراعية وفيرة. أحن إلى السباحة في الأحواض المائية والأنهار والأودية والسواقي في عز القيظ، رغم أنها كانت مغامرات طائشة محفوفة بالمخاطر ،إلى عطلة الصيف الدراسية التي كانت تقدف بنا لولوج الأسواق الأسبوعية بحثا عن الكتب والمجلات ومختلف وسائل المعرفة المتاحة آنذاك،وتدارينا للبحث عن صناع الفرجة “لحلايقية ” ،الذين ينقسمون إلى مطربين وحكواتيين وبهلوانيين وسحرة وملاكمين وممارسي لعبة الربح والخسارة ،ونقضي ماتبقى من الوقت بعد الظهيرة في التجوال بين أحياء المدينة وأزقتها ،في انتظار عرض سينما الخلاء بجانب السوق الأسبوعي ،إذ كانت تعرض إعلانات ترويجية وإشهارية، تعقبها أشرطة سينمائية عربية وأخرى من الصنف الهوليودي الكلاسيكي بنجومه الشهيرة . وتتوالى فصول الحنين لأزمنة وأمكنة مشكلة وشما على الذاكرة ،حيث لاوجود لمنطق القطيعة بين تشكل الأجيال وبناء الشخصية ،ولا مفر من اللبنات الأساسية التي كانت المنشأ والأصل والمرجع والذاكرة ،نعيش الحاضر بالمتوفر مما تضج به الحياة ،ونترقب المستقبل برؤية استشرافية ،في سياق التعايش مع التحولات والمتغيرات التي تطرأ على مختلف مناحي الحياة ، ويشدنا الحنين بأثر نكوصي للماضي بشغبه ومغامراته وعنفوانه ،لنستحضر الأزمنة والأمكنة والشخوص ، وباقي التفاصيل التي ستظل قابعة في الوجدان ،لتحيلنا من حين لآخر على جوانب مضيئة ومشرقة من ثقافتنا الاجتماعية ذات الهوية الأصيلة . كاتب من المغرب
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية:
التی کانت
إقرأ أيضاً:
لم يتقبل الخسارة.. ركل منافسه في وجهه وأفقده الذاكرة
أثبت رجل مكسيكي أنه لا يتمتع بالحد الأدنى من "الروح الرياضية"، حيث لم يتقبّل خسارته في لعبة كرة المضرب، وركل منافسه الفائز بضربة مبرحة تسبّبت بفقدانه الوعي، وإصابته بفقدان ذاكرة مؤقت.
ونشر على منصة "إكس" مقطع فيديو مدته 41 ثانية، يوثق اللحظات الأخيرة من مباراة ضمن بطولة محلية، أقيمت في المكسيك، اختتمت بعنف وشجار.
وفي إحدى اللقطات، كان اللاعب بيتر شونك، يسدّد رمية إلى خصمه، ضمن لعبة زوجي كرة المضرب، فخسر الفريق الآخر للمباراة، ثم ظهر شوك يقفز فرحاً تعبيراً عن فرحه بالفوز.
في تلك الأثناء استشاط خصمه غضباً، وانتظر لحظة السلام الأخير بنهاية اللقاء، وسدّد ركلة إلى وجه شونك خلال التقاطه لمضرب سقط على الأرض بشكل عفوي.
ذكر شونك أنه شعر بالحماس لفوزه، فمازح منافسه وضرب على مضربه، دون أي نوايا سيئة، فركله الخصم على وجهه.
لكن كنوع من الاعتذار انحنى شونك لرفع المضرب عن الأرض، عندها ركله المنافس بحركة مفاجئة أسقطته أرضاً، وسقطت معه العارضة الفاصلة بين الخصمين المتنافسين.
Pickleball is the fastest growing sport in America. But maybe we should shrink the game a little if we have people kicking each other in the goddamn face over a loss. @stoolpickleball pic.twitter.com/xAuJSsrrTe
— Jordie (@jordiebarstool) November 17, 2024 لن يرفع دعوى
وأكد أنّه لا ينوي أن يرفع دعوى ضدّه، معتبراً أنه يتفهم شعوره بعدم تقبله للخسارة، كما ذكر أنه منشغل بأمور كثيرة أهم من المنازعات، رغم تعرضه لصدمة أفقدته الذاكرة لنحو 3 ساعات، وذكر أنه توجه إلى طبيب لإجراء فحوصات لرأسه للاطمئنان من عدم إصابته بنزيف داخلي.
وقال شونك، في تصريح نقلته صحيفة "نيويورك بوست"،: "لدي عائلة، وشركتان تجاريتان، وألعب كرة المضرب كهواية فقط، وليس لدي وقت لأضيعه من أجل الدخول في منازعات".