يتعرض الفلسطينيون في الأرض المحتلة وخصوصًا في قطاع غزة لحرب إبادة لا مثيل لها في التاريخ، فقد اجتمعت كل قوى الشر في العالم على دعم العدوان الإسرائيلي، بكل الوسائل، وعلى مدار ما يقرب من شهر ونصف، يشاهد العالم صباح مساء الإبادة بكل الوسائل، إلا أن ما يستحق الوقوف عنده هو صمود هذا الشعب وتكاتفه وإصراره على المقاومة، بوسائله التقليدية إيمانًا بقضيته، ورغم ذلك فأنا على ثقة بأن النصر قادم لا محالة بصرف النظر عن الحرب الإعلامية الضارية التي يمارسها العدو، لكن الغريب في الأمر دخول بعض الدعاة من بني جلدتنا بإقحام أنفسهم في تلك الحرب النفسية، وتوظيف الدين على المنابر في قضية ليست من مهامهم، حينما يطل علينا بعض الدعاة من على المنابر قائلين بأن هؤلاء المناضلين ليس من حقهم دينيًا أن يشعلوا حربا لا يقرها أولى الأمر من حكامهم، لم يخجل هؤلاء ولم يكتفوا بالصمت، وإنما راحوا يروجون لمقولات ليس لها علاقة بالدين، معتبرين المدافعين عن أرضهم وبيوتهم وحياتهم ما هم إلا جماعة خارجة على الدين، لمجرد أن حكامهم لم يوافقوا عليها.
يعتقد البعض بأن ما يتعرض له الفلسطينيون من عمليات الإبادة التي نشاهدها عبر وسائل الإعلام من الأشلاء والدماء والأطفال والنساء وهدم البيوت على ساكنيها، وكل المشاهد المأساوية التي ينفطر لها قلب كل إنسان- كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى استسلام أصحاب الأرض، لقد تعرض الفلسطينيون عبر تاريخهم الحديث لما هو أصعب من ذلك، لكنهم دائما يفضلون الموت على الحياة التي تفقدهم أرضهم وبيوتهم، لذا سوف ينتصر الفلسطينيون لا محالة، فالشعب الذي تعرض لكل هذه المآسي كان إيمانه بقضيته وسعيه إلى الاستشهاد يفوق كثيرًا ما واجهته معظم الشعوب التي تعرضت لمثل هذه التجارب، ورغم الانقسام الفلسطيني الفلسطيني لكنه انقسام على الخطط والبرامج وليس انقسامًا على القضية التي حملها جيل وراء جيل، والمشهد في شوارع غزة والقطاع والضفة الغربية ينبئ عن مستقبل القضية، فالأطفال والشباب والنسوة يواجهون القصف غير عابئين، وهم يتسابقون في حمل موتاهم وأشلاء أطفالهم رافعي الرأس غير مكترثين بالموت الذي يحصدهم ساعة بعد أخرى.
سينتصر الفلسطينيون لا محالة، وسوف يرهقون عدوهم ويوصلونه لدرجة اليأس، بعد أن ادعى بأنها حرب سيخوضها جيش الاحتلال في عدة أيام، لكن هاهي الحرب قد طالت لما يقرب من شهر ونصف، وهو استنزاف لا يتحمله العدو، بينما أهل غزة والقطاع يواصلون قتالهم بجسارة على أرضهم وفي شوارعهم أو حتى في أنفاقهم غير مكترثين لا بالموت ولا بهدم البيوت ولا حتى لافتقادهم للدواء والطعام.
سينتصر الفلسطينيون لأنهم يقدمون على الموت أكثر من إقدام عدوهم على الحياة، وقد أعدوا قطاع غزة على الثبات انتظارًا للموت، الذي يعتبرونه إرادة إلهية لا يحظى بشرفها إلا المخلصون لقضيتهم، لذا فهم مهيأون لانتظار الموت في كل لحظة، وأعتقد أن مقاتلي غزة قد أعدوا أنفسهم لهذا اليوم منذ سنوات، فقد بنوا خنادقهم وأنفاقهم وخزنوا أسلحتهم وغذاءهم ودواءهم انتظارا لمواجهة عدوهم الذي يملك كل أسلحة الدمار الشامل، لكنهم يملكون ما هو أهم من كل ذلك وهي الأرض التي يقاتون عليها، فضلًا عن إيمانهم بقضيتهم، وهو ما يفوق طائرات عدوهم وصواريخهم.
اعتاد العدو الإسرائيلي أن يقاتل من خلف أسلحته ومدمراته، بينما الفلسطينيون قد راحوا يستدرجون عدوهم إلى أرض ودروب لا يعرفها ولا عهد له بها، وهو ما يفسر تقاعس العدو عن الإقدام على دخول قطاع غزة، وبات من الواضح بأن الإسرائيليين لديهم معلومات بأن حماس تستدرجهم لدخول القطاع لكي تبدأ الحرب الحقيقية على الأرض، وهو ما تحرص إسرائيل على تجنبه خوفًا من مقاتلين غير معروفة أماكنهم ولا نوعية أسلحتهم ولا أعدادهم، لذا سوف تبدأ الحرب الحقيقية رجلًا لرجل، وهو ما لا تستطيع إسرائيل أن تتحمله.
إذا ما أرادت إسرائيل أن تحرز انتصارًا حقيقيًا فعليها القضاء نهائيًا على الفلسطينيين وإبادتهم، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق أبدًا، فإسرائيل أضعف مما يمكن أن نتصور، وخصوصًا في حرب تعد الأرض هي العامل الحاسم دفاعًا عن أصحابها، وهو ما يفسر تحريك البوارج الأمريكية والأوروبية، وزيارة رؤساء الدول الكبرى إلى إسرائيل لدعم معنويات مقاتليها، وهو ما يؤكد ضعفها وهشاشة بنيتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية.
أعتقد أن حماس كانت على بينة بأن الرأي العالمي سيتغير، بعد هذا الحشد الإعلامي الذي سوقه الإسرائيليون وأصدقاؤهم، على اعتبار أنها داعش بنسختها الجديدة التي تهدد الحضارة المعاصرة، وهو ما لم يتحقق بعد أن خرجت المظاهرات وملأت الميادين في كثير من دول العالم، مطالبة بوقف هذه الإبادة الإنسانية، فضلًا عما أحدثته هذه الحرب من تغيير واضح في موازين القوى بين روسيا وأوكرانيا، التي تحظى بدعم أمريكي وأوربي لا نظير له، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة الامريكية والغرب قد أصيبوا بصدمة هائلة بسبب صمود الشعب الفلسطيني وانصراف العالم عن الحرب الروسية الأكرانية، لذا فالأزمة تتفاقم بشكل واضح، بعد أن فشلت معظم الخطط الأوروبية والأمريكية وثبات الفلسطينيين على أرضهم، وفشل مخطط تهجيرهم إلى سيناء، كما فشلوا في شق الصف الفلسطيني الفلسطيني، رغم الترويج من بعض حكامنا وأجهزتنا الإعلامية بأن حماس قد أضاعت القضية الفلسطينية.
الأزمة ستطول على المستويين الدبلوماسي والعسكري، لكن نهايتها قطعًا سوف تكون في مصلحة الفلسطينيين وقضيتهم.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: وهو ما
إقرأ أيضاً:
«الإعلاميين السعوديين»: الفلسطينيون يواجهون مرحلة لا تحتمل أنصاف الحلول
أكد عبدالله الشهري، رئيس جمعية الإعلاميين السعوديين، أن الصوتين السعودي والمصري لهما تأثير قوي على جميع المستويات، مشيرًا إلى أن حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في «فوكس نيوز»، وما تبعه من تصريحات صحفية لمسؤولين مقربين منه، كان محاولة لإعادة صياغة موقفه بعد تصريحات قاسية أُخرجت من سياقها، مضيفًا أن ترامب عاد لاحقًا وأوضح أنه لا يفرض خطة معينة، بل يطرح مقترحات، مما يشير إلى أنه يدرك أهمية دور السعودية ومصر في أي تحرك سياسي.
ترامب ومراجعة تصريحاته حول الشرق الأوسطوشدد الشهري، خلال مداخلة مع الإعلامية أمل الحناوي، على قناة القاهرة الإخبارية، على ضرورة أن يحظى التحرك المصري السعودي بدعم عربي وإسلامي واسع، إلى جانب تأييد القوى الفاعلة في المجتمع الدولي، معبرًا عن أمله في أن ينعكس هذا الدعم على الوضع الداخلي الفلسطيني، موضحًا أن المشكلة الفلسطينية تتطلب إصلاحًا داخليًا، حيث يعاني الفلسطينيون من تنافس سياسي حاد، مستذكرًا تعهد إسماعيل هنية وخالد مشعل أمام الكعبة المشرفة خلال شهر رمضان، بحضور الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، بنبذ الخلافات، إلا أن الصراع عاد مجددًا بعد فترة قصيرة بشكل أكثر حدة.
الوحدة الفلسطينية والتحديات الداخليةوأكد أن أي حلول خارجية يجب ألا تصطدم بعقبات إجرائية غير مبررة، مشددًا على أن الفلسطينيين يواجهون مرحلة لا تحتمل أنصاف الحلول، وعليهم الوقوف إلى جانب الدول الفاعلة مثل السعودية، مصر، الأردن، والدول العربية المعنية.
القمة العربية المرتقبة وأهميتهاواختتم حديثه بالإشارة إلى القمة العربية المرتقبة في مصر يوم 4 مارس، معربًا عن أمله في أن تكون محطة مفصلية لتوجيه رسالة واضحة وقوية، سواء للبيت الأبيض أو للمجتمع الدولي بأسره.