-1-

على مدى الحلقات السابقة اجتهد كاتب هذه السطور، تأثرًا بالأحداث الجارية على أرض فلسطين وغزة بل واستجابة كتابية لها أيضًا، في تتبع صورٍ من المقاومة في الخطاب الإبداعي (بعض أعمال روائي المقاومة الفلسطينية غسان كنفاني وبخاصة روايته الأهم «رجال في الشمس»)، وفي بعض نماذج من الخطاب البصري السينمائي (فيلم «عنتر ولبلب» من كلاسيكيات السينما المصرية)، وفي هذه الحلقة نحاول أن نعرض لنموذج آخر من نماذج تجليات «المقاومة» في الخطاب الإبداعي والنقدي في الثقافة العربية المعاصرة.

سنتخذ من كتابات الروائية والناقدة والمناضلة الراحلة رضوى عاشور نموذجًا لهذا البحث؛ خاصة وأن حياة رضوى عاشور وكفاحها العلمي ونضالها السياسي وإبداعها الأدبي وخطابها النقدي يكاد يتمحور كله حول هذه القيمة؛ قيمة «المقاومة» وتمثيلها أدبيًا وإبداعيًا ودراسيًا، وبحث تجلياتها وأشكالها ودراسة صورها في دراساتها الأدبية والنقدية (الرواية في غرب إفريقيا ودراسة خطاب ما بعد الاستعمار)، ودراسة خطاب غسان كنفاني الروائي والقصصي، «صيادة الذاكرة دراسات في النقد التطبيقي»، وغيرها من الكتب والدراسات.

أما روائيا فقد كانت رواياتها الكبرى كلها تمثيلًا لفكرة المقاومة ونقد ما بعد الاستعمار وتمثيل مأساة النكبة واحتلال الأرض واللجوء (راجع أعمالها المعروفة؛ ثلاثية «غرناطة»، «الطنطورية».. إلخ).

-2-

في كتابها الأخير «لكل المقهورين أجنحة» (دار الشروق 2019) الذي صدر بعد رحيل رضوى عاشور، وقد استقت محررة الكتاب عنوانه من تلك الحكاية «الأمثولة» التي أوردتها رضوى عاشور في النص الذي استهل به الكتاب فصوله ومواده، تقول الحكاية:

(حكاية «لكل أبناء الربّ أجنحة» من الحكايات المشهورة في التراث الشعبي الإفريقي-الأمريكي، وهو تراث زاخر، أنتجه الأفارقة من موقعهم المستجدّ في عالمٍ حُمِلوا إليه قسرًا، ليبدأوا فيه حياتهم على خشبة المزاد، ومنها إلى المزارع للعمل سخرةً تحت تهديد السياط.

يبدأ الراوي الحكاية قائلًا: «في سالف الأيام كان لكل الأفارقة أجنحة، كانوا قادرين على التحليق كالطيور».

ثم يحكي الراوي عن امرأة تعمل في المزرعة ولم تتعافَ بعد من الوضع.

يصرخ وليدها فتجلس لترضعه. يضربها سائق العبيد. تقوم للعمل ولكنها تسقط من شدة الوهن. يضربها من جديد، هكذا حتى تتطلع المرأة لشيخ إفريقي من العبيد، وتقول له بلغة لا يفهمها سادة المزرعة: «هل حان الوقت يا والدي؟» فيجيب: «حان الوقت يا ابنتي». فإذا بالمرأة تطير بصغيرها، وقد نبتت لها أجنحة.

يتكرر المشهد مع عبد آخر، وحين ينتبه سيد المزرعة ونائبه وسائق العبيد إلى أن الرجل المُعَمِّر هو مصدر الكلمات التي تجعل العبيد تطير يهجمون عليه لقتله، ولكن الشيخ يضحك ويوجه كلامه بصوت جهوري لكل عبيد المزرعة. «وأثناء حديثه كانوا يتذكرون كل الأشياء التي نسوها، ويستحضرون ما كان لهم من قوة فقدوها. ثم نهضوا جميعا معًا، العبيد الجدد والعبيد القدامى. رفع الشيخ يديه فقفزوا جميعا في الهواء، وهم يهتفون في صوت واحد. وفي لحظة كانوا يحلقون كسربٍ من الطيور... الرجال يصفقون والنساء يغنين والأطفال يضحكون... ولم يكونوا خائفين».

-3-

تعقب رضوى عاشور على هذه الحكاية الرمزية «العميقة» بقولها:

(ليست هذه مجرد حكاية أنتجتها المخيّلة الجماعية للعبيد الأفارقة، فيما عُرِف لاحقًا باسم الولايات المتحدة الأمريكية، تُصوِّر واقعهم، وتكسر طوقه، وتوسِّع عبر الخيال حدود عالمهم، فتعيد لهم الثقة في قدراتهم الإنسانية، ولكنها أيضًا حكاية نموذجية تلتقط قانونًا من قوانين النضال الشعبي من أجل التحرر، حيث «الذاكرة» شرط من شروط هذه الفعل التحرري. أتابع تفاصيل الانتفاضة الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين المحتلة منذ عام 1948، أعود لهذه الحكاية. أتمتم: لكل المقهورين في الأرض أجنحة).

هذه التمتمة «التميمة» التي رددتها رضوى عاشور تكاد تصبح المفتاح الأساسي لفهم اختيارات رضوى عاشور في موضوعاتها التي تصدت لبحثها ودراستها في أطروحاتها الجامعية أو في بحوثها ودراساتها النقدية، وكذلك لفهم وتفسير موضوعات رواياتها الكبرى التي حازت انتشارًا واسعًا ومقروئية عالية جدا، ما زالت حتى وقتنا هذا، ورغم رحيلها منذ سنوات.

-4-

جاءت تسمية روايتها الضخمة «الطَّنْطورِيَّة» (التي صدرت عن دار الشروق للمرة الأولى عام) نسبة إلى قرية الطَّنْطورَة وهي قرية على الساحل الفلسطيني على بعد أربعة وعشرين كيلومترا جنوب حيفا.

تحكي رضوى عاشور أنه في ليلة الثاني والعشرين إلى الثالث والعشرين من مايو 1948 (ليلة السبت إلى الأحد) هاجمت العصابات الصهيونية القرية ضمن مخططها للاستيلاء على ما تبقى من قرى عربية على الساحل.

كانت هناك مقاومة عنيفة.

انتهت المعركة باستيلاء الصهاينة على الطَّنْطورَة والإعدام الجماعي لما يقرب من مائتين من رجال القرية فكانت مذبحة بحجم مذبحة دير ياسين، وعشرات المذابح الأخرى التي شهدها الساحل الفلسطيني والجليل الأعلى عامي 1947-1948.

بعدها حملوا من تبقى من الأهالي، النساء والأطفال في شاحنات إلى قرية الفريديس المجاورة، ومنها إلى الخليل، أما الرجال الذين لم يقتلوا فحملوهم إلى سجن في زخرون يعقوف وهي مستوطنة قريبة ومنها إلى معتقلات جماعية للأسرى.

هذه الواقعة التي قالت عنها رضوى عاشور: إنها وإن كانت لا تستغرق إلا فصلًا واحدا هو الفصل السابع من فصول روايتها، فإنها تكاد تمثل منطلق الرواية ومركز الثقل في أحداثها التي تتناول مصير ومسار رقية الطَّنْطورِيَّة وأسرتها من تلك اللحظة إلى وقت كتابة الرواية، مرورًا بتجربة اللجوء إلى لبنان.

وعلى هذا، فقد جددت رضوى عاشور تجربتها المميزة في استلهام التاريخ القريب (كما استلهمت التاريخ البعيد في أحداث روايتها «غرناطة» لتعيد كتابة سردية المأساة الفلسطينية، النكبة والتهجير واللجوء والتشريد في المنافي.. إلخ.

ورضوى عاشور من كتاب الرواية الذين يؤمنون بأن الرواية عمومًا هي النوع الأدبي الأكثر اشتباكًا بالواقع التاريخي، لها ما لباقي الفنون من قدرة على ربط الخاص بالعام، والفكرة المجردة بالحياة التي تستعصي على التجريد، ودمج التسجيلي بالمُتَخَيّل، في إطار بنية متكاملة تحيل إلى معنى كليٍّ، يخلخله نسيجٌ لا تخضع عناصره جميعا لذلك المعنى، بل تنفلت مـن أسـره لتولِّد بدلًا من المعنى الواحد القاطع، معاني مفتوحة على المتعدد من التأويلات.

-5-

إن «الطنطورة» و«قيسارية» و«عين غزال» و«صفورية» و«حيفا» و«صيدا» و«بيروت».. وغيرها مما يرد في الرواية من أماكن، هي تاريخ وجغرافيا، أما الشخصيات فكلها متخيلة.

هذه الشخصيات المتخيلة التي تجسدت على الورق وضمن شبكة أحداث السرد في الرواية تجلت في أسماء «رقيّة ووصال وصادق وحسن وأبو الصادق وأبو الأمين».. وعشرات الشخصيات الأخرى كأي شخصيات روائية تقول عنها رضوى عاشور: جاءتني كالعفاريت، لكنها عفاريت غريبة لأنها خلافًا للعفاريت، مجبولة بطين التاريخ والجغرافيا والوقائع. طبعا قرأت كثيرًا لأعزز معارفي عن التاريخ الفلسطيني: النكبة ومخيمات اللاجئين في لبنان والحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ومذابح صبرا وشاتيلا. استمعت إلى شهادات مسجلة. تطلعت مطولا في الصور والخرائط وحسبت المسافات بين قرية وقرية... إلخ.

في هذه الرواية بالتحديد عايشت رضوى عاشور كل أحداثها سواء منها المرجعي أو المتخيل للدرجة التي تكتب فيها نصا وطوال فترة الكتابة علقت بالقرب مني خريطة كبيرة مفصّلة لفلسطين تظهر أصغر القرى وخطوط الطرق والسكة الحديد... نعم هناك جهد توثيقي لا غنى عنه. ولكن الجغرافيا والتاريخ الشفهي والمكتوب لا يحلّ المشاكل الروائية. المشاكل المعتادة، والمشاكل الخاصة بنص يتناول واقعًا قاسيًا.

أتساءل: كم مذبحة يمكن لنص روائي واحد أن يحتمل؟ كم كارثة يمكن للقارئ أن يتحمل؟ قد تخنقه الوقائع فيهرب. لا أسهل من هروب القارئ. يُغلق الكتاب وينصرف إلى أمر آخر. هل أحاول التخفيف عنه قليلا، أُضحكه؟ أسليه؟ وكيف أضحكه، وأنا أحكي له حكاية حزينة؟

هذه الحالة الفريدة وهي تحت وطأة الكتابة تجعلها لا تفتعل الضحك أبدا، تترك أصابعها تتحرك على أزرار «الكيبورد»، تترك لخبرتها بالبشر أن توجد تفاصيلَ حياةٍ لهذه الشخصية أو تلك. نعم، إنها تكتشف وبتلقائية أن الناس تضحك وتأتي أفعالا مُضحكة، وتفرح وتتزوج وتنجب وتغني من قلب قلبها حتى وهي تحت وطأة النكبات، هكذا البشر، وهكذا أيضًا قوة الحياة. تسميها بلا حرج: مقاومة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة التی

إقرأ أيضاً:

بسبب عبلة كامل .. قصة خلاف يسري نصر الله مع نقابة الممثلين

كشف المخرج يسري نصر الله عن كواليس اختياره للفنانة عبلة كامل للمشاركة في فيلمه الأول "سرقات صيفية"، موضحًا التحديات التي واجهها في الحصول على تصريح لها من نقابة المهن التمثيلية، خاصة أنها كانت أولى تجاربها التمثيلية.

أشار يسري نصر الله خلال حلوله ضيفا على برنامج "معكم منى الشاذلي"، مساء الجمعة، المذاع عبر شاشة ON مع الإعلامية منى الشاذلي، إلى أن النقيب حينها رفض منح التصريح لعبلة كامل بحجة وجود ممثلات أخريات في النقابة قد يقمن بنفس الدور، وهو ما أثار استغرابه ودفعه للإصرار على اختيارها، قائلاً: "كنت متأكد إنها الأنسب للدور، وكان أداؤها مذهلًا خلال تجارب الأداء".

سحب الجنسية الكويتية من المطربة نوال .. اعرف الحقيقة أخبار الفن.. هل تعود رضوى الشربينى الى زوجها؟ ابنة أحمد السقا تخطف الأنظار.. قصة سقوط الفخرانى فى حمام السباحة طلب غريب من معجب لـ أصالة.. والفنانة تهدده بزوجها | تفاصيل بالفيديو عودة رضوى الشربيني لزوجها ؟.. شاهد رد فعل ابنتها

أضاف أن قرار النقابة تسبب في محاولة لوقف تصوير الفيلم، ما دفعه لاتخاذ موقف حاسم لإتمام العمل، قائلاً: "التصوير كان في بيت تبع عيلة غالي، وإحنا البيت ده في عزبة خاصة ومقفول، في ناس من النقابة جت عشان توقف الفيلم، قولت لفريق العمل أي حد يقرب من العزبة اكسروا رجله، وخلص الفيلم واتعمل".

وعن إصراره على اختيار عبلة كامل، أوضح "نصر الله" أن الأمر لم يكن يتعلق بكبرياء المخرج، بل بإيمانه بموهبتها الفريدة وقدرتها على تقديم الدور بشكل استثنائي، مشيرًا إلى أن اختياره للممثلين دائمًا يعتمد على ملاءمتهم للدور، وليس لأي اعتبارات تجارية أو جماهيرية.

اختتم حديثه: "لو علاقتي سلسة مع الممثلين، فأنا مدين لذلك بفيلم (سرقات صيفية)، وبان في الفيلم ده إني بحب المممثلين، وبختارهم لأني بحبهم".

مقالات مشابهة

  • بسبب عبلة كامل .. قصة خلاف يسري نصر الله مع نقابة الممثلين
  • تعدٍ وضرب تحت الحزام .. حوادث غريبة بالمدارس والحضانات .. إيه الحكاية
  • إعصار القنبلة يقطع الكهرباء بالولايات المتحدة.. إيه الحكاية
  • تصريحات مثيرة للجدل.. ماذا قالت ابنة رضوى الشربيني؟
  • اتحرقت .. ياسمين صبري تتعرض لإصابة قوية | إيه الحكاية
  • ابنة رضوى الشربيني تثير الجدل.. هل تعود العلاقة بين والديها؟
  • قديما قالوا: الملافظ سعد.. واليوم نقول: الكلمة أمانة وعهد
  • إجراءات مشدّدة.. ماذا يجري داخل مرفأ بيروت؟
  • هل عادت رضوى الشربيني لزوجها؟.. ماذا قالت ابنتها
  • هالة أبوعلم عن التلفزيون المصري: أزمة ماسبيرو في الإدارة التي تتجاهل الكوادر