مع تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين حد العشرة آلاف في أوائل نوفمبر، حذر دبلوماسيان أمريكيان غير معلني الشخصية تعرَّضا للتهميش بسبب دعم الرئيس جو بايدن لإسرائيل، من أن الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى «أن تنتقد علنا انتهاكات إسرائيل للمعايير الدولية من قبيل الفشل في الحد من العمليات الهجومية لأهداف عسكرية مشروعة».

وقد كتب الدبلوماسيان في مذكرة تسرَّبت إلى صحيفة بوليتيكو أن حرب إسرائيل في غزة تبذر «دواعي الشك في النظام الدولي القائم على القواعد الذي ندافع عنه منذ أمد بعيد».

يشكل هذان الدبلوماسيان جزءا من جماعة متزايدة تعارض التحصين الذي توفره الولايات المتحدة لإسرائيل منذ فترة طويلة في انتهاكاتها الواضحة للقانون الدولي. وقد انتقد ملك الأردن عبد الله الثاني أنه «في صراع آخر» ـ يعني الغزو الروسي لأوكرانيا ـ أدانت الولايات المتحدة «مهاجمة البنية الأساسية المدنية وتعمُّد تجويع شعب بأكمله بحرمانه من الغذاء والماء والكهرباء والضروريات الأساسية». وتابع قائلا إن القانون الدولي «يفقد كل قيمة له في حال تطبيقه بشكل انتقائي».

وليس الملك عبد الله هو الوحيد الذي بهتته أوجه التشابه بين أوكرانيا وغزة. في جلسة عبر تطبيق زوم نظمها الكاتب بيتر بينارت بعد أسبوع من الصراع، قال رئيس الكنيست السابق أفروم بورج إن نهج الجيش الإسرائيلي ـ بتسويته البنية الأساسية بالأرض من خلال الضربات الجوية والمدفعية لتيسير حرب المدن على الدبابات والمشاة ـ يرقى إلى «الاستراتيجية العسكرية الروسية».

والدبلوماسيان على حق: فالضوء الأخضر الذي أعطاه بايدن لإسرائيل يثير الشك في شرعية «النظام الدولي القائم على القواعد». كما يوضح أيضا ماذا يكون هذا النظام حقا. لوهلة يبدو أن «النظام الدولي القائم على القواعد» شبيها بـ«القانون الدولي»، لكنه في واقع الأمر بديل القانون الدولي مصحوبا بامتيازات الهيمنة الأمريكية. وليس بايدن منافقا، على وجه التحديد، حينما يعاقب روسيا على أفعال يدعمها ماديا عندما تقوم بها إسرائيل. إنما هو يمارس الاستثنائية.

وتحريا للوضوح، يتعامل كثيرون داخل حكومة الولايات المتحدة وخارجها في أغلب الحالات مع مصطلح «النظام الدولي القائم على القواعد» باعتباره مرادفا للقانون الدولي. ولا يجد أنصار النظام الدولي القائم على القواعد غضاضة باستخدام القانون الدولي أو الإشادة به عندما يخدم الولايات المتحدة، كما في حالة سعي المحكمة الجنائية الدولية إلى اعتقال فلاديمير بوتين بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها في أوكرانيا. ولكن الولايات المتحدة لن تقدم نفسها أبدا إلى المحكمة الجنائية الدولية ICC. ففي ظل حكم الرئيس جورج دبليو بوش، ألغت الولايات المتحدة توقيعها (غير المصدَّق عليه) من المعاهدة المؤسِّسة للمحكمة. وفي ظل حكم الرئيس دونالد ترامب، فرضت عقوبات على عائلات المدعين العامين للمحكمة الجنائية الدولية الذين فتحوا تحقيقا في جرائم الحرب التي شهدتها الحرب الأمريكية في أفغانستان. وهكذا إذن هي طريقة عمل النظام الدولي القائم على القواعد. فهو لا يحل محل آليات القانون الدولي، وإنما يضع علامات إيضاحية بجانبها. فقد تكون القواعد ملزمة لخصوم الولايات المتحدة، ولكن الولايات المتحدة وعملاءها بوسعهم الانسحاب منها.

إن التاريخ الوجيز لكيفية قضاء الولايات المتحدة لحظتها في ما بعد الحرب الباردة بوصفها قوة عالمية عظمى يظهر صعود ما نسميه الآن «النظام الدولي القائم على القواعد» RBIO على حساب القانون الدولي. فعندما ترفض الأمم المتحدة الإذن بحرب على صربيا لإنقاذ كوسوفو، تصرفت الولايات المتحدة وكأن حلف شمال الأطلسي يستخدم التفويض نفسه، ولم تجد دولة من القوة ما يجعلها تتحدى ذلك. واكتسب هذا الدافع مزيدا من الطاقة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر. فكان الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 استهزاء بالقانون الدولي في حين زعم للمفارقة أنه يدعمه.

برغم أن العديد، في دوائر محترمة، قد اعترضوا على عدوان بوش الصارخ، فإن تيارا في السياسة الخارجية الليبرالية زعم أن القوة الأمريكية قادرة على إنقاذ القانون الدولي من نفسه. وفي عام 2006، اقترح الباحثان آن ماري سلوتر وجون إيكنبيري استراتيجية كبرى أطلقا عليها «عالم الحرية في ظل القانون». سعيا فيها إلى إصلاح وتعزيز المؤسسات الدولية القائمة. ولكن لو أن الأمم المتحدة «غير قابلة للإصلاح»، فقد دعيا إلى تكوين «مجموعة من الديمقراطيات» من أجل «توفير منتدى بديل للديمقراطيات الليبرالية للتفويض بالعمل الجماعي». وبهذه الطريقة، تكوّن مفهوم النظام الدولي القائم على القواعد.

وما بدأ باعتباره استجابة لحالة طارئة في البلقان هو الروتين الآن. فقد حول الرئيس باراك أوباما مهمة إنسانية تابعة للأمم المتحدة في ليبيا إلى مهمة دعم الإطاحة بمعمر القذافي. وبعد أن تحول حطام العراق إلى رعب داعش، نشرت الولايات المتحدة قوات في شرق سوريا دون تفويض من الأمم المتحدة أو دعوة من بشار الأسد. وأمر ترامب باغتيال قاسم سليماني، أحد أهم الشخصيات في الحكومة الإيرانية.

قالت ماري إلين أوكونيل، خبيرة القانون الدولي والأستاذة بجامعة كولومبيا في رسالة عبر البريد الإلكتروني إنه «لا يمكن لـ النظام الدولي القائم على القواعد RBIO أن يحل محل القانون الدولي - فالقانون الدولي متأصل في ذات مفهوم الدولة، والحدود الدولية، والمعاهدات، وحقوق الإنسان». واستدركت بقولها «ولكن النظام الدولي القائم على القواعد RBIO يقوض الاعتراف واحترام نظام القانون الدولي. إن قدرة القانون على دعم حلول التحديات العالمية من حرب وسلام إلى تغير المناخ والفقر تتدهور بشدة بسبب هذا المفهوم التنافسي المعيب للغاية».

والآن انظروا إلى ما تفعله إسرائيل في غزة. بحلول أوائل نوفمبر، كانت تقتل ما يقدر بنحو 180 طفلا يوميا. وطالب الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين بالتخلي عن منازلهم في شمال غزة، وبعد ذلك، عندما امتثل مئات الآلاف، هاجم مواقع جنوب غزة التي قادهم إليها. وبعد تجويع غزة، وحرمانها من الدواء، وقطع الاتصالات عنها، وقتل صحفييها، ومحاصرة مستشفياتها بل والإغارة عليها، وتأكيد أن أماكن اللجوء الجماعي هي مواقع لحماس، زعمت إسرائيل أنها قتلت «العشرات» من قادة حماس، من إجمالي عدد القتلى الذي بلغ في ذلك الوقت 10500 فلسطيني.

ما من طريقة للتوفيق بين هذه الأرقام ومطالب القانون الدولي بالتمييز والتناسب. ومع ذلك، تدرك إسرائيل أن لديها ما هو أقوى من القانون الدولي: حماية النظام الدولي القائم على القواعد.

يرى باحثو الهولوكوست، من أمثال راز سيجال في جامعة ستوكتون وعمر بارتوف في جامعة براون، أن إسرائيل إما على عتبة أو تجاوزت عتبة ارتكاب الإبادة الجماعية وهي أفظع ما يمكن أن ترتكبه دولة تصف نفسها باليهودية. لقد أصيب بايدن بالذهول في عام 2022 عندما لم يقبل جزء كبير من العالم ـ وهي الأجزاء التي تنزع إلى المعاناة بسب القوة الأمريكية ـ الرواية الأمريكية الخاصة بالغزو الروسي لأوكرانيا. كان ينبغي أن يكون ذلك نذيرا. والآن يرى العالم إسرائيل إذ تبيد غزة بالأسلحة والدعم الدبلوماسي من أمريكا. ومن خلال القيام بذلك، يكشف بايدن ونتانياهو حقيقة النظام الدولي القائم على القواعد: فما هو بعالم الحرية في ظل القانون وإنما هو مقبرة جماعية.

سبنسر أكرمان صحفي حاصل على جائزة بوليتزر وجائزة المجلة الوطنية، ومؤلف كتاب «عهد الإرهاب: كيف زعزعت حقبة 11 سبتمبر استقرار أمريكا وأفرزت ترامب».

عن صحيفة ذي نيشن

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة القانون الدولی

إقرأ أيضاً:

محادثات مفصلية في السعودية بين الولايات المتحدة وأوكرانيا

يعقد غدا الثلاثاء في السعودية اجتماع بين مسؤولين أميركيين وأوكرانيين لبحث مفاوضات السلام المستقبلية لإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، في وقت يدرس فيه الرئيس دونالد ترامب ما إذا كان سيتراجع عن قراره تجميد المساعدات العسكرية لكييف.

وتوجه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو الأحد الماضي إلى السعودية، ومن المنتظر أن يصل اليوم الاثنين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

واجتماع غد يُتوقع أن يكون الأول بين مسؤولين أوكرانيين وأميركيين منذ الزيارة التي وصفت بـ"غير الموفقة" لزيلينسكي للبيت الأبيض في نهاية فبراير/شباط الماضي، والتي شهدت مشادة كلامية بينه ونظيره الأميركي ترامب.

ومنذ ذلك الحين، علقت واشنطن المساعدات العسكرية وتبادل المعلومات الاستخبارية، في وقت تحاول فيه كييف إصلاح الأمور مع ترامب.

اجتماعات ومناقشات

ومن المقرر أن يفتتح زيلينسكي الاجتماعات الدبلوماسية اليوم الاثنين بلقائه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وأوضح الرئيس الأوكراني "بعد ذلك سيبقى فريقي في السعودية للعمل مع شركائنا الأميركيين".

وهذه المحادثات المنتظرة والمقرر عقدها في جدة يُفترض أن تسهم في "تحديد إطار من أجل اتفاق سلام ووقف إطلاق نار أولي" بين روسيا وأوكرانيا، وفقما قال المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف الذي سيحضر هذه المحادثات.

إعلان

وظلت أوكرانيا أكثر غموضا في هذا السياق، وقال زيلينسكي "نأمل أن نناقش ونتفق على القرارات والخطوات اللازمة" من دون أن يحدد الموضوع.

وكان الرئيس الأوكراني شدد على أن كييف تؤيد "حوارا بنّاء" لكنها تريد أن "تؤخذ مصالحها في الاعتبار"، مبديا ثقته في أن الاجتماع سيكون "مثمرا".

وقال زيلينسكي مساء أمس الأحد إنه يأمل "تحقيق نتائج سواء لناحية الاقتراب من تحقيق السلام أو مواصلة الدعم"، في إشارة على ما يبدو إلى تعليق المساعدات الأميركية.

لقاء متوتر جمع ترامب (يمين) وزيلينسكي في البيت الأبيض يوم 28 فبراير/شباط الماضي (الفرنسية) علاقات ومتغيرات

وتغيرت العلاقات بين واشنطن وكييف بشكل جذري خلال أسابيع قليلة، مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني الماضي، ويأتي ذلك في وقت تعاني فيه كييف على الجبهة الميدانية.

من جانبها، قالت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية تامي بروس إن روبيو سيبحث في الزيارة لجدة -والتي تستمر من الاثنين إلى الأربعاء- سبل "الدفع قدما بهدف الرئيس إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا".

كما قالت الخارجية الأميركية إن روبيو سيتوجه بعد ذلك إلى كيبيك للمشاركة في اجتماع لمجموعة السبع.

والخميس الماضي، قال المبعوث الأميركي الخاص إلى روسيا وأوكرانيا كيث كيلوغ إنه سيدعم استئناف المساعدات لأوكرانيا بمجرد توقيع زيلينسكي الاتفاق، مشيرا إلى أن القرار في النهاية يعود لترامب.

من جهتهم، تسابق القادة الأوروبيون لإيجاد طرق لتعويض المساعدات الأميركية، رغم أن زيلينسكي نفسه قال إنه لا بديل من ضمانات واشنطن الأمنية في أي اتفاق مع روسيا.

مقالات مشابهة

  • الولايات المتحدة ترفع تعليقها للمساعدات العسكرية لأوكرانيا
  • بريطانيا ترحب بالمحادثات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا في جدة
  • هل ترد الجزائر على فرنسا بتعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية؟
  • روسيا: ننسق مع الولايات المتحدة بشأن أحداث العنف في سوريا
  • السيد الرئيس أحمد الشرع في مقابلة مع وكالة رويترز: الملف السوري يبدو أنه ليس على قائمة أولويات الولايات المتحدة الأمريكية، وأعتقد أن السؤال حول وجود اتصال مع إدارة ترامب يجب أن يوجه لهم، سوريا بابها مفتوح للتواصل
  • شكاوى بوجود عطل يواجه إكس في الولايات المتحدة
  • في اليوم الدولي للقاضيات.. مجلس الدولة يشيد بدورهن في تعزيز العدالة وترسيخ سيادة القانون
  • محادثات مفصلية في السعودية بين الولايات المتحدة وأوكرانيا
  • فون دير لايين: الولايات المتحدة حليفة الاتحاد الأوروبي
  • صور تظهر استهداف فلول النظام البائد لمركبات المدنيين على الطريق الواصل بين مدينتي اللاذقية وطرطوس