من سلطة المثقف إلى مثقف السلطة
تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT
كلما اعتقدنا بأن جدلية المثقف قد أُشبعت نقاشاً في الكتب والمحاضرات وسال في تشريحها من الحبر ما يكفي لتلويث النهر، تدهشنا هذه الجدلية الحديثة بالانبثاق مجدداً من رماد التنظيرات السائدة، فتعود بقوة للاشتباك في ميدان الكتابة والتنظير مع كل أزمة سياسية، محلية أو عالمية الطابع، لكن النقاش عن معنى المثقف وموقعه ودوره ومسؤولياته يصبح أكثر حدة في زمن الحرب، إذ يشتد البحث عن الدور الوظيفي الفعَّال للثقافة وقيمها مع اشتداد وطأة الكارثة، حيث تضعنا مواقف المثقفين وانحيازاتهم السياسية والأخلاقية (أو عدم انحيازهم لشيء بالمطلق) بمواجهة ذلك السؤال التقليدي عن المثقف، والذي يُطرح غالباً من زاوية تلك العلاقة الحساسة والمزدوجة التي تربطه بمفهوم آخر لا يقل اضطراباً وهو «السلطة» بتعدد أشكالها وتدرج ألوانها.
لا بدَّ من الإشارة إلى نقطة مهمة عند تداول موضوع المثقف في سياق عربي؛ إذ يجب التنويه إلى أن الكثير من النقاش الذي تصعد حدته بين وقت وآخر فيجعل من «المثقف» نفسه قضية جدلية، هو نقاش ناتج في الأساس من عيوب هذا المفهوم الحديث غير المستقر في اللغة العربية، ومن توظيفاته الاستهلاكية التي يعززها الاستعمال الدارج لتعبير «المثقف» في اللغة الإعلامية خاصةً، حيث تُطلق هذه الصفة في كثير من الأحيان، لا بما يشير إلى مسار المهنة أو التخصص، بل بما يوحي إلى لقب شرفي أو رتبة من رتب التقدير الاجتماعي غائمة المحددات. لكن ضبط هذا المفهوم يتطلب قبل كل شيء ضبط المفهوم المصدري الذي ينحدر منه وهو «الثقافة»، اللفظة التي كان سلامة موسى هو أول من أفشاها في الأدب العربي الحديث، كما يدعي. غير أننا، والحال هذه، وبعيداً عن تطرف التعريف اليساري، نجد أنفسنا مضطرين للقبول بالتعريف التقليدي للمثقف تمهيداً لنقد سلوكه في الأزمات، فالمثقف الذي نحن بصدد مناقشته هو ذلك المنشغل بالعمل الفكري المهني (من المهنة) الذي يُعمل أدوات النقد والتحليل الذهني، مُعبراً عن أفكاره في خطاب يُجسده لغوياً في كتاب أو مقال، فيكون بهذا الدور، شاء أم أبى، جزءاً من طبقة «المثقفين» المنتجة للمعرفة التي تتلقفها شريحة أوسع.
لكن تطور وسائل الإنتاج الثقافي وشيوعها في عصر الحداثة الرقمية أسس لتحول كبير يفرض علينا الانتباه إلى أن المثقف العصري لم يعد الوحيد الذي يحتكر إنتاج الخطاب الثقافي، فلقد تنوعت وسائل التعبير عن الرأي والفكر وتعددت التقنيات والمنتجات الثقافية حتى شاعت اليوم كوسائل عمومية حالها كحال وسائل المواصلات والاتصال، فأسقطت الاحتكار المؤسسي الذي عرفته الثقافة منذ اختراع الطابعة. إذ لا يمكننا اليوم أن نتناول المثقف، كما ظل يحدث في السابق، بين ثنائية النخبة والجمهور؛ لأن التراتبية العمودية بين المثقفين وسائر الناس قد بدأت تتلاشى بالفعل داخل العالم الافتراضي الذي أنتج نوعاً من المجتمع الأفقي الذي يعطي الحق لأي مستخدم في صناعة وجود افتراضي يخصه، وعلى نحو متساوٍ مع المستخدمين الآخرين. فتويتر سابقا، إكس حالياً، هو من أكثر البيئات التي تنتج أفكاراً وآراء دون أن يتحدث أحد باسم أحد، فللجميع هناك مساحات متساوية من الكلام.
ولكن هل سيتلاشى المثقف مع شيوع وسائل الإنتاج الثقافي، فيتقاسم الناس مسؤولياته القديمة على اعتبار أن كل فرد أصبح اليوم حالة تعبيرية تمثل ذاتها دون أن تطالب المثقف بأن يكون صوت من لا صوت لهم؟ أعتقد بأن شبكة العلاقات الاجتماعية وتوزيع الوظائف السياسية الذي تمارسه السلطة بين مختلف مكونات المجتمع ما زال يحتفظ بمكانة خاصة للمثقف التقليدي، بل تسعى السلطة في كثير من الأحيان لتمييز المثقف عن الظاهرة العامة بأن تمنحه دوراً وظيفياً يغذي إحساسه بالانتماء إلى النخبة، خاصة حين يعتقد بأن انتماءه للرأي العام سيغيّب شخصه ويمحو خصوصيته، فيصبح عارياً من قوة الاستثناء والتمييز التي تغيب في العالم الافتراضي، في مكان يتيح لجميع المستخدمين أن ينتجوا خطابهم الفردي بتساوٍ حتى في عدد حروف التغريدة، بل ويمارسوا النقد أو السخرية المباشرة، وهذا ما يجعل المثقف/ المؤلف تحت السلطة المباشرة لشبحه القديم، القارئ، الذي كانت تفصله عنه حواجز مادية وطبقية، في معرض الكتاب وفي الجامعة وفي الأمسية الثقافية، مثلاً!
المجتمع هو الآخر ليس بريئاً من الممارسات التي تدفع بالمثقف للجوء إلى خيمة الأمير، فالإهمال الاجتماعي الذي يبلغ حد التعسف، و(الإرهاب الفكري) الذي ينتهك اختلاف المثقف عن السائد، يدفع به للجوء إلى القانون أولاً، والذي هو لغة السلطة، وقد ينتهي به الأمر إلى الاعتصام بالسلطة السياسية اتقاءً لبطش السلطة الاجتماعية، وقد يكون هذا المأزق سبباً كافياً لانحراف مشروعه الثقافي والدخول في التحول المرحلي من سلطة المثقف إلى مثقف السلطة.
من الطبيعي أن يهتم المثقف بتفسير السلطة وفهم طريقة عملها، ولكن من المشين أن يكلف نفسه بالتبرير لها، بل والإسهاب في شرح وجهة نظرها والتبرع في تقديمها للناس. فالسلطة كيان ضخم، متوغل ومتجذر، ولديه من آلات التعبير والدعاية ما يؤهله للتبرير والدفاع عن مصلحته دون الاعتماد على الأسلحة الفردية للمثقفين.
إن مهمة المثقف المنتمي تجاه المجتمع تنبع من قوته وخبرته في النقد والتنظير للرأي الصاعد من عامة الشعب، الذين وإن امتلكوا المنابر الافتراضية لإنتاج الخطاب إلا أنهم سيبقون بحاجة للمثقف الذي يضع الظاهرة العامة في قالبها الفكري، مرتقياً بالخطاب من الشعبوية للنظرية، مع ضرورة أن يتمسك المثقف بمبادئ عليا كالعدالة والحرية، له ولغيره، وهي قيم تستحق التطرف في الإيمان بها، تطرف الإيمان بالغاية لا تطرف الإيمان بالوسيلة، فإذا كان المثقف يقبل بانتهاك السلطة لحريته الشخصية فكيف له أن يدافع عن حريات الآخرين دون أن يتواطأ مع السلطة؟!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
رشوة تقود إلى اعتقال عون سلطة باليوسفية
زنقة20ا محمد المفرك
اعتقل رجال الدرك الملكي بإقليم اليوسفية عون سلطة يعمل في منطقة الكنتور بإقليم اليوسفية متلبسا بتلقي رشوة من أحد المواطنين.
وحسب مصادر، فإن مواطن اتصل بالرقم الأخضر للتبليغ عن الرشوة قدرها 1300 درهم مقابل إنجاز وثيقة إدارية ليتم التنسيق مع مسؤولي النيابة العامة ورجال الدرك الملكي وتحديد مقهى لتسليم المبلغ المتفق عليه مع العون الذي تم اعتقاله و هو متلبس بتلقي الرشوة.
وم نقل المعني بالأمر في اتجاه مركز الدرك الملكي من أجل تعميق البحث معه بخصوص التهم الموجهة إليه وبعد الانتهاء من فصول التحقيق التمهيدي وضع رهن تدابير الحراسة النظرية إلى حين عرضه على العدالة في حالة اعتقال.