الهوية الوطنية ومستقبل الأجيال
تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT
د. محمد بن عوض المشيخي **
كان الشعب العماني بمختلف شرائحه على موعد مع الخطاب الأول لجلالة السلطان هيثم أمام مجلس عمان في دورته الثامنة يوم الثلاثاء الماضي؛ إذ كان خطابًا شاملًا وجامعًا لمختلف قضايا الوطن والمواطن في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
ولعل البُعد الثقافي في هذا الخطاب التاريخي قد تمحور حول الدعوة لوضع إستراتيجية وطنية واضحة المعالم؛ لحماية المجتمع من الداخل من التدفق المعلوماتي العابر للحدود، وخاصة ذلك التدفق الذي يحمل قيم دخيلة على الوطن والأسرة العمانية.
لقد سجّل سلطان الفكر سابقةً بين زعماء الجنوب الذين يحذرون بصراحة ووضوح من التأثيرات المدمرة للشباب في ما يعرف بدول جنوب الكرة الأرضية التي تستقبل المضامين غير المرحب بها من دول الشمال المُسيطرة على شبكة الإنترنت وفروعها وشبكاتها الفرعية، وكذلك من القنوات التلفزيونية وشبكات الإنتاج وتوزيع الأفلام مثل نتفليكس وغيرها. ومن المؤسف حقًا أن نجد من المسؤولين في دولنا الخليجية من يقلل من هذا الطوفان المدمِّر للأخلاق والمُغيِّر لسلوك الناس في مختلف الأعمار في المنطقة ويتعبرون، ذلك "تواصلًا ثقافيًا" بين الشعوب والأمم فقط!
لا شك أن التحديات التي تواجه المنظومة الأخلاقية والثقافية في المجتمع العماني وتأثيراتها السلبية على الأسرة العمانية، لهي واحدة من القضايا الكبرى التي يجب التصدى لها بشجاعة وحكمة وشفافية لكونها مرتبطة بمستقبل الأجيال الصاعدة، وقبل ذلك كله يجب رصد ودراسة هذه الظواهر الجديدة بشكل علمي، وذلك للوقوف على الأفكار المنحرفة والمضامين الهدامة التي تسهدف ثقافتنا وتراثنا الوطني؛ من خلال إنشاء مراكز متخصصة وتزويدها بالباحثين والعلماء القادرين على كشف المتغيرات الجديدة التي أصبحت معروفة وظاهرة للأعين في السنوات الأخيرة، ثم العمل على تقديم الحلول العاجلة والخلاصات المفيدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قيمنا وحضارتنا الإسلامية الخالدة.
إن الهوية المُجتمعية أثمن وأغلى ما تملكه الأمم والشعوب؛ بل وحتى الأشخاص أنفسهم، فالإنسان عند ما يفقد هويته الوطنية أو شخصيته التي تميزه عن الآخرين؛ يصبح في أعداد المحكوم عليهم بالفناء، وذلك لانسلاخه عن ذاته ومحيطه ومجتمعه، ويغدو كائناً مستنسخاً مجهول الهوية، غير معروف يهيم في هذا العالم الذي تسيطر عليه تيارات جديدة وثقافات دخيلة على قيمنا الأصيلة، وديننا الحنيف وشريعتنا السمحاء، ذلك لكونه يذوب في ثقافات غريبة، ويعيش مغترباً في وطنه وتتقاذفه الأفكار الهدامة والسلوك المنحرف الذي يعبر الحدود والسماوات المفتوحة بدون رقيب أو عتيد. فيمكن تعريف الهوية الوطنية بأنها "الكيفية التي يعرف بها الناس ذواتهم أو أممهم للآخرين، وتتخذ اللغة والدين والثقافة والتراث والتاريخ والجغرافيا أشكالًا لها".
لقد تمكنت الدول (الأنجلو – ساكسونية) من اختراق الثقافات المحلية والقيم الوطنية في معظم الدول النامية حاملة معها ما يطلقون عليه بثقافة الانفتاح والانحلال الأخلاقي والبعد عن الدين الحنيف والعقيدة السمحاء، فصبح الهاتف الذكي بما يحمله من مشاهد للعنف وصور وأفلام إباحية الملاذ والجليس بل والصديق الذي لا يمل عند البعض، مهما زادت ساعات المشاهدة والأوقات الضائعة من أعمار المستخدمين لهذه التكنولوجيا التي تحمل أوجها عديدة جلها تصنف في الخانة السلبية.
سبق أن كتبت عبر هذه النافذة العديد من المواضيع أهمها المقالات التي تحمل العناوين الآتية: "ماذا فعل طوفان العولمة بالأسرة العمانية"، و"العولمة والهوية الوطنية"، و"السهر القاتل والأسرة الخليجية"، وجميعها تحذر المجتمع العماني من خطورة الغزو الثقافي الوافد عبر السماوات المفتوحة والذي أصبحت ملامحه مكشوفة وواضحة في عدة صور ومشاهد مثل انتشار تعاطي المخدرات في المؤسسات وتفكك أفراد الأسرة وزيادة حالات الطلاق وظهور السلوك العدوني بين أفراد المجتمع والتقليد الأعمى للباس الغربي بين أفراد المجتمع، خاصة في المدن الكبرى وانتشار الوجبات السريعة على حساب الوجبات الشعبية العمانية.
وفي الختام.. من الإضاءات التي تضمنها الخطاب السامي لجلالة السلطان، التأكيد على تمكين المؤسسات التعلمية والمراكز البحثية من عملها وتشجيعها على الإنتاج المعرفي. من هنا الآمال معقودة أن تشهد المرحلة القادمة إحداث نقلة نوعية في تطوير بيئة البحوث والابتكارات العلمية؛ وذلك من خلال رفع الاعتمادات المالية المخصصة للبحث العلمي لتصل نسبتها إلى 2% من إجمالي الدخل القومي بأسرع وقت مُمكن، خاصة إذ عرفنا- على سبيل المثال- أن مراكز الدراسات الاجتماعية التي يُفترض أن تدرس الظواهر الاجتماعية، نادرة الوجود في بلادنا، وكذلك مراكز بحوث الرأي العام، التي يُفترض فيها أن تعمل كبوصلة لمساعدة الحكومة في التعرف على آراء المواطنين وطموحاتهم في المشاركة في صنع القرارات، ووضع السياسات المستقبلية للوطن؛ إذ لا وجود لها في السلطنة رغم أهميتها. وذلك لأسباب عديدة؛ منها ضعف الوعي وقلة الثقة بأهمية إنشاء مثل هذه المراكز؛ بل حتى بنتائج الدراسات العلمية التي يُجريها الخبراء.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
صناعة الابتكار في بيئات العمل متعددة الأجيال
في عام (٢٠١٩م)، انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي وسم مفاده: «حسنًا يا جيل الطفرة السكانية»، والجيل المقصود في هذا الوسم هم مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف الستينيات من القرن الماضي، وكان المنشور يتناول الفجوة بين الأجيال، وما يرافقها من اختلافات ثقافية، وقد اكتسح هذا الوسم المنصات، والمنتديات على نطاق واسع، وتم استغلاله تجاريا بطباعته على المنتجات التي تستهوي الفئات العمرية الأصغر، وإن كان الوسم قد اتخذ - منذ نشأته - طابعا فكاهيا؛ إلا أنه اجتذب اهتمام الباحثين والمفكرين؛ لأن الاختلافات بين الأجيال لا تقتصر على الوسط الاجتماعي، وإنما تلقي بظلالها على ديناميكيات الأجيال المتعددة في أوساط العمل الوظيفي، وريادة الأعمال، والتوظيف الذاتي، والسؤال هو: هل يُعد تعدد الأجيال تحديا أو قيمة استراتيجية؟ وكيف يمكن تعزيز الابتكار والإنتاجية من إمكانات مختلف الأجيال؟
في البدء، تعالوا نقترب أكثر من موضوع تعدد الأجيال؛ وذلك لإزالة اللبس الذي يقع بينه وبين حالات الفروقات العمرية داخل الجيل الواحد. فبحسب التصنيف المعتمد لدراسات ديموغرافية القوى العاملة التي تقع فعليا ضمن مرحلة الإنتاج، فإن أوساط العمل قد تضم ما يصل إلى أربعة أو خمسة أجيال في الآن الواحد، وذلك كما يلي: جيل طفرة المواليد والتي تشمل مواليد الفترة الزمنية من (1946م إلى 1964م)، ويأتي بعده جيل إكس الذي يمتد من عام (1965م) إلى (1980م)، وأما جيل الألفية، فيضم مواليد عام (1981م) إلى (1996م)، وأخيراً جيل زد الذي يشكل مواليد عام (1997م) إلى عام (2012م).
ويشكل تنوع الأجيال في بيئة عمل واحدة تحديا وفرصة في الوقت ذاته، ويعود منشأ معظم الصعوبات إلى مدى إدراك الأفراد من مختلف الأجيال بالصورة النمطية للجيل الذي يمثلهم، وبالأجيال الأخرى، ما يصنع حواجز مُتَصورة وليست حقيقية، وهذا ما يقف عائقا أمام استكشاف وتعزيز فرص التعاون والتكامل بين الأجيال المتعددة.
فإذا أردنا التقاط المنظور الذاتي لأعضاء فرق العمل الذين يعملون في بيئات ذات التنوع الشاسع في الأجيال، وذلك من أجل فهم التفاعل في الاختلافات بين هذه الأجيال، سنجد بأن هناك أربعة محاور أساسية للاختلاف وتشمل: فجوة التواصل، والكفاءة في استخدام التكنولوجيا، ومستوى أخلاقيات العمل، والالتزام المهني، والتمايز في هذه المحاور لا يعكس - وبشكل قطعي - تفوق جيل على آخر، وإنما يؤكد على أن التطور في معطيات العمل والحياة قد أعاد تشكيل ظروف العمل بوتيرة أسرع من الإدراك الذاتي لمنتسبي البيئات المتنوعة، وعلى الرغم من أن الأبحاث العلمية المتعلقة بالقوى العاملة متعددة الأجيال قد اكتسبت زخمًا كبيرا في الآونة الأخيرة من بعد جائحة كورونا، إلا أنه لا تزال هناك فجوات كبيرة في فهم الديناميكيات الدقيقة للعمل التشاركي في الفرق متعددة الأجيال، وماهية تحديات القيادة في الاستفادة من نقاط القوة الفريدة لكل جيل، وما تحملها من إمكانات هائلة في الابتكار.
وهذا ما يضع عبئا إضافيا على قادة فرق العمل الذين يصعب عليهم التعامل مع معضلة أن القيم والسلوكيات المهنية قد تكون متشابهة، إلا أن الأولويات عبر الأجيال تختلف بشكل كبير.
وهذا يقودنا إلى الاعتقاد الشائع بأن الأجيال الشابة تمتلك مهارات تقنية فائقة، وهي بذلك أكثر كفاءة في التنقل عبر المهام الوظيفية ، وذلك على النقيض من الأجيال الأكبر سنا التي تكافح للتكيف مع الأدوات التكنولوجية سريعة التطور، ولكن الواقع يظهر عكس ذلك؛ فالتطورات التكنولوجية قد ساهمت في تبسيط استخدام التقنيات ما قلص الفجوة التقنية بين الأجيال في بيئات العمل، وفي تفاصيل الحياة على حد سواء، وقد ساهم ذلك في تقليل مقاومة توظيف التكنولوجيا في المهام الوظيفية، وتلاشي ظاهرة انفصال الأجيال الأكبر سنا عن الاستفادة من الموارد الرقمية، والذي كان سائدا منذ عدة عقود، وبذلك فإن عبور الفجوة التقنية هو حجر الأساس في تعزيز التكامل والتعاون المثمر، فالأجيال الأصغر سنا لديهم المهارات التقنية التي تمكنهم من تحقيق الإنتاجية المطلوبة، وفي المقابل فإن الأجيال الأكبر سنا تمتلك مخزونا من الخبرات الطويلة التي يمكنها إلهام الأجيال الأخرى للخروج من محيط الراحة، والانفتاح على أفكار جديدة كليا، وتوظيف المعرفة التكنولوجية في بلورتها إلى ابتكارات ذات قيمة. وبذلك فإن تبادل الخبرات بين الأجيال لا تُثري بيئة العمل فحسب، بل تعزز - أيضًا - الشعور بالشمول، والتقدير المتبادل بين الأجيال.
وهذا التبادل التشاركي للأفكار والخبرات في بيئات العمل لا يأتي بشكل تلقائي، وعلى قادة العمل انتهاج مسارات استباقية لتعزيز الإدماج، والفهم المشترك، والدعم عبر الأجيال، وهي عملية مركبة وتتطلب التوافق على أهمية التنوع في الخبرات والكفاءات والرؤى لدعم الابتكار، ووضع آليات صغيرة وموجهة لتحقيق التعاون المثمر بين الأجيال، والابتعاد عن الخطط ذات المدى الواسع، وذلك للحفاظ على التركيز الاستراتيجي المطلوب، وهي تشمل مجموعة من الخطوات العملية سريعة التنفيذ، وكذلك واضحة الأثر، مثل معسكرات التدريب، وجلسات الاستماع للخبرات، وقصص النجاح السابقة، وبرامج نقل المعرفة، وغيرها من الأنشطة التي يمكنها بطريقة غير مباشرة تغيير أسلوب التواصل، ونهج الحوار بين مختلف الأجيال، وتقليص المسافات التي تفرضها أحيانا الاختلافات الثقافية، وتقبل التباين كعامل حاسم في خلق القيمة الابتكارية في سياقات أخرى مكملة للاتجاهات التكنولوجية السائدة.
إن التقدم العلمي الهائل الذي تشهده بيئات العمل لا يعني بالضرورة بأن تنوع الأجيال سوف ينعدم في المستقبل، فكلما تقدمت التكنولوجيا، ظهرت معها أجيال تمتلك المعرفة الجديدة، وتشكلت أجيال أخرى بحاجة لمواكبة التطورات مع تقادم المعرفة والخبرات المرتبطة بالتقنيات السابقة، ما يفرض إيلاء الأهمية لموضوع لتنوع الكفاءات والخبرات، ووضع الأدوات التنفيذية الكفيلة لتقليص الفجوة بين الأجيال، ودعم صناعة الابتكار المنبثق عن الاستثمار في إمكانات تعدد الأجيال، وذلك عبر دمج الأفكار المبتكرة والجديدة، وتعظيم الاستفادة من خبرة كل جيل، وإتاحة المعرفة المهنية والحكمة لدعم الإنتاجية، وتوظيف التطورات التكنولوجية مثل الأدوات المدعمة بالذكاء الاصطناعي للتجسير بين مختلف الأجيال، وتعزيز بيئات عمل أكثر شمولاً وإنتاجية.