غياب الرؤية وأثره على الخطاب السياسي

زين العابدين صالح عبد الرحمن

إن إشكالية الخطاب السياسي للقوى السياسية السودانية مرده حالة التوهان التي يسببها غياب المشروع السياسي، فهي كأحزاب منفردة أو تحالفات لمجموعات مختلفة من حيث مرجعياتها الفكرية، عجزت أن تطرح مشروعا سياسيا مفصلا يقدم للجمهور، أو أن تطرحه للحوار بينها والقوى السياسية الأخرى.

وغياب المشروع نفسه؛ يعود لأن النخب السياسية عاجزة أن تفصح عن أهدافها الرئيسية التي تسعى إليها، ويرجع ذلك لغياب الرؤية. والتي جعلتهم جميعا يميلون لإصدار البيانات التي تعلق على الأحداث دون محاولة لتفنيدها ومعرفة مسبباتها.

وليس غريبا أن البيانات تتناقض في حمولاتها من فترة إلى أخرى. حتى أن البيانات لا تحمل أي فكرة يمكن التركيز عليها لكي يجتمع عليها الناس. فكل حدث يخرج له بيان يشرح الحدث ولا يوضح سبب وقوعه وكيف تكون معالجت آثاره.

في لقاء كانت قد أجرته جريدة الخرطوم في 18 ديسمبر 1994م مع استاذ الفكر السياسي المرحوم محمد بشير حامد حول “حالة التوهان بين الحكم المدني والعسكري” يقول مركزا حديثه على القيادات السياسية، (هي التي يمكن أن تلعب دورا مهما انطلاقا من أحزابها، في أن تصبح مؤسسات ديمقراطية، حتى لا يتناقض خطابها بين الدعوة للديمقراطية كنظام للدولة، وبين ممارستها السياسية داخل أحزابها، إن اتساق الخطاب له مدلولات ثقافية، وفي نفس الوقت يعد توعوية للجماهير، فالخطاب يقع في تناقض عندما يكون الشعار يطالب بشيء و تكون الممارسة بعيدة عن ذلك).

إن التناقض بين الدعوة والممارسة لا يؤثر فقط في الخطاب السياسي، أيضا في صدقية القيادات نفسها، الأمر الذي يجعلها تركز فقط على التعليق على الأحداث دون السير في سبر غور المشكل لمعرفة أسباب الفشل، أو العوائق التي تحول دون الوصول للهدف. وهو أيضا السبب الذي يجعلها تعتمد على الخطاب العدائي باستمرار لكي تغطي على أزمتها كقيادة.

إن الإشكالية التي واجهت بناء الدولة السودانية في مراحل النظم السياسية المختلفة بعد الاستقلال، لا تجد هناك رابطا بين التاريخ والحاضر والمستقبل، كل مرحلة تحاول أن تشكل واقعها بعيدا عن سياقات المراحل الأخرى، ولا تحرص لكي تتعرف على أسباب فشلها، وتقع في ذات الأخطاء السابقة أي تكرار تجربة الخطأ، ويرجع ذلك لأن النخب في كل مرحلة لا تخضع تجربتها للنقد، بل تبحث عن شماعات تعلق عليها أخطائها، حتى لا تتحمل مسؤولية العجز والفشل.

وحتى في المرحلة الواحدة تكثر الأخطاء دون إخضاعها للبحث والدرسة النقدية. وهذا يعود إما لغياب الرؤية، والوعي بقضية التحول الديمقراطي وحاجاته والاستعداد المعرفي والثقافي له، أو لقصور مفاهيمي عند النخبة نفسها. ومعلوم أن إدراك النخب لدورها وسعيها لتوعية الجماهير يجعلها قادرة على إدارة الأزمة من خلال التحكم في خيوطها، وكيفية التعامل مع التحديات التي تواجهها.

إن الحرب الدائرة الآن في البلاد لم تكشف فقط حالة الفرقة في المجتمع والأحزاب السياسية، بل بينت بشكل واضح؛ أن الديمقراطية لا تحتاج فقط لخطاب سياسي ومحاولة تحميل محتواه للجماهير، بل أن المجتمع الذي تريد أن تقيم في عملية التحول الديمقراطي يجب ان تدرسه وتعرف ثقافته. إن معرفة الثقافات تحتاج إلى شغل فكري وتوعوي، خاصة إذا كانت هناك ثقافات تتعارض مع الديمقراطية وسيادة القانون، وهذه ظهرت في الحرب الدائرة الآن من خلال عمليات النهب والسرقة والانتهاكات للأعراض والتطهير العرقي والإبادة وخطاب العنصرية المتبادل، هذه الثقافة تضرب بقوة على النسيج الاجتماعي وتمزقه، وتحتاج من النخب السياسية أن تركز على العمل الثقافي والاجتماعي، ليس باعتبارها أدوات للوعظ والإرشاد والتسلية والترفيه، لكن من خلال استخدام كل أدوات الفنون والإبداع من “مسرح– سينما– موسيقى– فنون تشكيلية– غناء وغيرها” باعتبارها الأدوات الأكثر تأثيرا على الجماهير.

إن الدولة السودانية منذ تأسيسها لم تنظر لهذا القطاع بصورة جادة ويتم توظيفه من أجل أن يلعب دورا تثقيفيا وتوعويا في المجتمع. إن النظم السياسية المتعاقبة جميعها تعتقد أن الثقافة والفنون ينحصر دورها فقط في عملية الترفيه والتسلية، رغم أنها أكثر الأدوات تأثيرا في خلق الترابط الوجداني في المجتمع.

إن غياب الفكر قد حد من الدور الإيجابي للعملية السياسية في خلق بيئة حوارية بين المجموعات المختلفة، والحوار يقرب المسافات بين المختلفين، وفي نفس الوقت كما ذكرت تكررا يقلل فرص بروز العنف في المجتمع، كما أن الحوار يعطي فرصا أوسع للعناصر التي تمتلك قدرات معرفية وتثقيفية أن تقدم ما عندها من أفكار، وهي قادرة على أن توظفها من أجل عملية معالجة السلبيات في المجتمع، وفي ذات الوقت أن توسع قاعدة المشاركة. لآن الحوار وتوسيع قاعدة المشاركة في الفكرة تجعل الكل مرتبط بأجندة الوطن و ليس الأجندة الخاصة، والحزبية الضيقة. وفي ذلك الوقيت سوف يتسق الخطاب السياسي مع الفكرة، ولا يقع في المتناقضات. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

الوسومالحرب الديمقراطية السودان القوى السياسية النخب السياسية زين العابدين صالح عبد الرحمن سيادة القانون

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الحرب الديمقراطية السودان القوى السياسية النخب السياسية سيادة القانون الخطاب السیاسی فی المجتمع

إقرأ أيضاً:

أوقاف الفيوم تعقد 17 أسبوعا ثقافيا بجميع الإدارات بعنوان: "التفكر والتدبر فريضة إسلامية"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

عقدت مديرية أوقاف الفيوم 17 أسبوعا ثقافيا بجميع الإدارات، اليوم الأحد، عقب صلاة العشاء، وذلك برعاية كريمة من وزير الأوقاف الدكتور أسامة السيد الأزهري، وبتوجيهات من فضيلة الدكتور محمود الشيمي مدير المديرية، وبحضور نخبة من الأئمة المتميزين،وكبار القراء والمبتهلين.

وخلال هذه اللقاءات؛ أكد العلماء أن الله سبحانه أمر بالتفكر والتدبر في كتاب العزيز، وأثنى على المتفكرين فقال تعالى: "..وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" آل عمران/191، وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثية/13،وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله).

كما أشار العلماء أن المتأمل في لغة الخطاب الإلهي يكتشف للوهلة الأولى أنه خطاب الحكمة والعقل والتدبر وإعمال الفكر ؛ لمعرفة مقاصد الخطاب الإلهي وما يدعوهم إليه،مضيفين أن من أهم ثمار التفكير والتدبر في ملكوت الله ، تحقيق الاستقرار في المجتمع حيث ينصرف الناس جميعاً إلي تعمير الأرض والعمل للارتقاء بمستوى المعيشة للإنسان والحياة الكريمة لجميع أفراد المجتمع.

كما أوضح العلماء أن التفكر عبادة الخواص الذين قال الله فيهم:"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..."، ولا يقتصر التفكر على تدبر كتاب الله (عز وجل) فقط،بل يشمل التدبر لآياته الكونية -وهو الكون بكل ما فيه من سماوات وكواكب ونجوم وجبال وأنهار ونبات وحيوان- وقد أمرنا الله بالتفكر في آياته وكلما تدبرنا في الآيات الكونية، اكتشفنا بديع صنع الله (عز وجل).

مقالات مشابهة

  • النوّاب يبحث الصعوبات التي تواجه عمل منظمات المجتمع المدني
  • بين الخطاب والممارسة.. هل تتخلى المقاومة عن غزة؟
  • وزارة الخارجية تلفت نظر المجتمع الدولي للفظائع التي يرتكبها مليشيا الجنجويد بشكل منهجي ضد النساء
  • “الشويهدي” يناقش الصعوبات التي تواجه عمل منظمات المجتمع المدني
  • "التفكر والتدبر فريضة إسلامية".. ندوات دعوية بأوقاف الفيوم
  • الشويهدي يناقش الصعوبات التي تواجه منظمات المجتمع المدني
  • «العنف ضد المرأة وأثره على الأسرة» في ندوة توعوية بمركز إعلام السويس
  • فضل الذكر وأثره في حياة المسلم
  • أوقاف الفيوم تعقد 17 أسبوعا ثقافيا بجميع الإدارات بعنوان: "التفكر والتدبر فريضة إسلامية"
  • حكم من يكذب في سرد الحلم أو الرؤية.. هل مصيره النار؟