قرار صادم.. ما أسباب إغلاق قناة أورينت السورية؟
تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT
سادت أجواء من الصدمة بين موظفي قناة "أورينت" السورية في مكتبها الواقع بمدينة إسطنبول، عقب تلقيهم خبر إغلاق المؤسسة الإعلامية بشكل كامل في مدة أقصاها نهاية العام الجاري، بعد لقاء مغلق جمع رئيس تحرير المحطة التي تهتم بالشأن السوري، علاء فرحات، مع مالكها رجل الأعمال السوري، غسان عبود.
ولم تعلن القناة رسميا بعد عن الأنباء التي ضجت بها العديد من الصفحات السورية عبر وسائل التواصل الاجتماعي أمس الجمعة، وأشارت إلى أن قرار الإغلاق المفاجئ جاء عقب ضغوطات تعرضت لها المؤسسة التي انتقلت إلى إسطنبول في السابع من نيسان /أبريل عام 2020 عقب توقف بثها التلفزيوني الفضائي في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وتحدث مصدر عامل في "أورينت"، شريطة عدم الكشف عن هويته لأسباب شخصية، لـ"عربي21"، عن إبلاغ إدارة القناة موظفيها في اجتماع مغلق بقرار مالكها إغلاق المؤسسة بشكل نهائي دون تقديم أسباب واضحة حول القرار المفاجئ، الذي شكل صدمة لدى العاملين فيها، لاسيما في وقت كانت فيه "أورينت" تستقبل طلبات التوظيف لتعزيز طواقمها، بحسب المصدر ذاته.
وأشار الصحفي الذي اختار عدم ذكره اسمه، إلى أن إدارة القناة السورية لم تكن واضحة مع الموظفين حول أسباب إغلاقها المفاجئ، مستبعدا أن تكون الدوافع مادية، فيما أوضح خلال حديثه لـ"عربي21" أنه لا يستطيع تأكيد ما يثار حول تعرض المؤسسة الإعلامية إلى ضغوطات بسبب موقفها الداعم للثورة السورية ضد نظام بشار الأسد.
وتعتبر قناة "أورينت"، أحد أبرز المنصات الإعلامية السورية الداعمة للثورة السورية، والتي تعنى بقضايا السوريين في الداخل وبلاد اللجوء لاسيما تركيا، التي سبق للمحطة أن تعرضت فيها لحملات تحريض من قبل مناهضين للاجئين السوريين، كما واجهت دعوى قضائية على خلفية طرد أحد المحللين الأتراك على الهواء مباشرة بعد مشادة حادة بينه وبين مقدم البرامج الرئيسي في القناة، أحمد الريحاوي.
السلطات التركية تعتقل الإعلامي أحمد ريحاوي بعد طرد احد العنصريين من استوديو #اورينت #متضامن_مع_أحمد_ريحاوي pic.twitter.com/YWVXYL0goV — أحمد سويد أبو حمزة (@ahmads2021) March 14, 2023
وكانت القناة التي أسسها رجل الأعمال غسان عبود في الثاني من شباط /فبراير عام 2009 في إمارة دبي، قد أوقفت بثها التلفزيوني الفضائي عام 2020، في خطوة تزامنت مع اتخاذ صناع القرار في الإمارات مسار تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد، ما أثار تكهنات واسعة حول تعرض المؤسسة المؤيدة للثورة السورية إلى ضغوطات أفضت بها إلى الانتقال لإسطنبول وتحولها إلى منصات تواصل الاجتماعي بشكل كامل.
ضغوط تركية أم إماراتية؟
رغم التحريض المتواصل على قناة "أورينت" بسبب مواقفها المناهضة لمروجي خطاب الكراهية ضد اللاجئين السوريين، فضلا عن انتقادها لحملات الترحيل التي تصاعدت عقب الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة بحق السوريين، إلا أن المحطة واصلت بثها وعملها بناء على مسارها التحريري المعتاد في كافة الميادين التركية.
الكاتب والصحفي، محمد منصور، الذي عمل في "أورينت"، من عام 2011 وحتى 2022، وواكب الكثير من التحولات الرئيسية التي طرأت على القناة طوال مسيرتها التي امتدت لسنوات طويلة، أوضح أنه رغم الدعوى القضائية ضد رئيس تحرير القناة ومذيعها الرئيسي أحمد الريحاوي بسبب المشادة التي حصلت بينهم وبين محلل تركي، إلا أن وضعها في تركيا كان مستقرا.
وقال منصور في حديثه لـ "عربي21"، أنه لم يتم التعرض للقناة أو التضييق عليها بعد حادثة المحلل التركي، لاسيما أن الدعوى جاءت بناء على شكوى شخصية، مضيفا أن ذلك بدليل مواصلة "أورينت" متابعة شؤون السوريين كما كانت تفعل منذ انتقال إدارتها من دبي إلى إسطنبول.
وشدد الصحفي السوري على استبعاده أن يكون هناك ضغوطا حقيقية تمارس على القناة في تركيا من شأنها أن تمنع الاستمرار عن العمل، مستدركا بالقول: "هناك إزعاجات، ولا توجد وسيلة إعلام تحاول أن تصل إلى الناس دون أن تتعرض لمضايقات سواء كانت في بلدها أم خارجه".
وردا على سؤال حول إمكانية أن تكون الضغوط عربية وليست تركية بسبب جزء كبير من استثمارات مالكها غسان عبود في دولة الإمارات، فضلا عن مقر مجموعته التجارية الرئيسي، استبعد الكاتب الصحفي في حديثه لـ"عربي21" أن تكون الإمارات قد مارست أي نوع من الضغوط بناء على مسار التطبيع الذي اتخذته مع النظام السوري، معتبرا أنه من غير الممكن أن يكون هناك ضغوط إماراتية على مؤسسة خارج حدودها لمجرد إقامة مالكها في الإمارات.
واستدل منصور على ذلك بالإشارة إلى أن "أورينت" كانت تتجنب على مدى مسيرتها التعرض إلى كافة الأخبار التي تتعلق بالإمارات، منذ وجود مقرها في دبي، باعتبار أنها تختص بالشأن السوري، منوها إلى أن ذلك كان أحد المآخذ القوية التي نالت من مصداقية القناة، خصوصا بعد التطبيع الإماراتي مع نظام بشار الأسد.
رصيد في الثورة السورية
رافقت قناة "أورينت" التي تغلق أبوابها وهي على مشارف الذكرى الخامسة عشرة لانطلاقتها في الثاني من شباط /فبراير القادم، كافة مراحل الثورة السورية التي انطلقت بتظاهرات سلمية عمت كافة المدن السورية عام 2011 ضد نظام الأسد قبل أن تتحول إلى حرب أهلية مدمرة بفعل القمع الوحشي الذي قوبلت به من قبل النظام.
وتعد القناة أحد أبرز المؤسسات الإعلامية التي ناصرت ثورة السوريين رغم العديد من الانتقادات التي طالتها خلال ذلك، في وقت أصبحت فيه المنصات الداعمة للثورة بعد 13 عاما على انطلاقتها معدودة على الأصابع، لاسيما مع اتخاذ العديد من الدول العربية نهج تطبيع العلاقات مع بشار الأسد بهدف إعادته إلى الحاضنة العربية، ما أفضى إلى حضوره قمة جامعة الدول العربية في العاصمة السعودية الرياض في أيار /مايو الماضي، وذلك لأول مرة منذ تجميد مقعد سوريا عقب الثورة.
الصحفية السورية، صبا مدور، اعتبرت في تغريدة عبر حسابها في منصة "إكس" (تويتر سابقا)، إغلاق قناة "أورينت" مؤشرا خطيرا لمحاولة اغتيال إعلام الثورة السورية، بحسب تعبيرها.
إغلاق قناة اورينت مؤشر خطير لمحاولة اغتيال إعلام الثورة السورية، هذه القناة كانت الشراع الأول في إيصال الحقيقة رغم الرياح المضادة للثورة. كل التقدير والشكر لكل صحفي ومنتج ومذيع عمل فيها على ما قدموه للتاريخ والشعب السوري، على أمل أن تواصلوا وأن نواصل في سرد الحقيقة ودمغها وملاحقة… pic.twitter.com/RZMcHIwHBi — Siba Madwar صِبا مدور (@madwar_siba) November 17, 2023
وأشارت إلى أنه بعد إغلاق المحطة ستكون الحمولة الإعلامية على السوريين، مشددة على ضرورة مواصلة طرق رؤوس العالم بجرائم الأسد ونظامه.
من جانبه، كتب الصحفي الفلسطيني ماهر جاويش في منصة "إكس": "لا أتفق تماما وبشكل متطابق مع سياسة التحرير لقناة أورينت ولا أوافق على كامل خطها التحريري ومع ذلك خرجت في إطلالات متعددة معهم، لكني أعتقد ومن زاوية دعم سردية الثورة السورية أن هناك حاجة ملحة لصوتها، ووجودها ضرورة كأحد منابر هذه الثورة التي نؤمن إيمانا جازما وقناعة تامة بأحقيتها وعدالتها وأنها ثورة قد تأخرت ربطا بحجم الظلم والفساد والاستبداد الذي خيّم على سوريا ولعقود طويلة".
لا أتفق تماماً وبشكل متطابق مع سياسة التحرير لقناة #أورينت ولا أوافق على كامل خطها التحريري ومع ذلك خرجت في إطلالات متعددة معهم وكتبت من وقت قريب مادة رأي في موقعهم الإلكتروني ، لكني أعتقد ومن زاوية دعم سردية #الثورة_السورية أن هناك حاجة ملحة لصوتها ووجودها ضرورة كأحد منابر هذه… pic.twitter.com/TiSIeBmwX4 — Maher Chawich ???????? (@ChawichMaher) November 18, 2023
وتابع: "وعليه أي صوت من أصوات الثورة السورية يتم إسكاته هو خسارة لهذه الثورة ويخصم من رصيد حضورها في الفضاء العام".
أما منصور، فقد أشار إلى أن غياب "أورينت" من الممكن أن يخلق فراغا في الإعلام السوري المعارض لنظام الأسد، رغم تضاؤل حضورها في السنوات الأخيرة بعد تحولها إلى منصة للأخبار العاجلة وبعض التقارير النوعية القليلة إضافة إلى نشرات الأخبار.
واعتبر في حديثه لـ"عربي21"، أنها "فقدت الزخم الذي كانت تقدمه في الأفلام الوثائقية والبرامج التي كان يديرها مذيعون أكفاء"، مستدركا أنه "على الرغم من كل ذلك كان وجودها مطمئنا للجمهور الذي وجد فيها حاجة إعلامية لمواكبة أخبار الثورة السورية، لاسيما وأنها كانت تنحاز دائما للمواطن السوري"، بحسب تعبيره.
بعد إغلاق أورينت ستكون الحمولة الاعلامية على السوريين وتلفزيون سوريا أكبر، لا تستهينوا بأي خبر أو قصة أو استعادة لأي حدث في تاريخ الثورة، واصلوا طرق رؤوس العالم بجرائم الأسد ونظامه وحزب اللات، اعيدوا نشر الصور والحقائق والرواية الشعبية حتى لو بدت بديهية، انشروا كل ما كتب، فالعالم… — Siba Madwar صِبا مدور (@madwar_siba) November 18, 2023 محزن خبر إغلاق قناة أورينت، أُسكتَ صوتٌ عتيق من أصواتِ الثورة السورية، تختلف أو تتفق معها لكنها كانت جلاداً للطغاة حيناً، وبلسماً يشفي صدور الباحثين عمن يحكي همومهم ومصائبهم حيناً آخر.
وداعاً أورينت
"من سمع ليس كمن رأى" — ماجد عبد النور (@Magedabdelnour1) November 17, 2023 حول الأخبار عن إغلاق قناة #اورينت بداية العام الجديد
لا يسعني إلا أن أشكر هذه القناة التي كانت ولازالت صوت السوريين في الداخل و الخارج ،ونقلت همومهم و مشاكلهم و نجاحاتهم و ابداعاتهم، وهي التي وقفت مع المظلومين في كل مكان و ضد الأسد منذ انطلاق الثورة.
خبر محزن جداً و مؤلم . pic.twitter.com/RAQWE7uheE — نبيل العثمان Nabel Alothman (@Nabel_Alothman1) November 17, 2023 محزن جدا اغلاق قناة اورينت اول منبر اعلامي ثوري سوري
كل التقدير والشكر لمن عمل بها ومن ساعد باستمرارها الى الان
من سمع ليس كم رأى
شكرا اورينت على ثلاثة عشر سنة pic.twitter.com/PY3rreY7WR — نضال خطيب (@nedalkhateeb) November 17, 2023
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية الإمارات النظام السوري الثورة السورية سوريا قناة اورينت سوريا الإمارات الثورة السورية النظام السوري قناة اورينت سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثورة السوریة بشار الأسد إغلاق قناة pic twitter com حدیثه لـ إلى أن
إقرأ أيضاً:
مصطفى طلاس.. قصة وزير دفاع الأسد الذي أرعب السوريين
قام نظام حافظ الأسد وابنه بشار طوال خمسين عاما على تغلغل ضباط الطائفة العلوية في المفاصل العسكرية والأمنية والحكومية في الدولة، وهو ما هيَّأ لهم حكما مستقرا بالحديد والنار، ولكن الأسد استخدم وجوها سُنية بارزة لتكون بمنزلة الواجهة السياسية التي تحمي نظامه الطائفي.
وكان من أبرز هذه الوجوه وزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس الذي يُعد أطول وزراء الدفاع العرب عهدا، فقد بَقِي الرجلُ في منصبه هذا أكثر من ثلاثين سنة كاملة!
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2خزائن الرعب وتفاصيل فروع القتل والتعذيب الأمنية السوريةlist 2 of 2العلويون والقصة الغامضة لحكم سورياend of listوُلد مصطفى طلاس في 11 مايو/أيار 1932 في بلدة الرستن بمحافظة حمص، وفي عام 1947 التحق بالكلية الحربية في المدينة نفسها، وفيها تعرّف على مجموعة من الضباط البعثيين، كان من بينهم صلاح جديد وحافظ الأسد، وبعد تخرجه في أوائل الخمسينيات أصبح ضابطا في الجيش السوري.
وكما يقول محمد نذير سنان في كتابه "لماذا سورية؟"، فمع قيام الوحدة بين سوريا ومصر بين سنوات (1958-1961)، نُقل طلاس إلى القاهرة برفقة عدد من الضباط، كان من بينهم حافظ الأسد، ومحمد عمران، وصلاح جديد، الذين سيقودون العديد من الانقلابات التالية.
وخلال تلك الفترة، توطدت علاقته خصوصا مع رفيقه حافظ الأسد، وعندما وقع الانفصال، اعتُقل الأسد في القاهرة، بينما عاد طلاس إلى سوريا، مصطحبا معه زوجة الأسد وابنته بُشرى، ولاحقا أُفرِج عن الأسد في صفقة تبادل مع مصر.
وفي عام 1963، مع بداية حكم البعث، نال مصطفى طلاس مكافأة على إخلاصه، رغم أنه لم يكن له دور بارز في انقلاب الثامن من آذار، الذي قاده مجموعة من الضباط العسكريين في خطوة كانت تبدو محدودة، لكن طلاس الذي لم يُعرف بنشاطه الثوري، أثبت ولاءه للنظام القادم، وهو ما سيجعله قريبا من دائرة السلطة.
إعلانولكن في عام 1964، انفجرت الأوضاع في حماة عندما اندلعت مواجهات دامية بين الشعب الرافض لممارسات السلطة الجديدة، التي اجتاحت مدنا عدة على شكل إضرابات ومظاهرات شعبية واسعة.
وفي المقابل قامت السلطة البعثية بتهديد كل صوت معارض بعنف، حيث اقتحمت المحال التجارية المغلقة ونهبت محتوياتها، وأطلق النظام يد الجيش لقمع المعارضة، حتى وصل الحال إلى قصف مسجد السلطان في حماة، الذي تحول حينئذ إلى ملاذ للمطاردين، وكانت النتيجة سقوط 17 ضحية من أبناء المدينة، وهو ما يمكن أن يوصف بالإرهاصات المبكرة لمجزرة حماة التي ستقع بعد ذلك بثمانية عشر عاما.
في تلك الأثناء، عُيِّنَ طلاس الضابط العسكري قاضيا لمحكمة عرفية ميدانية، حينها أصدر أحكاما بالإعدام على علماء وشباب من مدينة حماة، ليعلن مبكرا عن ولائه للنظام البعثي الجديد.
في المقابل سعى الرئيس السوري وقتها وأحد ضباط البعث البارزين أمين الحافظ للقاء مع شيخ المدينة محمود الحامد، في خطوة تهدئة لتخفيف الاحتقان الناتج عن هذه المحاكمات والأحداث، وليُعلن بعدها عن عفو شامل عن جميع المحكومين في هذه القضية.
رسمت هذه الأحداث الصادمة بين السلطة والجيش بداية مسيرة مصطفى طلاس السياسية مبكرا، حيث كشفت عن ولائه العميق لطموحاته الشخصية وتطلعاته في الوصول إلى السلطة بأي شكل ولون.
في تلك الأثناء، كانت العلاقة بين طلاس وأمين الحافظ متوترة، فبينما كان طلاس يتحرك تحت إشراف صديقه المقرب حافظ الأسد، الذي كان يتمتع بميول طائفية واضحة، ويسعى لتشبيك الضباط العلويين وتقوية مراكزهم، كان أمين الحافظ، الرئيس السني، يتعامل مع المسألة الطائفية بعدم اهتمام لافت.
وفي عام 1965 كان مصطفى طلاس يسعى بكل قوة لاعتقال كبار الضباط الموالين لأمين الحافظ في منطقة حمص العسكرية المعروفة بالمنطقة الوسطى، وبترتيب وتنسيق مع صلاح جديد وحافظ الأسد.
وكما يذكر طلاس في مذكراته "مرآة حياتي"، فقد أصدر أمين الحافظ، بتأييد القيادة القومية لحزب البعث الذي كان على رأسه مؤسِّسه ميشيل عفلق وآخرون، قرارا يقضي بإقصاء طلاس عن قيادة المنطقة الوسطى، ليخسر منصبه العسكري بسبب مشاركته في تسريح عدد من الضباط السنة الموالين للحافظ، بتوجيه من صديقيه حافظ الأسد وصلاح جديد.
إعلانوعلى إثر هذه الحادثة بدأ الترتيب داخل حزب البعث من الضباط العلويين والدائرين في فلكهم مثل مصطفى طلاس للإطاحة بالمعارضين لنفوذهم المتصاعد، وعلى رأسهم مؤسس الحزب ميشيل عفلق وأمين الحافظ وغيرهم.
وفي النهاية نجح هذا المخطط في 23 فبراير/شباط 1966، حين شهدت الساحة الحزبية ما عُرف بثورة "الشُّباطيين"، حيث قام مجموعة من الضباط العلويين، وعلى رأسهم صلاح جديد ومحمد عمران وحافظ الأسد، بالإطاحة بأمين الحافظ وكل مؤسسي حزب البعث الأوائل مثل ميشيل عفلق والبيطار، بالإضافة إلى القيادات السياسية كافة.
وعلى إثر ذلك، تولى صلاح جديد منصب نائب الأمين العام لحزب البعث، وظل هذا المنصب مرفوعا رغم تصفية القيادات التقليدية، بينما عُيِّنَ حافظ الأسد وزيرا للدفاع، وبعد نجاح الانقلاب الجديد، وكما وعد الأسد رفيقه طلاس سابقا، فقد عاد إلى منصبه قائدا للمنطقة الوسطى، وهو ما حدث، الأمر الذي جعل طلاس يستوثق من علاقته وولائه لصديقه حافظ الأسد بصورة مطلقة.
الذراع اليمنى لحافظ الأسدفي عام 1967، وقعت الهزيمة المدوية التي عُرفت في تاريخ العرب الحديث بـ"النكسة"، وكان نور الدين الأتاسي يشغل منصب رئيس الجمهورية في سوريا في ذلك الحين، ولم يكن في الحقيقة سوى واجهة سنية ضعيفة تحركها الأيادي العسكرية، في حين كان يوسف زعين يشغل منصب رئيس الوزراء.
أما الحكام الفعليون لسوريا في تلك الفترة فكانوا: صلاح جديد نائب الأمين العام لحزب البعث، وحافظ الأسد وزير الدفاع، وأحمد سويداني رئيس الأركان.
وعقب النكسة، وفي ظل الصراع على السلطة، تصاعدت الخلافات بين الصديقين المقربين لهذا السبب، ونظرا للولاء المطلق الذي أدركه حافظ من صديقه طلاس، فقد عيَّنه في عام 1968 رئيسا لأركان الجيش، وذراعه اليمنى به، خاصة في تلك السنوات التي تصاعد فيها الصراع بين حافظ الأسد وصلاح جديد، وبلغ ذروته في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، عندما حاول صلاح جديد الحصول على قرار من القيادة القومية لإقالة حافظ الأسد ومصطفى طلاس.
إعلانلكن حافظ الأسد سبقهم، ونزل بدباباته إلى الشوارع، فقام باعتقال صلاح جديد وأعضاء القيادة القومية وكل مَن كانوا موالين له، وعلى رأسهم نور الدين الأتاسي رئيس الجمهورية الضعيف، الذي ظل في السجن حتى وفاته عام 1992، بينما مات صلاح جديد في السجن أيضا في العام التالي 1993.
بعد نجاح ما سمَّاه حافظ الأسد بالحركة التصحيحية، تولى الحكم مباشرة، وكانت تلك المرة الأولى التي يصل فيها رئيس من الطائفة العلوية إلى السلطة في سوريا، وهي طائفة تُشكِّل أقل من 10% من السكان، وأمام هذا الواقع الجديد كان من المتوقع أن يكون مصطفى طلاس بمنزلة الواجهة السنية في التركيبة الحاكمة الجديدة.
وفيما بعد ترقى إلى رتبة عماد، وهي رُتبة خصصت له وتميزت عن باقي الضباط، وأُسندت إليه وزارة الدفاع طوال فترة حكم الأسد، بالإضافة إلى منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، إلا أن طلاس بقي في نظر كثير من أهل السنة في سوريا ضابطا ذا قيمة محدودة.
ويتأمل باتريك سيل في كتابه "الأسد، الصراع على الشرق الأوسط" في الحاشية التي كانت تحيط بحافظ الأسد، وكان منهم بالطبع مصطفى طلاس، ورأى أن بقاءهم في مناصبهم لفترات طويلة يرجع إلى "الولاء" والولاء فقط، يقول: "في سنته الأولى جمع الأسد فريقه، فاستخدم رجالا قُدِّر لهم أن يعملوا تحت حكمه خمسة عشر عاما أو تزيد، ومثلما كان الأسد منسجما مع نفسه في مبادئه السياسية، بدا أنه يتردد كثيرا في تغيير الوجوه من حوله، كان من طبعه تقدير الولاء تقديرا عاليا".
كان مصطفى طلاس أحد اللاعبين في صياغة خطط حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 ضد الكيان الصهيوني، حيث كان له دور بارز في التنسيق مع الجانب المصري لإدارة العمليات العسكرية.
ورغم أن الجيش السوري حقق نجاحا مبدئيا بفضل عنصر المفاجأة الذي مَكَّن قواته من الوصول إلى شواطئ طبرية، فإن عجز القيادة العسكرية عن توفير الدعم اللازم للتقدم أو تعزيز الهجوم حال دون استثمار هذا الانتصار، الأمر الذي أدى إلى تراجع القوات السورية وفقدان كل ما أنجزته، بالإضافة إلى نزوح سكان 20 قرية نحو دمشق، لتنتشر الخيام الخاصة بالوافدين على أطراف العاصمة.
رغم تضخيم الذات الذي نراه في السيرة الذاتية التي كتبها طلاس في خمس مجلدات بعنوان "مرآة حياتي"، ومحاولة تصوير نفسه بأنه الرجل الثاني في سوريا طوال ثلاثة عقود، فقد نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن ضابط الاستخبارات الفرنسي السابق والخبير في الشؤون السورية، آلان شوييه، قوله: "كان لطلاس دور محدود في وضع الإستراتيجية العسكرية للجيش السوري، حيث كانت القرارات تُتخذ من قِبَل حافظ الأسد والضباط العلويين".
وهو الأمر الذي أكده المؤرخ والدبلوماسي الهولندي نيكولاس فان دام في كتابه "الصراع على السلطة في سوريا"، فإن حافظ الأسد، بعد استيلائه على الحكم في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، اعتمد اعتمادا كبيرا على مجموعة من الضباط الموالين له، الذين تولوا مراكز إستراتيجية حيوية داخل القوات المسلحة.
إعلانويلاحظ فان دام أن معظم هؤلاء الضباط كانوا من الطائفة العلوية، بينما وُكلت مناصب عسكرية رفيعة لعدد من الضباط المنتمين إلى طوائف أخرى، لكن دون أن يُشكِّلوا تهديدا فعليا لحكم الأسد، إذ ظل النفوذ الحقيقي في يد الضباط العلويين، الذين كانوا قادرين على إخماد أي محاولة للتمرد.
ولتوضيح هذا النمط، يستشهد فان دام بعدة أمثلة، منها اللواء ناجي جميل، وهو ضابط سني من دير الزور، الذي تولى قيادة سلاح الجو السوري من نوفمبر/تشرين الثاني 1970 حتى مارس/آذار 1978. ورغم منصبه الرفيع، لم يكن قادرا على استخدام سلاح الجو في مواجهة النظام، نظرا لأن القواعد الجوية الرئيسية كانت تحت سيطرة الضباط العلويين.
وينطبق هذا الأمر أيضا على ضباط سُنة آخرين كان على رأسهم اللواء مصطفى طلاس، الذي عُيِّنَ وزيرا للدفاع في مارس/آذار 1972، واللواء يوسف شكور، الذي شغل منصب رئيس الأركان لاحقا، وهو من الطائفة المسيحية (الروم الأرثوذكس).
ويرى باتريك سيل في كتابه السابق أن دور طلاس على رأس الجيش كان منع حدوث أي انقلاب عسكري على حافظ الأسد، ولعب دور في إحداث توازن عسكري وأمني أمام وحدات الجيش وقوات الأمن والمخابرات الأخرى، ولهذا السبب كان مجرد قطعة شطرنج يحركها الأسد وفقا لمصالحه الخاصة.
وسنرى ذلك واضحا في الدور الذي لعبه طلاس في مجزرة حماة عام 1982 بجوار رفعت الأسد وعلي حيدر وغيرهم من الضباط العلويين المتنفذين والمسيطرين على الجيش والقوات الأمنية، فقد كان طلاس مؤمنا بالحلول الأمنية واستخدام القوة والعنف المطلق لكل معارض لحافظ الأسد.
ففي مقابلة نادرة مع صحيفة "دير شبيغل" الألمانية عام 2005، دافع طلاس عن الحملة العسكرية الدموية على حماة، قائلا: "استخدمنا السلاح للوصول إلى السلطة… وأي شخص يريد انتزاعها منا، عليه أن يأخذها بالقوة"، مشيرا إلى أنه خلال تلك الفترة، كان يُنفَّذ نحو 150 حكما بالإعدام أسبوعيا في دمشق وحدها.
إعلانكان لطلاس دور مهم أيضا في حماية نظام حافظ الأسد أثناء فترة الغيبوبة التي تعرض لها حافظ عام 1984، ففي تلك الفترة، سعى رفعت الأسد، الشقيق والمزهو بقيادته لقوات "سرايا الدفاع" ذات الأربعين ألف مقاتل بأسلحتهم الخفيفة والثقيلة، إلى تعزيز نفوذه والسيطرة على السلطة من خلال إجراء انقلاب أبيض، مستغلا مرض أخيه.
طلاس يورث السلطة لبشار!في مذكراته الآنفة، يرسم مصطفى طلاس صورة الحامي لحافظ الأسد، والمدافع المخلص له، فتحت عنوان "ثلاثة أسابيع هزت دمشق"، ينقل طلاس عن رفعت الأسد قوله لحافظ الأسد بعد جلسة مصالحة بينهما: "أقسم لك بالله لولا العماد مصطفى طلاس، كل جماعتك في الأركان لا يساوون فرنك… كان الوحيد المستعد للقتال".
وكان لطلاس العديد من المواقف المثيرة للجدل على المستوى الإقليمي، فقد كان يصف الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بالخائن، لأنه في زعمه أراد أن يجنّده لصالحه وقد رفض ذلك، وربما كان من الذين حرضوا حافظ الأسد على إسقاط طائرة السادات حين جاء دمشق ليخبره بعزمه السفر إلى القدس للصلح مع إسرائيل، كما اشتهر عنه سبّه الشهير للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للموقف ذاته.
وبالنظر إلى الفراغ الذي خلّفته سنواته الطويلة في وزارة الدفاع، ولتأكيد استنتاج نيكولاس فان دام وغيره من الباحثين في التاريخ السوري المعاصر بأن طلاس كان مجرد واجه سُنية تُستخدم لاعتبارات حفظ السلطة بيد العلويين، توجّه طلاس إلى مجال التأليف والنشر، فأسس دار نشر حملت اسمه، وأصدر من خلالها العديد من أعماله البارزة، كان من بينها مذكراته الشخصية "مرآة حياتي"، وكتاب "تاريخ الثورة العربية الكبرى"، و"الرسول العربي"، بالإضافة إلى "تأبين نزار قباني"، ولعل أشهر أعماله وأوسعها انتشارا كان كتابه عن "فن الطبخ".
في كتابه "الرواية المفقودة"، يستعرض نائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية الأسبق فاروق الشرع وقائع العاشر من يونيو/حزيران عام 2000، حيث زار بيت الرئيس ليجد وفق إيماءة من اللواء آصف شوكت أن "جثمان الرئيس (حافظ الأسد) مسجى في الغرفة المجاورة".
إعلانوفي هذا السياق، يشير الشرع إلى الدور الذي لعبه مصطفى طلاس في ترتيبات انتقال السلطة، قائلا: "لم يتساءل أيٌّ منا في جلسة حزينة كيف حدثت الوفاة المفاجئة، لكن العماد مصطفى طلاس كسر الصمت، واقترح مباشرة تعديل الدستور كي يتمكن الدكتور بشار من تولي الرئاسة. وتابع بأنّ التعديل المقترح يتطلب إبلاغ رئيس مجلس الشعب عبد القادر قدورة لعقد جلسة طارئة لهذا الغرض".
ومنذ اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، التزم مصطفى طلاس الصمت حيالها، فلم يعلن موقفا واضحا، ولم يوجّه أي انتقادات لمجازر النظام، مفضلا مغادرة سوريا والاستقرار في فرنسا مع أسرته، وسنجد من بين أبنائه الأكثر شهرة مناف طلاس، الذي كان قائدا للواء 104 في الحرس الجمهوري قبل أن ينشق عن النظام في يوليو/تموز 2012، حيث فرّ إلى تركيا، ومنها توجّه لاحقا إلى فرنسا.
وقد تباينت الروايات بشأن الدوافع الحقيقية لانشقاق مناف، فبينما أشارت بعض المصادر إلى أن قراره جاء احتجاجا على الحملة العسكرية العنيفة ضد مسقط رأسه، بلدة الرستن، رجحت مصادر أخرى أن القطيعة بينه وبين النظام بدأت خلال العملية العسكرية على حي بابا عمرو في حمص، بين فبراير/شباط ومارس/آذار 2012، حين رفض قيادة الوحدة التي شنّت الهجوم على الحي وسيطرت عليه لاحقا.
بعد حياة طويلة قضاها في خدمة آل الأسد، وفي 27 يونيو/حزيران 2017، توفي مصطفى طلاس عن عمر ناهز 85 عاما في مستشفى أفيسين قرب باريس، ليكون إحدى أهم الشخصيات التي لعبت دورا في إرعاب الشعب السوري في العقود الخمسة الأخيرة!