تقنين الوقف الخيري والذري .. بين القبول والرفض
تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT
لقَدْ نظَّم الله تعالى عمليَّات تبرُّع المقتدرين للمحتاجين ولخدمة المُجتمع، فجعل مِنْها الزكاة الَّتي فرضها الله تعالى على المقتدرين فنظَّمها بأحكام شرعيَّة وضوابط وردت في القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشَّريفة، وشرع الصَّدقات الَّتي ترك تنظيمها لتقدير المتبرِّعين، وجعل المُشرِّع عمليَّة التبرُّع للمحتاجين وسيلة لكفَّارات بعض الأخطاء الَّتي يقوم بها الإنسان في عباداته، كما شرع الوقف الخيري والذَّري الَّذي اشترط فيه الاستدامة في تقديم المنفعة للنَّاس، وخصَّه بأجرٍ عظيم، وهو استمراريَّة حصول الإنسان على الأجر حتَّى بعد موته، وأعطى الشارع الواقف مساحة واسعة من الصلاحيَّات في تنظيم الوقف الخيري، فالواقف هو سيِّد الموقف، حتَّى قال عَنْه الفقهاء: شرطُ الواقفِ كشَرْعِ الشارع، حيث تُبَيِّن هذه العبارة مدى قوَّة صلاحيَّات الواقف في إدارة وتنظيم الوقف.
وعِندما نبحث في النُّصوص الشرعيَّة: (القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشَّريفة)، نجد تنظيمًا واضحًا لأحكام الزكاة، أمَّا أحكام الوقف الخيري والذَّري فلا نجد أحكامًا تنظِّم الوقف بشكلٍ مباشر، بل نجد القواعد العامَّة مِثل: دليل مشروعيَّته، وفضله عِند الله، وبعض الأحكام المتعلِّقة بأساسيَّات تنظيم الوقف، لذا نجد أنَّ غالبيَّة أحكام الوقف الخيري اعتمدت على اجتهاد الفقهاء، والحكمة في ذلك أنَّ تنظيم الوقف الخيري مرهون بمصلحة المُجتمع، ومصلحة الموقوف عَلَيْهم. ومن الطبيعي أن تطرأَ تغيُّرات سريعة وكبيرة على المُجتمعات؛ لذا تركَ الشارع مساحة كبيرة لاجتهاد العلماء في تنظيم الوقف الخيري والذَّري وذلك لمراعاة الصالح العامِّ.
وعلى مرِّ العصور، ظهر هناك الكثير من المشكلات المتعلِّقة بالوقف الخيري والَّتي أضرَّت بدَوْرها بمصلحة الوقف والموقوف عَلَيْهم، مِثل: مُشْكلة اندثار الوقف الخيري، وكيفيَّة التعامل مع شروط الواقفين غير القابلة للتطبيق، والمشاكل النَّاتجة عن عدم وضوح دَوْر مُتولِّي الوقف وما يترتب عَلَيْه من ضررٍ على العَيْن الموقوفة.
ومع تطوُّر المُجتمعات، وظهور التشريعات والقوانين المُنظِّمة للتعاملات الماليَّة والاجتماعيَّة والإداريَّة في المُجتمعات، والمُنظِّمة لشؤون الحياة، ومع كثرة ظهور الإشكالات والنَّزعات بَيْنَ الموقوف عَلَيْهم ومُتولِّي الوقف الخيري، ظهرت فكرة تقنين الوقف الخيري، أي وضع تشريعات كالقوانين والقرارات الَّتي تُنظِّم إدارة الوقف الخيري وترعى مصالحه، ومصدر مواد هذه القوانين والقرارات هي مصادر الشريعة الإسلاميَّة وأهمُّها القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشَّريفة والاجتهاد، وقَدْ أصدرت العديد من الدوَل قوانين تُنظِّم الوقف الخيري والذَّري منذ منتصف التسعينيَّات.
فقَدْ صدر أوَّل قانون في الوقف الخيري في العالَم العربي عام ألف وتسعمئة وستَّة وأربعين ميلاديًّا في مصر، وتلتها مباشرةً المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة، ثمَّ لبنان عام ألف وتسعمئة وسبعة وأربعين، ثمَّ تونس عام ألف وتسعمئة وستَّة وخمسين، وكذلك العراق عام ألف وتسعمئة وتسعة وخمسين ميلاديًّا. وهكذا توالت الدوَل في إصدار قوانين الوقف الخيري والذَّري. ومع ذلك فقَدْ بقيَت فكرة تقنين الوقف الخيري بَيْنَ مؤيِّد ومُعارِض على الرغم من مرور عشرات السنوات على تقنين الوقف الخيري، وظهور تجارب مختلفة في الدوَل العربيَّة في مجال تنظيم تشريعات الوقف الخيري والذَّري على حدٍّ سواء، فالبعض يرى أنَّ في عمليَّة التقنين مراعاةً لمصلحة الوقف وحماية لحقوق الواقف، والموقوف عَلَيْهم، وتوضيحًا لمسؤوليَّات مُتولِّي الوقف وحقوقه، في حين لا يتَّفق البعض مع تقنين الوقف الخيري والذَّري، فَهُمْ يرون أنَّ الرجوع بشكلٍ مباشر للنصوص الشرعيَّة، واجتهادات السَّلف الصَّالح يعطي مرونةً في إدارة الوقف والولاية عَلَيْه بما يُحقِّق المصلحة العامَّة. ففي التزام القضاة ومُتولِّي الوقف بنصوص القانون حرمان لَهُمْ من الاستفادة من باقي اجتهادات العلماء الَّتي لَمْ تدرج في القانون. كما أنَّ الالتزام بالقانون يحدُّ من صلاحيَّات قضاة الشرع. وأرجح الرأي الَّذي يتَّفق مع إصدار قوانين تُنظِّم الوقف الخيري، ولكن بشرط أن تلتزمَ المواد الواردة في القانون بالعموميَّة مع إعطاء الوزير المختصِّ أو الجهة المختصَّة صلاحيَّات واسعة لإصدار القرارات الوزاريَّة المُنظِّمة للوقف الخيري والذَّري كتنظيم الجانب الإداري والمالي، فيُعطى الوزير الحقَّ في مُواكَبة المستجدَّات والمتغيِّرات في هذا المجال. كأن يكُونَ للوزير صلاحيَّات بإصدار قرار يُنظِّم إجراءات توثيق الوقف، وقرار آخر يُنظِّم مهام مُتولِّي الوقف الخيري، وقرار يُنظِّم التعامل مع الأوقاف المُندثرة وغيرها. إنَّ هذه المنهجيَّة في بناء قوانين الوقف وهو أن تتصفَ مواد القانون بالعموميَّة، وترك التفاصيل لقرارات الوزير المختصِّ، يُسهم في مرونة التشريع، ويسهل مُواكبة المستجدَّات في المُجتمع واحتياجاته، وذلك لسهولة تعديل القرارات الوزاريَّة، فتعديل القانون يستغرق وقتًا طويلًا كما يستوجب عرضها على البرلمان، الأمْرُ الَّذي يتطلب جهدًا ووقتًا طويلًا. أمَّا القرارات الوزاريَّة فتُترك لتقدير الوزير، وبالتَّالي يسهل تعديلها. كما أنَّ إصدار الوزير للقرارات يعطيه الحقَّ في المرونة في التنفيذ، والحقَّ في الاستثناء في تطبيق بعض المواد الواردة في القرارات في بعض الحالات، لِيتمكَّنَ من مراعاة الحالات الخاصَّة في الوقف، وتقدير المصلحة العامَّة، ومراعاة الجوانب الإنسانيَّة، وذلك بعد رجوعه للجان الشرعيَّة ذات العلاقة لدراسة مدى الحاجة في الاستثناء من تطبيق بعض مواد القرارات. وعمومًا أرى بضرورة إصدار قوانين الوقف الخيري والذَّري بشرط الحفاظ على المرونة في التطبيق… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
najanahi@gmail.com
Najwa.janahi@
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: م الوقف الخیری ی الوقف تنظیم ا ع ل ی هم
إقرأ أيضاً:
ترامب يكشف عن مواقفه من حرب أوكرانيا: على بوتين الموافقة القبول بهذا الأمر فورا
ترامب وبوتين (وكالات)
في مؤتمر صحفي مثير للجدل عقده في البيت الأبيض، كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مواقفه بشأن عدد من القضايا الدولية الساخنة التي تهم الولايات المتحدة وحلفاءها.
تحدث ترامب عن النزاع القائم بين روسيا وأوكرانيا، والسياسات المتعلقة بغرينلاند، وكذلك دور حلف شمال الأطلسي "الناتو" في الأمن العالمي، مقدمًا رؤيته الخاصة التي قد تؤثر على مستقبل هذه القضايا.
اقرأ أيضاً حركة حماس تكشف عن زعيمها الجديد في غزة بعد مقتل يحيى السنوار 21 يناير، 2025 خبير الزلازل الهولندي يحذر من نشاط زلزالي قوي في الشرق الأوسط.. يستهدف 3 دول 21 يناير، 2025
موقفه من الحرب في أوكرانيا:
أوضح ترامب خلال المؤتمر الصحفي أن الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا يجب أن تنتهي في أسرع وقت ممكن، محملًا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المسؤولية عن استمرار الصراع.
وقال ترامب: "بوتين يدمر روسيا برفضه التوصل إلى اتفاق مع أوكرانيا. لا أرى أي مبرر لاستمرار الحرب". وأشار إلى أنه يعتزم اللقاء ببوتين شخصيًا في المستقبل في محاولة للوصول إلى حل دبلوماسي لهذه الأزمة التي أودت بحياة العديد من الأبرياء وأثرت سلبًا على استقرار المنطقة.
وأضاف ترامب أنه يعتقد أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي يتعرض لضغوط شديدة بسبب الحرب، يرغب أيضًا في التوصل إلى اتفاق لإنهاء النزاع.
وقال: "أعتقد أن زيلينسكي يريد السلام ويريد وقف الحرب، لكن الأمور أصبحت معقدة للغاية. علينا أن نعمل جاهدين لإنهاء هذه المعركة بأسرع ما يمكن".
قضية غرينلاند:
وفيما يتعلق بغرينلاند، جزيرة القطب الشمالي التي تعتبر جزءًا من مملكة الدنمارك، أشار ترامب إلى أن الولايات المتحدة بحاجة إلى "السيطرة على غرينلاند" لضمان الأمن الدولي.
لم يقدم ترامب تفاصيل دقيقة حول كيفية تحقيق ذلك، لكنه أصر على أن الموقع الاستراتيجي للجزيرة يجعلها نقطة أساسية في حسابات الأمن القومي الأمريكي. وأوضح قائلاً: "غرينلاند هي نقطة أساسية لضمان هيمنتنا في المنطقة القطبية الشمالية، وهذا يتعلق بالحفاظ على أمننا على المدى الطويل".
وكان ترامب قد أثار في وقت سابق فكرة شراء غرينلاند من الدنمارك في خطوة كانت قد قوبلت بالرفض من قبل الحكومة الدنماركية.
ومع ذلك، فإن حديثه في المؤتمر الصحفي قد يعكس رؤية أوسع حول أهمية غرينلاند في السياسة الأمريكية.
دور الناتو وإنفاقه الدفاعي:
أحد المواضيع البارزة التي تطرق إليها ترامب في المؤتمر كان الإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلسي "الناتو".
فقد أكد أنه يجب على الدول الأعضاء في الحلف، وخاصة تلك التي تستفيد بشكل كبير من الحماية التي يقدمها الناتو، أن تلتزم بمزيد من الإنفاق على الدفاع. وأوضح ترامب: "على الناتو أن يدفع المزيد من الأموال ويجب أن ينفق 5% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة على الدفاع".
وتابع: "حلف الأطلسي هو في النهاية تحالف لحماية أوروبا وأمريكا الشمالية، ويجب على جميع الأعضاء تحمل نصيبهم العادل من المسؤولية".
وكان ترامب قد أشار في مرات سابقة إلى أن الولايات المتحدة تتحمل جزءًا كبيرًا من عبء الدفاع عن حلفاء الناتو، وطالب بتحقيق "عدالة" في توزيع المسؤوليات والإنفاق بين الدول الأعضاء.
إعادة النظر في مهمة "الناتو":
كما ذكر ترامب في وقت سابق أنه إذا عاد إلى البيت الأبيض، فإنه سيعيد النظر بشكل جذري في "مهمة حلف شمال الأطلسي والغرض من تأسيسه"، مما يعكس شكوكه في فعالية بعض جوانب هذا التحالف العسكري في ظل تغير الظروف الجيوسياسية.
وأضاف: "لقد حان الوقت للنظر في ما إذا كان الناتو لا يزال يتماشى مع مصالح الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين. نحن بحاجة إلى التفكير بجدية في الهدف الأساسي لهذا الحلف وكيفية استخدام موارده بشكل أكثر فعالية".
خاتمة:
تعد تصريحات ترامب بشأن أوكرانيا وغرينلاند والناتو انعكاسًا لمواقفه المتشددة في السياسة الخارجية، حيث يسعى إلى تعزيز مصالح الولايات المتحدة وفقًا لوجهة نظره التي تركز على تحقيق التفوق الأمريكي.
بينما تبقى هذه المواقف موضع تساؤل بالنسبة للكثيرين، فإن الرئيس الأمريكي يبدو مصمماً على إعادة تشكيل السياسات الأمريكية في الساحة الدولية بما يتناسب مع أولوياته الأمنية والاقتصادية.