جريدة الوطن:
2025-02-23@20:24:49 GMT

تقنين الوقف الخيري والذري .. بين القبول والرفض

تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT

تقنين الوقف الخيري والذري .. بين القبول والرفض

لقَدْ نظَّم الله تعالى عمليَّات تبرُّع المقتدرين للمحتاجين ولخدمة المُجتمع، فجعل مِنْها الزكاة الَّتي فرضها الله تعالى على المقتدرين فنظَّمها بأحكام شرعيَّة وضوابط وردت في القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشَّريفة، وشرع الصَّدقات الَّتي ترك تنظيمها لتقدير المتبرِّعين، وجعل المُشرِّع عمليَّة التبرُّع للمحتاجين وسيلة لكفَّارات بعض الأخطاء الَّتي يقوم بها الإنسان في عباداته، كما شرع الوقف الخيري والذَّري الَّذي اشترط فيه الاستدامة في تقديم المنفعة للنَّاس، وخصَّه بأجرٍ عظيم، وهو استمراريَّة حصول الإنسان على الأجر حتَّى بعد موته، وأعطى الشارع الواقف مساحة واسعة من الصلاحيَّات في تنظيم الوقف الخيري، فالواقف هو سيِّد الموقف، حتَّى قال عَنْه الفقهاء: شرطُ الواقفِ كشَرْعِ الشارع، حيث تُبَيِّن هذه العبارة مدى قوَّة صلاحيَّات الواقف في إدارة وتنظيم الوقف.


وعِندما نبحث في النُّصوص الشرعيَّة: (القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشَّريفة)، نجد تنظيمًا واضحًا لأحكام الزكاة، أمَّا أحكام الوقف الخيري والذَّري فلا نجد أحكامًا تنظِّم الوقف بشكلٍ مباشر، بل نجد القواعد العامَّة مِثل: دليل مشروعيَّته، وفضله عِند الله، وبعض الأحكام المتعلِّقة بأساسيَّات تنظيم الوقف، لذا نجد أنَّ غالبيَّة أحكام الوقف الخيري اعتمدت على اجتهاد الفقهاء، والحكمة في ذلك أنَّ تنظيم الوقف الخيري مرهون بمصلحة المُجتمع، ومصلحة الموقوف عَلَيْهم. ومن الطبيعي أن تطرأَ تغيُّرات سريعة وكبيرة على المُجتمعات؛ لذا تركَ الشارع مساحة كبيرة لاجتهاد العلماء في تنظيم الوقف الخيري والذَّري وذلك لمراعاة الصالح العامِّ.
وعلى مرِّ العصور، ظهر هناك الكثير من المشكلات المتعلِّقة بالوقف الخيري والَّتي أضرَّت بدَوْرها بمصلحة الوقف والموقوف عَلَيْهم، مِثل: مُشْكلة اندثار الوقف الخيري، وكيفيَّة التعامل مع شروط الواقفين غير القابلة للتطبيق، والمشاكل النَّاتجة عن عدم وضوح دَوْر مُتولِّي الوقف وما يترتب عَلَيْه من ضررٍ على العَيْن الموقوفة.
ومع تطوُّر المُجتمعات، وظهور التشريعات والقوانين المُنظِّمة للتعاملات الماليَّة والاجتماعيَّة والإداريَّة في المُجتمعات، والمُنظِّمة لشؤون الحياة، ومع كثرة ظهور الإشكالات والنَّزعات بَيْنَ الموقوف عَلَيْهم ومُتولِّي الوقف الخيري، ظهرت فكرة تقنين الوقف الخيري، أي وضع تشريعات كالقوانين والقرارات الَّتي تُنظِّم إدارة الوقف الخيري وترعى مصالحه، ومصدر مواد هذه القوانين والقرارات هي مصادر الشريعة الإسلاميَّة وأهمُّها القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشَّريفة والاجتهاد، وقَدْ أصدرت العديد من الدوَل قوانين تُنظِّم الوقف الخيري والذَّري منذ منتصف التسعينيَّات.
فقَدْ صدر أوَّل قانون في الوقف الخيري في العالَم العربي عام ألف وتسعمئة وستَّة وأربعين ميلاديًّا في مصر، وتلتها مباشرةً المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة، ثمَّ لبنان عام ألف وتسعمئة وسبعة وأربعين، ثمَّ تونس عام ألف وتسعمئة وستَّة وخمسين، وكذلك العراق عام ألف وتسعمئة وتسعة وخمسين ميلاديًّا. وهكذا توالت الدوَل في إصدار قوانين الوقف الخيري والذَّري. ومع ذلك فقَدْ بقيَت فكرة تقنين الوقف الخيري بَيْنَ مؤيِّد ومُعارِض على الرغم من مرور عشرات السنوات على تقنين الوقف الخيري، وظهور تجارب مختلفة في الدوَل العربيَّة في مجال تنظيم تشريعات الوقف الخيري والذَّري على حدٍّ سواء، فالبعض يرى أنَّ في عمليَّة التقنين مراعاةً لمصلحة الوقف وحماية لحقوق الواقف، والموقوف عَلَيْهم، وتوضيحًا لمسؤوليَّات مُتولِّي الوقف وحقوقه، في حين لا يتَّفق البعض مع تقنين الوقف الخيري والذَّري، فَهُمْ يرون أنَّ الرجوع بشكلٍ مباشر للنصوص الشرعيَّة، واجتهادات السَّلف الصَّالح يعطي مرونةً في إدارة الوقف والولاية عَلَيْه بما يُحقِّق المصلحة العامَّة. ففي التزام القضاة ومُتولِّي الوقف بنصوص القانون حرمان لَهُمْ من الاستفادة من باقي اجتهادات العلماء الَّتي لَمْ تدرج في القانون. كما أنَّ الالتزام بالقانون يحدُّ من صلاحيَّات قضاة الشرع. وأرجح الرأي الَّذي يتَّفق مع إصدار قوانين تُنظِّم الوقف الخيري، ولكن بشرط أن تلتزمَ المواد الواردة في القانون بالعموميَّة مع إعطاء الوزير المختصِّ أو الجهة المختصَّة صلاحيَّات واسعة لإصدار القرارات الوزاريَّة المُنظِّمة للوقف الخيري والذَّري كتنظيم الجانب الإداري والمالي، فيُعطى الوزير الحقَّ في مُواكَبة المستجدَّات والمتغيِّرات في هذا المجال. كأن يكُونَ للوزير صلاحيَّات بإصدار قرار يُنظِّم إجراءات توثيق الوقف، وقرار آخر يُنظِّم مهام مُتولِّي الوقف الخيري، وقرار يُنظِّم التعامل مع الأوقاف المُندثرة وغيرها. إنَّ هذه المنهجيَّة في بناء قوانين الوقف وهو أن تتصفَ مواد القانون بالعموميَّة، وترك التفاصيل لقرارات الوزير المختصِّ، يُسهم في مرونة التشريع، ويسهل مُواكبة المستجدَّات في المُجتمع واحتياجاته، وذلك لسهولة تعديل القرارات الوزاريَّة، فتعديل القانون يستغرق وقتًا طويلًا كما يستوجب عرضها على البرلمان، الأمْرُ الَّذي يتطلب جهدًا ووقتًا طويلًا. أمَّا القرارات الوزاريَّة فتُترك لتقدير الوزير، وبالتَّالي يسهل تعديلها. كما أنَّ إصدار الوزير للقرارات يعطيه الحقَّ في المرونة في التنفيذ، والحقَّ في الاستثناء في تطبيق بعض المواد الواردة في القرارات في بعض الحالات، لِيتمكَّنَ من مراعاة الحالات الخاصَّة في الوقف، وتقدير المصلحة العامَّة، ومراعاة الجوانب الإنسانيَّة، وذلك بعد رجوعه للجان الشرعيَّة ذات العلاقة لدراسة مدى الحاجة في الاستثناء من تطبيق بعض مواد القرارات. وعمومًا أرى بضرورة إصدار قوانين الوقف الخيري والذَّري بشرط الحفاظ على المرونة في التطبيق… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.

نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
najanahi@gmail.com
Najwa.janahi@

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: م الوقف الخیری ی الوقف تنظیم ا ع ل ی هم

إقرأ أيضاً:

التحديات والفرص في العمل الخيري الدولي الكويتي

مع نمو التوجّهات الرسمية العالمية للسيطرة على العمل الخيري الخارجي، بتبني نموذج المركزية، تزداد هذه الجدلية بين إغراء الإيجابيات وعرقلة السلبيات في اعتماد هذا النموذج.

سنتحدث عن هذا مع التركيز على نموذج العمل الخيري الكويتي، الذي قد يكون من أكثر النماذج التي يدور الحديث حولها في المنطقة العربية؛ لما يتمتع به من قوة وتأثير وجمعه بين المركزية واللامركزية، مع توقعات متزايدة بأنه سيلتحق بالنماذج الأخرى.

إيجابيات النموذج المركزي للعمل الخيري الخارجي

فعلى صعيد الإيجابيات، تبرز جودة ودقة البيانات للتبرعات والمساعدات، ولا سيما الرقم الإجمالي لها، سواء كانت من الجهات الإنسانية والخيرية، أو تلك الرسمية من الدولة بمختلف وزاراتها وأجهزتها.

كما أن هذا النموذج يسهل الوصول إلى بعض الفئات التي تتخوف من التبرع المباشر إلى الجهات الخيرية غير الحكومية، خصوصًا كبار المتبرعين والشركات الكبرى، بسبب تأثرهم بحملات إعلامية تستهدف العمل الخيري والخوف على مصالحهم.

كذلك، فإن من إيجابيات المركزية منع الازدواجية في تقديم المساعدات لنفس الفئات أو المناطق، إلى جانب تعزيز تأثير العمل الخيري بالتركيز على الأولويات والمناطق الأكثر احتياجًا.

إلى جانب هذه المزايا المغرية لكثير من الدول، يأتي مبرر آخر، وهو الوقاية من تهم دعم الإرهاب أو غسل الأموال. مما يستدعي أن تبقى التبرعات الموجهة للخارج تحت مظلة حكومية أو شبه حكومية، وهو الأمر الذي تبنته بعض الدول فيما تنوي دول أخرى تطبيقه.

إعلان

في هذا الإطار، تذكر التوصية الثامنة لمجموعة العمل المالي الدولية التابعة لصندوق النقد الدولي (FATF) كواحدة من أبرز الضوابط الدولية في الإطار المتعلق بـ «المنظمات غير الهادفة للربح»، والتي نصت على أنه «ينبغي على الدول أن تراجع مدى ملاءمة القوانين واللوائح التي تتعلق بالكيانات التي يمكن استغلالها لغايات تمويل الإرهاب، وتعد المنظمات غير الهادفة للربح، بصفة خاصة، عرضةً لذلك، وينبغي على الدول أن تطبق تدابير مركزة ومتناسبة تتماشى مع المنهج القائم على المخاطر، على هذه المنظمات غير الهادفة للربح لحمايتها من الاستغلال لغايات تمويل الإرهاب، بما في ذلك:

من قبل المنظمات الإرهابية التي تظهر ككيانات مشروعة. من أجل استغلال كيانات مشروعة كأدوات لتمويل الإرهاب، بما في ذلك من أجل التهرب من تدابير تجميد الأصول. من أجل إخفاء أو تغطية تحويل الأموال المخصصة لأغراض مشروعة سرًا إلى منظمات إرهابية.

تشير التوجيهات المرتبطة بالتوصية 8 إلى ضرورة أن تضع الدول آليات فعالة لرصد التبرعات والمعاملات المالية، كما توصي بتطبيق تدابير رقابية وتنظيمية على أنشطة المنظمات الخيرية، بما يشمل مراقبة تدفقات التبرعات الدولية؛ لضمان الشفافية وعدم استغلالها.

ورغم أن التوصية لا تتحدث صراحةً عن "آلية مركزية" لإرسال التبرعات، فإنها توصي الدول بوضع أنظمة تنظيمية تتناسب مع تقييم المخاطر الوطنية والدولية، وهو ما يشمل ضمنيًا – مع الأسف – إنشاء كيانات مركزية لإدارة ومراقبة تدفقات التبرعات الدولية.

سلبيات مركزية العمل الخيري الخارجي

من ناحية أخرى، فإن هناك العديد من السلبيات لوجود جهة مركزية لتنظيم إرسال التبرعات الخيرية إلى الخارج، أبرزها زيادة البيروقراطية وتعقيد الإجراءات، مما يؤدي إلى تأخير وصول المساعدات، خاصة في الحالات الطارئة.

كما قد يترتب عليه تركيز السلطة، مما يفتح المجال لسوء الإدارة أو المحسوبية، ويضعف دور المبادرات المستقلة والجمعيات الصغيرة التي تسهم في العمل الخيري.

إعلان

بالإضافة إلى ذلك، قد تعاني الجهة المركزية من تكاليف إدارية مرتفعة تؤثر على النسبة المخصصة للمستفيدين، مع احتمالية غياب الشفافية في تتبع الأموال المرسلة.

من الممكن أن يؤدي تدخل الاعتبارات السياسية إلى توجيه التبرعات نحو أولويات سياسية بدلًا من الاحتياجات الفعلية، مما قد يُضعف الثقة بين المتبرعين والمستفيدين.

كما قد تفتقر الجهة المركزية، إذا ما قورنت بالجمعيات الخيرية، إلى المرونة الكافية لتلبية الاحتياجات الضرورية للمجتمعات المستفيدة، مما يعيق الإبداع ويثبط الجمعيات الخيرية عن تقديم مبادرات نوعية للقطاع الخيري، فضلًا عن استحداث سوق سوداء للعمل الخيري الخارجي.

العمل الخيري العابر للحدود في تقارير مؤشرات جامعة إنديانا العالمية

وعلى سبيل المقارنة، تجدر العودة إلى تقرير مؤشر بيئة العمل الخيري العالمي 2022، الذي تصدره جامعة إنديانا، حين تناول مدى حرية المنظمات الخيرية في إرسال التبرعات إلى الخارج، دون تدخل حكومي مفرط.

على مقياس من 1-5، حصل إقليم شمال أوروبا على أعلى تقييم بدرجة 4.75، حيث تتبنى الحكومات سياسات تعزز بيئة تعاونية مع المنظمات الخيرية، والإطار التنظيمي في هذه المنطقة مصمم لتحقيق توازن بين الحاجة إلى الرقابة وتشجيع الأعمال الخيرية الدولية.

وهناك قدر محدود من العقبات البيروقراطية التي تواجهها المنظمات الخيرية عند تحويل التبرعات دوليًا، مع مستوى عالٍ من الشفافية في العمليات والآليات التنظيمية الفعالة التي تسهل عمل هذه المنظمات عالميًا.

على حين حصل إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على أدنى تقييم 2.6، حيث لا تحظى المنظمات الخيرية في المنطقة سوى بحوافز محدودة للانخراط في الأعمال الخيرية الدولية، وتواجه المنظمات الخيرية رقابة حكومية مستمرة وسيطرة على أنشطتها، يشمل ذلك قيودًا على التمويل الدولي وتدفقات التبرعات.

وتفرض العديد من الدول في المنطقة قوانين صارمة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تعيق بدورها قدرة المنظمات الخيرية على العمل عبر الحدود. وفي بعض الحالات، تتطلب اللوائح موافقات حكومية إلزامية للمعاملات عبر الحدود، مما قد يؤدي إلى تأخير أو منع التبرعات بشكل كامل.

إعلان

ومن جهة أخرى، تؤدي حالة عدم الاستقرار السياسي والتحديات الاقتصادية في العديد من دول المنطقة إلى تفاقم البيئة التقييدية، حيث تميل الحكومات إلى تشديد الرقابة خلال الأزمات، مما يحد من تدفق الموارد من وإلى المنطقة.

وعودة إلى التوصية الثامنة لمجموعة العمل المالي الدولية التابعة لصندوق النقد الدولي (FATF)، ومع الاعتراف بأهميتها بشكل عام، إلا أنها كانت موضع انتقاد من كلية ليلي فاميلي للعمل الخيري في جامعة إنديانا، ضمن حديثها عن سياق البيئة القانونية للعمل الخيري عبر الحدود، في تقريرها الذي تشرفت بالمشاركة فيه ضمن «مؤشر تتبع العطاء العالمي 2020».

حيث بين التقرير أنه رغم أن مجموعة العمل المالي شجعت البلدان على مراجعة التشريعات وتنفيذ الإجراءات المتناسبة والسياسات المرنة لضمان حيوية القطاع الخيري، إلا أن لوائح مكافحة غسل الأموال ومكافحة الإرهاب ظلت حواجز أمام العطاء عبر الحدود في العقد الماضي. حين أدخلت العديد من البلدان أيضًا لوائح تحظر الأموال الأجنبية الواردة، أو التي توجه إلى المنظمات الخيرية ذات التمويل الأجنبي.

وأشار التقرير إلى أن مثل هذه اللوائح لا تعيق قدرة المنظمات الخيرية الممولة من الخارج فحسب، بل إنها تثبط عزيمة الجهات المانحة والمتلقية، على حد سواء، للمشاركة في الأعمال الخيرية الخاصة العابرة للحدود وتعزيزها على الصعيد العالمي.

كذلك، كانت التوصية ذاتها موضع انتقاد في تقرير المركز الدولي للقانون غير الربحي عام 2022، عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومنظمات المجتمع المدني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث ذكر التقرير أن تأخر التمويل سيؤثر على الخدمات التي تقدمها المنظمات غير الربحية.

فقد يؤثر على إيصال الغذاء والأدوية والتعليم وحتى إلغاء المشاريع بشكل كامل، الأمر الذي يؤثر على المستفيدين ويحرمهم من الخدمات. كما سيؤدي إلى ضياع الكثير من الجهد والوقت في الإجراءات البنكية بدلًا من التركيز على الخدمات والمساعدات، وتضرر سمعة المنظمات غير الربحية، بسبب كثرة الحديث عن احتمالية غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وبالتالي، سيكون الحصول على التمويل سواءً كان تمويلًا محليًا أو دوليًا، قليلًا ومحدودًا!

إعلان النموذج الكويتي بين المركزية واللامركزية

أما الكويت، فقد عرفت بتبني مقاربة متميزة، جمعت بين المركزية واللامركزية، حيث توفرت مساحة كبيرة من الحرية في العمل للجمعيات الخيرية الكويتية، أكسبت الأخيرة إبداعًا ورشاقة، مع وجود الإشراف المباشر من وزارتي الخارجية والشؤون الاجتماعية على الجمعيات في عدم التعامل إلا مع الجهات الخيرية الخارجية المعتمدة في منظومة العمل الإنساني في وزارة الخارجية.

وذلك ضمن سلسلة إجراءات وشروط وتدقيق على ملفات وبيانات الجهات الخيرية التي تقدم للاعتماد، وصولًا إلى زيارة ممثلين من سفارات الكويت لهذه الجهات بمقارها والاستفسار الهادئ للتعرف على الجمعية. وقد حضرت جزءًا من هذه العملية مع ممثل سفارة الكويت في واشنطن ضمن مراحل اعتماد منظمة UMR في الولايات المتحدة.

كذلك، تلزم الجمعيات الخيرية الكويتية بالحصول على الموافقات المسبقة لعمليات التحويل المالية والمشاريع خارج الكويت قبل التنفيذ، ثم المتابعة والتقارير بعد التنفيذ. وكان لهذه المقاربة أن جعلت الجمعيات الخيرية الكويتية موضع ثقة كبيرة من الجهات الإشرافية والجمهور، كما أكسبها إبداعًا في تقديم المساعدات.

في هذا الإطار، كان التعميم الذي أصدرته وزارة الشؤون الاجتماعية عام 2022 بتنظيم العمل الخيري من خلال الميكنة، الذي سعى إلى إكساب عمل الجمعيات الخيرية رشاقة إجرائية بالاعتماد على الميكنة، بالارتكاز على 7 عناصر رئيسية، وهي: خطة المشاريع، والتحويلات البنكية، والتحويلات المالية، والبيانات المحاسبية، والطلبات القانونية، وقاعدة بيانات الجمعيات، وتقارير الموظفين.

ويعمل هذا النظام بدوره على الربط مع منظومة العمل الإنساني لوزارة الخارجية لتدقيق بيانات التحويلات المالية بشكل آلي، بحيث لا تستطيع الجمعية التحويل إلى أي جهة غير موجودة أو ممنوعة في منظومة العمل الإنساني لوزارة الخارجية، وفي نفس الوقت يدعم النظام الشفافية بشكلٍ كبير، حيث يكون التدخل البشري في كافة العناصر الرئيسية التي يقوم عليها عمل الجهات الخيرية محدودًا.

إعلان

وعند النظر إلى مؤشر بيئة العمل الخيري العالمي GEPI الذي تصدره جامعة إنديانا، ونتائج الكويت المتقدمة فيه مقارنة بدول المنطقة، خاصةً فيما يخص ملاءمة البيئة التنظيمية لإرسال التبرعات إلى الخارج، تبدو مساحة الحرية واللامركزية التي تمتاز بها دولة الكويت متماشية مع المؤشرات الجاذبة والفاعلة والمثلى في بيئة العمل الخيري، والتي تسعى جامعة إنديانا إلى نشرها من خلال مؤشرها الذي ينفذ في حوالي 100 دولة، وهو ما قد لا يرضي الجهات الرقابية المتشددة على العمل الخيري!

وفي سياق الحديث المستمر عن مستقبل العمل الخيري الكويتي، في ظل الإرهاصات التي تحدث في المنطقة والنماذج الموجودة حول الكويت، إلى جانب بعض التغيرات الداخلية في الكويت، التي أوحت إلى بعض الجهات أن هناك تشديدًا منتظرًا على العمل الخيري الكويتي الخارجي، رغم وجود ما يؤكد عكس ذلك، فما زلنا نشهد نشاطَ وتميزَ ورشاقة الجمعيات الخيرية الكويتية.

فمن المألوف أن ترى مدير جمعية خيرية كويتية "سعد العتيبي" في طليعة الحاضرين عند حدوث الكوارث مثل الزلازل التي ضربت سوريا وتركيا والمغرب. إلى جانب الجهد المتواصل للجمعيات الخيرية الكويتية في إغاثة قطاع غزة المنكوب، والذي انطلق منذ بداية العدوان الأخير بحملة "فزعة لفلسطين" التي شاركت فيها العديد من الهيئات واللجان الخيرية، مرورًا بتسيير جسر جوي من المساعدات في 52 رحلة، وقافلة من الشاحنات من الكويت إلى معبر رفح.

بالإضافة إلى إطلاق حملة شعبية لتسيير سفينتي إغاثة إلى غزة عبر ميناء العريش البحري بالتعاون مع الهلال الأحمر التركي، شاركت فيها 30 جمعية خيرية كويتية. وتمكنت الحملة من جمع مبلغ كبير من التبرعات في دقائق معدودة، ولا أخفي سرًا بأن بعض الأصدقاء من خارج الكويت قد سألني عن كيفية تحويل تبرعاته إلى جهات خيرية كويتية لتتولى إرسالها إلى غزة!

إعلان

يعتقد العديد من الكويتيين الذين أتحدث معهم في هذا الموضوع، وقد ذكره عدة مرات رئيس الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، د. عبد الله المعتوق، أن مما يحفظ الكويت هو خيرها الممتد لمئات الدول.

ومما يحمي العمل الخيري الكويتي هو تلك النظرة التاريخية له كجزء أساسي من تركيبة الدولة. وقد بدأ الأمر في مرحلة ما قبل الاستقلال من خلال المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص في الكويت، حيث حرص تجار الكويت منذ القدم على إخراج زكاة المال وتقديمها لأوجه الخير المختلفة. فضلًا عن إقدامهم على التطوع، حيث ساهموا قديمًا بالتبرع الطوعي للدولة عبر ضريبة فرضوها على أنفسهم، بدأت بنسبة (1%) من بضائعهم التي يجلبونها إلى الكويت. ومع احتياجات الدولة، كان التجار يزيدون من نسبة هذه الضريبة التي وصلت إلى (5%) في عام 1936.

ولم تقف المسؤولية المجتمعية للتجار عند هذا الحد، بل قاموا منذ القدم بتشكيل لجان خيرية مؤقتة، وفي عام 1956 تم تأسيس اللجنة الشعبية لجمع التبرعات. تلك الجهود عبرت عنها مقولات شعبية كويتية من أشهرها مقولة "ادفع حلواها تدفع بلواها"، التي وصفت عطاء الكويتيين الممتد منذ ما قبل اكتشاف الثروة النفطية وحتى الوقت الحاضر إلى مختلف أنحاء المعمورة.

وبرز في هذا العطاء العديد من الرواد، مثل عبدالرحمن السميط وأعماله الكبيرة في القارة الأفريقية. إن مثل هذا الإرث يجعل من الصعب على الكويت أن تشدد على العمل الخيري الخارجي وتتبنى مركزية التبرعات من خلال جهات حكومية.

وعلى ذلك، لا أتوقع أن تغامر الكويت بإرثها المتواصل في العمل الخيري من خلال تبني ممارسات مفرطة في تقييد العمل الخيري الموجه إلى الخارج! وحتى لا يحدث ذلك فعلى الجهات الخيرية الكويتية واجب الامتثال للقوانين الدولية والمحلية بذكاء وتلبية متطلبات وزارتَي الخارجية والشؤون الاجتماعية، وألا تتهاون تحت أي مبرر في مسألة الشفافية وتقديم التقارير للجهات الرسمية وأصحاب العلاقة.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • إقرار السياسة العامة للتنسيق والقبول في الجامعات اليمنية للعام 1447هـ
  • بعد الصدر.. الوقف السني يدعو الناخبين لتحديث بياناتهم
  • الإمارات تتصدر الإنفاق الخيري والإنساني عالمياً
  • الاحتواء الأمني أم الحل السياسي؟ مأزق إسرائيل المزدوج
  • قانون تنظيم إدارة المخلفات يحظر إدارة أي منشآت بغرض التداول إلا بعد الحصول على ترخيص.. تفاصيل
  • مواطنون: "وقف الأب" مبادرة إنسانية تكرّم العطاء وتخلّد القيم
  • ملتقى نسائي يناقش دور المرأة في العمل الخيري بلوى
  • ازدياد طلبات الدراسة في تركيا للسعوديين
  • حظك اليوم برج الجوزاء الجمعة 21 فبراير.. تجنب المغامرات العاطفية
  • التحديات والفرص في العمل الخيري الدولي الكويتي